بدر الدين الحسني

بدر الدين الحسني

بدر الدين محمد بن يوسف بن عبد الله المراكشي الحسني (1267-1354 هـ/1851-1935م)، المحدّث، علامة في التفسير والفقه والأصول.

كان أبوه محدّثاً وفقيهاً وشاعراً، ترك مؤلفات تشهد بذلك، وقد قدم من مصر إلى دمشق وأقام بها، وتوفي سنة 1279هـ/1862م، وعمر ولده بدر الدين اثنتا عشرة سنة، فعهدت به أمه السيدة عائشة بنت إبراهيم الكزبري إلى العلامة الشيخ أبي الخير بن عبد القادر الخطيب، صديق أبيه، فخصَّه برعايته، ولما رأى نباهته، وحدَّة ذكائه، وقوة حفظه، أرسله إلى كبار علماء عصره ليأخذ عنهم.

أقبل بدر الدين على العلم والدرس بهمة عظيمة، فحفظ القرآن، وما في كتب الحديث، ومُوَطّأ مالك، ومسند أحمد من الأحاديث بأسانيدها ورواياتها المختلفة وتراجم رجالها وما فيها من الفقه. ونبغ في ذلك نبوغاً عظيماً، وخاض امتحانات عسيرة من علماء عصره، حتى لقَّبوه بالمُحدِّث الأكبر، وهو لقب لم يمنح لأحد من علماء الحديث قبله، ولم يكتف بذلك، وإنما أكبّ على علوم اللغة، والفلسفة، والمنطق، والعقائد، وأصول الفقه، والرياضيات، والفلك، والطبّ، والعلوم الأخرى، حتى فاق علماء عصره، وكان بحقٍّ، كما قال رشيد رضا «دائرة معارف سيّارة». والفضل في كل ذلك لشيخه أبي الخير الخطيب، وللعزلة التامة عن الناس، التي استمرت سبعة عشر عاماً خرج بعدها، وهو في الثلاثين، ليفاجئ علماء عصره بهذا الزاد العلمي الكبير. وحسبه أنه لم يدع كتاباً مطبوعاً، أو مخطوطاً ظفر به إلا اطَّلع عليه، وأحاط بموضوعه.

تزوج الشيخ بدر الدين عام 1878م السيدة رُقَيَّة بنت أحد مشايخه الشيخ محيي الدين العاني، ورزق منها ثمانية أولاد أحدهم تاج الدين الذي صار رئيساً للجمهورية، وست بنات.

بدأ التدريس في مساجد دمشق، ثم صدر أمر السلطان عبد الحميد إليه بالتدريس تحت قبة النَّسْر في المسجد الأموي، وكان لا يجلس تحتها إلا شيخ علماء الشام، وفق التقليد المتَّبع منذ بناء الجامع، وقد انتهى هذا التقليد بموت الشيخ بدر الدين.

كان درسه الأول سنة 1298هـ درساً مشهوداً، حضره والي دمشق مدحت باشا، وكبار القادة، والعلماء، والناس، حتى غصَّ بهم المسجد. وقد بهر الجميع بفصاحته، وبلاغته، وجهارة صوته، وقدرته على شرح الحديث، ومعرفة رجاله، وما فيه من عظات، وأحكام. وكان هذا نهجه في جميع دروسه التي كان يحضرها كبار العلماء من أمثال الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر، والشيخ سليم العطار، والشيخ طاهر الأتاسي، وغيرهم، فضلاً عن طلبة العلم.

وكان على علو كعبه في العلم يمتنع عن الفتوى، ويحيل المستفتي إلى كتاب أو إلى دائرة الفتوى. وكان يقول بفتح باب الاجتهاد لمن هو أهل لذلك. وكان يدعو إلى تعلم اللغات الأجنبية للانتفاع بالعلوم التي وصلت إليها الأمم المتقدمة.

وكان بدر الدين قد مال إلى التأليف في مطلع شبابه، فكتب نحواً من أربعين رسالة قبل أن يكمل الثلاثين من العمر، وكانت أكثر مؤلفاته شروحاً على كتب العقائد والفقه ومنها: كتاب «الدرر البهية في شرح المنظومة البيقونية» وكتاب «روض المعاني لشرح عقيدة العلاّمة الشيباني»، وكتاب «البدور الجلية في شرح نظم السنوسية»، و«حاشية على شرح الرحبية في علم الفرائض»، ورسالة «فيض الوهاب في موافقات سيدنا عمر بن الخطاب»، وكتاب «غاية المرام على شرح القطر لابن هشام». ولكنه عزف بعد ذلك عن التأليف مكتفياً بدروسه العامة والخاصة، وكانت تملأ يومه.

كان بدر الدين تقيّاً، ورعاً، صَوَّاماً، زاهداً، لم يغتب أحداً، ولم يسمح لأحد أن يغتاب أحداً في مجلسه، وكان قوي الشخصيَّة ذا عزة وترفُّعٍ عن أهل الدنيا، والسلطان، مما أورثه هيبة في قلوبهم. وهذا ينسجم مع دعوته أهل العلم للابتعاد عن السياسة، ورجالها. ويرى أنه لا خير في مودة أهل السياسة، ولذلك لم يلبّ دعوة السلطان عبد الحميد لزيارة اصطنبول، ودعوة قيصر روسية سنة 1913م. ومع هذا كان يراسل الملوك، والرؤساء ويحثُّهم على إقامة العدل، وتطبيق الشريعة، والابتعاد عن الأهواء، والمنازعات، وكان شديد التواضع، متحلِّياً بمكارم الأخلاق، محبّاً للفقراء، شفيعاً للمظلومين، معيناً لذوي الحاجة، لا يفرق في ذلك بين المسلم، وغيره. وله في معاملة غير المسلمين قصص مشهورة، جعلته موضع احترام بابا رومة، وبطارقة الأرثوذكس. كما كان يكرم أهل العلم، وطلبته، ويثني عليهم، ويبالغ في ذلك، وينفر من اختلافهم، لأنه يضيّع مقامهم في قلوب الناس. وكان شديد الحرص على تربية الشباب على الخلق القويم لأنهم عماد النهضة والتقدم. وبهذه الأخلاق اكتسب الشيخ بدر الدين مكانة كبيرة في الناس، حتى إنه لما أعلن السلطان عبد الحميد دستور سنة 1904م أشيع في بلاد الشام أن خليفة المسلمين سيكون الشيخ بدر الدين، وهو لا يعلم بذلك، وحين سأله ناظم باشا والي الشام أجاب: «لست متفرغاً إلا للدرس» وهذا ينسجم مع نظرته للسياسة. غير أن الحرب العالمية الأولى، وما صحبها من أحداث، وما أعقبتها من آثار في البلاد العربية جعلت الشيخ بدر الدين يغير من تلك النظرة ويشارك في الأحداث السياسية. فرفض طلب جمال باشا إعطاء الفتوى بصحة أحكام الإعدام الصادرة عن المجلس الحربي في عاليه بلبنان سنة 1916م. كما رفض الفتوى بوجوب قتال الشريف حسين حين قام بثورته سنة 1917م، لأنها ثورة على الجور، ودعوة للتمسك بالشريعة، مع أن أهل العلم أيدوا فتوى مشيخة الإسلام في اصطنبول بوجوب القتال. وحين هاجم الفرنسيون سورية دعا الناس إلى قتالهم. ولما احتلوا سورية رفض زيارة الجنرال گورو له واستقباله، وأخذ يحرِّض الناس على الجهاد، ويحضّهم على عدم دفع الضرائب، ويفتي بتحريم التعامل مع الفرنسيين، وطاف في المدن السورية يبث هذه الدعوة.

وكان الشيخ يغذّي الثورة السورية (1925-1927م) بما يجمعه تلاميذه ومريدوه من أموال الأغنياء، كما كان يمدُّها بفكره بوساطة محمد الأشمر، وحسن الخراط، وكانا يحضران إلى منزله ليلاً لينقلا إليه الأخبار. بل كانت للثورة محكمة تطبّق الشريعة، وتُتوِّج أحكامها باسم «إمام المسلمين، المحدِّث الأكبر محمد بدر الدين الحسني».

توفي الشيخ بدر الدين بدمشق، ودفن بالباب الصغير، وكانت جنازته مشهورة تحدثت عنها الصحف والمجلات في أنحاء العالم الإسلامي.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المصادر

  • سعدي أبو جيب. "بدر الدين الحسني". الموسوعة العربية.


انظر أيضاً

للاستزادة

  • رياض المالح، عالم الأمة وزاهد العصر (دمشق 1397هـ/1977م).
  • محمد صالح الفرفور، المحدّث الأكبر، وإمام العصر كما عرفته (دارالإمام أبي حنيفة، دمشق 1406هـ/1986م).
  • يسرى دركزلي، المحدّث الأكبر محمد بدر الدين الحسني (مطبعة خالد بن الوليد، دمشق 1398هـ/1977م).