الأورطة المصرية في حرب المكسيك

الأورطة المصرية في حرب المكسيك.

في 1863، أرسل سعيد باشا، حاكم مصر، أورطة مكونة من 453 جندي مصري وسوداني. وقد حاول إسماعيل باشا زيادتها إلى 13,000 مجند مصري لمساعدة إمبراطور المكسيك (الفرنسي) في حربه ضد حركة الاستقلال. إلا أنه لم يتمكن. وقد عاد منهم 313 جندي. أبلى الجنود المصريين بلاءً حسنًا في الحرب المكسيكية وقتل معظمهم وعاد عدد قليل منهم إلى مصر وتم تكريمهم وقد أرسل الخديوى إسماعيل الجنود المصريين نظرا للعلاقة المصرية الفرنسية الوثيقة ولاتفاق العائلات المالكة على مساندة بعضها البعض. وكانت الأورطة المصرية ضمن التدخل الفرنسي في المكسيك.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلفية

شهد تاريخ المكسيك منذ سقوط الإمبراطوريات الأيبيرية 1884 تشاحن ملتهب وتمرد عنيف وصراعات مدمرة كانت إمبراطورية ماكسميليان تمثل فقط أحد فصولها الدامية. كانت أوصال المكسيك تتمزق بين عامي 1858 – 1861 في رحى حرب أهلية بين حكومتين متناحرتين، إحداهما دينية محافظة يقودها محارب طموح قدير يسمي ميگل ميرامون Miguel Miramon وكانت الأخرى تقدمية علمانية يقودها رجل هندي يمتاز بوضوح الفكرة و البيان ويدعي بنيتو خواريز Benito Juarez (قيل أن بنيتو موسوليني قد سمي على اسمه) وكان رجال الكنيسة الكاثوليكية لا يكفون عن الهجوم عليه لقيامه بإجراءات عنيفة و شاملة هدفت إلي تقليم أظافر الكنيسة و سلطتها و ثرواتها الطائلة. لجأ الطرفان إلي السلاح واحتكما إليه وفي ذلك اعتمدا علي المال الذي كانا يقترضانه من أوروبا، ولم يقصر طرف من الطرفين المتحاربين في بذل الوعود السخية بدفع تلك الديون حالما تضع الحرب أوزارها وينتصر علي عدوه اللدود.

كانت الولايات المتحدة تعترف بحكومة بنيتو خواريز وتقف في صفها، بينما ظفر الطرف الآخر بعون رجال المال في أوروبا، فقام مصرفي سويسري يقيم في باريس اسمه جيكير Jekker بإقراض حكومة ميگل ميرامون 750,000 دولار أمريكي مقابل أن يعطيه ميرامون سندات (بفائدة 6 %) قيمتها الاسمية نحو 15 مليون دولار أمريكي! خسر ميرامون الحرب في 1861 بيد أن ذلك لم يمنع ذلك المصرفي السويسري من أن "يقنع" بوسائل فاسدة القنصل الفرنسي في المكسيك دوبوا ده ساليني Dubois de Saligny بحقه في استرداد أمواله من قدر له الانتصار وحكم المكسيك، وتبني الشقيق الأصغر للإمبراطور نابليون الثالث مطلب جيكير في استرداد أمواله مضاعفة أضعافا كثيرة من يحكم المكسيك، بعد أن ينال هو 30% (كحقه) في العملية! لم يك من العسير إثارة اهتمام نابليون الثالث بالمغامرة في المكسيك، فلقد ظل الرجل في معتقله في هام Ham يحلم بأمريكا وسطي متحضرة ومنتعشة اقتصاديا ومنفتحة علي التجارة العالمية والأسواق بواسطة بقناة تصلها بالمحيط. وساهم رجالات الدين المكسيك المهاجرين في باريس (و منهم بطريرك المكسيك) في استمالة الإمبراطورة أوجيني Eugenie (وهي من أصل إسباني) "لتقنع" زوجها الإمبراطور بمساندة إنشاء مملكة وكنيسة متحدة مركزية في المكسيك. بدا أمر طرد الهنود الملحدين من المكسيك وإنشاء إمبراطورية كاثوليكية تحت إمرة التاج الفرنسي هدفا جاذبا وذا منافع مادية مغرية لرجالات الكنيسة المكسيكية.

كانت المكسيك بالنسبة للفرنسيين بلدا غريبا بعيدا لا يعلمون عن طقسه وجغرافيته إلا النذر اليسير، والذي لا يتعدي أن المكسيك بلد واسع شاسع مترامي الأطراف وبه من الثروات ما به. كان الوقت ملائما لفرنسا للقيام بمغامرة غزو المكسيك إذ أن الولايات المتحدة كانت في شغل شاغل بحربها الأهلية بين الشمال والجنوب، ومثلت الفوضى الحادثة في المكسيك والتعدي علي الأجانب من قبل الطرفين المتحاربين ذريعة مواتية للتدخل الأجنبي، فلقد اعتدت الحكومة المكسيكية علي ممثلي السفارة البريطانية والبابوية وعلي وزير إسباني وتم طرد ممثلي گواتيمالا والإكوادور لاتهامهما بالتدخل السافر في شئون البلاد لصالح القوى الرجعية. وأوقف برلمان تلك الحكومة دفع ديون بريطانيا المستحقة في 1861، وتم في مرات عديدة استهداف أرواح وممتلكات الأوربيين دونما تعويض أو حتى مجرد تفسير.

تحالفت فرنسا مع بريطانيا العظمي وإسبانيا علي العمل سويا علي هدف محدد ومحدود إلا وهو استرداد الأموال التي أقرضوها للمكسيك مع أرباحها، وتم التوقيع علي ميثاق ذلك التحالف في لندن يوم 31/ 10/ 1861. وما أن حل يوم 14 ديسمبر من ذات العام حتى كانت القوات الأسبانية تحت إمرة الجنرال بريم Prim تحتل فيراكروز وأعقب ذلك بفترة وجيزة وصول الأسطول الفرنسي محملا بالجنود الفرنسيين لاحتلال كامل شواطئ وموانئ خليج المكسيك وتحصيل الجمارك لصالح الدول الثلاث إلي حين التوصل إلي تسوية شاملة. بعثت بريطانيا العظمي بسفنها للمنطقة بيد أنها أكتفت بإنزال 700 فقط من جنودها في المكسيك. ولما كان الطقس وخيما في فيرا كرز فلقد قر رأي الدول المشاركة في الحملة بعد عقدهم لمؤتمر مشترك مع الحكومة المكسيكية في سوليداد Soledad علي أن تعترف هذه الدول باستقلال المكسيك شريطة أن تسمح الأخيرة لجنود أجانب بالتقدم نحو أوريزابا Orizaba. هنا بدأ الخلاف يدب بين الدول الثلاث المتحالفة في مستقبل حملتهم المشتركة وطبيعتها وأهدافها النهائية. ولما كانت فرنسا هي التي أخذت زمام المبادرة باستضافتها لقادة المعارضة من الرجعيين المكسيك وتبنيها لمطلب المصرفي السويسري جيكير، وإظهارها لشهية عظيمة في التدخل في الشئون الداخلية للمكسيك فلقد آثرت كل من بريطانيا العظمي وإسبانيا الانسحاب من المكسيك في مارس عام 1862 وترك "الجمل المكسيكي" بما حمل لفرنسا.

بعثت فرنسا بمزيد من جنودها للمكسيك وتصدت لهم قوات زراگوزا Zaragoza وپورفيريو دياز Porfirio Diaz في معركة سنكو دي مايو Cinco de Mayo في يوم 5/5/ 1862. وفي سبتمبر 1862 أمدت فرنسا جيشها في المكسيك بثلاثين ألفا من الرجال تحت إمرة الجنرال فوري Forey وقضت تلك القوات الشتاء في أوري زابا ثم تقدمت في 17/ 2/ 1863 نحو بويبلا ودخلت عاصمة المكسيك في السابع من يونيو. وضح من واقع الحال أن الأمر إن هو إلا حرب احتلال سافرة تهدف إلي قلب حكومة جوريز وإحلال إمبراطورية كاثوليكية في المكسيك تحت إمرة فرنسا. وتم إقناع ماكسميليان (وهو شقيق إمبراطور النمسا) ليكون إمبراطورا علي المكسيك (وكان في الواقع إمعة ودمية في يد الحكومة الفرنسية). كان ماكسميليان رجلا وسيما محسنا لين الجانب رقيق الحاشية، ومن النوع المتحرر الذي لا يتوقع أحد أن يرفض أي شعب توليه لمقاليد حكمه. بيد أن شعب المكسيك لم يرض به وثار عليه و كلف ذلك كله الحكومة الفرنسية أموالا طائلة ورجالا كثيرين لم تك تتوقع خسارتهم.

فقدت فرنسا في الفترة بين نوفمبر 1861 – يونيو 1873 ما يقارب من 37,000 من الرجال علي شواطئ المكسيك الموبوءة بالأمراض. مات من أولئك الرجال نتيجة الحمى نحو 1410 رجلا بينما لم يمت نتيجة القتال المباشر سوي 330 رجلا فقط.

فتكت بأولئك الرجال الحمى الصفراء والدوسنتاريا. وضاقت المقابر في فيراكروز– علي اتساعها- عن استيعاب الموتى من الجزائريين والفرنسيين، وأطلق بعضهم ساخرا علي المقبرة التي ضمت أجساد أولئك الجنود "حديقة التأقلم" Garden of acclimatization .


تاريخ المشاركة المصرية في ثورة المكسيك

عند ذلك طلب نابليون الثالث من سعيد باشا والي مصر والابن المفضل لمحمد علي باشا مد يد العون له بفرق مصرية علي أمل أن تتحمل أجساد أولئك الجنود أمراض المكسيك بأفضل مما فعل الفرنسيس، ولقد نما لعلم الإمبراطور أن الجنود المصريين قد تم "استخدامهم" من قبل وبنجاح باهر من قبل محمد علي في اليونان – ومن قبل إبراهيم باشا في الجزيرة العربية. استجاب سعيد باشا لذلك الطلب بيد أنه بعث فقط بكتيبة واحدة من فوج المشاة التاسع عشر تتكون من 453 من الضباط والجنود. كان علي رأس تلك القوة البمباشي جبر الله محمد افندي مع نائبه اليوزباشي محمد ألماظ أفندي. أبحرت السفينة سرا من ميناء الإسكندرية بين ليل السابع والثامن من يناير واتجهت إلي المكسيك حيث وصلت إلي ڤيراكروز يوم 23/2/ 1863 أي بعد 47 يوم في عرض البحر. كانت الكتيبة مكونة من قائد واحد ورائد وملازم واحد وثمانية من الرقباء و15 عريفا و359 من الجنود و39 من المجندين و22 من الأطفال تراوحت أعمارهم بين 10 – 15 عام. كان المجندون – والذين بعثت بهم شرطة الإسكندرية مساء يوم الرحيل – شبه عراة، بيد أن بقية رجال الكتيبة- كانوا في كامل زيهم العسكري وهم يحملون عدتهم وعتادهم. مات في عرض البحر سبعة من الرجال، ربما بسبب حمي التايفويد أو أمراض صدرية.

وبعد الوصول إلي فراكروز بقليل مات 15 رجلا آخرا، ولم يتحدد إن كان هؤلاء الجنود قد ماتوا بسبب الحمى الصفراء أم بغيرها. كان الكثيرون يعتقدون بأن تلك الحمى لم تكن موجودة في منطقة ڤيراكروز بين يناير وأبريل 1863 لذا فلقد ساد الاعتقاد بأن أولئك الجنود قد ماتوا لأسباب ليست الحمى الصفراء واحدة منها. ومع حلول شهر إبريل عاودت الحمى الصفراء الظهور في فيراكروز بضراوة شديدة واستمرت في الانتشار حتى ديسمبر من ذات العام. قضت تلك الحمى علي قائد القوات الفرنسية في المنطقة وأحد عشر من كبار الضباط وكثير من الجنود الفرنسيين. ولسبب ما لم تصب تلك الحمى أي من الجنود المصريين عدا قائد الجنود المصريون البمباشي جبر الله محمد الذي كان الوحيد من بين المصريين الذين تسببت الحمى الصفراء – حسب السجلات الرسمية- في موته. ترك البمباشي جبر الله محمد بعد موته 5667 فرانك فرنسي تم إرسالها إلي حكومة مصر لتقوم بإرسالها لورثته.

تمت ترقية نائب القائد محمد الماظ أفندي إلي رتبة البمباشي وتولي القيادة مكان البمباشي الراحل جبر الله محمد. لم يسلم المصريون تماما من الآثار الممرضة لطقس المكسيك رغم أنهم أبدوا مقاومة أشد لها من رصفائهم الفرنسيين، بل والمكسيكيين أنفسهم. فعند نهاية 1863 مات 47 من الجنود منذ سفرهم من الإسكندرية، بينما سقط نحو 43 منهم فقط فريسة لأمراض أخري وقد عزاها البعض لعدم الاهتمام الذي لقيه أولئك الجنود عند وصولهم لأول مرة في ڤيراكروز، فلم يحاول أحد أن يتعرف علي لغتهم أو أذواقهم أو طباعهم. لم تكن عملية تنظيم إطعام هؤلاء الجند كافية وكان الطعام المقدم لهم قليلا لا يتناسب مع الأعمال الشاقة التي كان عليهم أدائها. وصل المجندون الذين دفعت بهم شرطة الإسكندرية جياعا وشبه عراة في مساء يوم الرحيل إلي ڤيراكروز وهم في حالة مزرية يرثي لها و كانت أغلب حالات الموت وسط الجنود من هؤلاء المجندين. تم بعد فترة قليلة من وصل الجنود إدخال بعض الإصلاحات علي الأوضاع. تمت عملية إعادة تنظيم للكتيبة علي النسق الفرنسي فتم تقسيمها إلي أربعة فرق وصرفت أوامر محددة تحدد واجبات كل فرقة وتمت ترقية العديد من أفراد الكتيبة. بعث لخديوي مصر بنسخ من هذه الأوامر والترقيات للمصادقة عليها. بعث الخديوي بهذه الواجبات والترقيات لوزارة الحربية المصرية في 16/3/ 1864 وسرت تلك الترقيات بأثر رجعي من يوم 11/3/ 1863. كانت أسلحة الجنود المصريون ممتازة بيد أن بنادقهم كانت من نوع مختلف عما هو مستعمل في الجيش الفرنسي وكان ذلك يمثل عقبة في ما يتعلق بالذخيرة مما دعا الفرنسيين إلي إعطاء الجنود المصريون بنادق فرنسية والاحتفاظ بالبنادق التي جلبها هؤلاء الجنود لحين انتهاء الحملة. مثلت لغة الجنود المصريون عقبة أخري، إذ لم يكن هنالك من يفهم لغتهم ولم يكن من السهل شرح كيفية استعمال هذه البنادق الفرنسية الجديدة لهم.

أشاد الجميع بانضباط هؤلاء الجنود وبالسرعة الفائقة التي تأقلموا فيها علي الأوضاع الجديدة وذلك عقب معرفة الفرنسيين باحتياجاتهم ومعالجة مشاكلهم الصحية الصغيرة والتعرف علي مواطن القدرة والقوة والتميز عندهم. سرعان ما اكتشف الفرنسيون نشاط و همة هؤلاء الجنود وأنهم أكثر إجادة من غيرهم في المراقبة والرصد وشجاعتهم تفوق الوصف عند احتدام الوغى، وأنهم يخاطرون بأرواحهم في مواضع يتوجس ويجفل منها الجنود الفرنسيين. نجح الجنود المصريون نجاحا باهرا في تعقب الفدائيين ورجال العصابات المكسيكية الذين كانوا لا يكفون عن مهاجمة القوافل التي كانت تحمل الزاد والمؤن في الأراضي المنخفضة في فيراكروز، ويعتدون علي نقاط الدفاع قليلة الحماية. خلال حصار پويبلا (ثانية أكبر المدن المكسيكية) والتي تم الاستيلاء عليها وعلي حاميتها المكونة من 26 جنرالا و 90 ضابط و12,000 فردا من مختلف الرتب في يوم 17 / 5/ 1863 أمر الجنود المصريين بحماية خطوط الاتصالات بين تلك المدينة والساحل والتي حاول المكسيك مرارا قطعها. وكلف الجنود المصريون أيضا بحماية خط السكة حديد الذي كان في طور التشييد مما عجل بإكماله في وقت وجيز. رافق بعض الجنود المصريون القائد العام للجيش الفرنسي مارشال بازين Marshal Bazaine عند دخوله لمدينة مكسيكو العاصمة يوم 7/6/ 1863 وشاركوا بفعالية في معارك سبقت وأعقبت سقوط العاصمة، وعندما أقام الفرنسيون احتفالا ضخما حضره كل ممثلي السلطات المدنية والعسكرية بمناسبة الاستيلاء علي العاصمة وقع الاختيار علي فرقة مصرية لتكون حرس الشرف في احتفالات قام الجنود المصريون بعرض عسكري في أكبر ساحة عامة في العاصمة. أثبت الجنود المصريون كفاءة واقتدارا عظيمين لفتا نظر القادة الفرنسيين مما دعا القائد العام الفرنسي لينتقي من بين الجنود المصريون فرقة "قوة خاصة" وأن يصرف لكل فرد من أفراد هذه القوة الخاصة علاوة قدرها 65 سنت (تعادل قرشين ونصف) في اليوم، وأن يشرف ويميز أفرادها بلبس شارة صفراء خاصة علي الذراع. ساهم هذا الإجراء في رفع الروح المعنوية للجنود والضباط إذ أنه أثبت أن الجنود المصريون قد نالوا احترام و تقدير رؤسائهم الفرنسيين.

ومع انصرام عام 1863 كان الجنود المصريون قد خاضوا ثمان معارك سجلوا فيها أعلي درجات الامتياز. كتب عنهم حاكم فيراكروز وهو يصف معركة خاضوها في 2/10/ 1863: " لقد حمل الجنود المصريون العبء الأكبر من تلك المعركة، ولقد توجتهم تلك الموقعة بأكاليل الفخار. لم يبال أحد منهم بالنيران الكثيفة التي كان العدو يرميها عليهم من كل صوب. كان عدد أفراد جيش العدو يفوقهم بتسعة أضعاف، ورغما عن ذلك فلقد نجحوا في "اجتثاثه".

كان أهم إنجاز للكتيبة السودانية هو احتلال ڤيراكروز وحماية خطوط الاتصالات بين تلك المدينة و الوحدات المتقدمة في داخل البلاد. وتكمن أهمية ڤيراكروز في أنها الميناء الذي تأتي عبره القوات الغازية والمواد التموينية. لذا كان من المهم جدا تأمين تلك المدينة والاتصالات بينها وبين بقية البلاد.

وقام الجنود المصريون بتلك المهمة دون كلل أو ملل من فبراير 1863 إلي حين مغادرة الجيش الفرنسي للمكسيك في 1867. علقت أميرة في بلاط الإمبراطور ماكسميليان علي الجنود المصريون قائلة: " هؤلاء السود من أبناء أفريقيا شديدو الاحتمال لطقس المكسيك وخيم الهواء"، وقامت تلك الأميرة برحلة من فيراكروز إلي ميدلين Meddelin كان حراسها الشخصيين فيها من الجنود المصريون. وصفت الأميرة الرجال بأنهم طوال نحفاء وأقوياء الجسم يرتدون زيا أبيضا ناصع البياض و يعتمرون عمامات أنيقة وفي أيديهم بنادق طويلة وفي أحزمتهم خناجر. وقالت ما معناه: يا لروعة أن تكون في حراسة هؤلاء "الأسود السود" الذين يمنحونك شعورا عظيما بالأمن والأمان. وصفهم أحد القواد الفرنسيين بأنهم رجال منظمون، وأضاف ببعض المبالغة أن أحدا منهم لم يمرض أبدا، وكان يشاهدهم وهم رقود في منتصف النهار القائظ يغطون في نوم عميق تحت أشعة الشمس الحارقة ويستيقظون دونما أي إحساس بألم أو صداع. وكان يقول أن أي فرنسي يحاول أن يفعل مثلهم لن يستيقظ من نومته تلك أبدا. ووصفهم قائد آخر بأن :"لهم روحا قتالية لا تدعهم يتركون أسيرا ليعيش. لم أر في حياتي روحا قتالية كالتي رأيتها عند هؤلاء المصريون. تري إصرارهم في نظرات أعينهم و شجاعتهم تفوق الوصف. إنهم ليسوا ببشر بل هم أسود ضارية" منح الأمباشي عبد الله حسين باشا ميدالية حربية عرفانا بشجاعته وإقدامه وشراسته عند الوغى لتكبيده العدو أفدح الخسائر. ذكر أن ذلك الأمباشي طعن بسنكي بندقيته رجلا مكسيكيا رفعه بيد واحدة و السنكي ما يزال منغرسا في جسده.

رفع قائد الجيش الفرنسي في المكسيك ومحمد الماظ أفندي تقريرين لوزارة الحربية المصرية بإنجازات الجنود المصريون في حرب المكسيك وبخسائرهم وبتفاصيل أخري. رفع الوزير التقرير للخديوي إسماعيل والذي فرح كثيرا بإنجازات جنوده وقوتهم ومهارتهم وقرر صرف معاشات لأرامل وعائلات من قتلوا أو ماتوا من الجنود وترقية بعض من تميزوا من أفراد الكتيبة، ووعد بإقامة احتفالات ضخمة لهم عند أوبتهم لمصر "سالمين غانمين إن شاء الله".

أشاد الفرنسيون بحسن انضباط الجنود المصريون فذكر أحد كبار قادتهم أن كل فرد من أفراد الكتيبة مفعم قلبه بحسن أداء الواجب علي أتم وجه، وأنه لم تسجل حالة واحدة لسوء سلوك من أي فرد فيها ولم يتم القبض علي جندي واحد وهو نائم عن حراسة ليلية أو غافلا عن واجب أو غائبا بدون عذر. وتمت الإشادة علي وجه الخصوص بالتالية أسمائهم: ملازم فرح الزين، وملازم أول محمد سليمان والذي ظل واقفا يقاتل رغم تلقيه لستة طلقات نارية أدت لجروح خطيرة ونزف دم كثير. نال ذلك الضابط فيما بعد ميدالية العشرين من ديسمبر وتمت ترقيته إلي يوزباشي. كان الجنود المصريون يزيدون – من تلقاء أنفسهم- من أعداد من عليهم الحراسة دون أن تصدر أوامر لهم بذلك حتى لا يؤخذوا علي حين غرة. وفي ذات مرة كان الملازم صالح حجازي يقود عشرين من الرجال في مهمة معينة، وفي الطريق اعترض طريقهم 200 من الجيش المكسيكي. لم تثن المصريون قلة عددهم فمضوا في مقاتلة العدو وتمكنوا من الانسحاب المنظم دونما خسائر.

وبما أن سمعة هؤلاء الجنود المصريون في المكسيك قد عمت في المكسيك وفرنسا ومصر فلقد أعطي لبعض أولئك الجنود شرف إطلاق مدافع الشرف تحية للإمبراطورة شارلوت (Charlotte) عند وصولها لفراكروز في ديسمبر 1865. وكان 50 منهم يمثلون حرس الشرف للأميرة الزائرة والتي نقلت لبعلها ماكسمليان إعجابها بمقدرات هؤلاء الرجال الاستثنائية وعن حسن مظهرهم ونظافتهم أيضا. عندما بلغ مكسميليان ذلك أمر لهم بزيادة في الراتب بلغت ثلاثا وثلاثين ونصف سنتا (تعادل قرشا وربع) يوميا. وعند أوبة الأميرة إلي أوروبا في يوليو من عام 1866 كان الجنود المصريون هم الجنود الوحيدون بالمدينة نالوا شرف توديعها رسميا. ومع نهاية عام 1865 كانت الأورطة المصريون قد خاضت 37 معركة، كان أغلبها في الشهور الأخيرة لتلك السنة. وخاضت في 1866 احدي عشر معركة أخري. كانت أعداد الثوار المكسيك تزداد يوما بعد يوم واشتدت رحى حرب العصابات حتى أنه هاجمت ذات ليلة قوة مؤلفة من 200 من الثوار نقطة مراقبة كان بها 26 من الجنود المصريون. أتي الهجوم المكسيكي مباغتا، إلا أن المصريين – رغم قلة عددهم – صمدوا ومضوا في الدفاع عن موقعهم حتى الساعة الخامسة والنصف صباحا. حينها انسحبت قوات العدو مخلفة العديد من القتلى والجرحى ورائها. ومع التزايد اليومي لعدد الثوار المكسيك اتضح جليا ضرورة الدفاع عن مدينة ڤيراكروز خشية من سقوطها في يد الثوار إلي حين إرسال مدد جديد من فرنسا بالرجال و العتاد.

نقل للخديوي إسماعيل باشا تقارير عن وضع جنوده في المكسيك وفكر في إرسال كتيبة أخري ولكن من السودان لمعاونة الكتيبة المصريه المتواجدة هنالك، فأصدر أوامره في 27 فبراير 1865 لجعفر باشا مظهر الحاكم العام للسودان حينها لينتقي من بين مشاة قوة السودان أفرادا صغار السن أقوياء البنية حسني المظهر كي يبعثوا عن طريق سواكن إلي مصر. وفي 12/4/1865 بعث الخديوي لقائد الكتيبة السودانية بالمكسيك برسالة يقول فيها:

" الرجاء إعلام كل رجالنا معكم بضرورة الجلد والصبر حتى يحافظوا علي السمعة الحسنة التي اكتسبوها في المكسيك وأن يواصلوا أعمالهم بكل جد حتى يعودوا لديارهم و يحصلوا علي عظيم التقدير والامتنان من إخوانهم، وسوف نقوم بتجهيز مزيد من القوات لعونهم وسيصلهم هذا المدد قريبا إن شاء الله. عندها سنأمر بعودتكم إلي أوطانكم بعد أن تطاول بقائكم في المكسيك".

وبعث الخديوي مع ذلك الخطاب بالميدالية المجيدية من الطبقة الرابعة إلي الجنرال الفرنسي مارشال، وهو الضابط الفرنسي المسئول عن الكتيبة السودانية، ولم يتسلم الجنرال الفرنسي الميدالية إذ أنه كان قد قتل في إحدى المعارك في الثاني من مارس 1865! أرسل الخديوي السفينة "الإبراهيمية" إلي سواكن استعدادا لجلب مزيد من الجنود السودانيين ليرسلوا للمكسيك وبعث برسائل مستعجلة لحاكم التاكا وسواكن لاستعجال بعث أولئك الجنود. لم تجد "الإبراهيمية" عند وصولها لسواكن أي أثر لجنود. وبعد أيام سري في سواكن وباء (لم تحدد طبيعته) أضطر معه قائد السفينة للعودة خالي الوفاض إلي مصر بدلا من الانتظار إلي ما لا نهاية. كان إسماعيل باشا قد أمر في هذا الأثناء باختيار جنود من حاميتي بربرة ودنقلا ونقلهم لمصر عبر نهر النيل دونما تأخير. رغما عن كل المحاولات التي بذلها الخديوي لإرسال مزيد من الجنود للمكسيك إلا أنه لم يتمكن من إرسال جندي إضافي واحد لذلك البلد. كذلك لم ينجح ماكسميليان في الحصول علي أي عون من أوربا رغم نداءاته العاجلة المتكررة.

وضعت الحرب الأمريكية الأهلية أوزارها في ربيع 1865، وفي خريف ذات العام أيقن الجميع فشل الحرب المكسيكية. وقامت الحكومة الأميركية التي هزمت ولايات الجنوب بمطالبة الحكومة الفرنسية بسحب قواتها من المكسيك ورفضت الاعتراف بالحكومة العميلة التي نصبها الفرنسيون. وأتبعت واشنطن القول بالعمل فحركت قواتها في بدايات 1866 نحو ريو جراندى Rio Grande بعدها أيقن نابليون الثالث أن لا قبل له بأمريكا وجنودها فأعلن صاغرا عن نيته في سحب جيشه من المكسيك. أحس ماكسميليان بأنه بقي وحيدا بعد خذلان الفرنسيين له فالتجأ إلي الحزب الكاثوليكي ثم فكر في التنازل عن العرش رغم ضغوط زوجته شارلوت والتي سافرت لفرنسا لحث نابليون علي نصرة زوجها، فلم تلق منه إلا الإعراض والصدود، فصوبت وجهها نحو روما وتشرفت بالسلام علي البابا وحادثته في أمر زوجها. لم يك حظها مع البابا بأفضل من ما كان مع نابليون الثالث.

انتهي الأمر بالإمبراطور ماكسمليان أن يخونه أقرب رجال المكسيك له وأن يقع في أسر الثوار والذين سجنوه لمدة قصيرة قبل تقديمه للمحاكمة وأعرض الإمبراطور – في نبل وإباء- عن محاولة الهرب من الأسر رغم عديد الفرص التي "أتيحت" له. حوكم الإمبراطور بتهم تضمنت التمرد و القتل والسطو المسلح وأعدم رميا بالرصاص في 19 يونيو 1867 رغم احتجاج ملوك أوروبا وشخصياتها البارزة من أمثال ڤيكتور هيگو وگاريبالدي. ولم تسمح الحكومة الثورية بإعادة جثمانه لأوروبا إلا بعد لأي شديد.

غادرت الكتيبة المصريه المكسيك مع باقي القوات الفرنسية في فبراير من عام 1867 وآبت لمصر عن طريق فرنسا. وخلال الأعوام الأربعة التي قضاها الجند في المكسيك كانت جملة المعارك التي خاضوها 48 معركة كسبوا جلها و نالوا عظيم التقدير والإشادة من السلطات العسكرية الفرنسية. وصلت الأورطة إلي باريس في أبريل 1867 و تم استقبالهم استقبالا شعبيا ورسميا ضخما وأنعم عليهم بأنواط الشرف وتم عرضهم علي نابليون الثالث والذي تفقد شخصيا طابور الشرف الذي اصطفوا فيه في يوم 2/5 وكان برفقته شهيم باشا وزير الحربية المصري. صافح الإمبراطور بيده قائد الأورطة البمباشي محمد ألماظ وقلد العديد من الضباط والجنود الأوسمة ومنح من جرح منهم الكثير من العطايا. غادرت الكتيبة فرنسا متجهة لمصر في مايو من ذات العام وكان عدد أفرادها 313 (من أصل 453). ولحق بأفرادها ثلاثة آخرون بعد أن كان أحدهم قد احتجز في مستشفي بباريس وبعد أن أطلق سراح اثنين كانا قد وقعا في أسر ثوار المكسيك. وفي 28 مايو 1867 قدموا عرضا عسكريا أمام الخديوي إسماعيل أمام باحة قصره في رأس التين بالإسكندرية. وأقام لطيف باشا للضباط منهم حفل استقبال وسهرة شرفها بالحضور شريف باشا وقنصل فرنسا و غيرهما من كبار الشخصيات.و زينت صالة الاحتفالات بالأعلام المصرية والفرنسية. أعلن إسماعيل باشا عن ترقيات واسعة في صفوف تلك الكتيبة ورقي محمد الماظ إلي رتبة الأميرالاي.


الحمى الصفراء

أشارت بعض المصادر الطبية إلي أن كثيرا من الجنود الفرنسيس كانوا قد وقعوا فريسة للحمي الصفراء عند قدومهم للمكسيك بينما قاومت أجساد الجنود المصريين ذلك المرض، وكان ذلك مصدر اهتمام واختلاف بين الأطباء فعزا بعضهم ذلك لاختلاف عرقي يتمثل في مقاومة طبيعية افترضوا وجودها لدي الافارقه. وأيد ذلك الزعم طبيب أمريكي هو ها. ر. كارتر في كتابه الشهير عن الحمى الصفراء و الصادر في 1931، بينما رأي الطبيب البريطاني هوير في مقال له في المجلة الطبية لانست Lancet عام 1934 أن مقاومة الجنود المصريين للحمي الصفراء قد تعزي لتعرض هؤلاء الرجال لعدوي ذات المرض في وقت سابق لسفرهم للمكسيك مما قد يكون قد أكسبهم مناعة ضد ذلك المرض.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التأريخ للأورطة المصرية

رصد بعض المؤرخين الفرنسيس كتابات متفرقة عن تاريخ الجنود المصريين في المكسيك، بيد أن ما كتبه الأمير عمر طوسون عام 1933 عن "بطولة الأورطة (الكتيبة- المترجم) المصريه في المكسيك" يعد من أكمل ما كتب عن الموضوع، ولما كان مقال الأمير بالعربية، فإنه لم يك معروفا لأغلب الباحثين والمهتمين بتاريخ تلك ا الكتيبة. ركز مقال توماس المنشور في "المجلة الأوغندية" علي بقايا أغراض تم العثور عليها في المديرية الإستوائية وأوغندا لبعض أولئك الجنود العائدين من المكسيك. وفيما عدا ذلك فإن ما هو موثق لأولئك الجنود لا يتعدي بعض الوثائق المطمورة في أضابير أرشيف الحكومة أو في رسائل قديمة منسية لبعض الأفراد أو في بعض الكتابات التاريخية التي خطها بعض الجنود المصريين مثل عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم" علي جدران بعض الكنائس والمعابد القديمة المتهالكة.


المراجع

  • Richard Hill & Peter Hogg: "A Black Corps d'Elite - An Egyptian Sudanese Conscript Battalion with the French Army in Mexico, 1863-1867, and its Survivors in Subsequent African History", Michigan State University Press, East Lansing, 1995, ISBN: 0-87013-339-X