نقاش المستخدم:Muhammadbinsalman

ربيع الأول

الحمد لله الذي خصّ شهر ربيع الأول بمولد نبراس الجود والوفاء سيّدنا ومولانا محمّد المختار من معدن الأشراف النجباء، فسبحانه من إله رحيم، شرّف الدنيا بمولد هذا النبي الكريم، فجعله للمومنين سروراً، وللمحبّين بهجة وحبوراً.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيِّدِنا ومولانا محمّد، مَنْ أضاءت لمولده غَياهِبُ الحنادِس وسائرُ الجهات والأقطار، وعلى آله المشَرَّفينَ بالهيْبة والوَقار، وأصحابه سُيوف الفَتح والانتصار، صلاةً تُلْبِسُنا بها بين المادحين خِلْعةَ العِزّ والافتخار، وتُسقِيَنا بِها من مَدَدِه كأسًا صافيةَ الرَحيق والعُقار، وتَمنَحنا بها بَرَكَتَهُ في هذه الدَّار، ومُجاورته في تِلك الدَّار، بفضلك وكرمك يا أَرحم الراحمين.

في هذه الأيام العطرة، تمر بنا ذكرى مولد أشرف الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وحقاً إنها لذكرى يطرب لها الفؤاد وتعجز الألسنة فيها عن التعبير عما في مكنونات النفوس الملتهبة بالمحبة والشوق، فلذا جاءت هذه الكلمات الموجزة خواطر ومواعظ بهذه المناسبة الشريفة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يفرح به صلى الله عليه وسلم دنيا وأخرى، إنه سميع قريب مجيب.

ذكرى خالدة مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: أهلاً وسهلاً ومرحباً بِشَهرٍ وُلِد فيه مَن قال فيهِ سبحانه وتعالى:

لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ [سورة التوبة:١٢٨]

إنها لذكرى خالدة تمر على قلب المحب الصادق الذي إذا ذُكِر اسمه تجده يهتزّ ويعبّر عن مشاعره الفيّاضة نظماً ونثراً، وإذا وُجِد النظم جاءت ألحانه فأطربت السامع، فتحرّكت في القلب المعاني المكنونة، فحصل لها التواجد والتجديد، وهو الغاية والمطلوب، فمَحَبّة الحبيب صلى الله عليه وسلم مكنونة في قلوب جميع المؤمنين، وقد كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم إذا مرّ أحَدُهم بِشجرةٍ جلسَ عندَها رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم هاجت أشواقه وتحرك فؤاده؛ وتجددت لديه معاني المحبّة المستمرة، إذِ المحبّة هي وقود الاقتداء وشعلة الاهتداء.

أَبَانَ مَوْلِدُهُ عَنْ طِيبِ عُنْصُرِهِ *** يَا طِيبَ مُبْتَدَإٍ مِنْهُ وَمُخْتَتَمِ يَوْمٌ تَفَرَّسَ فِيهِ الفُرْسُ أَنَّهُمُ *** قَدْ أُنْذِرُوا بِحُلُولِ البُؤْسِ وَالنِّقَمِ وَبَاتَ إِيوَانُ كِسْرَى وَهُوَ مُنْصَدِعٌ *** كَشَمْلِ أَصْحَابِ كِسْرَى غَيْرَ مُلْتَئِمِ

معرفة سيرته من أعظم مظاهر الفرح بمولده لا شكَّ ولا ريب في أن الاحتفال والابتهاج بمولد سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل القربات، ولذا جرت عادة المسلمين بنشر مظاهر الفرح والزينة ابتهاجاً بمولده صلى الله عليه وسلم في كل عام، وأيضاً لو دققنا النظر في عادة العلماء والصلحاء لوجدناهم قد كتبوا الموالد التي تروى والقصائد التي تحكى في مولده صلى الله عليه وسلم في كل عام، وما ذاك إلا تذكيرا بشمائله وتعريفاً للمسلمين بسيرته وخصائصه، فالمحبة تزداد بالمعرفة وتنمو بالذكر.

فلذا فإنّ تعلُّم سيرته صلى الله عليه وسلم من أهم المهمات وأعظم القربات.

ولكن ما هو جوابنا إذا ما سُئِلنا عن سيرته وعن أهل بيته الأطهار وعن مكانته العطرة حتى وعن سننه الشريفة؟!

