استعمار أوروبي

التوسع الغربى أو الحركة الاستعمارية يعتبر هو معلم بداية تاريخ آسيا الحديث.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

دوافعه الاقتصادية والدينية والسياسية

  • الدوافع الاقتصادية ، أن التجارة هى التى دفعت بالأوربيين والآسيويين إلى الاتصال ببعضهم في العصر الحديث، والأوربيون هم الذين بدأوا ذلك الاتصال وليس العكس. وإذا كانت الصلات التجارية بين أوربا وآسيا لم تتوقف في أية فترة من فترات التاريخ، وأن كان الشلل والركود قد أصابها لعدة قرون خلال التاريخ الأوربى الوسيط، فما كادت الفوضى الإقطاعية ان تنحسر عن أوربا، وتحسنت الأوضاع الاقتصادية نسبياً، وازداد النشاط الاقتصادى في أواخر القرون الوسطى حتى اندفع الأوربيون في طلب السلع الشرقية، التى كانت البورجوازية التجارية الإيطالية – في البندقية – تحتكرها في جزئها الغربى، بينما تحتكرها في جزئها الشرقى البورجوازية العربية. وقد جعل هذا الوضع ال[برجوازية]] الإسبانية والبرتغالية تفكر بجد في كشف طريق بحرى، يوصل إلى جزر الهند الشرقية بالدوران حول أفريقيا، بعد أن أحست كل منهما بوطأة الاحتكار العربى البندقى لهذه التجارة، وبعد أن بدأ المحاولة الجنويون، في سنة 1291 عندما أبحر الأخوان الجنويان أوجولينو Ugolino وفادينو نيفالدو Vadino Novaldo سراً في سفينتين كبيرتين للبحث عن الطريق البحرى إلى الهند، إلا أنهما غرقا بسفينتيهما قبالة ساحل مراكش.

ورغبة الأمم الأوربية في الحصول على السلع الآسيوية ليست أمراً جديداً، فقد سعى كل من اليونانيين والرومانيين من قبل للحصول على تلك السلع ذات الإثارة والسحر، حتى قيل أن تلك التجارة التى كانت غير متعادلة بين آسيا وأوربا من العوامل الهامة في استنزاف ثروات روما من المعادن النفيسة. وبالتالى كانت من أسباب ضعف تلك الإمبراطورية العتيدة وسقوطها. وفى العصور الوسطى، وجدت السلع الآسيوية – التوابل النفيسة (جوزة الطيب وقشرة جوز الطيب والقرنفل والقرفه) والفلفل والحرير والعقاقير والأقمشة والعاج، وخلافها - رواجاً في أوساط أثرياء أوربا، وأخذت هذه السلع تنقل إليهم عبر قنوات الاتصال التقليدية المتعددة، والتى كان أهمها طريق الحرير الذى يبدأ من الصين شرقاً إلى شبه جزيرة القرم والبحر الأسود فالقسطنطينية غرباً، ثم طريقاً الخليج العربى والبحر الأحمر إلى موانئ الشام ومصر. وكان يقوم على نقل هذه السلع الشرقية بطريق الصين في معظم الأحوال آسيويون، أما على طريقا الخليج العربى والبحر الأحمر فقد قام العرب بعمليات النقل.

واينما كانت تصل السلع الشرقية إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، كانت تجد السفن الجنوية في انتظارها بشبه جزيرة القرم، حيث وجدت مراكز تجارية للجنوبيين هناك. أما البندقية، التى تمتعت بموقع جغرافى متميز جعلها مفتاح الطريق بين الشرق والغرب، فقد استطاعت بفضل تحالفها مع سلاطين المماليك – الذين كانوا يجمعون بين مصر والشام في وحدة سياسية واحدة – احتكار السلع الشرقية الواردة عن طريقى البحر الأحمر والخليج العربى للاتجار بها في أوربا. وجدير بالذكر أن هذه الطرق سالفة الذكر، فضلاً عن طولها وبطئها كانت غير مأمونة العواقب لمرورها في مساحات أرضية شاسعة، مما كان يعرضها في كثير من الأحيان لحالات من التعدى، هذا في الوقت الذى ارتفعت فيه قيمة البضائع المنقولة عليها، وهذا ما أدى أيضاً إلى اختمار الرغبة في الاتصال بمصادر التجارة الشرقية مباشرة.

وقد زاد من اختمار هذه الرغبة السياسة الاحتكارية التى درج على استخدامها المماليك – حكام مصر والشام الشرعيين – خصوصاً في القرن الخامس عشر، عندما تحولت تجارة الشرق في معظمها إلى القاهرة بعد أن أصبح التتار يهددون طريق الخليج العربى. لذلك أصدر السلطان برسباى في سنة 1428 مرسوماً حرم شراء التوابل من غير المخازن السلطانية، ولضمان تنفيذ هذا المرسوم، زيدت رسوم المرور. وبذلك أجبر التجار على الشراء من المخازن السلطانية بالأسعار التى تحددها الأخيرة. وقد ساعد المماليك على تنفيذ سياستهم الاحتكارية جبايتهم للرسوم عينا. وقد بلغت هذه الرسوم حداً كبيراً من الارتفاع، حيث بلغت لبعض البضائع إلى العشر من قيمتها، ولبعضها الآخر إلى عشرة أمثال العشر – وذلك في ميناء جدة – خاصة بعد أن وصل البرتغال إلى الهند، وقل الإقبال على استخدام البحر الأحمر.

وترتب على هذا الاحتكار للسلع الشرقية، وبالذات الافاوية (التوابل) ارتفاع أسعارها بالنسبة للمستهلك الأوربى، وهذا ما دفع بالأوربيين إلى البحث عن طريق تجارى يجنبهم التبعية التجارية التى ضاقوا بها ذرعاً للعرب والبنادقة. والاتصال مباشرة بمصادر التجارة الشرقية. وزاد من رغبة الأوربيين في الاتصال بمصادر التجارة الشرقية مباشرة، والاستغناء عن أى وسيط كان أوربياً أم عربياً، عجز سلعهم عن تقديم الأساس المجزى للمبادلة مع السلع الشرقية. حيث ظل الأوربيون ولمدة ثلاثة قرون (1500-1800) يسعون للحصول على السلع الشرقية دون أن يكون لديهم البديل لتقديمه إلى الآسيويين (الجلود، الفراء، الصوف، الأخشاب) لقاء تلك السلع والنفائس الشرقية.

وبذلك نجد أن الدول الأوربية –بما فيها جنوه – قد ضاقت ذرعاً بالاحتكار العربىالبندقى لتجارة الشرق، ومن ثم راحت تعمل على كسر هذا الاحتكار. وكان البرتغاليون الرواد الأول في هذا المجال، حيث كانوا أول من وصل إلى السواحل الآسيوية، وتحمل أعباء التخلص من السيطرة العربية على التجارة هناك. وذلك بهدف السيطرة على تجارة التوابل بصفة خاصة والسلع الآسيوية الأخرى بصفة عامة، والعمل على خفض أسعارها بالنسبة للمستهلك الأوربى ونقل الثقل الاقتصادى من موانئ ومدن البحر المتوسط، إلى المدن والموانئ الواقعة على شواطئ المحيط الاطلنطى. وزاد من الاهتمام الأوربى بآسيا، تلك التحولات الاقتصادية التى أخذت تعترى المجتمع، الأوربى، والتى كان أخطرها الانقلاب الصناعى في أواخر القرن الثامن عشر وازدهارها في القرن التاسع عشر، وما فرضه على المجتمع الأوربى من حتميات التوجه إلى الخارج بحثاً عن مصادر للمواد الخام وأسواق لتصريف الفائض من المنتجات الصناعية.

  • الدوافع الدينيةلما كانت البورجوازية العربية الإسلامية تحتكر تجارة التوابل بصفة خاصة والتجارة الشرقية بصفة عامة في الجزء الشرقى في الوقت الذى كانت البورجوازية الأوربية تعمل فيه لإقصاء الاحتكار العربى الإسلامى عن التجارة الشرقية، فإن الصراع المادى بين البورجوازيتين قد اصطبغ بالعامل الدينى حيث قامت البورجوازية البرتغالية والإسبانية برفع شعار القضاء على المسلمين بتجريدهم من أملاكهم في شمال أفريقيا وغربها وانتزاع تجارة الشرق من أيديهم.

فراحت كل من إسبانيا والبرتغال – قبل أن يصل الصراع العربى الإسلامى مع الإمارات المسيحية في شبه جزيرة ايبريا إلى الذروة ويسفر عن خروجهم منها في 1492 – ترفع شعار البحث عن المقتل الذى يجب أن يضرب فيه العرب المسلمين، فاتجهت إسبانيا إلى الساحل الأفريقى الغربى المقابل لها واستولت على سبته ومليله. فى حين أن البرتغال حملت لواء حركة دينية جديدة، بهدف تعقب القوى الإسلامية وتطويقها، والقضاء على مصدر قوتها المتمثلة في تجارة الشرق والسيطرة على شرايين الملاحة المؤدية إلى مصادر هذه التجارة. ولا أدل على الطابع الدينى من أن الأمير هنرى الملاح كان يأمل أن يؤدى ارتياد الساحل الغربى لأفريقية إلى هدفين: الوصول إلى أسواق الهند والشرق، والوصول إلى مملكة القديس يوحنا في شرق أفريقيا، على أمل أن يؤدى الاتصال بها إلى الانقضاض على الدول الإسلامية التى تحتكر التجارة الشرقية. هذا إلى جانب ما عبر عنه فاسكو داجاما عندما سأله حاكم فاليقوط عن سبب مجيئه إلى هذه الديار النائية عن بلاده، أجابه "المسيحية والتوابل". هذا فضلاً عن ما قاله دالبوكيرك في خطاب القاه على جنده في ملقا ان أبعاد العرب عن تجارة التوابل هو الوسيلة التى نرجو بها أضعاف قوة الإسلام.

هكذا نجحت البورجوازية في استغلال الدين والصراع التقليدى بين الإسلام والمسيحية في العصور الوسطى وسيلة للوصول إلى غايتها وهى السيطرة على تجارة الشرق في كل مراحلها. ومن ذلك تتجلى مهارة البورجوازية في المزج بين مصلحتها الخاصة والمصلحة العامة، لأن رفع شعار احتكار التجارة وخصوصاً التوابل وانتزاعها من يد العرب لا يبعث الحماس الكافى لتنفيذ مخططات البورجوازية الأوربية إلا في صدور كبار التجار وحدهم. أما رفع شعار إضعاف الإسلام فإنه يبعث الحماس في الغالبية العظمى من الشعب البرتغالى والإسبانى الذى كان على مقربة من الوجود الإسلامى في أوربا. وقد أثمر نجاح البورجوازية الأوربية في المزج بين مصالحها الخاصة والمصلحة العامة، عن مباركة البابوية للحركات الاستعمارية المبكرة، ليس هذا فحسب، بل أنها بادرت بالتدخل لفض النزاع بين كل من البرتغال وإسبانيا عندما احتدم الصراع بينهما على المناطق المكتشفة، والذى انتهى بعقد معاهدة ترويسلهاوس يونيو 1494، بمباركة البابوية.

وقد ساعد استمالة البروجوزاية للبابوية دون شك على إنجاح العمليات الكشفية والحركات الاستعمارية الأولى، لأنها استطاعت أن تكون شعوراً عاماً امتزجت فيه الروح الصليبية المتأججة العنيفة بالعاطفة الوطنية لمحاربة المسلمين. وهذا ما دفع كثير من العناصر الأوربية إلى ترك أوطانهم إلى مناطق الصراع، وهذا ما كان في صالح البورجوازية، التى وجدت من أبناء جلدتها من تجندهم لخدمة مصالحها خارج بلادها الأصلية. وبذلك تم استخدام العاطفة الدينية لتحقيق أغراض كانت في صالح البورجوازية في المقام الأول، فبعد أن تم اقصاء الوجود التجارى العربى من المياه الآسيوية، لم نجد نشاطاً تبشيرياً مرتبا. بشكل ملحوظ، بمعنى أن العمليات التبشيرية التى قامت بمنطقة شرق آسيا، كانت إما فردية، وإما قامت بها بعض الجمعيات التبشيرية، وإلى جانب ذلك لم تكن هناك سياسة تبشيرية مرسومة، ضمن سياسة أى دولة من الدول المستعمرة لمناطق شرق آسيا باستثناء فرنسا التى ركزت على النشاط التبشيرى وبالذات في الصين وذلك عند منتصف القرن التاسع عشر، ولم يكن هذا التركيز بمعزل عن مساعيها من أجل الحصول على امتيازات اقتصادية هناك، خاصة بعد أن حصلت على سلسلة من الامتيازات بمقتضى المعاهدات غير المتكافئة التى ترتبت على حروب الأفيون.

وفى ذات الوقت نلاحظ أن كل الممارسات الاستعمارية بمنطقة شرق آسيا انصبت في المقام الأول حول النشاطات التجارية، حيث جاءت المسائل التجارية فوق كل اعتبار عقائدى، بدليل أن بعض المدن الإيطالية وبالذات البندقية، والتى اتخذت من المسيحية دينا لها، اتحدت مع القوى الإسلامية –المصرية – لمقاومة المحاولات البرتغالية التى تتعرض للتجارة الشرقية. هذا فضلاً عما شهدته المنطقة الآسيوية من صراع بين القوى المسيحية بعضها راجع إلى التنافس حول مناطق النفوذ في آسيا وبعضها الآخر كان انعكاساً للصراع في أوربا – حرب الوراثة النمساوية 1740-1748 والصراع الفرنسى الإنجليزى وحرب السنوات السبع 1756-1763) – والذى دفع الدول المتصارعة إلى الاعتداء على ممتلكات غريمتها في منطقة شرق آسيا، حيث اقدمت بريطانيا على احتلال بوندشيرى الفرنسية عندما اشتد بينهما الصراع في أوربا. وإذا كان العامل الدينى قد لعب دوراً في دفع حركة الاستعمار نحو آسيا فإن ذلك جاء عن قصد من جانب البورجوازية الأوربية، التى تنبهت إلى استخدام الشعور الدينى الأوربى في تحقيق مصالحها الشخصية خارج أوربا بصفة عامة، وفى منطقة شرق آسيا بصفة خاصة.

  • الدوافع السياسية

لقد أدى نمو الروح القومية في أوربا، وقيام دول حديثة ذات سلطة مركزية، تختلف إلى حد كبير عن ملكيات أوربا في العصور الوسطى، إلى اتجاه هذه الدول الحديثة إلى توسيع أملاكها داخل أوربا أو خارجها، إرضاء لحب السيطرة والاستحواز وتكوين الإمبراطوريات الاستعمارية فيما وراء البحار. وقد اتضح ذلك بعد أن وصل البرتغال إلى السواحل الهندية وعملهم على إنشاء إمبراطورية ساحلية قوية تقبض على تجارة الشرق، وتقوم بعملية وأد للوجود العربى في جميع البحار الشرقية. كذلك اتضحت الرغبة في إقامة الإمبراطوريات، فيما اقدم عليه البريطانيون بالهند من تكوين إمبراطورية كانت الركيزة التى انطلقوا منها إلى باقى بلدان الشرق الأقصى. كذلك كان للوضع السياسى والحربى في أوربا دوراً لا بأس به في دفع حركة الاستعمار إلى خارج أوربا، فالتطاحن بين كل من إنجلترا وفرنسا – على سبيل المثال – في أواخر القرن الثامن عشر، والقرن التاسع عشر، كان له دور فعال في حركة الدولتين الاستعمارية خارج أوربا بصفة عامة وحول آسيا بصفة خاصة. وقد يكون للأوضاع السياسية الداخلية في بعض الدول الأوربية، أثر في دفعها إلى التنفيس عن نفسها في الخارج. فقد دفعت حالة القلق الداخلى التى كان يعانى منها الشعب الفرنسى، الحكومة إلى التفكير في تحويل نظر الشعب عن المشاكل والاهتمامات الداخلية، بفتح مجالات خارجية استعمارية تكون أكثر جاذبية لتفكيره عن الوضع الداخلى. وهكذا ساهم حب امتلاك المستعمرات، وشهوة إقامة الإمبراطوريات المترامية الأطراف، المصاحبة لنمو الروح القومية، إلى جانب الصراع السياسى الداخلى في بعض الدول، في دفع كثير من الدول الأوربية ذات القوة البحرية إلى الدخول في زمرة الدول الاستعمارية، التى استهدفت منطقة شرق آسيا، كما استهدفت افريقيا والعالم الجديد.


البرتغاليون وآسيا

إذا كان البرتغاليون أول دولة بحرية قامت بحركة الكشوف الجغرافية، فإنهم أيضاً كانوا أول الدول الأوربية وصولاً إلى آسيا، وعلى الرغم من أن محاولات الوصول إلى آسيا قد بدأت في العقد الأول من القرن الخامس عشر – بدأها هنرى الملاح 1394-1460- إلا أنه لم يتم الا في أواخر القرن الخامس عشر، عندما تمكن فاسكوداجاما البرتغالى من مواصلة السير شرق رأس الرجاء الصالح حتى وصل إلى الهند في مايو 1498. وبذلك وضع حجر الأساس للاستعمار البرتغالى في آسيا، والذى سبق باقى الدول الأوربية بأكثر من مائة عام. وكان متوقعاً أن يصطدم داجاما بالأنظمة السياسية المحلية على ساحل الهند الغربى "الملبار"، خصوصاً بعد أن وصلت إلى أسماع أقوى هذه الأنظمة "الزاموريين" قبل وصول سفنه إلى الشواطئ الهندية، عن طريق التجار العرب، أخباراً عن ما يسببه وصول البرتغاليين من تحد لسلطانهم. ومع هذا وصل داجاما إلى قاليقوط، وطلب من حاكمها الأذن له بالتجارة، وأجيب إلى طلبه. وبعد أن قايض داجاما سلعه بالافاويه قفل عائداً إلى بلاده ليزف إلى سيده – الدوم عمانويل الأول – نبأ نجاحه في مهمته، والذى أدرك "أى سيدة" هو ومستشاره أنهم قد التقوا أيضاً في المحيط الهندى وجهاً لوجه مع أعدائهم الا لداء العرب المسلمين – بعد أن ابلغه داجاما دهشته لوجود العرب بقاليقوط وللسلطان الكبير الذى كانوا يحظون به لدى بلاطها – وأنهم ان لم يبذلوا جهداً هائلاً ومتواصلاً، فلن تعود عليهم منافع استكشافاتهم لهذا الطريق بأية جدوى.

ولذلك بات ضرورياً حتى يستفيد البرتغاليون من تجارة التوابل، أن يقضوا على الوجود العربى الإسلامى في هذه البحار. ولذلك تم إرسال تجريدة بحرية قوية، تحت إمرة بدرو الفاريز كبرال إلى قاليقوط، والذى كلف بمطالبة الزاموريين تحت تهديد الحرب، بالسماح للبرتغاليين بإنشاء مركز تجارى، والسماح لخمسة من الآباء الفرنسيسكان بممارسة النشاط التبشيرى. وعلى الرغم من وصول القليل من التجريدة – حيث وصل ست سفن من مجموعها البالغ ثلاثاً وثلاثين – إلا أن قوته ارهبت الزاموريين، وسمحوا له بإقامة مركز تجارى بعد أن استقبلوه احسن استقبال. وبينما كانت سفن كبرال تستعد للشحن بالبضائع الآسيوية، بدرت بعض عمليات الغطرسة والجرأة في أعمال أحد معاونى كبرال – كوريا – كان من شأنها إشعال ثورة شعبية، قام إبانها العرب بمهاجمة المركز التجارى البرتغالى في قاليقوط، وتخريب مستودعاته، واغتيال وكلاء كبرال التجاريين حتى كوريا نفسه، وعندئذ انسحب كبرال بسفنه وقصف المدينة بمدافعه، وفر بمن معه دون أن تلحق به عمليات المطاردة التى قام بها الزاموريون.

ولا يعنى فشل كبرال أن البرتغاليين قد تخلوا عن أمانيهم بالمحيط الهندى، بل زادهم ذلك إصراراً على مواصلة الجهد لتنفيذ السيادة البرتغالية على البحار الهندية بالقوة. فعلى التو من عودة كبرال عمل عمانويل الأول على تجهيز حملة أقوى من السالفة، قادها في هذه المرة فاسكوداجاما. وهو رجل على دراية بالمياه الهندية، وقد سبق له الاحتكاك بالعاملين عليها، وكانت مهمة داجاما تقوم على الاقتصاص من العرب والقضاء على سلطة الزاموريين، وإرغامهم على قبول السيادة البرتغالية في البحار الهندية. وخرج داجاما في فبراير 1502 على رأس أسطول مكون من خمس عشرة سفينة، وتبعه بعد خمس شهور من إقلاعه أسطول آخر من خمس سفن لتعزيز قوات داجاما التى كان محتملاً أن تقاوم. وقد تميز أسلوب داجاما في هذه المرة، وهو في طريقه إلى الهند باستخدام العنف تجاه السفن التى كانت تقابله، حيث كان إما يدمرها وإما يصادر ما بها من بضائع. وقد طارت أخبار القرصنة هذه إلى الزاموريين، الذين كانوا قد أدخلوا كثير من التحسينات على أسطولهم بعد لقاء كبرال. وسرعان ما تم اللقاء بين أسطول داجاما والزاموريين تجاه ساحل كوتشين، وبعد معركة حامية الوطيس أثر داجاما إنهائها والإفلات بسفنه إلى أوربا.

ولم يكد يغادر داجاما المحيط الهندى، حتى وصل إلى مياه قاليقوط أسطول برتغالى آخر بقيادة "لوبوسوارس" والتحم ببعض أسراب الزاموريين المنهكة، وأخذ يعمل فيها التدمير، واتخذ من كوتشين مركزاً له. وهكذا نجد أن البرتغاليين أخذوا يكثفون من حملاتهم البحرية المدججة بالسلاح على السواحل الهندية وخصوصاً الساحل الغربى الذى كانت تسيطر عليه إحدى القوى المحلية المناوئة للوجود الغربى، والذى تجد في وجوده تدمير لمصالحها الاقتصادية في المنطقة. ولذلك ادركت هذه القوى "الزاموريين" أن فرص الصمود أمام هذا التكثيف البرتغالى لحملاته عليها، اضحت ضئيلة لعدم تكافؤ فرص التسليح، ولذا طلبوا مساعدة القوى الإسلامية التى كانت تربطها بها مصالح اقتصادية وقد لبى طلب المساعدة سلطان مصر المملوكى، وأرسل اسطولاً بقيادة ميرحسين اتخذ من ديو قاعدة له، بعد أن اتصل بالبحرية الزامورية هناك. وفى ديو دارت معركة بين البحرية المصرية – الزامورية والبحرية البرتغالية، وقد لقى الأسطول المصرى فيها شر هزيمة في فبراير 1509 على يد القوات البرتغالية التى كان يقودها فرنشيسكو دالميدا، وفى هذه الموقعة ساعدت الخيانة الأسطول البرتغالى على إحراز نصر متفوق على البحرية المشتركة، حيث انضم حاكم ديو المسلم – الأوربى الأصل – سراً إلى البرتغاليين، وبذلك حرم الأسطول المصرى من التعزيزات التى كان ينتظرها من ذلك الحاكم.

وبانسحاب الأسطول المصرى من المياه الهندية في 1509 ثبت الادعاء البرتغالى بالسيادة الملاحية على البحار الشرقية، وظلت سيطرتهم على التجارة الهندية بعد ذلك مدة تزيد على القرن ونصف من الزمان – على الرغم من استمرار التحديات الزامورية الموجهة ضدهم حتى سنة 1599 – بفضل الإمبراطورية البحرية التى كان للفونسو دالبوكيرك الفضل الأكبر في تأسيسها. وجدير بالذكر أن دالبوكيرك شغل في أواخر سنة 1509 منصب نائب الملك البرتغالى في الهند خلفاً لدالميدا. وظل يشغل هذا المنصب حتى وفاته في ديسمبر 1515، وعند تعيينه كان الوجود البرتغالى في الهند يقم فقط على قلعة كوتشين، حيث كانت المستعمرة البرتغالية الوحيدة، والتى وجد دالبوكيرك أنها غير كافية وغير صالحة لفرض النفوذ البرتغالى هناك، ومن ثم عمل على تأسيس قاعدة منيعة لتحقيق الأهداف البرتغالية، وقد وقع نظره فىالبداية على قاليقوط – مركز تجارة التوابل – غير أن قواته دمرت أمام الزاموريين.

وعلى أثر هذه الهزيمة لم تحاول أى دولة أوربية بعد ذلك ولمدة مائتين وثلاثين عاماً القيام بأى فتح عسكرى أو محاولة اخضاع أى حاكم هندى لسلطانها. وأن كانوا قد استولوا على جوا في سنة 1510 وحولوها إلى قاعدة منيعة لتكون عاصمة ومركز للإمبراطورية البرتغالية فىالشرق، فإن ذلك كان بمساعدة رئيس المنطقة الهندوكى الذى انحاز إلى البرتغاليين، حتى يقلل من قوة سلاطين آل عادل شاه بتلك المنطقة. كما أدى أسلوب دالبوكيرك المتسم بالشدة مع المسلمين في جوا، إلى إحداث نوع من التقارب بين البرتغاليين وملوك فيجايا ناجار الهندوك الذين كانوا يكرهون المسلمين. ولهذا فضل دالبوكيرك السيطرة على المضايق، التى تتحكم في طرق نقل السلع الآسيوية. ولما كان مضيق ملقا يعد أهمها لتحكمه في عمليات نقل الافاوية بالذات، لان ملقا كانت المستودع الرئيسى لتجارة الارخبيل وتأتيها السفن بانتظام من كل صوب وحدب – من الصين إلى اليابان شرقاً، والهند وفارس وبلاد العرب ومصر غرباً – هذا فضلاً عن كون هذا المضيق همزة الوصل بين الصين، ومناطق جنوب آسيا وجنوبها الشرقى، فلكل هذا قرر دالبوكيرك التوجه إلى ملقا بأسطوله في سنة 1511.

وبعد قتال عنيف بين الملقاويين والبرتغاليين سقطت المدينة، بعد أن انسحب حاكم الملايو وجيشه. وبسيطرة البرتغاليون على ملقا ثم مضيق هرمز، وباب المندب، أصبحوا يتحكمون في البوابات البحرية المؤدية إلى المحيط الهندى. وبعد ذلك بدأت البرتغال محاولات كشف جزر الهند الشرقية وتحويلها إلى مناطق تابعة له. وقد وفرت الظروف هناك عليهم الكثير. حيث تمكنوا بسهولة انتزاع جاوة، للصراع المرير هناك بين الحكام المسلمين والممالك الهندوكية القديمة. وبذلك أسس البرتغاليون سيادتهم البحرية على بحار جاوة، وأخذوا بعد ذلك يعملون في تأليب الحكام بعضهم على بعض في حروب دينية سادت جزيرة جاوة آنذاك. وعلى الرغم من بروز هذه التناقضات داخل جزية جاوة، فإن البرتغاليين عجزوا عن إحراز أى تقدم حتى وصلت سفينة ماجلان في 1521. ومن ثم سارعوا إلى تثبيت مركزهم السياسى بعقد المعاهدات مع الحكام المحليين. وفى الوقت الذى كان يتوطد فيه صرح البرتغاليين بالمياه الآسيوية، قامت محاولة إسلامية لهدم هذا الصرح، قام بها السلطان العثمانى – السلطان سليمان – بالاتفاق مع بعض الحكام الهنود – حاكم قاليقوط، وملك كامباى المسلم – الذين اضيرت مصالحهم بسبب الوجود البرتغالى. وإذا كان الأسطول المصرى قد تحرك نحو المحيط الهندى في 1538 بأمر من سليمان باشا الخادم – الوالى العثمانى بمصر – الا أنه لم يلتق بالمياه الآسيوية مع القوات الزامورية الحليفة، ولهذا انفرد البرتغاليون بالأسطول الزامورى ودمروه عن أخره في حين أن الأسطول المصرى عاد إدراجه إلى مصر. ومن ثم أصبحت للبحرية البرتغالية الكلمة العليا بالمياه الهندية دون منازع. وهكذا استطاعت البرتغال تكوين إمبراطورية في منطقة الشرق، تقوم أساساً على بعض جزر الهند الشرقية وشبه القارة الهندية. وقد ساعد البرتغال في السيطرة على هذه المناطق. ومن أتى بعدهم من الأوربيين – الهولنديون ثم الإنجليز – وجود كثير من التناقضات السياسية والدينية والأثنية بين شعوب المنطقة. حيث كانت منطقة الملايو تدين بنوع من التبعية لإمبراطورية بكين في عهد أسرة المنج، والتى استمرت زهاء قرن من الزمان، حتى وصلت السفن البرتغالية إلى شواطئها، وعلى الرغم من تعرض هذه العلاقة للضعف الشديد باضمحلال أسرة المنج، إلا أن التسلط ظل امراً واقعاً، وبالتالى كانت هذه المناطق عرضة للنهب السريع. إلى جانب ذلك ساد منطقة الأرخبيل صراع عقائدى بين المسلمين والهندوك، بعد أن انتقل الإسلام من الجواجرات إلى الملايو وما تلاها. وأخذ ينتشر بسرعة منذ منتصف القرن الخامس عشر، على يد التجار بتلك المناطق التى كانت تحتفظ بقوة عقيدتها الهندوكية، وقد أدى الصراع بين المسلمين والهندوك إلى إنهاكهما معاً، وتسليمهما لقمة سائغة للطامعين الأوربيين. أما شبه القارة الهندية، فكانت تقتسمها دويلات بلغ بعضها درجة من القوة - بعضها مسلم وبعضها هندوكى-، حيث كانت هناك قوة إسلامية ضخمة، أسست دولة ذات سيادة نشرت الأمن الداخلى في البلاد. هذا في الوقت الذى قامت فيه إلى الجنوب منها إمبراطورية هندوكية – إمبراطورية الفيجاياناجار - نظمت المناطق الواقعة إلى الجنوب من تنجابهدرا حتى تستطيع التصدى للغزو الإسلامى الذى حدث في سنة 1337، وفى أقل من قرن أصبحت هذه الإمبراطورية أقوى دولة بالهند. وهكذا كانت هناك قوتان بالهند إحداها إسلامية والأخرى هندوكية عند قدوم البرتغاليين تتصارعان من أجل البقاء، جمع إحداها –الهندوكية –بالبرتغاليين نزعة القتال الصليبى ضد المسلمين، فكما كان الإسلام يمثل إشكالية عقائدية للبرتغاليين في شبه جزيرة ايبريا كان كذلك يمثل نفس الإشكالية، وجود سلطنات بهمينية إسلامية على حدود دولة الفيجاياناجار(*) الهندوكية. بشكل أمدها بدافع قوى لحماية العقلية والثقافة الهندوكية بجنوب الهند، وإظهار الاستقلال القوى ضد الدول الإسلامية.

وهكذا أوجدت الصدفة – لا أكثر – للبرتغاليين بالهند شريكاً، كان الإسلام يمثل لهما العدو المشترك. وهذا كان له أهميته الواضحة في ترسيخ قدم البرتغال في جوا. وفى ظل هذه الأوضاع لم يكن منتظراً أن تكون هناك ردود أفعال ايجابية من جانب المجتمع الهندى، ضد البرتغاليين، بل كانت هناك ظاهرة بارزة، تمثلت في موقف الصداقة العام والتسامح حيال هؤلاء الغزاة الجدد، بمختلف البلاطات الهندوكية في الجنوب باستثناء قاليقوط. فأقامت الفيجاياناجار مع البرتغاليين علاقات مودة في جوا، وسمحت لهم بممارسة نشاطاتهم التجارية داخل ممتلكاتها الفسيحة الأرجاء. كذلك كان للبرتغاليين نفس العلاقات المشوبة بالود مع حكام كوتشين، حيث أقاموا هناك أولى مؤسساتهم. وإلى جانب ذلك مارسوا نشاطهم التجارى بتوسع وبدون أية منازعات سياسية، مع الحكام الصغار على طول الساحل، وعلى كل حال. لن نتجاوز الحقيقة، إذا قلنا أن البرتغاليين لم يجدوا اية عداوة في بلاطات الحكام الهندوك إلا بالبلاط القاليقوطى وحده.

وحالة قاليقوط هذه حالة خاصة، فهى إقليم حبته الطبيعة بموقع جغرافى متميز، هذا فضلاً عن استفادته من الرياح الموسمية التى تساعد على تحرك السفن المحملة بالبضائع من السواحل الهندية حتى البحر الاحمر وبالعكس. ولذلك أصبح لهذا الإقليم باع طويل في تجارة الافاوية، التى كانت قاليقوط أحد مراكزها الأساسية. إذا هناك مصالح اقتصادية كان يتمتع بها الزاموريين، طالما بقيت الأوضاع على ماهى عليه، لكن إذا ما طرأت على هذه الأوضاع اية متغيرات، فإن هذه المصالح الاقتصادية ستتعرض للمخاطر. ولذا كان الزاموريون أول من تصدى للبرتغاليين، لإدراكهم مدى خطورة الوجود البرتغالى بالسواحل الهندية على مصالحهم التجارية. ومن ثم دام الصراع بين الطرفين قرابة قرن من الزمان. والذى امتد فيه القتال البحرى من جوا إلى كوتشين حتى تم عقد معاهده بينهما في سنة 1599.

أما باقى الهنود، فلم يكن يضيرهم النشاط البرتغالى في شيء –باستثناء المسلمين الذين احتلوا مراكز متقدمة في التجارة الهندية – فيتساوى عندهم وجود العرب أو البرتغاليين، فهم يبيعون لهذا أو لذاك، لكنهم مالوا أكثر إلى البرتغاليين، لإمكانياتهم ترويج تجارة السلاح بين الهنود، وهذا ما لم يكن متوفراً لدى التجار العرب. وبذلك كانت الظروف سانحة أمام البرتغاليين لتكوين إمبراطورية على حساب الأنظمة التى كانت – في معظمها – تعيش أزمة بالهند، ومناطق الجزر، غير أن الإمبراطورية التى عكفت على تكوينها البرتغال هناك، كانت إمبراطورية ساحلية قامت أساساً على تأسيس مراكز تجارية وحصون بالدرجة الأولى، لحماية النشاط التجارى، ولم تحاول أن تجعل من هذا استعماراً استيطانياً ، وقد يكون ذلك راجعاً إلى وجود حضارات في هذه المناطق تعجز البرتغال عن مناظرتها هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لعدم استمتاعها بطاقات بشرية تمكنها من الاحتفاظ بهذه الإمبراطورية. وإذا كان البرتغاليون قد أقاموا إمبراطورية ساحلية بهدف احتكار التجارة الشرقية، وبالذات التوابل، لتلبية الطلب المتزايد عليه في أوربا، فالملاحظ أن البرتغاليين نجحوا في تحقيق هذا الهدف إلى حد ما، فقد صاروا لسنين عديدة موردين للتوابل لأوربا، لكن جهودهم في السيطرة على التجارة لم تستمر، على الرغم من وسائل القهر والعنف التى استخدمت ضد التجار الآسيويين وسفنهم، حيث ظل جزءاً كبيراً من السلع الآسيوية ينقل على يد التجار الأسيويين على طرق النقل التقليدية، حتى ذهب أحد الباحثين إلى أن عدد السفن البرتغالية العاملة في سواحل الهند لم يتجاوز في آية فترة من الفترات سدس السفن الآسيوية العاملة في تلك السواحل، وعلاوة على ذلك كانت السفن البرتغالية العائدة إلى أوربا من آسيا عن طريق رأس الرجاء الصالح بعد عام 1580 أقل من تلك السفن التى عبرت ذات الطريق من آسيا إلى أوربا في أوائل القرن.

وإذا كان الاستهلاك الأوربى للسلع الآسيوية قد ازداد، فإن هذه الزيادة لم يستفد منها البرتغاليون، وكذلك سفنهم بالشكل المطلوب. إضافة إلى ذلك، نجد أن البرتغاليين في خلال مائة عام من التجارة مع آسيا، لم يستطيعوا أن يغيروا أنماط "نوعيات" التجارة الآسيوأوربية، بمعنى أنهم عجزوا عن تقديم أى سلع آسيوية إلى السوق الأوربية غير تلك التى عرفها الأوربيون من قبل، وعلى الجانب الآخر فشلوا في إيجاد مكان للسلع الأوربية بالأسواق الآسيوية. وبذلك لم يكن الاستعمار البرتغالى لآسيا يمثل من الناحية السياسية والاقتصادية الاستعمار الحديث.

هولندا وآسيا :

قبل أن تحصل هولندا على اعتراف إسبانيا باستقلالها(*)، أخذت تساهم في العمليات الكشفية حول العالم الجديد، في نفس الوقت الذى أخذت تتمرد فيه على الأسعار الاحتكارية التى كان البرتغاليون يفرضونها على المستهلك الأوربى، خاصة بعد أن اتضح للهولنديين أن تحدى قوة البرتغال في البحار الشرقية أصبح من السهولة بمكان، ولذلك عقد كبار التجار الهولنديين بامستردام في سنة 1592 اجتماعاً قرروا فيه إنشاء شركة للتجارة مع الهند. ومنذ ذلك الحين أخذت هولندا تتطلع للوصول إلى الشرق. وفى سنة 1595 خرج أول أسطول هولندى إلى آسيا، والذى بلغ جزر الهند الشرقية، ثمعاد بعد غيبة دامت سنتان ونصف. وأن كان قد فقد عدداً من طاقمه، إلا أن الفوائد المادية من وراء البضائع التى جلبت كانت خير تعويض لذلك. ولم تكن هذه الرحلة بداية لرحلات عديدة، فحسب، بل أنها كانت محركاً لإنشاء شركة الهند الشرقية المتحدة، والتى أسست بمرسوم صدر في 20 مارس 1602 من الحكومة الهولندية. والذى خولت بمقتضاه حق احتكار التجارة، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بردع أى معاملة سيئة يتعرض لها الهولنديون وكذلك حق عقد معاهدات مع حكام الشرق باسم الحكومة الهولندية، وبناء القلاع وتعيين الحكام والقضاة في المواقع التابعة وتطبيق القانون وتوفير النظام في مثل تلك المناطق.

إذا منذ تأسيس الشركة، وهى تتطلع إلى تركيز عملياتها في الشرق. لكن كيف السبيل إلى ذلك! خصوصاً أن آسيا في ذلك الوقت بها كيانات سياسية – بالصين، الهند، اليابان – لا يستهان بها، ويصعب على الشركة تحديها في ذلك الحين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان البرتغاليون هناك، وقد أقاموا أسس دفاعية على يد دالبوكيرك، مازالت سليمة، ولم يمسسها سوء. ولهذا حرص الهولنديون على تجنب الاصطدام بالكيانات السياسية في المنطقة، وكذلك القوى الأوربية الكائنة بها. ومن ثم راحوا يبحثون عن منفذ لدخول المنطقة، وسرعان ما اكتشفوا أن هناك ثغرة خطيرة، تتمثل في ارخبيل الملايو، والتى عن طريقها تم اختراق خطوط الدفاع الآسيوية. وقد وجد الهولنديون في هذه المنطقة المقومات الأساسية التى تلزمهم بالسيطرة عليها، فهى منطقة واسعة، تضم عدداً كبيراً من الجزر الخصبة للغاية. والتى تمتد بخط منحى يمتد من سومطرة إلى الفلبين. وتعد أكثر المناطق الآسيوية جاذبية وأهمية في الشرق كله والتى تتجلى في إنتاجها للتوابل النفيسة إلى جانب المعادن والصمغ والأعشاب الطبية. كذلك كانت منطقة ارخبيل الملايو مفككة سياسياً، فتسودها أنظمة حكم هزيلة يحكمها سلاطين ضعاف في حالة مستمرة من التنافس والحرب. وهذا الوضع إلى جانب تأثيره على التجارة سلباً، فإنه أيضاً جعل المنطقة فريسة سهلة لكل طامع فيها، وهذا ما ساعد أيضاً البرتغال من قبل في السيطرة عليها. علاوة على ذلك كانت الظروف مهيأة أمام الشركة لإنجاح محاولاتها، ففى الوقت الذى فكرت فيه الشركة الاتجاه إلى هذه المنطقة – الارخبيل – كان للهولنديين اليد العليا في أوربا في مجالات التجارة والملاحة والمال. وفى الشرق كان البرتغاليون قد خارت قواهم. وإذا كانت شركة الهند الشرقية الإنجليزية – تأسست في 1601- قد بدأت نشاطها في منطقة شرق آسيا، فإنها على الرغم من كونها كانت المنافس الوحيد للشركة الهولندية، إلا أن إمكانياتها الملاحية والمالية كانت محدودة ولا تمكنها من التصدى للشركة الهولندية، حيث أن الأخيرة تمتعت برأس مال ثابت يفوق بكثير رأس مال نظيرتها الإنجليزية، هذا إلى جانب امتلاكها لعدد كبير من السفن التى تميزت بإمكانياتها التصنيعية والتسلحية، والتى جعلتها أكثر قدرة على المناورة من غيرها من السفن الأوربية المعاصرة لها. والأكثر أهمية من ذلك، أن شركة الهند الشرقية الهولندية، لم تكن مسألة توفير البديل للسلع الآسيوية، تمثل لها آية مشكلة – في ظل قيود تصدير السبائك المعدنية الثمينة التى سادت بين بعض الدول الأوربية في ذلك الوقت – لامتلاكها لكميات ضخمة من المعادن الثمينة، نتيجة التجارة الهولندية النشطة في أوربا خلال الخمسين سنة السابقة على مجيئهم إلى شرق آسيا. ومما سهل على الشركة من مهمتها في المياه الشرقية، أنها قامت على دمج عدة شركات تجارية هولندية، كانت قد وصلت من قبل إلى الشرق، ونجحت في إقامة علاقات طيبة مع بعض الحكام في أرخبيل الملايو، وأسس اغلبها مقرات تجارية وقلاع – في ترنيت، وبانتام، وجزر باندا – ورثتها الشركة في هذه المناطق، بمجرد إتمام عملية الدمج. لكل هذا قررت الشركة الهولندية الاتجاه إلى ارخبيل الملايو، حيث تجد ضالتها المنشودة وهى تجارة التوابل، وحيث الظروف المتوفرة للسيطرة على هذه المناطق، والتى ستساعدها على احتكار تجارتها.

وحتى تنفرد الشركة بتجارة المنطقة، عملت على مناهضة الوجود البرتغالى وكذلك الإنجليزى ولذلك أصدرت أوامرها إلى موظفيها في الشرق بضرب المعاقل البرتغالية أينما وجدت، وبناء القلاع اينما اقتضت الضرورة ذلك، والتخلص من منافسة شركة الهند الشرقية الإنجليزية بكل الوسائل. وقد تحقق كثير من أهداف الشركة الهولندية في خلال فترة لم تتجاوز الخمس عشرة سنة، حيث دمروا البرتغاليين، وطردوهم من جزر كثيرة، كذلك أبعدوا الإنجليز عن المنطقة بالكامل بعد أن عجزت شركة الهند الشرقية الإنجليزية عن منافسة الشركة الهولندية التى راحت تنافس الأولى في الأسواق الشرقية بدفع أسعار عالية للتوابل، وفى الأسواق الغربية ببيع ذات التوابل بأسعار منخفضة فيها. وإزاء هذه المنافسة اضطرت شركة الهند الشرقية الإنجليزية إلى الإنسحاب من جميع جزر أرخبيل الملايو وذلك بحلول نهاية العقد الثانى من القرن السابع عشر، مفضلة ان تقتصر فعالياتها على ساحل الملبار وفارس.

وقد أدت سياسية المناهضة الهولندية للوجود الأوربى بالارخبيل وخصوصاً للبرتغاليين، إلى أحداث تقارب بين الحكام المحليين والقادمون الجدد، بشكل مكن الهولنديين من تسديد ضربات ساحقة للبرتغاليين. وهذا النجاح الذى حققته الشركة الهولندية في أول حياتها بالملايو دفعها إلى تعيين حاكم عام للمنطقة في سنة 1604 يعاونه مجلس مؤلف من أربعة أشخاص، وذلك للإشراف على شؤون الشركة هناك. وفى سنة 1618 شغل هذا المنصب جون كوان Jan P. Coan الذى لعب دوراً هاماً في بناء الإمبراطورية الهولندية في الشرق، لا يقل عن ذلك الذى لعبه دالبوكيرك بالنسبة للإمبراطورية البرتغالية. فمنذ أن عين جون كوان كحاكم عام أخذ يعمل على إرساء أسس الإمبراطورية الهولندية في الشرق، فأنشأ في مايو 1619 مدينة باتافيا (جاكرتا) – في الجزء الشمالى من جزيرة جاوة – واتخذها عاصمة إدارية للإمبراطورية في الشرق ومقراً رئيسياً لكل الفعاليات التجارية هناك. إلى جانب ذلك ضمن للإمبراطورية الهولندية مواقع استراتيجية على امتداد كل سواحل البحار الشرقية وعمل على ربطها ببعضها البعض بنظام محكم وفعال.

وفى سنة 1641 تم للهولنديين انتزاع ملقا حصن البرتغال الحصين في الشرق، والتى بضياعها من يد البرتغاليين تمزق النظام الدفاعى الذى وضع أسسه دالبوكيرك، خاصة بعد أن أقصى الهولنديون الوجود البرتغالى في سيلان سنة 1654، واحتلالهم لكوتشين في سنة 1660-مؤسسة البرتغال الأولى -. وبعد ذلك أخذ الهولنديون يقومون من كولمبو بحملات منظمة على كل أثر للبرتغاليين في المياة الهندية، ولذلك أخذت تتساقط محطاتهم التجارية الواحدة بعد الأخرى في يد الهولنديون. مما ساعد على انهيار الإمبراطورية البرتغالية التجارية بشكل سريع تحت أقدام التحديات الهولندية في الشرق. وبعد أن استقرت الأمور للشركة الهولندية في أرخبيل الملايو، وبعد أن أصبحت هولندا في بداية القرن السابع عشر أكبر قوة أوربية في البحار الشرقية، راحت الشركة تعمل على احتكار تجارة التوابل، ودفعها هذا الاحتكار إلى السيطرة على عمليات الإنتاج وتنظيمها بشكل جعلها تتحكم في السوق. فأخذت تتدخل في تحديد الكميات المنتجة من التوابل. وتقوم بإتلاف ما زاد منها عن الحد المطلوب. وقد امتدت عملية الإتلاف لتشمل أشجار التوابل نفسها، وأن كانت الشركة قد درجت على تقديم تعويضات لمن أتلفت مزارعهم، فإن هذه التعويضات كانت ضئيلة بالنسبة إلى قيمة المحصول. وجدير بالذكر أن هذه السياسة كان لها أكبر الأثر في وقف قوة الدفع الهولندية في البحار الشرقية في أواخر القرن السابع عشر. وإذا كانت شركة الهند الشرقية الهولندية قد تمكنت من احتكار تجارة التوابل طيلة القرن السابع عشر، إلا أنها لم تتمكن من الحفاظ على مستوى قوتها إلى ما بعد ذلك وذلك للتحديات العديدة التى أوصلت نشاطها التجارى إلى طريق شبه مسدود. وقد نجمت أولى التحديات التى واجهت الشركة عن سياستها بالمنطقة حيث ترتب على ازدياد الضرائب – بالإضافة إلى الضرائب التى كانت تدفع من قبل للسلطات الحاكمة وتحولت إلى الهولنديين – وإلزام الأهالى بتسليم المحصول إجبارياً للشركة، وإتلاف ما يزيد منه عن حاجة الشركة وحرمان السكان المحليين من ممارسة التجارة، وتحطيم سفنهم وتدميرها، شيوع الفقر والبؤس وشلل الحياة الاقتصادية، والتى أدت في النهاية إلى انتشار أعمال القرصنة بشكل خطير كان له تأثيره على تحركات الشركة ونشاطها بالمنطقة. أما عن ثانى التحديات التى واجهت الشركة بالمنطقة، فتمثلت في ازدياد نفقاتها عن ايراداتها، وذلك نتيجة سوء نظام الحسابات، وخيانة موظفى الشركة وافتقارهم إلى النزاهة، بعد اتساع الإمبراطورية، هذا إلى جانب ارتفاع الفوائد التى كانت تدفعها الشركة لحملة أسهمها والتى تراوحت بين 20% و40% والتى كان لها دور في تعثر نشاط الشركة المالى، خاصة بعد أن اتسعت الممتلكات وازدادت النفقات العسكرية والسياسية.

أما عن التحديات التى تعرضت لها الشركة خارج المنطقة، فكان بعضها اقتصادياً والبعض الآخر سياسياً، وبالنسبة للتحديات الاقتصادية، فقد تمثلت في تركيز الشركة لكل نشاطاتها التجارية حول التوابل النفيسة وتمسكها بذلك. في الوقت الذى تغيرت فيه طبيعة الطلبات الأوربية على السلع الآسيوية. وبذلك عجزت الشركة عن التكيف مع الوضع الجديد خاصة، بعد أن ازداد الوجود الأوربى بالمياه الآسيوية، وخاصة الوجود البريطانى الذى احتكر تجارة المنسوجات الآسيوية بالأسواق الأوربية. حتى أصبح الهولنديون أنفسهم يأمون أسواق لندن لابتياع المنسوجات القطنية الهندية التى كانت تستوردها بريطانيا أما عن التحديات السياسية التى كانت تواجه الشركة بالخارج، فتمثلت فيما تعرضت له هولندا من مصاعب سياسية وعسكرية كبرى كان لها تأثير واضح على نشاط الشركة في البحار الشرقية، حيث جاء اشتراك هولندا في حرب الاستقلال الأمريكية (1780) ضد بريطانيا ومساهمة شركة الهند الشرقية الهولندية بالشرق في الصراع ضد بريطانيا بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير بالنسبة للشركة، حيث تكبدت الشركة بسبب ذلك خسائر فادحة افقدتها سيلان ومواقع كثيرة بالشرق. وهكذا قابلت الشركة مزيد من التحديات التى أثرت في كل الحالات على ميزانية الشركة، التى سارت في طريق الإفلاس بسبب قلة الإيرادات في وقت كانت المصروفات تتضاعف، وهذا الجأ الشركة إلى الاقتراض إلى حد أعجزها عن الاستمرار، لذلك تقدمت الحكومة الهولندية بعدة اقتراحات لإنقاذ الموقف، وهى : أن تأخذ الحكومة الهولندية على عاتقها مسؤوليات الدفاع، والسماح بالتجارة الخاصة، والحد من احتكار الشركة التجارى، وأن تدفع الحكومة ديون الشركة التى بلغت حوالى 140 مليون جلدر، وذلك بشرط أن تتخلى الشركة عن جميع ممتلكاتها وتوابعها في الارخبيل للحكومة الهولندية. وبقبول ذلك انتهى دور شركة الهند الشرقية الهولندية في 1798، وورثت الحكومة الهولندية إمبراطورية من أغنى وأوسع الإمبراطوريات الأوربية في الشرق مقابل مبلغ زهيد.

فرنسا وآسيا :

أخذت فرنسا تعمل على مزاحمة الدول الأوربية بالمياه الآسيوية، عندما أدرك هنرى الرابع أهمية السير على قدم المساواة مع الدول الأوربية الأخرى في المحيط الهندى، وفى سنة 1601 أخذت ترسل بانتظام نسبى السفن التجارية الفرنسية إلى الهند عن طريق رأس الرجاء الصالح. وعلى الرغم من استمرار هذا النشاط الفرنسى لعدة سنوات، إلا أنها لم تتمكن من السيطرة على آية ممتلكات في الهند بسبب قوة أباطرة المغول العسكرية.

ثم استجدت ظروف أوربية وأخرى فرنسية حالت بين فرنسا ومواصلة اهتمامها بالشرق حتى عهد كولبير، حيث انشغلت فرنسا بالتطورات الأوربية وبنشوب حرب الفروند بعد ذلك. أما كولبير فكان تواقاً إلى تكوين صرح عظمة فرنسا البحرية، ولذلك اهتم بإنشاء شركة الهند الشرقية الفرنسية في سنة 1664، والتى استطاعت أن تحصل على حق المتاجرة في المدن الهندية المختلفة، وذلك على كره من المغول. ولم تلبث هذه الشركة أن نجحت في إنشاء مركز تجارى فرنسى عام 1674 في بوند شيرى بالساحل الجنوبى الشرقى من الهند، ثم جاءت وفاة الإمبراطور المغولى اورانكزيب 1707 لتفتح الباب لتجزئة إمبراطوريته، واستطاعت فرنسا أن تحصل على بعض المراكز على حسابها، حيث تمكنوا خلال السنوات التى تلت ذلك من إنشاء مراكز تجارية أخرى على السواحل الهندية، مثل شاندرناجور وماهى، وماسوليبتام.

بري طانيا وآسيا :

على الرغم من أن بريطانيا كانت في مقدمة الدول الأوربية التى حققت وحدتها القومية في العصور الحديثة – قبل الكشوف الجغرافية – إلا أنها لم تشارك في حركة الكشوف الجغرافية وما لحقها من عمليات استعمارية، إلا في وقت متأخر من نشاط البرتغال والإسبان، وكذلك الهولنديين بل والفرنسيين أيضاً. ولذلك جاء وصول بريطانيا إلى آسيا، بعد أن وطأت أقدام كل من البرتغاليين والهولنديين، ارضها، وبعد أن أخذت الإمبراطورية التجارية التى أقامها البرتغاليون هناك تتهاوى وتتراجع أمام الوجود الهولندى بالمياه الآسيوية، ولهذا تقابلت إنجلترا في المياه الآسيوية وجهاً لوجه بقوة أوربية. كان لها دور هام في التأثير على توجهات بريطانيا بآسيا – وخصوصاً بالهند – قرابة قرن من الزمان. وبمجرد أن أصاب الوهن الوجود الهولندى بالمياه الآسيوية، أخذت بريطانيا تزداد قوة وتأثيراً على الفعاليات الآسيوية، حتى أضحت القوة الأوربية الوحيدة التى ورثت معظم دور هولندا التجارى. وجدير بالذكر أن هزيمة الارمادا الإسبانية التى حاولت غزو بريطانيا في سنة 1588- بسبب أعمال القرصنة التى كانت ترتكب من جانب البحارة الإنجليز تجاه السفن الإسبانية التى كانت تأتى محملة بالسبائك من أملاكها بالعالم الجديد – أمام القوات البريطانية في بحر المانش، أعطى إنجلترا إحساساً بقدرتها البحرية. ومن ثم أخذت تشارك الدول الأوربية الصراع البحرى والتجارى. فبدأت السفن الإنجليزية أثناء القرن السادس عشر في الدخول إلى البحر المتوسط للبحث عن السلع الشرقية، والاتجار فيها. وعندما أوشك هذا القرن على الانتهاء، لم تعد تجارة البحر المتوسط تفى بحاجة السوق الإنجليزية من السلع الشرقية، ولذلك ايقن الإنجليز أنه ليست هناك وسيلة للوصول إلى ثروة الشرق إلا بمزاحمة البرتغاليين مباشرة في الأسواق الشرقية. ولهذا بدأت السفن الإنجليزية تهجر تدريجياً طريق البحر المتوسط، وتتحول إلى الطريق البحرى الطويل، الذى استخدمه البرتغاليون في الوصول إلى الهند.

ومع بداية القرن السابع عشر، عمل الإنجليز على الاتصال بالسلع الشرقية في منابعها، وقد جاء ذلك على يد شركة الهند الشرقية الإنجليزية التى تأسست في 1601، لممارسة واحتكار التجارة في المنطقة الواقعة إلى الشرق من رأس الرجاء الصالح، وشراء الأراضى في ذات المنطقة، فضلاً عن منافسة الهولنديين في تجارة التوابل هناك، لاحتكارهم هذه التجارة في أوربا، ورفعهم لأسعارها إلى حد لا يطاق. وأقلعت أول سفينة للشركة في اتجاه الشرق في يناير 1601، وتمكنت من الوصول إلى اتشين بسومطره، ثم عادت بعد سنتين ونصف تقريباً، تحمل كميات من التوابل. وتوالت بعد ذلك الرحلات التى قصدت جزر التوابل على وجه الخصوص. وقد واجهت الشركة مشكلة خطيرة هناك، عملت على اثناء الشركة عن الاستمرار في نشاطاتها التجارية بهذه المناطق. وتمثلت هذه المشكلة في إمكانية توفير البديل للتوابل، بما يجعل الميزان التجارى متعادلاً، لأن الصادرات البريطانية إلى هذه الجزر، لم تكن تضاهى من حيث الأهمية والقيمة وارداتها منها، ولذلك كان لابد أن يسوى الفرق في الميزان التجارى بدفع السبائك المعدنية. ولما كانت بريطانيا في ذلك الوقت تفرض قيوداً على خروج السبائك، لأنها كانت تعانى من شح فيها بالمقارنة إلى غيرها من الدول الأوربية التى سيطرت على مصادر السبائك بالعالم الجديد. فإن الشركة أخذت تبحث عن البديل للتوابل بعيداً عن السبائك المعدنية. وسرعان ما اكتشف وكلاء الشركة بالجزر طريقة مناسبة لحل مشكلتها، عندما أفادت تقاريرهم أن تلك الجزر تعانى من نقص في المنسوجات، ومن ثم سيشتد بها الطلب على المنسوجات الهندية إذا ما قامت الشركة بجبلها وبيعها، في بانتام وملقا، وأمكن بالتالى تمويل تجارة التوابل من أرباح ترويج المنسوجات الهندية، بين موانئ جزر التوابل والهند. لذلك اتجهت نية الشركة الإنجليزية إلى إنشاء مركز تجارى لها بالهند، يكون بمثابة محطة تجميع للمنسوجات الهندية التى كان يأتى معظمها من منطقة البنغال. ووقع اختيار الشركة على سورات حيث نجحت في إقامة مقر لها هناك في سنة 1612. ولا يعنى هذا أن الأمور قد استقرت لشركة الهند الشرقية الإنجليزية بأرخبيل الملايو، فسرعان ما أخذ الهولنديون يقيمون العراقيل في وجه الإنجليز تمهيداً لأبعادهم من المنطقة، وتمثلت العراقيل في المنافسة غير المتكافئة بين الشركتين الهولندية والإنجليزية، وقد ساعد تضخم رأس مال الشركة الأولى، على قيامها بشراء التوابل بأسعار مرتفعة في مناطق إنتاجها، وقيامها ببيع ذات التوابل في أوربا بأسعار تقل عن أسعار السوق. وإزاء هذا فضلت شركة الهند الشرقية الإنجليزية الانسحاب على البقاء غير المجدى في هذه المنطقة.

وأدى هذا الانسحاب بالشركة إلى تركيز نشاطها بالهند، وقد رفعت الشركة هناك في البداية شعار التجارة دون هيمنة إقليمية. ومن هنا كانت سياستها تقوم في البداية على إقامة المراكز وزيادة إعدادها بحذر كلما أمكن ذلك. ولعل ظروف المجتمع الآسيوى بصفة عامة والهند بصفة خاصة، التى جعلت شركة الهند الشرقية الإنجليزية ترفع هذا الشعار. لأن أى توسع أوربى في آسيا في ذلك الوقت – أوائل القرن السابع عشر – كان من الصعوبة بمكان لوجود كيانات سياسية قوية متماسكة، تتمتع بقدرات عسكرية واقتصادية، وإدارية، تفوق الأوربيين القادمين أنفسهم. ففى أقصى الشرق كانت هناك إمبراطورية الصين القوية التى امتد نفوذها في وقت من الأوقات إلى ارخبيل الملايو، وكذلك اليابان ذات الحساسية المفرطة لسيادتها. أما في الهند فكان هناك أباطرة المغول الأقوياء، الذين كانوا قد نجحوا في هذا الوقت بالذات في حكم الجزء الأكبر من شبة القارة الهندية. وحتى النظامات الصغيرة الواقعة على جوانب تلك الإمبراطوريات الضخمة، كانت من القوة والحرص على سيادتها، بما جعلها تتصدى لآية محاولة أوربية توسعية. ولهذا عملت الشركة للحصول على مواقع في أغلب الإمبراطوريات القائمة، أقامت فيها وكالات تجارية Factories كثيرة. وظلت تلك المواقع والوكالات تحت السيادة الفعلية لحكام الشرق الأقوياء ومنح الأوربيين تسهيلات وفرمانات وامتيازات تجارية حددتها قوة الآسيويين، انطلاقاً من موقع القوة لا الضعف، والتى جاءت بالقدر الذى يتلاءم مع مصالحهم ورغباتهم. وهذا يعنى أن الإنجليز – وغيرهم من الأوربيين – مارسوا نشاطاتهم التجارية في القرن السابع عشر، في أغلب آسيا – بما فيها الهند – برضى الحكام الآسيويين وتحت حمايتهم.

وفى هذه الظروف قامت الوكالات التجارية الإنجليزية في الهند، والتى ما أن وافت سنة 1647 حتى أصبح لشركة الهند الشرقية الإنجليزية ثلاثة وعشرون مركزاً تجارياً بالسواحل الهندية. وفى أوائل ستينيات القرن السابع عشر، تمكنت شركة الهند الشرقية الإنجليزية من السيطرة على بومباى، وتم نقل مركز الشركة إليها من سورات - حيث كانوا يعيشون في ظل الحكام الهنود- التى كان بإمكان مدافع أسطول الشركة الدفاع عنها بسهولة. وبعد ذلك أخذت الشركة تبدى اهتماماً كبيراً بمنطقة البنغال، وقد قام أحد رجال الشركة هناك، جوب جارناك Jab Charnask ببناء قاعدة للشركة في سنة 1686، فيما عرف بعد ذلك بكلكتا – في مستنقعات نهر الكنج -، والتى تميزت بإمكانية الدفاع عنها أيضاً. وبعد ذلك بأربع سنوات دار نزاع في البنغال بين جوب جارناك، ونائب الإمبراطور المغولى، أدى إلى إعلان الشركة الحرب على الإمبراطورية المغولية في سنة 1690 – عهد اورانكزيب – والتى انتهت بدحر قوات الشركة أمام المغول، وهجر كلكتا، وضياع مؤسسات الشركة في البنغال. وطلبها عقد الصلح، والذى بموجبه أعيد ممثلوها إلى كلكتا، وحصولها على اذن جديد بالتجارة، بعد أن دفعت غرامة حربية. وبكلكتا أصبح لشركة الهند الشرقية الإنجليزية عند نهاية القرن السابع عشر ثلاث مراكز تجارية هامة بالهند، فإلى جانب كلكتا كانت هناك مدارس وبومباى التى كانت للشركة بها سيادة أرضية. وغير هذه المراكز كانت للشركة بعض المحطات التجارية الصغيرة على السواحل الهندية في إقليم ماسوليبتام بساحل الكورماندال – ساحل الهند الجنوبى الشرقى – والبنغال، وكذلك عدد من القرى منحتها حكومة دلهى للشركة بجوار مدراس.

وبذلك نجد أن شركة الهند الشرقية الإنجليزية لم تكن تسعى – في البداية- لفرض سيطرتها السياسية أو إنشاء إمبراطورية غير ساحلية، وإنما اقتصر نشاطها بالسواحل الهندية على الأعمال التجارية المشروعة والسلمية. والجدير بالذكر أن هذه الشركة لعبت دوراً هاماً في تنمية وتطوير أنماط التجارة الهندية الأوربية. حيث اهتمت لأول مرة بالمنسوجات القطنية فذهبت النوعيات النفيسة منها إلى الأسواق الأوربية. أما النوعيات العادية فذهبت إلى الأسواق الأخرى لرخصها وكثرة استهلاكها. وكان المصدر الرئيسى لهذه المنسوجات القطنية في البداية، يتمثل فىولاية كوجرات وساحل الكورماندال ومدراس. ثم انتقل الثقل في تجارة هذه السلعة بعد ذلك إلى البنغال، حيث تتوافر المواد الخام من الحرير والقطن. ففى خلال الفترة 1668-1681، ارتفعت واردات الشركة من الأنسجة القطنية البنغالية بنسبة 45%. وحتى يظل احتكار تجارة المنسوجات الهندية في الأسواق الأوربية بيد شركة الهند الشرقية الإنجليزية. حرصت الشركة على أن يتماشى الإنتاج منها مع تغير الأذواق لدى المستهلك الأوربى، فاعتادت إرسال نماذج إلى مستخدميها في الشرق بما لا تراه ملائماً لأذواق الفئات الراقية في أوربا. ولم تكن تلك النماذج في تغيير مستمر فحسب، بل طالبت الشركة أولئك المستخدمين بإرسال نوعيات جديدة وأشكال مبتكرة من الأقمشة القطنية كل عام. ولهذا ارتفعت نسبة المنسوجات الهندية إلى جملة تجارة الشركة من 73% في سنة 1664 إلى 83% بعد عقدين من ذات التاريخ. وقد استطاعت الشركة تدبير احتياجاتها من الأموال اللازمة لتغذية تجارتها في المنسوجات بعيداً عن استيراد السبائك من لندن، والتى كانت لا تلجأ إليها إلا فيما ندر، حيث حاولت الشركة بقدر الإمكان تغطية قيمة البضائع الآسيوية من أرباحها في التجارة الاسيوية بين الموانئ الهندية والصينية وبالعكس. هذا علاوة على استفادتها بشكل غير مباشر من وراء سماحها للتجار البريطانيين بالعمل في التجارة بشروط كانت تحددها. وفى مقابل هذا السماح والحماية التى كانت توفرها الشركة للتجار، كانوا يدفعون لها ضرائب معينة وإلى جانب ذلك استفادت الشركة من وراء نقل سلع هؤلاء التجار على سفنها، ليس هذا فحسب، بل أنها استفادت من عمليات التحويلات النقدية التى ألفها التجار الأجانب، الذين كانوا يرغبون في تحويل مكاسبهم في الشرق إلى أوربا، ولذلك اعتادوا شراء حوالات من الشركة قابلة للدفع في لندن، وبذلك دبرت الشركة الأموال التى كانت في أمس الحاجة إليها لتغطية أثمان السلع الشرقية التى تبتاعها دون أن تضطر إلى استيراد ذلك من أوربا. ولهذا استطاعت شركة الهند الشرقية الإنجليزية الاحتفاظ لنفسها بنصيب الأسد في تجارة الهند الخارجية وأن تسجل تفوقاً مطلقاً للإنجليز في هذا المجال، على الرغم من تزايد حدة المنافسة التجارية الأوربية لها هناك. خاصة بعد أن أسس الفرنسيون في سنة 1664 شركة الهند الشرقية الفرنسية، وازداد نشاط الأوربيين العاملين في تجارة الشرق في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر. وهذا التفوق الذى أحرزته شركة الهند الشرقية الإنجليزية في تجارة الهند، جعلها تعمل على تبديل شعارها، الذى سبق أن رفعته عندما اتصلت لأول مرة بالمجتمع الهندى. وأخذت تلجأ لاستخدام الأساليب المسلحة في العمليات التجارية، ليس هذا فحسب، بل أنها حاولت الحصول على مكاسب أخرى تتخطى نطاق التجارة. بعد أن أخذ نشاط الشركة بالهند يواجه ببعض التحديات التى كانت افرازاً لضعف الأنظمة السياسية داخل الهند.

فلما كانت ظروف المجتمعات الآسيوية بصفة عامة والمجتمع الهندى بصفة خاصة، السبب الرئيسى في جعل الشركة ترفع شعار التجارة السلمية، فإن التطورات التى طرأت على ذات الظروف، كانت السبب في إحداث المتغيرات الجديدة في سياسة الشركة إزاء الأراضى الهندية. حيث أصيب المجتمع الهندى بالتفكك، بعد أن انهارت الإمبراطورية المغولية على أثر وفاة اورانكزيب (1657-1707). ومن ثم تحولت الهند برمتها إلى دول يعترف معظم حكامها اسمياً بأباطرة ضعاف يخلف أحدهم الآخر في دلهى، هذا في الوقت الذى انتعشت فيه المقاومة الهندوكية المتمثلة في الماراثا Marathas الذين أخذوا يسببون للشركة قلقاً في سورات. وإزاء هذا الوضع الذى أضحت فيه الإمبراطورية المغولية عاجزة عن توفير الحماية للشركة. في وقت ازدادت فيه المقاومة الهندوكية، أخذ الأوربيون يعملون للاعتماد على أنفسهم. فأخذت الشركة تعمل على تدعيم مركزها بالمناطق التى امتد إليها نفوذها، ولما كانت البنغال تعد أهمها، عمل الإنجليز على تحصين بعض المراكز هناك، وأدى ذلك إلى وقوع صدام بين نائب الإمبراطور المغولى بالبنغال والإنجليز، كاد يفقد الإنجليز كلكتا لولا نجدة كلايف – مسؤول الشركة بالهند – لإنقاذ الإنجليز بالبنغال. حيث استطاع استعادة كلكتا، وأخذ يتطلع للاستيلاء على ثروات نواب البنغال، وهذا ما أدى إلى وقوع معركة "بلاسى Plassey 1757"، بين قوات سراج الدولة النائب المغولى بالبنغال وقوات كلايف، والتى انتهت بنصر حاسم للإنجليز بمقتضاه عزل سراج الدولة وعين بدلاً منه نائباً آخر كان موالياً للشركة. وجدير بالذكر أن هناك عامل هام ساعد قوات الشركة على الانتصار في معركة بلاسى، تمثل في تلك الصفقة التجارية التى عقدت بين طبقة التجار(*) والشركة، والتى بموجبها لم يقدم القادة العسكريين على أى قتال جدى بعد أن قبضوا الثمن. ولهذا بمجرد انتهاء المعركة، طالب التجار الإنجليز بالحصول على نصيبهم من الغنائم، فحصلوا على إعفاء تجارتهم من الضرائب، التى كانت قد بلغت حداً من الكثرة اثقل كاهلهم. ولم يؤثر النصر الحاسم الذى حققته الشركة في معركة بلاسى إلى سيطرتها على البنغال فحسب، بل كانت نتائج هذه المعركة نقطة تحول في تطور مركز إنجلترا بالهند، وفى المنافسة الإنجليزية الفرنسية هناك أيضاً، تلك المنافسة التى بدأت بتأسيس شركة الهند الشرقية الفرنسية واستقرار الفرنسيين في بوندشيرى. واستمرارهم في تدعيم وجودهم بالهند. ثم جاءت معركة بلاسى لتقضى على كل مطالب الفرنسيين في الهند بعد أن هزموا وحلفائهم أمام قوات الشركة البريطانية.

وبعد أن فرغ كلايف بقواته من المهمة البنغالية، تطلع إلى احتلال دلهى، لكنه أدرك أن إمكانيات الشركة غير معدة لتحمل الأعباء التى ستنجم عن هذا التوسع نحو دلهى، ولهذا آثر التراجع عن هذا التطلع، لكن سرعان ما أدى عدم استسلام البلاط المغولى في دلهى للتغير الذى طرأ على أوضاع البنغال، وعزمه على التدخل في شئونها، إلى وقوع اشتباك بوكسار في سنة 1764. والذى انهزمت فيه جيوش البلاط المغولى، واضطر إلى منح الشركة حق الديوانى The Diwani، وهى إدارة الإيرادات في كل من البنغال وبيهار واريسا العريقة الثراء، التى كانت خاضعة لنواب البنغال. وكان هدف الشركة من الحصول على الديوانى، هو الاستفادة من فائض الإيرادات لحسابها، بما يساعدها على تمويل تجارتها بالهند. وكان هذا يعد أول خطوة مهمة للسيطرة البريطانية على الهند. وبدلاً من أن تملأ خزائن الشركة بالأموال بعد أن حصلت على الديوانى، ازدادت احتياجاً وتفسخاً بل واضطراباً، نتيجة تسرب كل فائض إقليم البنغال وبالذات الديوانى إلى جيوب مستخدمى الشركة. ولذلك تطلب الأمر إجراء إصلاح عاجل، قبل أن تسير الشركة إلى نفس مصير الشركة الهولندية. ولتحقيق هذه المهمة وقع الاختيار على وارن هاستنجز Warren Hastings الذى يعد من أبرز الشخصيات الإنجليزية في تاريخ الهند.

وقد تولى وارن هاستنجز Warren Hasting منصب حاكم البنغال لمدة ثلاث عشرة سنة، وفى عام 1774 إصدار البرلمان الإنجليزى ما عرف بقانون التنظيم The Regulating Act، والذى بموجبه رقى وارن إلى منصب الحاكم العام Governor General، وامتدت صلاحياته إلى الإشراف على كثير من المناطق بما فيها بومباى ومدراس، والتى كانت تنفصل حتى وقت تعيينه عن بعضها البعض، وترتبط كل واحدة منها بلندن مباشرة. وكان هاستنجز يعمل لخلق هيكل متبلور لكيان سياسى بريطانى في الهند. وقد انصبت إصلاحات هاستنجز على البنغال – الإقليم الوحيد الذى كان تحت السيطرة البريطانية -، فقام بعزل كل الوكلاء المحليين الذين كانوا يتولون جمع الإيرادات، واسندت مهامهم إلى مجلس إدارة إيرادات كلكتا Board as Revenue of Calcuti. وبذلك قام بعمل أول خطوة حقيقية للإدارة البريطانية المباشرة في الهند، وإلى جانب ذلك قام بمنع الإعفاءات على التجارة الخاصة، وتخفيض الضريبة على كل التجارة، والتى حددها بـ 2.5% وذلك لتشجيعها بعد أن تدهورت. وقد واجه هاستنجز بالهند تحدياً خطيراً عندما تحالفت قوى هندية – الماراثا، نظام حيدر اباد – ضد بريطانيا، وراحت تدمر بعض القوى البريطانية، وتهدد مدراس. هذا في الوقت الذى انشغلت فيه بريطانيا بحرب الاستقلال الأمريكية، ولم يكن في إمكانها إرسال قوات من أوربا إلى الهند، غير أن هاستنجز استطاع أن يعيد الوضع لصالح بريطانيا، بعد أن تمكن من الانتفاع بشكل فعال بقواته في البنغال. هذا بالإضافة إلى استغلاله لحنكته السياسية في تفكيك ذلك التحالف.

وفى ظل وجود هاستنجز بالهند، استطاع أن يضم بوندشيرى، وماهى – الممتلكات الفرنسية – لممتلكات الشركة، كما عقد مع نظام حيدراباد أول معاهدة تبعية لقاء توفير الحماية لهذا النظام من تهديدات الماراثا. كذلك استطاع الإنجليز الاستيلاء على نصف ميسور نتيجة استمرار الحرب مع سلطان تيبو ابن حيدر على، وكذلك نصف ولاية أوده Oudh والكارناتك، وضمت بومباى إليها سورات الميناء المغولى الهام. وبينما كان عمليات التوسع والسيطرة تسير على قدم وساق بالهند جنباً إلىجنب مع محاولات الإصلاح الإدارى والاقتصادى بالبنغال وغيرها، شرعت الحكومة البريطانية في أن يكون لها قسط وافر في إدارة الشؤون الهندية. ولذلك شرع البرلمان الإنجليزى ما عرف بقانون بت للهند Pitt India Act بمقتضاه أقيمت حكومة مشتركة، بعد أن صار يشرف على الشركة في لندن وزير يعرف برئيس مجلس الإشراف President of the Board of control وإلى جانب ذلك أصبح للحكومة البريطانية دور هام في اختيار الحاكم العام بكلكتا. وقد شغل منصب الحاكم العام بالهند بعد هاستنجز، اللورد كورنوالس Lord Cornwallis، والذى يعد أيضاً من الشخصيات البريطانية التى لعبت دوراً هاماً بالهند. حيث تركت الإصلاحات الكثيرة، التى قام بها، آثارها العميقة في الهند حتى نهاية الحكم البريطانى. من إصلاحاته البارزة في الهند، تجميده لنشاط مجلس إدارة الإيرادات، لمخالفاته الصارخة، والتخلص من أعضائه بترحيلهم إلى بريطانيا، كذلك منع مستخدمى الشركة من ممارسة الأعمال التجارية لحسابهم، في الوقت الذى رفع فيه رواتبهم وقام بتوزيع اختصاصاتهم، فاختص فريق منهم بالشؤون التجارية فقط، في حين اختص فريق آخر بشؤون السياسة والإدارة. وهذا ما كان يعد البداية لسلك الخدمة المدنية الذائعة الصيت في تاريخ الهند.

وهكذا كانت لجهود كل من هاستنجز وكورنوالس أكبر الأثر في الإبقاء على شركة الهند الشرقية الإنجليزية قوية. وعندما غادر كورنوالس الهند في 1793 كانت شركة الهند الشرقية الإنجليزية أكبر قوة في الهند المجزأه، ولكنها مع ذلك كانت لا تسيطر إلا على جزء ضئيل من شبه القارة الهندية. ثم جاء مورننجتون الذى عرف بعد ذلك بولزلى Lord Wallesley (1798-1805) كحاكم عام للهند. والذى أخذ يرسم سياسة لتدمير قوة الماراثا، أقوى الممالك الهندية. التى تسيطر على الأجزاء الغربية والوسطى من شبه القارة الهندية، ويجعل من الشركة صاحبة السلطة العليا في الهند، بعد ضرب نظام حيدر اباد في هضاب الدكن. وسلطان تيبو بميسور في الجنوب. وكانت خطة ولزلى تقوم على تطويق قوة الماراثا، القوة الوطنية الوحيدة التى كانت تعمل لها الشركة ألف حساب. ولهذا فكر ولزلى في الاستيلاء على ميسور حتى يتمكن من ضرب الماراثا من الناحية الجنوبية في موطنها، والعمل على إضعاف حكومتها المركزية، ببذر الخلاف والفرقة في بونا، هذا إلى جانب إزالة كل أثر للقوة التى كان الفرنسيون قد نظموها هناك. وبعد حملة قصيرة وسريعة وصل ولزلى إلى ميسور. وبذلك يكون قد دفع بقوات الشركة إلى مقربة من موطن الماراثا.

ثم اتجه ولزلى بعد ذلك إلى نظام حيدرأباد، ودبر هناك انقلاباً تمخض عن تسريح قوات هذا النظام. والتى كان الفرنسيون يهيمنون عليها. وتم تحويل النظام هناك إلى مرتبة أميرتابع، وبذلك يكون ولزلى دفع بقواته من ناحية أخرى نحو الماراثا، التى أصبح متفرغاً لمنازلتها. وقد استخدم ولزلى أسلوباً في مواجهة الماراثا لا يخلو من التواء، وذلك بعقده معاهدة مع أحد الخارجين على النظام هناك، والتى بموجبها أخذ يتدخل في شؤون الماراثا تحت ستار مناصرة السلطة الشرعية، داخل النظام القائم على المحالفات والحلفاء التابعين. وهذا الأسلوب قد ساعد على دحر قوة الماراثا العسكرية في معركة اساى (1803) بمنطقة الدكن. والتى لم تكن النهاية لهذه القوة، بل يمكن أن نقول أنها بداية النهاية نظراً لعجز قوات الشركة في ذلك الوقت عن تتبع قوة الماراثا، والقضاء عليها خاصة أن الماراثا محاربون أكفاء، يجيدون الكر والفر والحرب داخل المستنقعات، ولهذا آثر ولزلى التراجع عن مواصلة الحرب في ذلك الحين. ولم تفكر الشركة في أى مواجهة عسكرية مع قوات الماراثا إلا بعد أن أعادت ترتيب شؤونها العسكرية، بشكل مكنها من تدمير قوة الماراثا نهائياً في سنة 1818 ودخول عاصمتهم بونا، وانتزاع الراجبوات، عندما اضطر كل من الماراثا والراجبوات إلى عقد معاهدة تبعية. وبذلك أصبح للشركة الإنجليزية السلطة العليا ببلاد الهند، حيث وضعت يدها مباشرة على وادى الكنج حتى دلهى، وموطن الماراثا بإقليم الدكن والمنطقة الساحلية المطلة على البحر العربى، والمناطق الساحلية الضيقة الممتدة من البنغال إلى الجنوب. أما القسم الداخلى فكان لا يزال عليه أمراء تحت الحماية، وكانت ممتلكات أحدهم وهو اسكنديا تعد دولة مستقلة. وبينما كانت الشركة قد وضعت يدها على جل الاراضى الهندية، إذا بمملكة السيخ – وراء نهر ستلج، تمتد من ممر خيبر غرباً، إلى جلجت شمالاً والى ولاية السند جنوباً – في الشمال تنمو، وهى ولاية لا يستهان بها، ولذلك لم يتقدم إليها الإنجليز على التو من انتهائهم من الماراثا، بل ظلوا يرقبون نموها بعين الحذر، حتى لا تتجاوز الحد الذى يهدد مصالح الشركة، لكن أدى نموها بسرعة إلى إثارة مخاوف الإنجليز. ومن ثم قرروا الاتجاه إليها.

وجدير بالذكر أن البريطانيين كرروا مع السيخ نفس الخطة الاستراتيجية التى اتبعها ولزلى مع الماراثا، والتى قامت على تسريح قوات اسكنديا الضخمة في سنة 1843، وفتح ولاية السند في 1844 لنفس السبب الذى من أجله فتح ولزلى ميسور، وهو تمكين البريطانيين من ضرب العدو من الخلف وفى هذه المرة تم الإعلان عن تقديم ولاية كشمير رشوه لأقوى شخصية في إمبراطورية السيخ بهدف استمالتها. ولم يجد البريطانيين صعوبة في ذلك فسرعان ما ارتمت أقوى شخصية سيخية – الراجاجولاب سنغ أمير جيمو – في أحضانهم، من أجل الحصول على أهم ولايات السيخ. وبذلك وجد البريطانيين من الذرائع الكثير، للتدخل في مملكة السيخ وإعلان الحرب عليها. وبعد حملتين دمويتين قهرت آخر المماليك الهندية وضمت إلى بريطانيا في سنة 1848. وبذلك استطاعت شركة الهند الشرقية الإنجليزية تكوين إمبراطورية بحد السيف على مدى مائة عام ضمت مناطق شاسعة بالهند امتدت من السند إلى البراهما بوترا ومن الهملايا إلى رأس قومورين.

إما إذا كانت هناك بعض الممالك، التى ظلت بمنأى عن سيطرة الشركة المباشرة – كشمير، جوالور، حيدراباد، باروده، ترافا نكور، وولايات الراجبوت – وكذلك بعض الإمارات الصغرى التى اقتطعت من ولايات كبرى أو فصلت عنها، فالملاحظ أنها بالكامل تحولت إلى إقاليم تابعة معزولة عن بعضها البعض بشكل جعلها تفتقد إلى كيانات سياسية واقتصادية تحقق لها البعد عن سلطان البريطانيين. وبينما كانت الشركة قد بدأت برياسة اللورد دالهوسى – بعد أن شعرت بسلطانها الكامل على الهند – في وضع نظام إدارى عصرى، إذا بالهنود يتحركون في ثورة عارمة، عرفت بثورة 1857-1858، قامت على تحريكها وقيادتها الطبقات الحاكمة القديمة- الماراثا والمغول – للتخلص من الوجود البريطانى، الذى سلبها امتيازاتها وصلاحياتها السياسية. لكن الشركة استخدمت أسلوباً تميز بالشدة في مواجهة الأحداث، إلى أن تمكنت من القضاء عليها بعد قتال متقطع دام 18 شهراً. ولم تلبث شركة الهند الشرقية الإنجليزية التى كونت إمبراطورية ضخمة بالهند أن توقفت عن الوجود رسمياً في 1858. وفى ذات السنة أخذت الحكومة البريطانية تضطلع بشكل مباشر بشؤون الإدارة الهندية، بعد أن اقنعت ثورة 1857-1858 الحكومة البريطانية بضرورة إجراء تغييرات جذرية في أسلوب الحكم البريطانى في الهند.