النزعة الإنسانية في الأدب العربي

إن معرفة الإنسان نَفْسَه، أو معرفة البشرية ذاتها، تساؤل قديم حديث كان هاجس الناس عبر العصور، ولذلك بقي الإنسان وسيبقى مركز البحث الفلسفي العلمي الذي حاول أن يسهم في إيجاد الجواب المناسب، ومن هنا نشأ مصطلح (العلوم الإنسانية) وما يهتم به ويتبعه من دراسات تبحث فيما يميز الإنسان من غيره في مقابل علوم الطبيعة.

ولعل أبرز ما يميز الإنسان »هو وجود الفِكَر المجردة والخلقية والروحية فيه، وهو إن فخر فإنما يفخر بها؛ إذ إن حقيقة وجودها لا تقل أهمية عن حقيقة وجوده، وهي التي تعطي لهذا الوجود قيمته، ومن ثم إذا أردنا أن نعطي لهذه الحياة معنى؛ فيجب أن نعيد لهذه الفكر القيمةَ العلمية والعقلية. وهكذا يكون مفهوم (النزعة الإنسانية) منحى نحو تطوير إنسانية الإنسان؛ ودالاً على : المنحى الفكري الأساسي في نظرية أو نظام فلسفي أو تيار أو مذهب أو حركة؛ إلا أنها تدل في وجهها الأخص على الطابع المميز، المعلوم به، في النظرية الفلسفية، أو هي تحمل الاتجاه الواعي الذي يسم تلك النظرية، وأهم المشكلات الأخلاقية في النزعات هو سيرورة التسامي ومن ثم تغليب الروحي على البيولوجي...فالإنسانية تدل على ما اختص به الإنسان من الصفات، وأكثر استعمال هذا اللفظ في اللغة العربية إنما هو للمحامد. فالنزعة الإنسانية في سياقنا هاهنا تعني القيم المنتزعة من تجارب الناس بهدف إقامة علاقات إنسانية قائمة على العدل والتآلف. وهي في أحد معانيها: فلسفة تؤكد قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق الذات باعتماد العقل.

وأهم شيء في النزعة الإنسانية التسامي وتغليب الروحي والنفسي على البيولوجي، والسعي إلى إعلاء الفكر الإنساني. ويعدّ الفكر الحر جزءاً أصيلاً من النزعة الإنسانية، والمساواة غاية رئيسية في النزعة الإنسانية. وقد تعددت دلالات هذا المصطلح عبر العصور، وتغيرت أحياناً بتغير الزمان والمكان، ولا نريد أن نقف عند هذا الجانب التاريخي للمصطلح.

ومن الواضح أن النزعة الإنسانية ارتبطت على نحو ما بما يدعو إليه الدين إلى حد كبير، على الرغم من أن بعض الفلاسفة حاولوا وضعها في موقع المخالف له، وقد جاء الإسلام ليشجع على الجوانب الإنسانية ويدعو إلى احترامها وتنميتها.

وتحسن الإشارة إلى ثلاثة مصطلحات هي (الإنساني ـ القومي ـ الوطني) تتقارب فيما بينها وربما تتكامل أحياناً إلا أنها لا يلغي أحدها الآخر، لأن تاريخ وجود هذه المفاهيم يوحي بارتباطها بمجموعة من الأفكار والأيديولوجيات المعاصرة تجعل لكل منها خصوصية إلا أن هذه الخصوصية تستحضر سمات مشتركة مع الآخر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النزعة الإنسانية في الأدب العربي

ومن ينظر في الأدب العربي باحثاً عن النزعة الإنسانية فيه قديماً وحديثاً، يجد أن هناك تبايناً في حضور النزعات الإنسانية بين الأدب القديم والحديث، وقد استدعى هذا التباين مجموعة من المعطيات؛ منها:

ـ طريقة الحضور.

ـ اختلاف الثقافة وتنوعها وتطور مرجعياتها عبر العصور.

ـ اختلاف النظرة إلى الأشياء واختلاف طريقة فلسفتها.

ـ تطور مفهوم الأديب والشاعر الذي ارتبط أخيراً بالثقافة والفكر والموقف؛ وبأنه من النخبة الطليعية التي لابد أن تدلي بدلوها في قضايا المجتمع.

وما من شك في أن العربي في العصر الجاهلي كان يتطلع إلى كثير من ذلك وإلى البحث عما يخلده من المحامد ومكارم الأخلاق. وجاء الإسلام لينهض بالإنسان جسداً وفكراً وروحاً، فكان «مبعث نهضة فكرية عظمى شاركت في تجارب البشر الفلسفية مشاركة فاعلة... وعلى هذا فإن الأدب العربي ـ ومن ثم الثقافة العربية ـ هو الذي أدى إلى ذلك التقدم الحاصل في بعض ميادين العلم كالرياضيات والعلوم الطبيعية والطب في القرون التالية». وكل ما ظهر في العصور اللاحقة من تيارات أو اتجاهات كالتصوف وفكر الاعتزال وغيرهما كان له نصيب في كثير من جوانبه في قضايا الإنسان مادة وجوهراً.

وإذا نُظر فيما وصل إلينا من الشعر الجاهلي ألفي فيه مادة وفيرة تنضوي تحت مفهوم النزعة الإنسانية. من ذلك مثلاً الوقوف عند (الموت) الذي يفني البشر جميعاً، ولا ينجو منه أحد، فطرفة بن العبد يُقر أن كل نفس ستموت إذ يقول:

أرى الموتَ أعداد النُّفوس ولا أرى بعيداً غداً، ما أقربَ اليوم من غدِ

ويقول زهير بن أبي سلمى:

تزوّد إلى يوم الممات فإنه ولو كرهتْه النّفس آخر موعدِ

ولعل هذه القضية كانت وراء انشغال الإنسان الدائم في البحث عما يخلّده وعن استمراره بعد موته، فقد كانت هذه القضية هاجس كثير من الشعراء، فهذا عروة بن الورد يقول:

أَحاديثَ تَبقى وَالفَتى غَيرُ خالِدٍ إِذا هُوَ أَمسى هامَةً فَوقَ صُـيَّرِ

ولذلك انشغل الشعراء وغيرهم في البحث عن القيم والأخلاق والصفات والأعمال التي تخلد ذكر الإنسان بعد موته، فكانت قيم المدح والفخر بالفروسية والنجدة والمروءة والكرم والنسب والعفة والصدق والوفاء.. وغير ذلك مجالاً خصباً لتعابير الشعراء، فمثلاً يقول عبد قيس بن خفاف:

وإذا تشاجر في فؤادك مرّةً أمران فاعمد للأعف الأجمل

ويقول طرفة في البخل والكرم:

أرى قبر نحامٍ بخيل بمالِهِ كقبرِ غويٍّ في البطالةِ مفسدِ

ويقول عروة بن الورد مشيراً إلى عرف اجتماعي غير صحيح ساد في مجتمعه يقدم المرء على ما يملك من مال لا ما يتمتع به من أخلاق:

ذرينى للغني أسعى فإنّي رأيت النّاسَ شرُّهُمُ الفقيرُ

قليل ذنبه والذَّنبُ جلٌّ ولكن للغنى ربٌّ غفور

ويعبر عنترة بن شداد عن إقدامه وعفته بقوله:

يخبرك من شهد الوقيعةَ أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم

ويقول أيضاً مفتخراً بنسبه وفروسيته:

إنّي امرؤٌ من خير عبسٍ منصباً شطري وأحمي سائري بالمنصل

أما قُس بن ساعدة الإيادي فيتفكر في أمر هذه الحياة ووجود الإنسان ومآله بعد موته، ويعبر عن ذلك في خطبته المشهورة التي ألقاها في سوق عكاظ في الجاهلية بقوله:

«من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت.... ما بال الناس يذهبون فلا يرجعون، أنعموا فأقاموا، أو تُرِكوا فناموا»، ثم أنشد:

في الذاهِبينَ الأَوَّليـ ـنَ مِنَ القُرونِ لَنا بَصائِرْ

لَمّـا رَأَيتُ مَـوارِداً لِلمَوتِ لَيسَ لَها مَصـادِرْ

وَرَأَيتُ قَومي نَحوَها تَمضي الأَصاغِرُ وَالأَكابِرْ

لا يَرجِعُ الماضي وَلا يَبقى مِنَ الباقـينَ غابِـرْ

أَيقَنتُ أَنّـي لا مَحـا لَةَ حَيثُ صارَ القَومُ صائِرْ

وقد برز في الشعر الجاهلي ظاهرة احترام الخصم وتقدير إنسانيته ومكانته بغض النظر عن العداوة القائمة، وهذا ما أُطلق عليه اسم (المنصفات)، وهي الأشعار التي يشيد فيها الشاعر بقوة الخصم ومنزلته بعيداً عن منازع الاستعلاء والازدراء والتشفي... فعنترة مثلاً ينظر إلى خصمه على أنه كريم، أي سيد في قومه إذ يقول:

فشككت بالرُّمح الأصمِّ ثيابه ليسَ الكريمُ على القنا بمحرَّمِ

وينظر عمرو بن كلثوم إلى فريقي القتال المحتربين نظرة مساواة في قوله يصف المعركة:

كأنَّ ثيابنا منّا ومنهـم خُضبنَ بأُرجوانٍ أو طُلينا

كأن سيوفنا فينا وفيهم مخاريقٌ بأيدي لاعبيــنا

ويرى عبد الله بن الزِّبَعرى ـ قبل أن يُسلم ـ أن المسلمين من الأوس والخزرج الذين هُزموا في معركة أحد هم سادة، إذ يقول:

فقبلنا النِّصف من سادتِهم وعدلنا مَيْلَ بدرٍ فانعـدلْ

وينظر زهير بن أبي سلمى إلى الحرب نظرة مغايرة لما هو شائع في عصره، فهي تطحن الناس وتقتلهم وهم الذين يوقدون نارها أو يطفئونها:

وما الحربُ إلا ما علمتُم وذقتُمُ وما هو عنها بالحديث المرجَّـمِ

متـى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتَضرى إذا ضّريتموها فتضرمِ

على الرغم من روح الثأر القبلية السائدة فإن هناك حالات من الحلم التي ترتكز على بعد إنساني في المعالجة، كالذي فعله الحارث بن وعلة الذُهلي عندما قتل أحدُ أبناء عمومته أخاه، وجيء بالجثة والقاتل ليقتص منه، فبرز عنده الحس الإنساني، وأدرك أنه إن قتل القاتل فسيزداد خسارة بفقد قريب آخر، فاختار الصفح وقال:

قومي همُ قتلُوا أُميمَ أخـي فإذا رميتُ يصيبُني سـهمي

فلئِن عفوتُ لأعفوَن جَللا ولئن سطوتُ لأوهنَنْ عظمي

وبعد الإسلام استمرت هذه النزعة في الأدب وتطورت، واكتسبت إضافات جديدة من القيم والتعاليم الإسلامية، ومن التطور الحضاري الذي بدأ يظهر مع ظهور الدولة الإسلامية واستقرارها؛ ومن ثم استمرار الخلافة الإسلامية في العصور اللاحقة. فقيمة الإنسان في القرآن تأتي من إيمانه وطاعته وليس من أي سبب آخر: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات 13)، وفي الحديث الشريف: «ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوى». وسار على هذا النهج الخلفاء الراشدون، ففي وصية الخليفة الأول أبي بكر الصديق إلى قائد جيشه أسامة بن زيد نبل القيم والمبادئ السامية التي تبين أن الغاية من الحرب سعادةُ الإنسان والحياةُ الآمنة لا القتلُ والتدمير، فقد أوصاهم مجموعة وصايا: «لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا. لاتقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة. ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم». أما عمر بن الخطابt فيكفي أن يُشار إلى تأنيبه لوالي مصر عمرو بن العاص بقوله: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».

ومما برز في الشعر الإسلامي الاهتمام بالجانب الروحي في حياة الإنسان والحرص على تنميته، والزهد في الدنيا، ومن ذلك قول نصر بن سيار:

دع عنكَ دنيا وأهلاً أنت تاركُهـم ما خيرُ دنيا وأهلٍ لا يدومونا

واكثرْ تقى الله في الأسرار مجتهداً إنّ التُّقَى خيرُه ما كان مكنونا

واعلم بأنَّك بالأعمـال مرتهــن فكن لذاكَ كثيرَ الهمِّ محزونـا

وقول سابق البربري:

أموالُنا لذوي الميراث نجمعُهـا ودُورُنا لخراب الدّهرِ نبنيهـا

والنّفسُ تَكلَفُ بالدّنيا وقد علمَتْ أن السَّلامة منها ترْكُ ما فيها

وفي الأبيات التي استعطف بها الحطيئة وهو في سجنه الخليفةَ عمر ابن الخطاب ملمحٌ إنساني بارز فيها وفي موقف عمر الذي أطلق سراح الحطيئة من السجن بعدها:

ماذا تقول لأفراخ بذي مـرخ زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر؟

ألقيتَ كاسبَهم في قعر مظلمةٍ فاغفـر عليك سلامُ الله يا عمـر

(يقصد بالأفراخ أولاده في مكانِ ذي مرخ، وهم جائعون لا ماء ولا طعام لديهم).

ونظر كثير من الشعراء ولاسيما الذين ينحون منحى العفة في أشعارهم إلى المرأة على أنها جزء متمم للحياة ومبعث للاستقرار والاستمرار، وليست جسداً للشهوة فقط، فجميل ابن معمر يرضى من حبيبته بثينة بما يدل على النظرة الإنسانية العالية لها وللحب إذ يقول:

وإنّي لأرضى من بثينــة بالّـذي لوَ ابْصره الواشي لقرّت بلابلُهْ

بـلا، وألاّ أستطيـعَ، وبالمنـى وبالأمل المرجوِّ قد خاب آملهْ

وبالنّظرة العجلى، وبالحولِ تنقضي أواخـرُه لا نلتقـي وأوائلـهْ

وظهرت انتقادات للحكام الذين خالفوا في أحكامهم، أو آذوا الناس في تصرفاتهم، فالراعي النميري يشكو من جور جُباة الأموال، ويرفع شكواه إلى الخليفة قائلاً:

أخليفةَ الرّحمن إنّا معشـــرٌ حنفاءُ نسجد بكرةً وأصيــلا

إنّ السّعاةَ عصَوك يوم أمرتَهُم وأتَوا دواهيَ لو علمتَ وغُولا

فادفعْ مظالمَ عَيّلتْ أبناءَنــا عنّا، وأنقـذْ شِلونـا المأكـولا

ويشكو عبد الله بن همّام السلولي من ظلم الولاة إذ يقول مخاطباً ابنَ الزبير:

يا ابنَ الزّبيرِ أميرَ المؤمنين ألَـــم يبلغكَ ما فعلَ العمَّالُ بالعمــل؟

باعوا التِّجارَ طعامَ الأرض واقتسموا صُلْبَ الخَراج شِحاحاً قسمةَ النَّفَل!

ويساوي جرير بين العرب الأقحاح وبين الموالي في نظرة إنسانية بارزة في قوله:

أبونا أبو إسحاقَ يجمع بيننا أبٌ كان مهديّاً نبيّاً مُطهّـرا

ومع ازدهار الفكر الفلسفي وانتشار الفرق التي تستند في توجهها إلى رؤية العقل والمنطق لأصحابه في العصر العباسي أخذت النزعة الإنسانية تحمل أبعاداً جديدة وظواهر متطورة، ولاسيما ما يرى عند الزهاد والمتصوفة أمثال الحلاج والسّهْرَوَرْدي وابن عربي وابن الفارض، وعند إخوان الصفا وأمثالهم، كل ذلك إضافة إلى ما كان ظاهراً من قيم ومبادئ إنسانية استمرت مجالا للمدح والتفاخر. وقد عبر بشر بن المعتمر عن مكانة العقل بقوله:

للهِ درُّ العقلِ منْ رائــدٍ وصاحبٍ في العسرِ واليسرِ

وحاكمٍ يقضي على غائبٍ قضيةَ الشَّاهــدِ للأمــرِ

أما ابن عربي فيقول:

لقد صارَ قلبي قابلاً كل صـــورة فمرعى لغزلانٍ، وديرٌ لرهبـانِ

وبيتٌ لأوثــــانٍ، وكعبةُ طائفٍ وألـواحُ توراةٍ ومصحف قرآنِ

أدينُ بديــن الحبِّ أنّى توجَّهَـت ركائبه، فالحب ديني وإيمانـي

فالحب، وهو هنا شريعة إنسانية في الحياة، هو الذي يعيش به الإنسان مهما تعددت وجهات هذا الحب.

ومن مظاهر النزعة الإنسانية الاهتمام بالصديق على أنه المساعد والمعين وسر النجاح والسداد وموطن المشورة والنصح، من ذلك قول بشار بن برد:

إذا بلـغَ الرأيُ المشورةَ فاستعـن برأيِ نَصِيحٍ أو نصيحةِ حازمِ

ولا تجعل الشّورى عليك غضاضة فإنّ الخوافـي قـوة للقـوادمِ

كما أن أبا حيان التوحيدي ألف كتاباً أسماه «الصداقة والصديق»، وهو الذي يُنظر إليه على أنه «أديب فيلسوف ينظر إلى أقرانه المنخرطين في الحياة نظرة انتقادية. ولقد أقض مضجعه بآن واحد شيئان: وسواس صورة محضة لـ(الإنسان الكامل)....وجو النفاق والمؤامرات وتضارب المصالح».

ويوجد هذا الحس الإنساني نحو الصديق والآخر عموماً في قول أبي فراس الحمداني وهو يعبر عن التسامح والتغاضي عن الزلات:

ما كنتُ مذْ كنتُ إلاّ طوعَ خِلاني ليست مؤاخذةُ الأصحابِ من شاني

يجنـي الخليلُ فأستحلي جنايتَــه حتى يدلّ على عفوي وإحســاني

ويتبـعُ الذّنبَ ذنباً حينَ يعرفنـي عمـداً وأتبـعُ غـفرانـاً بغفرانِ

يجني عليّ وأحنو صافحـاً أبـداً        لا شيء أحسنُ من حانٍ على جاني

ومثل هذه المواقف الإنسانية النبيلة يندرج ضمنها أيضاً سجية الحلم والحرص على اكتساب الأصدقاء والتآلف مع الآخر.

ويقف المتنبي من الحرب وانتشار العداوة والبغضاء بين الناس والاقتتال موقفاً إنسانياً رائعاً إذ يقول:

كلّمـا أنبت الزّمـانُ قنـاةً ركّبَ المرءُ في القناةِ سِنانا

ومرادُ النفوسِ أصغرُ من أن نتعادى فيـه وأن نتفانــى

وقد زاد الحس الإنساني غِنىً في شعر أبي العلاء المعري الذي كان يتطلع إلى إحلال الإنسان في المكان المناسب له، وإكسابه القيم والأخلاق الحميدة، ومن ذلك خلق الإيثار المبرّأ من الأنانية يقول:

ولو أني حُبيتُ الخلـدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفـرادا

فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظمُ البلادا

ويظهر الحس الإنساني المرهف والنزوع إلى التفكر في الحياة والموت والبقاء والخلود تفكراً فلسفياً يؤكد انشغال الإنسان الدائم في فكرة الموت والبقاء وما ينبني على ذلك من علاقات بين البشر في قصيدة أبي العلاء:

غير مُجدٍ في ملتي واعتقـادي نَوحُ باكٍ ولا ترنُّم شـــادي

صاح هذي قبورنا تملأ الرُّحـ ـبَ فأين القبور من عهد عادِ؟

رُبَّ لحْد قد صار لحـداً مراراً ضاحكٍ من تزاحم الأضــدادِ

سر إن اسْطَعْتَ في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفات العبـادِ

خفّفِ الوطءَ، ما أظنُّ أديم الـ أرض إلاّ من هذه الأجســـادِ

وليس ببعيد عن هذه النزعة تفكُّر الشعراء في تقلب الزمان على الإنسان وولعه بالتناقضات، وهذا ما عبر عنه ابن خفاجة الأندلسي حين توحّد مع الجبل، وألبسه لبوساً إنسانياً فنطق بلسان حاله :

فحتـى متى أبقى ويظعن صاحبٌ أودِّع منـه راحلاً غيـرَ آيـبِ؟

وحتّى متى أرعى الكواكب ساهراً؟ فـمِن طالعٍ أخرى اللَّيالي وغاربِ

فرحـماك يا مولاي دعوة ضارع يـمد إلى نعمـاك راحـة راغبِ

فأسـمعني من وعظه كلَّ عبـرةٍ يترجـمها عنـه لسانُ التّجاربِ

فسلى بما أبكى وسرّى بـما شجا وكان على عهدِ السُّرى خير صاحب

وقـلت وقـد نكّبت عنـه لحاجة سلامٌ فإنّا مـن مقيـمٍ وذاهـب

وتظهر ثمرات التفكر في الحياة في شعر ابن عَبدون الذي حاول أن يقدم موقفاً إنسانياً من الحياة لمن بعده :

الدهر يفجع بعـد العين بالأثر فما البكاء على الأشباح والصورِ ؟

أنـهاك أنهاك، لا أنهاك واحدةً عن نومـةٍ بين ناب الليث والظُّفر

فالدهر حربٌ وإن أبدى مسالمةً فالبيض والسمر مثل البيض والسمر

فـلا يغرنك من دنياك نومـتها فما صناعـة عينيها سوى السهر

وتكتسب النزعةُ الإنسانيةُ في العصر الحديث زخماً جديداً نتيجة لأمور كثيرة منها اتساع البعد الثقافي والمعرفي لدى الأدباء والشعراء وزيادة التمازج الحضاري بين الشعوب وتطور الدراسات الفكرية والفلسفية والاجتماعية وظهور تيارات متعددة ومتناقضة تسعى إلى قيادة المجتمعات من رؤى وأفكار ومبادئ في السياسة والاقتصاد والمعتقدات وغيرها مما كان الإنسان محوره وأساسه. وقد انعكس ذلك على صفحات الأدب شعراً ونثراً؛ ولا سيما مع ظهور أنواع أدبية جديدة في الأدب العربي كالقصة والرواية والمسرح والمقالة من فنون النثر.

يمكن أن يُلحظ حضور النزعة الإنسانية في الأدب العربي الحديث من أمور منها:

1ـ السعي إلى ترسيخ القيم التي تصب في خدمة الإنسان مثل: نبذ الظلم، العدل، المساواة، معاداة الاستبداد، مناوأة الحروب المدمرة بما فيها استنكار الحرب النازية وإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما، الحرص على حريات الإنسان، ومثل هذه القيم في مسرحيات سعد الله ونوس وروايات عبد الرحمن منيف على سبيل المثال.

2ـ التفكر في شؤون الكون وعلاقة الفرد بالأفكار الكبرى : الخلود، المطلق،الخلق...، وتلاحظ هذه الرؤى عند إيليا أبو ماضي وأدونيس مثلاً، وعند جورج سالم وجبران خليل جبران ونجيب محفوظ ولا سيما في روايته «أولاد حارتنا» من القصّاص.

3ـ استحضار نماذج قديمة عبر ما سمي توظيفاً أو تناصاً والتحاور معها (كاستحضار نماذج عرفت بدعوتها للعدل مثل أبي ذر عند القاص السوري نصر الدين البحرة)، ونماذج عرفت بأسئلتها الوجودية (كالسَّهْرَوَرْدي عند أدونيس) واستحضار أفكار كبرى كالأساطير التي يوجد لها مثل عند بدر شاكر السَّيّاب.

4ـ الحديث عن الأشخاص الذين يعانون الظلم والاضطهاد والنبذ والتهميش والقمع: (كشخصية المتسول، والمرأة، والسجين..)؛ ولاسيما عند الشعراء الرومانسيين. وقد كان السجن في الرواية العربية موضوعاً أثيراً لدى القصاص نتيجة معاناة عدد من الروائيين منه، وكذلك نتيجة الوعي بأبعاده النفسية والفكرية.

5ـ الإشادة بشخصيات أخذت مواقف معلنة من قضايا إنسانية عامة أينما وجدت، من ذلك قصيدة بدوي الجبل في المناضل الإيرلندي مارك سويني، التعاطف أو الوقوف إلى جانب روجيه گارودي... وغير ذلك.

ويلاحظ على الشعراء والأدباء المعاصرين المبالغة أحيانا في إيجاد الأعذار لمن ابتعدوا عن الطريق القويم بحجة ظروف الحياة( كالذي كان في روايات حنا مينه، ولاسيما دفاعه عن المومس، وبعض قصائد الأخطل الصغير في ضرورة البحث عن أسباب اللجوء إلى التسول). كما يلاحظ اختلاف مواقف الأديب من هذه القضايا بين مرحلة عمرية وأخرى.

وقد ظهرت مجموعة أفكار جديدة نتيجة توسع المجتمعات وتعدد المذاهب والمعتقدات في المكان أو الوطن الواحد، مما دعا إلى إشاعة روح التآلف والتعاون لا التباعد والتناحر، فأحمد شوقي يرى العرب موحدين في النسب وإن تعددت الأديان:

إنّما نحن ـ مسلمينَ وقِبطـا ًـ أمَّةٌ وُحّدت على الأجيـالِ

وإلى الله من مشى بصليـبٍ في يديهِ ومـن مشى بهـلالِ

وعلى هذه الشاكلة قول خير الدين الزركلي:

عجبتُ لأمر الناس أبناءِ واحدٍ يفرقهـم دينٌ وجنسٌ وعنصرُ

وتشيع الدعوة إلى التسامح في أبيات معروف الرصافي:

إذا القومُ عمّتهم أمورٌ ثلاثـةٌ لسـانٌ وأوطـانٌ وبالله إيمـانُ

فأي اعتقادٍ مانعٌ من أخـوَّةٍ بها قال إنجيلٌ كمـا قال قـرآنُ

كتابان لم ينزلهما الله ربُنــا على رسلهِ إلا ليسعدَ إنســانُ

أما ماري عجمي1966) فعالجت قضية اجتماعية تتعلق بإنسانٍ يُجهد نفسَه في سبيل الآخرين، وهو الفلاح الذي نظرت إليه نظرة إجلال واحترام مُقدّرة فيه عمله الذي يعود بالنفع على الجميع ويخدم الإنسان أياً كان :

مَن الفارسُ المغوارُ في ساحة الوغى؟ مَن السهمُ لا يثنيه ردُّ الجحافــل؟

هـو الزّارعُ الفلاّحُ لولا جهـادُهُ لما شمت بالرَّيحان حُسنَ المخايلِ

لئن ضاق بالكوخ الصّغيرِ مقامُــه فإنّ لـه رحـبَ الفضـاء المقابلِ

خلا جيبـه أمـا الفـؤادُ فملـؤه حنان يفيض الدّهرَ فيضَ الجداولِ

هو السّاعد المفتولُ لا يعرفُ الونى هو العزةُ الشّـمّاء دون تطـاولِ

فما الزّهر إلاّ الشكر حُقَّ لجاهـدٍ وما الخِصبُ إلا من جزاءِ المناضلِ

وقد برز في الأدب العربي الحديث والمعاصر الجنوح نحو الأفكار الوطنية والقومية في لمسة إنسانية سمحة جعلت الإنساني والقومي يتماهيان فيما بينهما، من ذلك قول رشيد أيوب:

أصلّي لموسى، وأعبد عيسى وأتلو السّلامَ علـى أحمدِ

وقد برزت النزعة الإنسانية بوضوح كبير عند أدباء المهجر وشعرائه، ولعل مرد ذلك إلى معاناتهم التي ألجأتهم إلى الاغتراب عن أوطانهم وذويهم، ومن ثم معاناتهم في بلاد المهجر وما واجهوه من ظلم وتفرقة وشظف عيش وغير ذلك مما حملهم على التنبيه على ذلك للحفاظ على الإنسان وإنسانيته. ويأتي في مقدمة هؤلاء جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي ونسيب عريضة والقروي وإلياس فرحات وشفيق معلوف وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وغيرهم. وقد حظيت قصيدة إيليا أبوماضي (الطين) بشهرة كبيرة لما تضمنته من قيم إنسانية رائعة:

نسيَ الطِّينُ ساعةً أنّه طيــ ـنٌ حقيرٌ فصالَ تيهاً وعربد

يا أخي لا تمل بوجهك عني ما أنـا فحمةٌ ولا أنت فرقد

ولقلبي كمـا لقلبـك أحلا مٌ حســانٌ، فإنّه غيرُ جلمد

قمرٌ واحـدٌ يطلُّ علينــا وعلى الكوخِ والبناءِ الموطَّـد

أنت مثلي من الثّرى وإليه فلماذا ـ يا صاحبي ـ التيهُ والصَّد؟

أما ميخائيل نعيمة فقد قدم في كتاباته الإنسانيةَ على القوميةِ، فهو يقول: «العالم العربي نقطة في بحر الإنسانية، والإنسانية نقطة في بحر الكون..».

وإذا تُوسِّع قليلاً في دلالة النزعة الإنسانية فيمكن أن يُعد الاهتمام باللغة وجهاً من وجوه الاهتمام بالإنسانية، فالبلاغة وحسن استعمال اللغة يؤديان إلى سلوك حسن في الحياة وذلك بتفضيل التأمل وتقديم الفكر على العمل، ومن هنا يُشار إلى تجربة عباس محمود العقاد وجبران خليل جبران، ففي «الديوان» تظهر علاقة العقاد ومواقفه من الإنسان والكون والحياة والإله وغربته النفسية، وهذه النزعة جعلته صادقاً في التعبير عن الإنسان في مختلف حالاته، فدعا إلى العدالة الاجتماعية على أنها قيمة كبرى، وتوقف ملياً عند أضداد الحياة وعلاقة الإنسان بالدهر، حتى إنه قال:

أنا لا ألومُ ولا أُلامُ حسبي من النّاس السّلامُ

ليس العتابُ بمصلحٍ خللا توارثهُ الأنامُ

أما جبران فقد تبدت عنده هذه النزعة في عدد من المظاهر؛ منها التسامي والشفقة على الفقراء والمساكين واليتامى والتنبه إلى ما سمي فيما بعد (الصراع الطبقي) والسعي إلى إعلاء منزلة الفكر الإنساني، ودعا إلى الحرية والعدالة والاحترام وعدم الإفراط أو التفريط في الغرائز، وحاول البحث في أصل الإنسان وعلاقته بالأرض وأسباب وجوده، وقد مرت نزعاته الإنسانية في مراحل متعددة عبر حياته. ومن أمثلة ذلك في شعره:

كانَ لي بالأمس قلبٌ فقضى وأراح الناس منهُ واستراح

ذاك عهدٌ من حياتي قد مضى بين تشبيبٍ وشكوى ونواح

ليت شعري هل لما مرَّ رجوع أو معاد لحبيبٍ أو أليف

هل لنفسي يقظة بعدَ الهجوع لترَيني وجه ماضيَّ المخيف

وتبدو النزعة الإنسانية واضحةً جليةً في أدب النكبة الفلسطينية وبدت فيه أشبه بجرح عميق يدمي جبين الإنسانية عامةً وأهل فلسطين والعرب خاصة، وقد امتزجت في هذه النزعة مرارة الحرمان وعذاب المنفى والشوق والحنين إلى الوطن ومرابع الصبا، فانساب الشعر رقيقاً باكياً. يقول يوسف الخطيب:

أتراك مثلي يا رفيقُ تمرُّ بالزَّمنِعبر الليالي السُّود والمحنِ

لا صاحبٌ يرخي عليك غلالةَ الكفنِ

بي لهفةٌ يا صاحبي مشبوبةٌ بالنّار

هل بعض أخبارٍ تحدِّثُها وأسرار

للظَّامئين على متاهةِ الوحشةِ العاري.

كيف الحقول تركتها في عرس آذار

ومتى لويت جناحك الزَّاهي عن الدَّار

عجباً.. تراك أتيتنا من غير تذكارِ

لو قشَّةٌ مما يرفُّ ببيدر البلدِ

خبّأتها بين الجناح وخفقة الكبدِ

لو رملةٌ من المثلّث أو ربا صفدِ

لو عشبةٌ بيدٍ ومزقة سوسنٍ بيدِ

أين الهدايا مذ برحت مرابع الرغدِ؟

أم جئت مثلي بالحنين وسورة الكمدِ؟

ماذا رحيلك أيها المتشرد الباكي

عن أرض غابات الخيال وفوحها الزَّاكي؟

أم أن مرج الزّهر أصبح قفر أشواكِ؟

وتلوّنت أنهارها بنجيع سفاكِ

داري وفي عينيّ والشّفتين نجواكِ

لا كنت نسلَ عروبتي إن كنت أنساكِ.

وقد عالجت الرواية الفلسطينية كثيراً من الهموم والموضوعات الإنسانية التي تعرض لها الشعر الفلسطيني سواءً في داخل الوطن المحتل أم في الشتات، وظهر ذلك جلياً في رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» وفي روايات حليم بركات وغيرهما.

وهكذا فإن النزعة الإنسانية في الأدب العربي سايرته منذ نشأته الأولى، واستمرت في صور مختلفة حتى هذا اليوم وستستمر معه لأن الأدب العربي في طبيعته أدب ذاتي غنائي إنساني.[1]


انظر أيضاً


المصادر

  1. ^ نبيــل الحفــار. "النزعة الإنسانية في الآداب الأوربية". الموسوعة العربية. Retrieved 2013-02-12.