كيفَ يكونُ النبي صلى الله عليه وسلم قدوةً لَنَا؟! إن لم نطَّلِعْ على حياتِه، على سيرتِه، على شجاعته، على مواقفِه، على خصائصه، على أحواله في بيته مع أزواجه وبناته،، وعلاقته بإخوانِه، وحتى بِمَنْ ناصبُوه العداءَ، فلن نَستطيعَ أن نحبه حقَّ المحبة، وأن نَسلُكَ طريقه، ونَنهجَ سَبيلَه، إذا لم نعرفْهُ حقَّ المعرفةِ، فماذا نقولُ نحنُ اليوم، والقرآنُ لازالَ غضًا طريًّا يُتلى في مساجدِنا ليلَ نهارٍ، وسنةُ النبي صلى الله عليه وسلم تُدرَّسُ على المنابرِ في الخطبِ ودروسِ الوعظِ ونحن أبعدُ ما نكونُ من الاستفادةِ منها أو محاولةِ تطبيقها، أو نشرِها وبثها في أبنائِنا وبناتنِا، فكيف نكون من الذين يقتدون به..!

واقع نعيشه..! أغلبُ الناس في زمانِنا هذا يتتبّعونَ أخبار وسيرَ المغنّيّين والرِّياضيّين والفنّانينَ والكُتّابِ وغيرهم، فالواحد منا يمكنه أن يخبر بخصائص مَن يحبُّ مِن هؤلاءِ، تجدهُ يَعرفُ نَسبَهُ ومراحلَ صبَاهُ، والأطوارَ التي تدرجُ فيها قَبلَ الشّهرةِ وبَعدَها، بل رُبمَا يُحدّثكَ عن برامجِه السابقَةِ والمستقبليةِ، في حين أن أغلبنا يعجز عن ذكرِ نسبِ حبيبِنا ورسولِنا صلى الله عليه وسلم، أو تذكُّرِ غزوةٍ غَزاها، أو حديثِ حدّث بِه، وذلك لتقصيرنا بِمعرفَةِ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبِسيرتِه، فلو عرفنَاه حقَّ المعرفَةِ لأحببناهُ ولأكثرنا من الصلاة والسلام عليه.

اعتَنَى الْعُلَمَاءُ بالسِّيرةِ النَّبويَّةِ العطرة مُنْذُ فَجْرِ الإسْلامِ وبَدَؤوا بتَدْوِينها في الْقَرْنِ الأوَّل، وتَتَابعُوْا على التَّأليفِ فِيها في كتبٍ شاملة لِجميعِ أبوابِ السيرةِ أو بعضِها..

بل حثَّ العلماء أبناءهم على تعلُّمِ السِّيرةِ النَّبويةِ والغزوات، وعلَّمُوهم إيَّاها في الصغَرِ قبل الكِبَرِ، قال سيدنا زين العابدين عليُّ بنُ الحسينِ بن أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنهم:

«كنَّا نُعَلَّمُ مَغازي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وسراياه كما نُعَلَّمُ السُّورةَ مِنَ القرآنِ» (رواه الخطيب البغدادي في الجامع: ٢/١٩٥)

وقال إسماعيلُ بنُ محمدٍ بْنِ سعدِ بْنِ أَبي وَقاصٍ رضي الله تعالى عنهم:

«كانَ أبي يُعلِّمُنَا مَغازيَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ويَعُدُّها عَلينَا، وسَرَاياهُ؛ ويقولُ: يا بنيَّ هَذِهِ مَآثِرُ آبَائِكُمْ فَلَا تُضَيِّعُوا ذِكْرَهَا» (رواه الخطيب البغدادي في الجامع: ٢/١٩٥)

وهذا لإدراكِهم أهمية هذا العلمِ وحاجةَ الناسِ إليهِ، وضرورةَ رسوخهِ في الأذهانِ، ونَحنُ اليومَ أيضًا في أشدِّ الحاجةِ إلى هذا العلمِ لنبيِّنَ للعالَمِ أجمع جمال وصفاء دينِنا الحنيفِ وسيرةِ نبيِّنا الكريمِ صلى الله عليه وسلم، فكانَ لزَامًا عَلى الْمُسْلِمِ الْحَرِيصْ أن يُلمَّ بِسيرةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، ويتأمّلها ويَتَعلَّمَ ما يجبُ أن يتعلَّمَّه مِنْها، ليكونَ على بيِّنَةٍ مِن أمرِهِ، ولِيَعَرفَ بذلكَ قدْرَ نبيِّه الذِيْ أوجبَ الله عَليهِ حبَّهُ واتباعَهُ وطاعتَهُ..

همسة في أُذن كل محبّ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: في مثلِ هذهِ الأيام ولاسيّما في كلِّ وقتٍ وآن، علينا أن ننطلق لندرّسَ ونَتدارس السيرةَ النبويةَ العطرة، لما لها من فوائدَ عظيمةٍ، نعلِّمُ ونُربِّي أطفالَنا علَيها، نُعلِّمُهُم أنهُ صلى الله عليه وسلم حبيب الله ورسوله وإمام الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام وأنه خير مَن أدَّى الأمانةَ ونَصحَ الأمّة وجاهدَ في سبيلِ الله حتى أتاهُ اليقينُ.

