هيمنة اسبرطة

Alt text
Map of Sparta

بسطت إسبارطة الآن سيادتها البحرية على بلاد اليونان، ودامت لها هذه السيادة فترة قصيرة من الزمان مثلت في التاريخ مرة أخرى مأساة من مآسي النجاح يذل صاحبَه الكبرياء. فهي لم تمنح المدن التي كانت من قبل خاضعة لأثينة ما وعدتها به من حرية، بل فرضت عليها بدلاً من هذا جزية سنوية مقدارها ألف وزنة (000ر000ر6 ريال أمريكي)، وأقامت في كل منها حكماً أرستقراطياً يشرف عليه حاكم لسدموني تؤيده حامية إسبرطية. ولم تكن هذه الحكومات مسئولة إلا أمام الحكام الإسبارطيين البعيدين عنها، فأوغلت في الفساد والظلم إيغالاً لم يلبث أن أوغر الصدور على الحكومة الجديدة أكثر مما كانت موغرة على الحكومة القديمة.

وفي إسبارطة نفسها كان سيل من المال والهدايا المنهمر من المدائن الخاضعة لاستبدادها والألجركيين الأذلاء سبباً في تقوية العوامل الداخلية التي كانت تدفع المدينة دفعاً إلى الانهيار. فلم يستهل القرن الرابع حتى تعلمت الطبقة الحاكمة كيف تجمع بين الترف في الحياة الخاصة والبساطة في الحياة العامة، وحتى الحكام أنفسهم لم يعودوا يتأدبون بأدب ليتورغ إلا في المظهر الخارجي دون غيره. وانتقل الكثير من الأراضي عن طريق البائنات والوصايا إلى النساء؛ وهذه الثروة المكدسة جعلت النساء الإسبارطيات - وهن اللائي لم يكنَّ يتحملنَّ عبء تربية الذكور من الأبناء - يحيين حياة مريحة متحللة من القيود الأخلاقية لا توائم الأنوثة بحال من الأحوال. هذا إلى أن ما تعاقب على بعض الضياع من تقسيم في إثر تقسيم قد أفقر بعض الأسر فقراً عجزت معه عن تقديم نصيبها من الطعام العام، ففقدت بذلك ما كان لها من حقوق المواطنية، على حين أن تضخم بعض الثروات الأخرى عن طريق الزواج والوصايا قد أوجد لدى العدد القليل من "الأنداد" الباقين ثروات كبيرة مركزة أثارت الغيرة والحسد في القلوب . وفي ذلك يقول أرسطوطاليس: "من الإسبارطيين من يمتلك ضياعاً واسعة، ومنهم من لا يكادون يمتلكون شيئاً على الإطلاق، فالأرض بأجمعها في أيدي عدد قليل منهم"(3). وتكون من الطبقات العليا التي فقدت حقوقها السياسية ومن اليريسيين المحرومين من هذه الحقوق، والهيلوتيين الحانقين، مجموعة من الأهلين يضطرب في نفوسها من القلق والعداء ما لا يسمح للحكومة أن تقدم على شئ من المغامرات العسكرية الخارجية التي يتطلبها الحكم الإمبراطوري إقداماً يشغلها زمناً طويلاً في أماكن واسعة.

وكانت الحرب الأهلية القائمة في بلاد الفرس وقتئذ تشكل مصائر بلاد اليونان؛ فقد ثار قورش الأصغر في عام 401 على أخيه أرتخشتر الثاني، واستعان عليه بإسبارطة، وجند جيشاً من آلاف اليونان وغيرهم من الجنود المرتزقة الذين أصبحوا ولا عمل لهم في آسية على أثر انتهاء حرب البلوبونيز الفجائي. والتقى الأخوان المتقاتلان في كونكسا بين دجلة والفرات وقرب ملتقاهما. وهزم قورش في هذه الواقعة وقُتل وأسر جيشه كله أو أبيد عدا فرقة مؤلفة من اثني عشر ألفاً من اليونان استعانوا بسرعة بديهتهم وإقدامهم على الهرب إلى داخل بلاد بابل. وطاردتهم قوات الملك فاختاروا على طريقتهم الدمقراطية الساذجة ثلاثة قواد يهدونهم سبيل السلامة. وكان من بين هؤلاء القواد أكسانوفون الذي كان في يوم من الأيام تلميذاً لسقراط، والذي كان وقتئذ جندياً شاباً مغامراً، قدر له أن يُخلَّد اسمه على الأخص بمؤلَّفه المعروف بالأناباسيس Anabasis أو الصعود الذي وصف فيه وصفاً بسيطاً رائعاً "ارتداد العشرة آلاف" الطويل متتبعين مجرى نهر الفرات نحو منبعه وفوق تلال كردستان وأرمينية إلى البحر الأسود. وكان هذا الارتداد من أعظم المغامرات في تاريخ البشر. وإنا لتدهشنا أشد الدهشة بسالة هؤلاء اليونان وهم يشقون طريقهم سيراً على أقدامهم يوماً بعد يوم خمسة شهور كاملة، قطعوا في أثنائها ألفي ميل كاملة في بلاد معادية لهم، واجتازوا سهولاً قائظة لا يجدون فيها طعاماً، وطرقاً وعرة خطرة فوق الجبال تتراكم فيها الثلوج إلى عمق ثمان أقدام، يتعرضون فيها لهجمات الجيوش والعصابات المسلحة من خلفهم وأمامهم، وعن أيمانهم وشمائلهم، ولا يترك أهل البلاد وسيلة إلا اتبعوها لقتلهم أو إضلالهم أو سد الطريق في وجههم. ونحن حين نقرأ هذه القصة الرائعة، التي شوهها في شبابنا إرغامنا على ترجمتها، ندرك أن أهم سلاح تحتاجه الجيوش هو سلاح الطعام، وأن مهارة القائد في تدبير المؤن لجيشه لا تقل أهمية عن مهارته في تدبير الفوز في المعركة. وقد هلك من هؤلاء اليونان من التعرض للعوامل الجوية أكثر ممن هلك منهم في الوقائع الحربية، وإن كانت هذه الوقائع لم تنقطع يوماً واحداً. ولما أن وقعت عيون الباقين منهم أحياء، وكانت عدتهم 600ر8، على بحر اليوكسين عند تربيزي (طربزون) غمرت قلوبهم موجة من السرور:

"ولم تكد مقدمتهم تصل إلى قمة الجبل حتى علت في الجو صيحة شديدة، سمعها أكسانوفون ومَن في المؤخرة فخيل إليهم أن أعداء آخرين يهاجمون المقدمة - لأن الأعداء كانوا يقتفون آثارهم من خلفهم...فاستحثوا الخطى إلى الأمام ليساعدوا رفاقهم، وسرعان ما سمعوا الجنود يصيحون "البحر! البحر!" والصيحة تنتقل من صف إلى صف. وحينئذ هرول جنود المؤخرة جميعهم، وأخذت دواب الحمل تتسابق إلى الأمام...ولما صعدوا جميعاً إلى قمة الجبل أخذ كل منهم يعانق زميله، لا فرق بين الجنود والضباط والقواد، والدموع تترقرق في أعينهم من فرط السرور"(4).

ذلك أن هذا البحر بحر يوناني وأن مدينة ترابيزي مدينة يونانية، فهاهم أولاء قد وصلوا سالمين، وفي وسعهم أن يستريحوا ولا يخشوا أن يفاجئهم الموت في سكون الليل. وترددت أصداء جهودهم المضنية في طول بلاد هلاس القديمة وعرضها، وشجعت فليب بعد مائتي عام من ذلك الوقت على الاعتقاد بأن قوة يونانية حسنة التدريب خليقة بأن يركن إليها في هزيمة جيش فارسي يفوقها في العدد أضعافاً مضاعفة. وهكذا مهد أكسانوفون على غير علم منه السبيل إلى الإسكندر.

ولعل أجسلوس الذي اعتلى عرش إسبارطة في عام 399 قد شعر بهذا الأثر. فلقد كان في الاستطاعة إقناع بلاد الفرس أن تغفر لإسبارطة إقدامها على معونة قورش، لكن هذا الملك، وهو أقدر ملوك إسبارطة على الإطلاق، لم يكن ينظر إلى حرب الفرس أكثر من نظرته إلى مغامرة ممتعة، ولذلك سار على رأس قوة صغيرة ليحرر جميع بلاد آسية اليونانية من حكمهم . ولما علم أرتخشتر الثاني أن أجسلوس لم يكن يلقى عناء في تشتيت شمل جميع الجيوش الفارسية التي أرسلت لصده، بعث الرسل يحملون كميات كبيرة من الذهب إلى أثينة وطيبة ليرشوا بها هاتين المدينتين كي تعلنا الحرب على إسبارطة(6). وسرعان ما أفلح هؤلاء الرسل في مهمتهم، وتجددت الحرب بين إسبارطة وأثينة بعد أن دام السلم بينهما تسعة أعوام. واستُدعي أجسلوس من آسية ليواجه جيوش أثينة وطيبة مجتمعة عند كرونيا. واستطاع أن يهزمها بشق الأنفس؛ ولكن أسطولي أثينة وفارس مجتمعين بقيادة كونون Conon دمرا الأسطول الإسبارطي قرب نيدس بعد شهر واحد من ذلك الوقت وقضيا بذلك على ما كان لإسبارطة من سيادة بحرية قصيرة الأجل. وابتهجت أثينة بهذا النصر المؤزر وأخذت تعمل بجد مستعينة بما أمدتها به فارس من المال لإعادة بناء أسوارها الطويلة. ودافعت إسبارطة عن نفسها بأن أرسلت رسولاً يدعى أنتلسداس Antalcidas إلى الملك العظيم يعرض عليه أن تسلمه المدن اليونانية في آسية ليحكمها الفرس إذا فرضت فارس على مدن اليونان الأصلية صلحاً يحمي إسبارطة من العدوان. ووافق الملك العظيم على هذا الشرط، وامتنع عن مساعدة أثينة وطيبة بالمال، وأرغم المتنازعين جميعاً على أن يوقعوا في سرديس (387) "صلح أنتلسداس" أو "صلح الملك"، وأعطيت بمقتضى هذا الصلح لمنوس، وأميروس، وسيروس إلى أثينة، وضمن الاستقلال للدول اليونانية الكبرى؛ ولكنه أعلن أن جميع المدائن اليونانية في آسية، وجزيرة قبرص، قد أضحت ملكاً للملك العظيم. ووقعت أثينة على شروط الصلح بعد أن احتجت عليها لعلمها أن هذه كانت أكثر الحوادث إذلالاً لها في تاريخ اليونان كله. وهكذا ضاعت ثمار نصر مرثون كلها، وظلت أثينة ضائعة جيلاً كاملاً، وبقيت دول اليونان الأصلية حرة بالاسم، أما في واقع الأمر فقد ابتلعتها قوة الفرس. ونظرت بلاد اليونان بأجمعها إلى إسبارطة نظرتها إلى الخائن الغادر، وأخذت تنتظر على أحر من الجمر أن تقوم أمة من الأمم تهلكها وتدمرها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الهامش