نقضي هذه الأيام في حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، نقضيها في تعليم أبنائنا وبناتنا شمائل الحبيب عليه الصلاة والسلام، نحاول قدر الإمكان أن نكوِّن تلك البيئة التي يحبها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، البيئةَ المليئة بتعلّم الأخلاق والقيم والآداب الإسلامية.. تلك البيئة التي يحرص عليها مركز الدعوة الإسلامية بتوجيهات وأنظار مولانا فضيلة العارف بالله الشيخ محمد إلياس العطار القادري على إيجادها في كل بلد من بلاد المسلمين.

نُعَلِّمُهُم أنهُ صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ وأنهُ النَّبِيُّ الَّذِي أخذَ اللَّهُ لَهُ العهدَ علَى أنبيائِهِ أجمعينَ.

نُعَلِّمُهُم أنهُ صلى الله عليه وسلم كان يوحَى إليه وأنَّه الأسوةُ الحسنةُ لمن كان يرجو اللَّهَ واليومَ الآخر.

نُعَلِّمُهُم أن اللَّهَ أقسم بحياتِهِ صلى الله عليه وسلم دونَ أحدٍ منَ الأنبياءِ وأنَّ الله فضَّله علَى سائرِ الأنبياءِ والرُّسلِ عليهم الصلاةُ والسلامُ.

نغرِسُ في قلوبهم محبتَّه صلى الله عليه وسلم ومحبة آلِ بيتِه الطيّبين الطاهرين ومحبة سائر أصحابه رضي الله عنهم أجمعين ونُذكّرُهم بقوله صلى الله عليه وسلم:

(لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (أخرجه البخاري: ١٥)

نَقُول لَهم: إنَّ المؤمنَ لا يصدقُ ولا يذوقُ حلاوةَ الإيمان حتى يكونَ اللَّهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ مما سواهُمَا..

لذلك أحبتي! دراسةُ السيرةِ النبويةِ تُعدُّ غذاء للقلوبِ، وبهجةً للنفوسِ، وسعادةً ولذةً وقرةَ عينٍ، بل إنَّها جزء من دينِ اللَّهِ سبحانَهُ وتَعالى وعبادة نتقربُ بِها إلى اللهِ تعالى؛ لأن حياةَ نبيّنا الكريم صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عليهِ كانت حياةَ بذْلٍ وعطاءٍ وصبرٍ ومُصابرة وجِدّ واجتهاد ودأب في تحقيقِ العبوديةِ للَّهِ سبحانه وتعالى والدعوةِ إلى دينِه عزّ وجلّ.

إذا أردنَا أن نربّي أبنائَنا التربيةَ الإسلاميةَ الصحيحةَ وفقَ المنهج الصحيح، علينا أن نعرّفَهم بهذه السيرةِ العطرة، لأن تربيةَ الطفلِ على الاستقامةِ، وتعليمَه طرق الفلاحِ والصلاحِ، وفتحَ بابِ الخيرِ لَه، والاكتشافِ والـمعرفةِ مَهَمَّةٌ أوكَلَها اللَّهُ تعالى إلى الآباءِ فقال تعالى:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ [التحريم:٦]

رسالتي إلى كل أب حنون! نحاول من اليوم أن نجعلَ درسَ السننِ ودراسةَ السيرةِ النبوية في البيتِ وبين الأهل من عاداتنا، ونحاول أن نستعرضَ حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهلنا في البيت، لنوضّح لهم كيفَ كانَ صلى الله عليه وسلم يتعاملُ مع الأطفالِ سواء أَكَانُوا من البناتِ أم الأحفادِ أو ربائبَ أو غيرهِم، وهكذا لنرتشفَ من عبيق سيرته ما يُضفي على العملية التربوية الفعالية والنجاح، فنرتّب معهم جدولاً يومياً، ونجلس معهم كل يوم ولو دقائق معدودة يومياً، نأتي لهم بدرس من دروس الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، نحاول أن نقدّم لهم حديثاً، مثلاً: في تعامله مع الأطفال، حتى نبيّن لهم كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع الأطفال ويحبّهم ويلاعبهم ويداعبهم، وبعد أن نذكر لهم قصة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، نُعلِمُهم ما الذي تعلمناه من هذه القصة المباركة أو من السنة الشريفة الطيبة..

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين رضي الله ورسوله عنهم، ويحشرنا مع الذين يُسقَونَ من يد الحبيب شربة هنيئة مريئة لايظمؤون بعدها أبداً..

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ولمزيد من المقالات المفيدة والجميلة اضغط على الرابط التالي.

غزوة أحد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أما بعد:

فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

سبب المعركة: كانت غزوة أحد يوم السبت لخمس عشرة خلت من شوال في العام الثالث للهجرة، وسببها أن قريشاً أرادت أن تثأر للقتلى والخسائر التي أصابتها يوم بدر ، فتجهزت لغزو الرسول صلى الله تعالي عليه وآله وسلم في المدينة، وخرجت في ثلاثة آلاف مقاتل.

تجهيزات وأحداث المعركة: سار جيش قريش حتى وصلوا بطن الوادي من قبل جبل أحد، وخرج الحبيب صلى الله تعالي عليه وآله وسلم والمسلمون معه في نحو ألف بينهم مائة دارع وفرسان. ثم مضى الرسول صلى الله تعالي عليه وآله وسلم حتى وصل إلى ساحة أحد، فجعل ظهره للجبل ووجهه للمشركين، وصف الجيش، وجعل على كل فرقة منه قائداً، واختار خمسين من الرماة، على رأسهم عبد الله بن جبير الأنصاري ليحموا ظهر المسلمين من التفاف المشركين وراءهم، وقال لهم:

«احموا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، وارشقوهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقوم على النبل، إنا لا نزال غالبين ماثبتم مكانكم، اللهم إني أشهدك عليهم»

وقال لهم في رواية أخرى:

«إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم أو ظاهرناهم وهم قتلى، فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم».

ثم ابتدأ القتال، ونصر الله المؤمنين على أعدائهم، فقتلوا منهم عدداً، ثم ولوا الأدبار، فانغمس المسلمون في أخذ الغنائم التي وجدوها في معسكر المشركين، ورأى ذلك من وراءهم من الرماة فقالوا: ماذا نفعل وقد نصر الله رسوله؟ ثم فكروا في ترك أمكنتهم لينالهم نصيب من الغنائم، فذكرهم رئيسهم عبد الله بن جبير بوصية رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم، فأجابوا بأن الحرب قد انتهت، ولا حاجة للبقاء حيث هم، فأبى عبد الله ومعه عشرة آخرون أن يغادروا أمكنتهم.

عاقبة التسرع: رأى خالد بن الوليد وكان قائد ميمنة المشركين خلو ظهر المسلمين من الرماة، فكرَّ عليهم من خلفهم، فما شعر المسلمون إلا والسيوف تناوشهم من هنا وهناك، فاضطرب حبلهم، وأشيع أن الرسول قد قتل، ففر بعضهم عائداً إلى المدينة، واستطاع المشركون أن يصلوا إلى الرسول، فأصابته حجارتهم حتى وقع وأغمي عليه، فشج وجهه، وخدشت ركبتاه، وجرحت شفته السفلى، وكسرت الخوذة على رأسه، ودخلت حلقتان من حلقات المِغفر في وجنته، وتكاثر المشركون على الرسول يريدون قتله، فثبت صلى الله تعالي عليه وآله وسلم وثبت معه نفر من المؤمنين، منهم: أبو دجانة، تترس على الرسول ليحميه من نبال المشركين، فكان النبل يقع على ظهره، ومنهم سعد بن أبي وقاص رمى يومئذ نحو ألف سهم، ومنهم: نسيبة أم عمارة الأنصارية، تركت سقاء الجرحى، وأخذت تقاتل بالسيف، وترمي بالنبل، دفاعا عن رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم حتى أصيبت في عنقها، فجرحت جرحا عميقاً..

ثم استطاع الحبيب صلى الله تعالي عليه وآله وسلم الوقوف والنهوض على أكتاف طلحة بن عبيد الله، فنظر إلى المشركين، فرأى جماعة منهم على ظهر الجبل، فأرسل من ينزلهم قائلا:

«لا ينبغي لهم أن يعلونا، اللهم لا قوة لنا إلا بك»

فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم، وانتهت المعركة.

نتائج المعركة: استشهد من المسلمين نحو سبعين وكان ممن استشهد في هذه المعركة سيدنا حمزة رضي الله عنه عم رسول الله صلى الله تعالي عليه وآله وسلم، وبلغ عدد قتلى المشركين ثلاثة وعشرين. وقد أنزل الله تعالى في هذه المعركة عدة آيات في سورة آل عمران:

{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، إ ِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 139 - 142]

الدروس المستفادة: أن المحن والشدائد تميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب. أنه سبحانه وتعالى هيَّأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته، لم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلائه وامتحانه. تجلي مظهر صبر الحبيب صلى الله تعالي عليه وآله وسلم في عدم جزعه لما أصابه وأصاب أصحابه من آلام وأحزان. بيان عقوبة الله تعالى للمؤمنين لما خالف الرماة أمر الحبيب صلى الله تعالي عليه وآله وسلم بالتسرع في ترك مراكزهم الدفاعية، وطلبهم للغنيمة. نسأل الله تعالى العفو العافية، وأن يحفظنا من الفتن والمحن والشدائد، إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين...