نقاش:علقمة الفحل

                      بسم الله الرحمن الرحيم 
                     هذه رسالة ماجستير 
                        من اعداد
                   ايهاب مجيد محمود جراد
                        واشراف 
               الاستاذ عبد السلام محمد رشيد


                           المقدمـة
        الحمـد لله رب العالميـن ، والصلاة والسـلام على سـيدنا ونبينـا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سـيد الأولين والآخرين وعلى اله وصحبه الطيبين الطاهرين ، ومن اهتدى بهداه وسار على نهجه الى يوم الدين .
      أما بعد : لا بد لي أن أقول إن الكتابة في موضوع نقدي أمر محبب إلى نفسي ، ألا أن الشروع بالكتابة عن شاعر لم يتناوله الباحثون بالدراسة والتمحيص ليس بالأمر الهين ، فقد كنت أظنه قد لا يفضي إلا عن تقرير بسيط كون هذا الشاعر لم يكن مشهوراً بما فيه الكفاية بل كان مقلاً ، إذ لا يتجاوز مجموع شعره عن ( 216 بيتاً ) . إلا إن تشجيع أستاذي المشرف وبعض من أساتذة القسم ( جزاهم الله خيرا ) ، دفعني للخوض بهذه الرسالة قابلا التحدي ، فرحت أقلب الكتب والمراجع والدراسات المختلفة أعب منها كل ما كان له علاقة بشاعرنا قيد الدرس  ،  فاستطعت بتوفيق من الله أن انفض بعض غبار الإهمال  عن شعره لأسلط بعضا" من الضوء على شخصيته ومنزلته بين الشعراء ومكانة شعره لدى دارسيه .
	يفصح عنوان الرسالة عن بعض محتوياتها إذ هي بلا شك تستهدف بيان الدراسات النقدية التي دارت حول الشاعر علقمة بن عبدة قديماً وحديثاً ، إذ أظهرت لنا هذه الدراسات النقدية أجمل أشعاره وأروعها وأشدها إثارة" ، فكان لهؤلاء النقاد القدماء والدارسين المحدثين معايير ومناهج خاصة في  نقدهم تختلف باختلاف الزمن والدافع ، وكان تتبع هؤلاء النقاد أمرا ضروريا لنا ، إذ يوضح ذلك في حقيقته كل منهج على حده ،  ويكشف لنا اختلاف أذواقهم وقدراتهم في النقد .
        إن أراء النقـاد القدماء والمحدثين هي إحدى الموضوعات الأساسية التي بحثتها في هـذه الرسالة إذ كان هـدفي متابعة جهودهم للوصول الى منافـذ جديـدة على مسـتوى المنهج ، وعرض الآراء النقديـة المختلفـة للحصول على النتائـج التي تبين لنا مدى أهمية هذا الشاعر بين الشعراء الجاهليين . 
        يعـد علقمة بن عبدة من فحـول الشـعراء الجاهلييـن إذ وضعه ابن سلام فـي الطبقـة الرابعـة من الشـعراء الجاهليين وقـال عنـه أن لابن عبـدة ثلاث روائع جيـاد لا يفوقهن شـعر ، وهـذه هي الروائع التي سـمتها قريش سمطا الدهر ، والسمط كمـا هو معروف ، الشيء الثمين الذي يعلق أو يعلق فـي النـفس .

أن الدافع لدراسة علقمة ، يعود إلى سببين رئيسين : أولهما : إهمال الباحثين لهذه الشخصية الأدبية ، لذلك عمدت إلى دراسة علقمة بين دارسيه ، أملا أن يتصدى أحد الباحثين لشعره .

	ثانيهما : القيمة النقدية التي انطوت عليها المصادر والمراجع التي شكلت مادة نقدية تضاف إلى الجهود السابقة .

اعتمدنا في دراستنا هذه على كتب النقد الخاصة والعامة التي لم تخل‘ من الإشارة الى علقمة أو الوقوف على جانب من جوانب شعره فضلا عن كتب الأدب والتاريخ والتراجم والمعجمات وغيرها من الكتب التي وردت فيها إشارة عن هذا الشاعر فضلا عن كتب الأدب والنقـد الحديثة وديوان الشاعر . إن غزارة المادة وتشعبها وتداخلها وكيفية ترتيبها شكلت صعوبة ، بل صعوبات أحسست بها منذ المرحلة الأولى لجمع المادة ، ولهذا حاولت توحيد مفرداتها وتركيز أسلوب كتابتها والعناية بالجوانب الأساسية فيها مع الإشارة إلى الجوانب الأخرى التي لم تكن ذات مساس مباشر بشاعرنا موضوع الدراسة .


لقد توزعت هذه الرسالة على مقدمة وتمهيد وثلاثة فصول وخاتمة . ففي التمهيـد تطرقنا إلى اسمه ونسـبه وتسميته ومعنى الفحل ، أما الفصل الأول فقـد كان في ثلاثة مباحـث هي منزلـة علقمة بيـن شعراء عصره ، وشعره والأغراض الشـعرية التي اشـتهر بها ، والظواهر اللغوية والعروضية التي وردت في شـعره ، أما الفصل الثاني فقد تمثل بموقف النقاد القدماء من شعره ، وتم تقسـيمه على ثـلاثة مباحـث وهي الطبـع والتكلف ، والسرقات الشعرية ، والظواهر البلاغية . في حين تناولت في الفصل الثالث موقف النقاد المحدثين في شعر علقمة ، وقد توزع على مبحثين تناولت في المبحث الأول المنهج التقليدي ، أما في المبحث الثاني فقد تناولت المنهج التحليلي . أما الخاتمة فتضمنت الحديث عن ابرز النتائج التي توصلت إليها .

      إن هذه الرسالة بفصولها الثلاثة تشكل وجهات نظر تسعى للوصول إلى درجة القبول لا الكمال ، فالكمال لذي الكمال ، لذا فهي لا تخلو من هفوات ، وكفى أن غايتي هي خدمة الحقيقة والإسهام في رفد مكتبتنا الأدبية .

هذا وأقول أنني أن أصبت فمن الله وأن أخطأت فمن نفسي

              وأسـتغفر الله لي ولكم .
              


                                     الباحـث



                           التمهيد

اسمه ونسبه : هنالك عـدة روايات في نسب علقمة أشهرها : انه علقمة بن عبدة بن النعمان (1) ، بن ناشرة (2) ، بن قيس أحد بني عبيد بن ربيعة (3) ، بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرة بن أد بن طابخة بن اليأس بن مضر بن نزار (4) بن معد بن عدنان . في حين ذكره عبد الرحيم العباسي صاحب كتاب معاهد التنصيص على شواهد التلخيص (5) ، بأنه : علقمة بن عبدة بن عبد المنعم النعمان ينتهي نسبه الى نزار .


(1) ينظر أشعار الشـعراء السـتة الجاهلييـن : للأعلم الشـنتمري / بيروت :ج1 /139 . (2) ينظر طبقات فحول الشعراء :لابن سلام الجمحي :30 . (3) الربائع من بني تميم أربعة : ربيعه الكبرى ، وهو ربيعه بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهو ربيعه الجوع ،وربيعه الوسطى وهو ربيعه بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ،وربيعة الصغرى وهو ربيعه بن مالك بن حنظله بن مالك ،والرابع بن كعب بن سعد بن زيد مناة ، وقد يخطئ النسابون في النسب إليهم ، كما أخطأ أبن دريد في الاشتقاق :133 فجعل علقمة من ربيعه الصغرى بني مالك بن حنظله ، وهو من ربيعه الكبرى . ينظر مفضليات بشرح الأنباري :762، وانظر النقائض :186 ، 699 . (4) ينظر الأغاني  : لأبي الفرج الاصفهاني : ج 21 : 356 . (5) ينظر معاهد التنصيص على شواهد التخليص : 33 .

_______________________________________________________________

أما ما يخص أسمه ، فقد ورد ما يأتي : علقمة من علقم : والعلقم : شجر الحنظل ، والقطعة منه علقمة ، وكل مر علقم ، هو الحنظل بعينة ( ثمرته ) ، الواحدة منها علقمة . وفي مقام أخر ذكر الأزهري أن العلقم : هو شحم الحنظل ، ولذلك يقال لكل شيء فيه مرارة شديدة : كأنه العلقم ، في حين نجد أن : ابن الأعرابي ذكر أن العلقمة هي النبقة المرة ، وهي الحزره . والعلقمة : المرارة ، وعلقم طعامه ، أمره كأنه جعل فيه العلقم وطعام فيه علقمة أي مرارة ، والعلقم : اشد الماء مرارة . وقال ابن دريد العلقمة اختلاط الماء وخثورته . بينما قال الجوهري : أن العلقم شجر مر . وذكر ابن منظور أن علقمة بن عبدة الشاعر ، هو علقمة الفحل ، وهو من ربيعه الجوع ( 1 ) . وذكر عبد القادر البغدادي (ت 1093 هـ) : ( أن علقمة شاعر جاهلي ونسبته ، حسب مـا ورد في الجمهرة لابن الكلبي ، والمؤتلف والمختلف للآمدي : علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم )(2) . وقال الآمدي ( علقمة في الشعراء جماعة ليسوا ممن أعتمد ذكره ، ولكن أذكر علقمة الفحل ، وعلقمة الخصي ، وهما من ربيعه الجوع) (3) .


(1) لسان العرب : (علقم) . (2) خزانه الأدب ولب لباب لسان العرب  : 2268. (3) المؤتلف والمختلف : الآمدي / تح / عبد الستار فراج : 227 .

_______________________________________________________________

هذا وقد وجد أن هناك بعض الشعراء أطلق عليهم أسم علقمة منهم من تميم ، ومنهم من غير تميم ، ومنهم من واكب علقمة بن عبدة ، ومنهم من لم يواكبه ، وأشهرهم علقمة الخصي ، وهو علقمة بن سهل ، وهو من تميم ، وعلقمة بن علاثة ، وهو من بني جعفر . وقد ميز الشاعر مدار البحث عنهم بالفحل . تسميته بالفحل : هناك عدة روايات في سبب تسميته بالفحل ،أهمها قصة التحكيم المشهورة بينه وبين أمرىء القيس إذ خرج علقمة من هذه الحادثة بلقب الفحل . وملخص هذه الحادثة (1) : أن علقمة بن عبدة أحتكم مع أمرىء القيس الى أمراته أم جندب فقالت لهما : قولا شعرا تصفان فيه الخيل على روي واحد وقافية واحدة فقال امرؤ القيس  : خليلي مرا بي على أم جندب لنقضي حاجات الفؤاد المعذب (2) وقال علقمة : ذهبت من الهجران في كل مذهب ولم يك حقا كل هذا التجنب (3) ثم أنشداها جميعا ، فقالت لأمرىء القيس : علقمة أشعر منك فقال وكيف ذاك ؟. قالت لأنك قلت : فللسوط ألهوب وللساق درة وللزجر منه وقع أهوج متعب (4)


(1) ينظر طبقات فحول الشعراء : 115 . (2) ينظر ديوان أمرىء القيس:/ تح / محمد ابو الفضل ط 4 :41 وفيها خلاف (نقض لبانات الفؤاد ). (3)الديوان : 79 . وفيه ( ذهبت من الهجران في غير مذهب ) . (4) ينظر نضرة الأغريض في نصرة القريض : 217 .وينظر ديوان امريء القيس : 51 . وفيه ( فللساق الهوب وللسوط درة ) .

________________________________________________________________

فجهدت فرسك بسوطك ، ومريته بساقك .في حين قال علقمة : فأدركهن ثانيا من عنانه يمر كمر الرائح المتحلب(1) فأدرك طريدته ، وهو ثان من عنان فرسه ، ولم يضربه بسوط ، ولا مراه بساق ولا زجره . فقال امرؤ القيس : ما هو بأشعر مني ولكنك له وامق ، فطلقها ، فخلف عليها علقمة ، فسمي بذلك (الفحل) ( 2 ) . وهناك روايات أخرى في تسميته بالفحل منها : قول الأصمعي (ت 216هـ)(3) : لقب بالفحل ، لان كل من عارض شاعرا فغلبه يسمى (فحلا) كذلك فأن الشعراء الذين غلبوا من هاجاهم يلقبون أيضا بالفحول . وقال الجاحظ (ت 255 هـ) في الحيوان (4) :إنما قيل لعلقمة بن عبدة الفحل ، حين وقع على أحد من بني قومه اسم الخصي وهو(علقمة بن سهل) ، وكان عبدا صالحا إذ كان أحد الشهود على قدامه بن مظعون في شرب الخمر، لدى الخليفة الراشـد عمر بن الخطاب ( رض الله عنه ) ، وهو الذي قال لعمر أتقبل شهادة الخصي ، قال أما شهادتك فأقبل ، فلما سموه بالخصي قالوا لعلقمة الفحل .


(1) ينظر الديوان : وفيه يروى ( فأقبل يهوي ثانيا" من عنانه . ):95 . (2) ينظر الشعر والشعراء : 218 . (3) ينظر فحولة الشعراء : 7 . (4) الحيوان ج1 / 178 .

________________________________________________________________

أما صاحب الأغاني(ت 356 هـ) قال : أن علقمة بن عبدة لقب بالفحل ، لأنه خلف على امرأة امرئ القيس لما حكمت له على امرئ القيس بأنه اشعر منه في صفة فرسه فطلقها فخلفه عليها(1) ، وما زالت العرب تسميه بذاك إذ قال الفرزدق بحقه :

      والفحل علقمة الذي كانت له          حلل الملوك كلامه لا ينحل(2)

أما الآمدي (ت 370هـ) فقال : ( علقمة في الشعراء جماعة ليسوا ممن أعتمد ذكره ولكن أذكر علقمة الفحل ، وعلقمة الخصي ، وهما من ربيعه الجوع فأما علقمة الفحل فهو علقمة بن عبدة الشاعر المشهور أحد شعراء الجاهلية وقيل له الفحل من اجل رجل آخر يقال له علقمة الخصي )(3) . أما قصة التحكيم بين امرىء القيس وعلقمة بن عبدة فهي بحاجة الى تمحيص وذلك أن حكم أم جندب ضالع لأنها كانت تفرك إمرأ القيس ، فلما سمع حكمها قال ليس كما قلت ولكنك هويته ، ولا يعقل أن تجرؤ امرأة عربيه على أن تؤثر رجلا على زوجها وهي لا تدري ماذا يجره حكمها ، فقد يجر إلى الطلاق كما حدث ، وقد يجر عضلا وتعليقا وقتلا . ثم كيف يجري على لسان أم جندب مصطلحا الروي والقافية ، وهما من المصطلحات العروضية التي عرفت فيما بعد . ثم أن القصيدتين المذكورتين في التحكيم طويلتان وبارعتان ومن المستبعد أن يقولهما الشاعران على البديهة .


( 1 ) الأغاني : ج21 / 354 . ( 2 ) ديوان الفرزدق ج2 /720 . ( 3 ) المؤتلف والمختلف : 381 . _________________________________________________________________

ولقد شك الأستاذ طه احمد إبراهيم (ت 1938هـ) في كتابه ( تاريخ النقد الأدبي عند العرب ) بصحة هذه الحادثة وفي نظره أن القصيدتين فيهما مشاركة في كثير من الألفاظ والعبارات والمعاني ولو جعلنا قصيدة امرىء القيس هي الأصل لأنه هو الذي انشد في البدء لرأينا أن قصيدة علقمة كانت تكرارا لها في أبيات بتمامها ، والحكم بأفضلية علقمة غير معقول لأن علقمة كرر ما قاله امرؤ القيس ومع أن امرأ القيس قد اجهد فرسه في البيت الأول فقد تدارك ذلك في البيت الآخر إذ قال : فأدرك لم يجهد ولم يثن شأوه يمر كخذروف الوليد المثقب(1) وهناك أمور أخرى فيها ريبة مما يحمل عليها التوافق في النص والتي يحمل عليها الانحراف في الحكم ، أن امرأ القيس عرف بوصف الخيل والصيد ، واشتهر بذلك دون الجاهليين ، فهو لا يجارى في هذا الصدد ، ولعل ذلك ما حمل عبدالله بن المعتز على انكار هذه القصيدة فيما انكره من شعر امرىء القيس ، وذلك محتمل جدا , فهي وأن جرت على مذهبه الشعري فأنها خالية من طابعه الذي نحسه في شعره الصحيح . ثم أن الموازنة على شريطة الجمع بين ثلاثة أشياء لا تتلاءم مع الروح الجاهلي في النقد الأدبي . لهذا فأننا نرتاب في أن جاهليا يدرك الفرق بين الروي والقافية ، ونرتاب أيضا" في أن هذه الألفاظ تستعمل في العصر الجاهلي بمعناها الاصطلاحي . وان كان لا بد من الاطمئنان الى شيء من هذه القصة فأننا نأخذها حسب ما رواها أبو عبيده من أن شاعرين تحاكما الى زوج امرىء القيس دون أن يذكر للحكم أساسا فلا روي ، ولا قافية ، ولا وحدة غرض . وهي بهذا تلائم العصر الجاهلي ، وترينا أن النقد لا يزال فطريا ، لان معنى علقمة أجود من غير شك من معنى امرىء القيس على نحو ما فهمته الطائية ( ام جندب ) .


(1) ينظر تاريخ النقد العربي عند العرب : 26 . وينظر ديوان امرىء القيس :51 . ________________________________________________________________

كذلك نأخذ منها أن النقد لا شمول فيه لكل المعاني التي يوردها الشاعر ، ولا استقراء لشعره كله . فقد قضت الطائية على امرىء القيس ببيت واحد دون أن تذكر بقية أبيات القصيدة ، ودون أن تذكر قصائد امرىء القيس الأخرى في الصيـد والطرديات (1). ومن هذه الحادثة وغيرها نعلم ان النقد كان موجودا في العصر الجاهلي ، ولكنه نقد فطري تأثري مقتضب يفكر صاحبه في اللحظة التي يعيشها ويتحدث باحساسه الوقتي دون عقله المستقرىء الذي يحلل ويجرد ، كما كان يطلق الناقد احكاما عامه . فالناقد يحكم على ما سمعه آنفا لا بما يعلمه من الشعر ويفكر فيه ويتكلف استعراضه وجمعه ، كما نلاحظ أن النقد ايضا كان بدون تعليل .اما انواع النقد الذي كانوا ينقدونه فهي : نقد المعاني الجزئية :مثل ذلك ما قالته زوجة امرىء القيس في التحكيم بينه وبين علقمة الفحل ، والمفاضلة العامة بين الشعراء : وهذه الناحية كانت تتأثر بالموقف الذي يوجد فيه الناقد والظروف التي كانت تحيط بقول الشعر ، والعناية بالقافية . وسواء كانت هذه القصة صحيحه أم غير صحيحه فان هذا لا يخالف الرأي الذي ذكرناه عن أحكام النقاد الجاهليين وهو يبين أن نقدهم كان يتركز على جزء من المعاني ويتجاهل بقية ما في الشعر ( 2 ) .

معنى الفحل :       فحل : الفحل معروف بأنـه الذكر من كل حيوان وجمعه أفحل ، وفحول ، وفحولة ، وفحال ، وفحالة ، مثل الجمالة ، قال الشاعر :          فحالة تطرد عن أشوالها  . . . . . . 

(1) ينظر تاريخ النقد العربي عند العرب : 27 . (2) ينظر طبقات الشعراء : ظ – ع. ________________________________________________________________

قال سيبويه : ألحقوا الهاء فيها لتأنيث الجمع . ورجل فحيل : فحل وأنه لبين الفحولة والفحالة والفحلة ، وفحل إبله فحلا كريما ، وافتحل لدوابه فحلا . والاستفحال : شئ يفعله أعلاج أهل كابل ، إذا رأوا رجلا جسيما من العرب خلو بينه وبين نسائهم ، رجاء أن يولد فيهم مثله ، وهو من ذلك . فالفحل غير الخصي ، وروي عن الأصمعي في قوله ، فحيلا : هو الذي يشبه الفحولة في عظم خلقه ونبله ، وقيل هو المنجب في ضرابه ، قال الراعي :

         كانت نجائب منذر ومحرق          أماتهن وطرقهن فحيل

ولمفردة الفحل عند الأزهري (ت 370هـ ) بعد اصطلاحي في نقد الشعراء بما لم نجده عند سابقيه من أصحاب المعجمات إذ نجده ، يقول : وفحول الشعراء هم الذين غلبوا بالهجاء من هاجاهم مثل جرير والفرزدق وأشباههم ، وكذلك كل من عارض شاعرا فغلب عليه يسمى فحل مثل علقمة بن عبدة وكان يسمى فحلا لأنه عارض امرأ القيس في القصيدة التي يقول في أولها: خليلي مرا بي على أم جندب 0000000000 أما علقمة فيقول في قصيدته : ذهبت من الهجران في كل مذهب 000000000 وكل واحد منهما يعارض صاحبه في نعت فرسه ففضل علقمة عليه ولقب بالفحل(1) . وعندما سئل رؤبة عن الفحل من الشعراء قال : (هو الراوية ، يريد أنه إذا روى أستفحل )(2) .


(1) ينظر تهذيب اللغة : مادة (فحل ) . (2) كفاية الطلب في نقد كلام الشاعر : لابن الأثير : تحقيق نوري القيسي واخرين : 44 . ____________________________________________________________

أما ابن حبيب فقد قال : ( لأنه يجمع الى جيد شعره معرفة بجيد شعر غيره ، فلا يحمل نفسه ألا على بصيرة )(1) . أما الأصمعي يريد بالفحل ( ما كان له ميـزه على غيره من الشـعراء كميزة الفحل على سواه )(2) ، وهذا ما يدل على مكانه شعره ، وحسن اقتداره وتمكنه من صنعته ، فشعره على درجه عالية من الجودة . كما نرى أن لفظة (الفحل ) ترقى للدلالة على معنى أخر جديد من خلال الأسلوب المجازي ، حين تطلق على الشاعر الذي تكون له الغلبة على غيره من الشعراء في حالة الهجاء كجريـر والفرزدق ، أو في حاله المعارضة الشعرية في غرض موحـد كمـا في معارضة علقمة بن عبدة لأمرىء القيس في وصف الفرس . وفي كلتا الحالتين تجعل الشاعر مستنفرا أقصى طاقات ملكته الشعرية من أجل تحقيق الغلبة على الآخرين من الشعراء ، وإثباته بذلك الانتصار قوة شاعريته وعلو شـأنه في الشـعر . فيسـتحق لفظة ( الفحل ) لتلك الغلبـة ولهذا أسـموا علقمة الفحل وجرير والفرزدق فحول ، للدلالة على قوة الشاعرية فيهم جميعـا (3) . أن المتأمل في التسميات والألقاب يجد أن بعضا منها قد أصبح له امتداد زمني خرج به عن حقيقته وكثرة تداوله وربما تنوعت دلالته ليستقر في النهاية مصطلحـا" نقديـا" يدور في أحاديث أهل النقـد وفي أماليهم وكتبهم ولعل لقب (الفحل ) الذي أطلق على الشاعر الجاهلي علقمة بن عبدة لجودة أشعاره (4) خير دليل على ذلك . (1) كفاية الطالب في نقد كلام الشاعر :44 . (2) ينظر فحولة الشعراء:الأصمعي تح/محمد عبد المنعم وطه محمد ط1 :8 . (3) ينظر الفحولة: 15. (4) ينظر الفن ومذاهبه : 23 _________________________________________________________________

عندما نتناول النص النثري الذي حمل مصطلح الفحولة النقدي في حكاية المعارضة الشعرية -أن صحت - التي جرت بين أمريء القيس وعلقمة بن عبدة في وصف فرسيهما وانتهت لصالح علقمة ، وفوزه بلقب ( الفحل ) لتغلبه(1) ، في تلك المعارضة وليس الدال على تميزه الشخصي من علقمة الخصي(2) ، أو لخلفه على امرأة امرىء القيس (3) ، نجد أن لفظة الفحل التي منحها الذوق العام لعلقمة في معارضته تلك تعني في دلالتها قوة الشاعريه وغلبتها عند الشاعر .

أورد صاحب الموشح انه ( تنازع امرؤ القيس بن حجر وعلقمة بن عبدة وهوعلقمة الفحل في الشعر أيهما أشعر ) كدليل على قوة الشاعرية وتفوقها لدى علقمة الفحل ، وتفوقها على شاعرية الشعراء الآخرين ، سواء كان في معارضة كهذه أم في ساحات الهجاء (4) . فالغلبة للشاعريه التي يكون عمادها التجويد وهو ما عرف به علقمة بأسلوبه الذي لا يمكن أن ينحل وهو ما عناه الفرزدق حين ذكر النوابغ من الشعراء قائلا : والفحل علقمة الذي كانت له حلل الملوك كلامه لا ينحل (5)


(1) ينظر تهذيب اللغة ج5 : 75 . (2) ينظر المؤتلف والمختلف : 227 . (3) ينظر خزانه الأدب : ج3 :257. (4) الموشح في مأخذ العلماء على الشعراء : تأليف عبد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني : تحقيق / محمد حسين شمس الدين : ط1 دار الكتب العلمية _ بيروت : 273 . (5) ينظر ديوان الفرزدق ج2 /720 .

______________________________________________________________

حياتـه :

في كتـب الأدب لمحات قليلة عن حياة علقمة ، إذ وجد أنه نشأ في بادية نجد ، بين بني قومه من تميم ، وكان لنشأته في البادية أثرها في صقل مواهبه وإرهاف حسه ودقة ملاحظته (1) . وتذهب بعض الروايات الى أنه عمر طويلا إذ أدرك الإسلام ، وعاصر امرأ القيس ، علما بان امرأ القيس قد مات قبل الإسلام بمدة طويلة ، وكانا يتطارحان الشعر ويشربان ويلهوان معا(2) .

وقد أورد ابن حجر في الإصابة ، فيمن أدرك النبي (( صلى الله عليه وسلم )) ولم يره ، أن علي بن علقمة بن عبدة التميمي ، هو الذي أدرك النبي ((صلى الله عليه وسلم )) وليس علقمة حسب ما ذكر سابقا (3) .

فأما علقمة الفحل فهو علقمة بن عبدة . . . . . . إلى أخر نسبه المذكور سلفا ، أما علقمة الخصي ، فأنه حسـب ما ذكر أبو اليقظان كان يكنى أبا الوضاح ، وكان له إسلام وقدر ، وله شـعر (4) .

وقد قال أبو هلال العسكري (ت 395هـ) :أن علقمة الفحل شاعر جاهلي كان معاصرا لأمريء القيس (5) ، وكان له أخ يقال له شأس وقد كان أسيرا عند الحارث مع رجال من بني تميم فطلب علقمة إطلاق سراحهم فأطلقهم . وكان سبب أسرهم على ما يروى أن الحارث الغساني خطب إبنة المنذر( هند) فوعـده بها وكانت هند لا تريد الرجال فصنعت بجلدها شبه البرص فندم المنذر


(1) ينظر طبقات فحول الشعراء : ابن سلام الجمحي تح /محمود محمد شاكر ط/ المدني /1974 :115. (2)ينظر مصادر الشعر الجاهلي : 265 ،266. (3)خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : 2265. (4)الديوان : المقدمة . (5)ديوان المعاني : ج1 :104. ______________________________________________________________

على تزويجها وأمسكها عن ملك غسان فنشبت الحرب بسبب ذلك وأسر خلقا كثيرا من أصحاب المنذر منهم شأس بن عبدة أخو علقمة فلما مدح علقمة الحارث بقصيدته التي مطلعها :

طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب(1)

وطلب فك أسر أخيه ، أطلق الملك أخاه وكل الأسرى من قبيلته . ويروى أن وفادته هذه كانت على عمر بن الحارث الأعرج الغساني . في حين يرى البعض أنها كانت على جبلة بن الأيهم الغساني ، وكانت بحضور كل من حسان بن ثابت والنابغة الذبياني .

وقد ذكر بلاشير : أن علقمة بن عبدة الملقب بالفحل ، لا يظهر إلا بكونه بطلا تميميا تلتقي أسطورته الخفية في القرن الثاني للهجرة الثامن للميلاد ، مع أسطورة عبيد بن الأبرص وأمرىء القيس ، ولعله كان في بداية أمـره ، شـخصا تاريخيـا أو شـاعر قبيلـة ذا علاقة بالحارث بن جبلة الغساني (2).

هـذه أهـم ما في حياة علقمة من أخبـار ، قدمها الرواة ، وكثر تناقلها في كتـب الأدب . وثمة نتـف أخرى نعلم منها انه كان يمـدح جبلـة بن الايهم وعمرو بن الحـارث ويفـد عليهما مع غيـره من الشعراء كالنابغة الذبياني ، والأعشى(3) .

---------------------------------------------

(1) الديوان : 33 . (2) تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي : بلاشير / تعريب د.ابراهيم كيلاني :82 . (3) الأغاني : ج15 : 122 . ___________________________________________________________

وفي ختام هذا التمهيد عن الشاعر الكبير علقمة الفحل اود ان اقول ان هناك فصول ومباحث قادمة سوف تنشر في القريب العاجل ان شاء الله . وللستفسار عن اي معلومة او اي شيء اخر الاتصال على البريد الاكتروني التالي ( aehab12@yahoo.con)

الفصـل الأول

موقف النقاد القدامى من الشاعر

1 . المبحث الأول:

       منزلـة الشاعر .

2 . المبحث الثاني :

      شعره والأغراض الشعرية.

3 . المبحث الثالث:

      الظواهر اللغوية والعروضية.	


( 18 ) منزلة الشاعر : إن الحديث عن شخصية الشاعر وشعره يفصح لنا عن حقيقة شاعريته ويساعدنا في كشف معالمها ، لنتلمس بعد ذلك المنزلة الشعرية التي أحتلها الشاعر بين شعراء عصره ، والحديث هنا يقترن بسابقيه ، فنكاد لا نجد ناقدا يعرض لشعر شاعر معين من دون أن يشير إلى بعض جوانب شخصيته أن لم يكن كلها ، ويتضح هذا عند مراجعة مصادرنا ألأدبيه القديمة والحديثة ، فقد كان نقادنا يتعرضون لشعر الشاعر وشخصيته معا مبرزين النواحي الإيجابية والنواحي السلبية فيها ويؤكد هذا القول الأصمعي في حسن ابتداء علقمة بن عبدة في قوله

   طحا بك قلب في الحسان طروب         بعيد الشباب عصر حين مشيب(1) 

فيقول هذا هو الابتداء البارع الذي يقدم صاحبه (2) . وهذه المواقف النقدية للشعر في العصر الجاهلي ، لا تخرج عن الاستحسان أو الاستهجان للشعر أو الشعراء بالفعل (3) ، فالشاعر الذي يمتلك كل مقومات الجودة بما فيها من مراعاة مقتضى الحال فانه يهيئ ما هو ملائم لجو القصيدة مبتعدا عما يسبب الاتهام بفساد الذوق وقلة المعرفة(4) . لذلك يقول دعبل الخزاعي :

     يموت ردي الشعر من قبل أهله          وجيده يبقى وان مات قائله (5)

(1) الديوان : 33 . (2) حليه المحاضرة ج1: 205 . (3) ينظر الشعر الجاهلي : محمد عبد المنعم خفاجي :381 . (4) ينظر المطلع التقليدي للقصيدة العربية :36 . (5) ديوان دعبل الخزاعي : 181 .

( 19 )

     ويؤثر أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم )جعل امرأ ألقيس اشعر الشعراء وقائدهم إلى النار (1) .

ونحن نعلم بان علقمة قد عارض هذا الشاعر القائد المشهور بجودة شعره وفحولته في الشعر وتغلب عليه ، وهذا يدل على أن علقمة ذو منزله عالية في الشعر حتى استطاع أن يعارض هذا الشاعر المعروف بين الشعراء قبل النقاد بشاعريه .

     ولقد ذكر محمد بن سلام الجمحي (ت 232هـ) : علقمة بن عبدة في الطبقة الرابعة من الشعراء مع طرفة بن العبد ، وعبيد بن الأبرص ، وعدي بن زيد وقد ذكر انه (2) ، علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس 0000000000 ، وذكر أن لعلقمة ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شعر : الأولى :
   ذهبت من الهجران في كل مذهب            ولم يك حقا كل هذا التجنب (3)

والثانية :

    طحا بك قلب في الحسان طروب         بعيد الشباب عصر حان مشيب 

والثالثة :

   هل ما علمت وما استودعت مكتوم       أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم 
      كما أورد صاحب العمدة في محاسن الشعر وآدابه ( ت 456 هـ) ، أن علقمة بن عبدة في باب المقلين من الشعراء والمغلبين (4) ، وذكره مع طرفه ابن العبد ، وعبيد بن الأبرص ، وعدي بن زيد .

(1) ينظر المزهر :ج2: 478 . (2) ينظر طبقات فحول الشعراء : 30 -31 . (3) الديوان : 79 . (4) العمدة : ج1 / 102 .

( 20 ) ومما يروى على لسان حسان بن ثابت(رضى الله عنه) بان علقمة بن عبدة له منزله عند الملوك إذ قال ( أتيت جبله بن الايهم الغساني وقد مدحته فأذن لي عليه ، فوجدت عن يمينه رجل ذو ضفيرتين وهو النابغة الذبياني ، وعن يساره أخر لا اعرفه فجلست بين يديه : فقال لي أتعرف هذين قلت : أما هذا فاعرفه النابغة وأما الأخر فلا اعرفه قال : علقمة بن عبدة ، فإذا شئت استنشدناهما فسمعت وان أحببت سكت قال :قلت فذاك قال فاستنشد النابغة فانشد :

     كليني لهم يا أميمه  ناصب          وليل اقاسيه بطيء الكواكب(1) 

قال فذهب نصفي ثم قال لعلقمة انشد فانشد :

    طحا بك قلب في الحسان طروب          بعيد الشباب عصر حان مشيب 

قال فذهب نصفي الأخر ،ثم قال لي أنت اعلم ألان أن أحببت أن تنشدنا بعد ما سمعت فانشد وان أحببت أن تمسك فامسك قال : فتشددت وقلت لا بل انشد قال هات فأنشدته القصيدة : أبناء جفنه عند قبر أبيهم قبر ابن مارية الكريم المفضل قال لي أدنه فلعمري ما أنت بدونهما )(2) . وكما يروي لنا حسان بن ثابت (3) (رضى الله عنه ) أيضا لقد قدمت على عمر ابن الحارث فاعتاص علي الوصل إليه ، فقلت للحاجب بعد مدة ، أن أذنت لي عليه وآلا هجوت اليمن كلها ثم انقلبت عنكم فأذن لي عليه فوجدت عنده النابغة وهو جالس عن يمينه وعلقمة بن عبدة جالس على يساره ، فقال لي يا ابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع فأنا باعث إليك بصلة سنيه


(1) ديوان النابغة : عباس عبد الساتر : بيروت ط2 : 29 . (2) ينظر الامالي الشجرية :1234 -1237 . (3) ينظر الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية :172 .

( 21 ) ولا احتاج إلى الشعر فأني أخاف عليك هذين السبعين ، النابغة وعلقمة أن يفضحاك وفضيحتك فضيحتي وأنت والله لا تحسن أن تقول :

   رقاق النعال طيب حجزاتهم             يحيون بالريحان يوم السباسب(1)    فأبيت وقلت لا بد منه فقال ذاك إلى عميك فقلت لهما بحق الملك ألا قدمتماني عليكما فقالا قد فعلنا فقال عمر بن الحارث هات يا ابن الفريعة فأنشدت (2) :
     أسالت رسم الدار  أم لم تسال          بين الجوابي فالبضيع فحومل

فقال فلم يزل عمر بن الحارث يزحف عن موضعه سرورا حتى شاطر البيت وهو يقول : هذا وأبيك الشعر لا ما يعللاني به منذ اليوم هذه والله البتّارة أحسنت يا ابن الفريعة هات له يا غلام ألف دينار مرجوحة . كما كانت لعلقمة أيضا منزلة عند الملك الغساني إذ كان لعلقمة أخ يقال له شاس فقد أسره الحارث بن أبي شمر الغساني مع سبعين رجلا من بني تميم فاتاه علقمة ومدحه بقصيدته التي أولها (3) :

    طحا بك قلب في الحسان طروب     بعيد الشباب عصر حان مشيب (4)

فسأله علقمة أن يطلق إساري بني تميم ففعل . ويروى أن العرب كانت تعرض أشعارها على قريش ، فما قبلوا منها كان مقبولا وما ردوه منها كان مردودا، فلما قدم عليهم علقمة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:

   هل ما علمت وما استودعت مكتوم       أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم (5)

(1) ينظر ديوان النابغة : 32 . (2) ينظر الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعة : 172 -174 . (3) ينظر الشعر والشعراء : 1213 . (4) ينظر الديوان :33 . (5) ينظر الديوان :50 . ( 22 ) قالوا هذه سمط الدهر ، ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم :

    طحا بك قلب في الحسان طروب           بعيد الشباب عصر حان مشيب 

فقالوا (هاتان سمطا الدهر )(1) . أما الجاحظ (ت 255هـ) : فقد استشهد في كثير من الأبواب بشعر علقمة إذ قال في ( تشبيه الشيء بأشياء منه ثم أطنب في التشبيه ) .

  تلاحظ السوط شزرا وهي ضامزة           كما توجس طاوي الكشح موشوم
  كأنها خاضب زعر قوائمه                  أجنى له باللوى شري وتنوم(2)

فيرى في قول علقمة ما يشبه شعر المحدثين :

   فان تسألوني بالنساء فأنني            بصير بأدواء النساء طبيب 

ولقد أستشهد ابن قتيبه ت (ت 276 هـ) بهذا القول في باب الشعر الجيد أيضا(3) . أما الامدي ت (370) قال :( احسن شعر الشعراء المتقدمين ما يشبه في السهولة والعذوبة شعر المحدثين )(4) .

     ويقول الحاتمي (ت 388 هـ) اخبرنا عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد قال اخبرنا أبو العالية عن الأصمعي عن أبي عمر بن يزيد قال ( الابتداءات البارعة التي تقدم أصحابها فيها خمسة )(5) منها قول علقمة بن عبدة :
    هل ما علمت وما استودعت مكتوم          أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم 

(1) ينظر الأغاني : ج21 : 225 ، 226 . الديوان 33 . (2) ينظر الحيوان : ج1 2024 . الديوان : 57 –58 .. (3) الشعر والشعراء : 210 . (4) ينظر خاص الخاص :210 . (5) ينظر حلية المحاضرة :ج1 / 205 : الديوان / 50 .

( 23 ) أما أبو هلال العسكري (ت 395هـ) (1) فقد ذكر في كتابه ديوان المعاني بان أجود بيت قالته العرب هو قول مسلم بن وليد :

  يجود بالنفس أن ضن الجواد بها          والجود بالنفس أقصى غاية الجود

ويذكر بان أول من جاء بهذا المعنى هو علقمة بن عبدة حيث قال :

   تجود بنفس لا يجاد بمثلها                   فأنت بها يوم اللقاء خصيب (2)
     كما ذكر أبو العلاء المعري (ت 449هـ) : في رسالة الغفران حين التقى علقمة فقال له ( لو شفعت لأحد أبيات صادقة ليس فيها ذكر الله سبحانه وتعالى ، لشفعت أبياتك في وصف النساء ، اعني قولك :
       فان تسألوني بالنساء فأنني               بصير بأدواء النساء طبيب 
       إذا شاب راس المرء أو قل ماله           فليس له في ودهن نصيب(3)

ولو صادف منك راحة لسألتك عن قولك :

       وفي كل حي قد خبطت بنعمة              فحق لشاس من نداك ذنوب 

أهكذا أنطقت بها مشددة أم قالها كذلك عربي سواك ،فقد يجوز أن يقول الشاعر كلمه فيغيرها عن تلك الحال الرواة )(4) . وقد حفلت كتب اللغة والمعاجم والتفاسير بشواهد من شعر علقمة: فاستشهد صاحب لسان العرب وحده بـ/92/ مرة بأبيات من شعره ، كما استشهد الطبري في تفسيره بـ/7/ أماكن بأبيات من شعره ، كما استشهد له اصاحب المعجمات العين ،و الصحاح , والمنجد ، والبلدان ، والشعراء وغيرهم . كما استشهد له سيبويه وغيره من النحويين وأصحاب الكتب المشهورة في النقد والبلاغة . (1) ينظر ديوان المعاني : 221 . (2) الديوان : 46 . (3) الديوان : 35 . (4) ينظر رسالة الغفران : 161 . الديوان : 48 . ( 24 ) ولشاعرنا علقمة الفحل ابتكارات رائعة ، ووصف دقيق أخاذ ، ولا سيما وصف النعام نحو قوله :

       صعل كأن جناحيه وجؤجؤه            بيت أطافت به خرقاء مهجوم 
        تحفه هقلة سطعاء خاضعة           تجيبه بزمار فيه ترنيم (1) .
  ويبدو أن الفرزدق يرى لشعر علقمة طابعا خاصا ، لا يستطيع أحد أن ينحله ، فإذا ما ادعاه غيره عرف الناس انه ليس له ، وانما هو لصاحبه علقمة وذلك في قوله :
والفحل علقمة الذي كانت له               حلل الملوك ، كلامه لا ينحل   (2)

والنقاد يعجبون بشعر علقمة إعجابا شديدا ، ففي إحدى الروايات يقال انه قد اجتمع الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الايهم ، والمخبل السعدي وعلقمة الفحل ، قبل أن يسلموا أو بعد مبعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنحروا جزورا واشتروا خمرا ببعير وجلسوا يشوون ويأكلون ، فقال أحدهم وقد لعبت برأسه الحميا لو أن قوما طاروا من جودة أشعارهم لطرنا ، وقال كل واحد منهم لصاحبة أنا اشعر منك ثم تحاكموا إلى أول من يطلع عليهم ، ومن غريب المصادفات أن يكون أول طـالع عليهم هو حاكم العرب وقاضيها الحصيف الرأي ( ربيعه بن حذار ألا سدي ) ، ولما طلع رحبوا به وقالوا له اخبرنا إينا اشعر ؟ قال أخاف أن تغضبوا، فأمنوه من ذلك فقال ، أما أنت يا زبرقان فان شعرك كلحم لا أنضج فيؤكل ، ولا ترك نيئا فينتفع به ، وأما أنت يا عمرو فان شعرك كبرد حبره يتلالا فيه البصر فكلما أعددته نقص .

---------------------------------------------(1)  الديوان : 63 .

(2) ديوان الفرزدق ج2 : 720 .


( 25 ) وأما أنت يا مخبل فشعرك ( شهب من نار الله يلقيها على من يشاء ) ، وأما أنت يا علقمة فان شعرك ( كمزادة قد احكم خرزها فليس يقطر منها شيء )(1) . وهذا الحكم دليل على جودة شعر علقمة وصحة إعجاب النقاد به .

     قال أبن الأعرابي (150-240 هـ) : لم يصف أحد قط الخيل ألا احتاج إلى أبى دؤاد ، ولا وصف الخمر ألا احتاج إلى اوس بن حجر ولا وصف أحد النعامة ألا احتاج إلى علقمة بن عبدة ، ولا اعتذر أحد في الشعر ألا احتاج إلى النابغة الذبياني (2) .

وقد شارك ابن سلام في رأيه هذا ابن رشيق القيرواني (ت 463هـ) .

     وقال ابن سعيد المغربي (ت 693هـ): في كتاب عنوانه ( المرقصات والمطربات ) معاني الغوص في شعر علقمة معدومة واقرب ما وقع له قوله(3):
    أوردتها وصدور العيس مسنفة         والصبح بالكوكب الدري منحور (4)

يشير إلى كوكب الصبح مثل سنان الحربه طعن به فسال منه دم الشفق وإذا تبين هذا المعنى كان من المرقصات 000000 وقوله :

    يحملن اترجة نضح العبير بها         وكان تطيابها في الأنف مشموم (5)

يشير إلى أن ما نال هذه المرأه من مضض السير واصفرار لونها كالاترجة وأنها كلما تحركت تزيد طيبا .


(1) ينظر الأغاني : ج21/228 . (2) ينظر المصدر نفسه : ج16 :296 . (3) المرقصات والمطربات : 76 . (4) الديوان : 113 . (5) الديوان :51 .

( 26 ) ومنه اخذ ابن الرومي وغيره في تشبيه المرأة بالروضة لطيب ثغرها إذ قال :

     كأس عزيز من الأعناب عتقها        لبعض أربابها حانية ، حوم (1) 
     وقال أبو عمرو بن العلاء ت(154هـ) اعلم الناس بالنساء علقمة بن عبدة إذ يقول :
   فان تسألوني  بالنساء فأنني                بصير بأدواء النساء طبيب(2) 







(1) الديوان : 68 . (2) الديوان 35 .



( 27 ) شعره :

     إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ، ثم تكون الدربة مادة له ، وقوة لكل واحد من أسبابه ، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز (1) .
  وبما أن الشعر الجاهلي انتقل إلينا عن طريق الرواية ، فمن الطبيعي أن يكون لكل شاعر من شعرائه راويه أو رواة عدة يحفظون شعره ويروونه للناس .

وكانت العرب – حسب ما يقول حماد الراوية (ت 156هـ) - تعرض أشعارها على قريش فما قبلوا منها كان مقبولا ، وما ردوا منها كان مردودا ، فقد قدم علقمة بن عبدة عليهم فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها :

هل ما علمت وما استودعت مكتوم         أم حبلها إذا نأتك اليوم مصروم (2)

فقالوا هذه سمط الدهر (3) ، ثم عاد إليهم في العام المقبل فأنشدهم درته التي يقول فيها :

   طحا بك قلب في الحسان طروب         بعيد الشباب عصر حان مشيب(4)

فقالوا هاتان سمطا الدهر (5) .


(1) الوساطة : 15 . (2) الديوان : 50 . (3) ينظر أشعار الشعراء الستة الجاهليين : 139-142 . (4) الديوان : 33 . (5) أشعار الشعراء الستة الجاهليين : 142 .

( 28 )

    كما ذكر ابن سلام (ت 231هـ) إن لابن عبدة ثلاث روائع جياد لا يفوقهن شعر )(1) .والنقاد يعجبون بشعر علقمة بن عبدة إعجابا شديدا إذ قالوا عن شعره ( إن شعر علقمة كمزادة قد احكم خرزها فليس يقطر منها شيء )(2) .
      وقد حكي عن الأصمعي (ت 216 هـ) انه سئل عن اشعر الناس فقال ( الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا والى الكبير فيجعله خسيسا أو ينقضي كلامه قبل القافية فان احتاج إليها أفاد بها المعنى فقيل له نحو من فقال نحو قول القائل : 
   كأن عيون الوحش حول خبائنا            وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب (3)

فانه انقضى كلامه عند قوله ( الجزع ) ثم أفاد بالقافية معنى زائدا إذ قال ( لم يثقب ) لأن عيون البقر غير مثقبة (4) .

    أما أبو القاسم الآمدي فقال : ( احسن شعر الشعراء المتقدمين ما يشبه في السهولة والعذوبة شعر المحدثين )(5) ، نحو قول علقمة بن عبدة :
    فأن تسألوني بالنساء فأنني               خبير بأدواء النساء طبيب (6)

كما شاركه في الرأي ابن قتيبه إذ قال من جيد قول علقمة البيت السابق (7) . وهنا يستحب أن يذكر رأي زهير بن أبي سلمى في شعر علقمة بن عبدة ، وكان


(1) ينظر طبقات فحول الشعراء : 30 . (2) الأغاني : ج21/228 . (3) هذا البيت عرف لامرىء القيس الا انني وجدته في ديوان علقمة الفحل

          ينظر الديوان : 97 . وينظر ديوان امرىء القيس : 53 .

(4) ينظر تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر : 205- 206 . (5) خاص الخاص : 210 . (6) الديوان : 35 . (7) ينظر الشعر والشعراء : 210 . ( 29 ) زهير كما نعرفه بصيرا بأسرار صناعة الشعر ، ميالا إلى التصوير الدقيق والاحتفال بالجزئيات وترتيبها وجعل بعضها بجوار بعض من دون أن ينسى أنها أجزاء في المشهد الكبير الذي يرسمه ، إذ رأى في قول علقمة بن عبدة :

 فالعين مني كأن غرب تحط بـه            دهمـاء حاركهـا بالقتب مخزوم
 قد عريت زمنا حتى استطف لها             كتـر كحـافة كـير القين ملموم 
 قد أدبر العر عنها وهي شاملها             من ناصع القطران الصرف تدسيم
 تسقي مذانب قد زالت عصيفتها             حدورها من أتي الماء مطموم (1)

من الرحابة والغنى ما يرضي نزعته الفنية أو حاجته إلى التصوير ، وأدرك أن علقمة لم يستغل اللوحة استغلالا كافيا ليبدي براعته في هذا الفن - فن الصورة- فقد حقق بعينيه أمورا وغابت عنه أمور ، أو قل هو تناولها بعقلية المسرف فانفق بعضها في وجه وأهدر أكثرها في غير وجه فامتدت يد زهير تضيف أليها وتفصل فيها وتوسع من جنباتها وتوضح ملامحها فكان هذا المشهد الطويل العريض العامر بالحياة والبهجة (2) .

   أما ابن خلدون في مقدمته فقد تحدث عن المعلقات وذكر أصحابها وتعليقها قال ( كما فعل امرؤ القيس بن حجر والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة والاعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع )(3) ، فقد اسقط من الشعراء لبيد بن ربيعة وعمرو بن كلثوم وهما من أصحاب المعلقات كما اجمع العلماء عليهم ، ثم انه أقحم علقمة ابن عبدة بين الشعراء وهذا ما لم يقل به أحد غيره(4) .

هذا وقد رجح صاحب كتاب ( الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه ) أن ابن خلدون (1) ينظر الديوان : 53-55 : وفيه ( قد عريت حقيبة حتى استطف لها ) . (2) ينظر الرحلة في القصيدة الجاهلية : 47 . (3) مقدمة ابن خلدون : 581 . (4) ينظر الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه : 58 . ( 30 ) قد سمى قسما من شعراء المعلقات دون الستة ثم قال ( وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع ) ثم جاء الناسخ فأراد أن يتم تسميه شعراء المعلقات فزاد في كلامه عن جهل أو خطا ، أما من أين جاء ذكر علقمة بن عبدة ولم يذكره أحد من أصحاب المعلقات ففي اكبر الظن أن ذهن الناسخ انصرف إلى أن المعلقات هي السموط وهي كذلك وان قريش أطلقت اسم السمط على قصيدتين لعلقمة كما ذكر سابقا عن حماد ، فعدوا علقمة من أصحاب المعلقات وليس ببعيد أن يكون ابن خلدون نفسه قد وقع في هذا الوهم(1) .

   كما ذكر أبو زيد القرشي بعد أن أحصى شعراء المعلقات فقال ( هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط ممن قال أن السبع لغيرهم فقد خالف ما اجتمع عليه أهل العلم والمعرفة)(2) .

الديوان : لقد تم طباعة ديوان علقمة من دون شرح ست مرات وهي : 1 : طبعة ليدن سنة 1858م بعناية فيستنفلد . 2 : طبعة ليبسيك سنة 1867م بعناية آلبرت سوسين . 3 : طبعة غريفزولد سنة 1869م في مجموعة العقد الثمين لآلورد وتعرف هذه المجموعة بدواوين الشعراء الستة . 4 : طبعة القاهرة في المطبعة الوهبية سنة 1293هـ في مجموع خمسة الدواوين . 5 : طبعة بيروت في المطبعة الأهلية سنة 1293هـ في مجموعة خمسة دواوين .


(1) ينظر الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه : يحيى الجبوري : 58 وما بعدها . (2) الجمهرة : 80-81 . ( 31 ) 6 : طبعة القاهرة سنة 1935م في المطبعة المحمودية تصحيح احمد صقر . كما طبع الديوان بشرح الأعلم الشنتمري ونشر في : 1 : القاهرة سنة 1293هـ وسنة 1324هـ ولم يذكر هاتين الطبعتين سوى بروكلمان . 2 : الجزائر وباريس بتصحيح الشيخ ابن أبي شنب سنة 1925م . وثمة شروح موجزة على شعر علقمة ضمن مجاميع منها : أشعار الشعراء الستة الجاهليين : ومختارات الشعر الجاهلي لعبد المتعال الصعيدي ، ومختار الشعر الجاهلي لمصطفى السقا ، وكلها شروح موجزة حديثة(1) .

    أما الطبعة التي اعتمدناها فهي الطبعة التي حققها الأستاذ لطفي الصقال ودرية الخطيب ، فقد اعتمد الأستاذ لطفي على مخطوطتين هما ( الشنقيطية ) و( التيمورية ) ، كما اعتمد على خمس نسخ خطية ، اتحفه بثلاث منها أحد تلامذته من السودان ، ولما كانت هذه المطبوعة خلاصة للمخطوطات فقد اتخذها أصلا من الأصول فضلا عن مخطوطتي دار الكتب المصرية .

وعند تصفح الديوان نجد أن الأستاذ لطفي الصقال قد حافظ على ترتيب الأعلم في القسم الأول والثاني من الديوان ، التي كان عدد أبياتها 165 بيتا ، أما الزيادات التي استخرجها من بطون الكتب فهي 48 بيتا أو نصف بيت ، فقد رتبها على الحروف بحسب القوافي ومن بينها ما نسب إلى علقمة ومنها ما نسب إلى غيره ، كما وضع خمسة فهارس للديوان ليسهل على القارىء استخراج ما يبحث عنه ،كما نجد أن الأستاذ لطفي الصقال قد اعتمد على عدد كبير من المصادر والمراجع التي بلغ عددها اكثر من مائتين وعشرين كتابا ، ولا نريد أن نطيل في التحدث عن الديوان لأننا سنتحدث عن الأغراض والموضوعات التي تناولها .


(1) الديوان : 11 . ( 32 ) الأغراض الشعرية :

     لـم يختلف علقمة عن سائر شعراء العصر الجاهلي ، إذ وقف على الاطلال ، وذكر الرحلة ، وشبب بالحبيبة وبكى الديار 000000 ، فهذا ابن قتيبة يقول : قال ابن الكندي : أول من بكى الديار امرؤ القيس بن الحارثة بن الحمام بن معاوية إذ قال :
    يا صاحبي قفا النواجح ساعة            نبكي الديار كما بكى ابن حمام (1)

ويقول امرؤ القيس بن حجر :

   عوجا على الطلل المحيل لعلنا            نبكي الديار كما بكى ابن حذام (2) 

وفي مجال التعليق على هذا البيت يقول أبو هلال العسكري انه من أجود الابتداءات في الطلل (3) ، وفي رأى ابن رشيق انه افضل ابتداء صنعه شاعر لأنه أول من وقف واستوقف وبكى واستبكى (4) . إذ ان المتأمل في ديوان علقمة بن عبدة يجد أن علقمة قد وقف على الأطلال وذكرها لكنه لم يكن يهتم بها إذ لم يذكرها إلا مرات قليلة حين ذكر ديار بني سعد بن زيد مناة بن تميم في وادي ( مبايض )(5) . إذ قال :

  وقلت لها يومـا بوادي مبايض           أرى كل عان غير عانيك يعتق 
  وذكرنيهـا بعدمـا قد نسيتهـا           ديـار علاهـا وابـل متـعبق 
  بأكناف شمـات كأن رسومهـا          قضيـم صنـاع في أديم منمق (6)
---------------------------------------------

(1) الشعر والشعراء : 68 . (2) ديوان امرىء القيس : 114 .وفيه( عوجا على الطلل المحيل لأننا ) . (3) ينظر كتاب الصناعتين : 433 . (4) ينظر العمدة : ج1/218 . (5) ينظر معجم ما استعجم : ( مبايض ) . (6) الديوان : 128 . ( 33 ) كما نرى أن ابن قتيبة قال ( أن في وصف الطلل تعبيراً عن الأسى الذاتي عند أثار حبيبة حقيقية راحلة ) (1) .

  إذ علل الدكتور شوقي ضيف بكاء الديار القديمة بأنه ( بكاء يفيض بالحنين الرائع إلى ذكريات شبابهم الأولى )(2) .
ويرى مصطفى عبد الواحد ( أن البكاء على الأطلال أو الوقوف بها مجرد ثورة عاطفية يتذكر فيها الشاعر أياما انقضت أو يسترجع ساعات من طيب العيش ولذته )(3) .

ومن هذا نجد أن علقمة بن عبدة قد زعم أن بكاءه ذهب بكل بكاء ورسم له صورة من اعرق صور الحياة في الصحراء إذ قال :

 تسقـي مذانب قد زالـت عصيفتهـا         حدورها من اتي الماء مصموم 
 من ذكر سلمى وما ذكري الأوان بها         الأ السفاه وظن الغيب ترجيم (4)

عليه نجد الدكتور محمود الجادر يعتقد أن المقدمة الطللية تقدم مؤشرا واضحا على عمق ارتباط الشاعر بالبيئة التي ظلت توجه حياته بتحدي الرحيل الأبدي وترفد صيغه بتفاصيل المعاناة ، أما ارتباط المرأة بالصيغة الطللية فانه يبدو منبثقا عن ارتباطه بمانع الحنين إلى الاستقرار وحدتها النفسية رغم تشعبها الموضوعي فالمرأة كالأرض في قدرتها على استقطاب لهفة القلق المتحفز في نفس الشاعر عند أعتاب نصه الإبداعي (5) .


(1) الشعر والشعراء : 75 . (2) العصر الجاهلي : شوقي ضيف : 212 . (3) دراسة الحب في الأدب العربي : 12 . (4) الديوان : 56 . (5) قراء معاصرة في مقدمة القصيدة الجاهلية : محمود الجادر  : 7 .

        مقالة في مجلة الثقافة السورية .

( 34 ) ويروى ان أحسن ابتداء ، هو لامرىء القيس ، فقد قيل ( لأمريء القيس بيت لم يسبقه إليه أحد ولا ابتدأ بمثله شاعر وقف فيه واستوقف وبكى واستبكى وذكر الأحبة والمنازل ووصف الدمن )(1) ، إذ قال :

     قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل      بسقط اللوى بين الدخول فحومل (2)

واخبرنا عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد قال أخبرنا أبو العالية عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال ( الابتداءات البارعة التي تقدّم بها أصحابها خمسة)(3) ، منها قول النابغة :

     كـليني لهم يا اميمـة ناصب        وليل أقاسيـه بطـي الكواكـب (4)

وقول علقمة بن عبدة :

     طحا بك قلب في الحسان طروب      بعيد الشباب عصر حان مشيب (5)

وقوله :

 هل ما علمت وما استودعت مكتوم        أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم (6)
كما نجد علقمة قد تصرف في فنون الشعر فكان شعره في المديح ، والهجاء ، والغزل أو النسيب ، والفخر ، والوصف ولكنها تفاوتت في الجودة فبلغت بعض نصوصه درجة عالية في حسن الاداء على حين لم تحظَ نصوص أخرى بالدرجة نفسها  . 

(1) حلية المحاضرة : ج1/205 . (2) ديوان امرؤ القيس : 8 . وفيه ( بسقط اللوى بين الدخول وحومل ) . (3) حلية المحاضرة : ج1/205 . (4) ديوان النابغة : 29 . (5) الديوان : 33 . (6) الديوان : 50 .

( 35 ) المديح :

      أما في مجال المديح فقد كانت له في الشعر العربي غاية من اشرف الغايات ، وهي تفصيل الأخلاق العربية فالشاعر المادح كان يصور أمال المجتمع العربي في الفضائل الذاتية ، لهذا يكون أستاذا من أساتذة الأخلاق (1) ،  نذكر في هذا المجال قصيدة علقمة التي اعجب بها النقاد القدماء إعجابا كبيرا التي قالت عنها قريش هذه والله( سمط الدهر )(2) ،  وهي القصيدة التي مدح فيها الحارث الغساني عندما أسره جماعة من بني تميم من بينهم أخو علقمة ، إذ قال فيها :
    إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي        لكلكلها والقصريين وجيب (3)

ثم يعود ويمدح الحارث بالكرم إذ قال :

    لتبلغني دار أمـري كـان نائيا          وقد قربتني من نداك قروب (4)

إذ قال عنها صاحب التذكرة الحمدونية ( أنها من قلائد أشعار العرب )(5) في المديح إذ يقول فيها :

    وفي كل حي قد خبطت بنعمة               فحق لشأس من نداك ذنوب (6) 

فلما سمع الحارث هذا البيت قال نعم واذنبة ، فأطلق جميع الأسرى من تميم ، وكل شخص عرفه علقمة (7) .


(1) ينظر العشاق الثلاثة : الدكتور زكي مبارك : 88 . (2) ينظر معاهد التنصيص على شواهد التلخيص : 334 . (3) الديوان : 39 . (4) الديوان : 39 .وفيه ( فقد قربتني )، وهنا نداك : عطاؤك وكرمك . (5) التذكرة الحمدونية : ج1/ 4900 . (6) الديوان : 48 . وفيه خبطة بخير : أعطاه من غير معرفة بينهما . (7) ينظر معاهد التنصيص على شواهد التخليص : 329 . ( 36 ) وقال النويري من الأبيات التي يجوز إيرادها في الشجاعة والكرم قول علقمة بن عبدة :

     تجود بنفس لا يجاد بمثلها         فأنت بها يوم اللقاء خصيب (1) 

وقد علق أبو هلال على هذا البيت الذي سرقة مسلم بن الوليد إذ قال سمعت الشيوخ رحمهم الله يقولون ، أجود بيت قالته العرب هو قول مسلم بن الوليد :

   يجود بالنفس أن ضن الجواد بها         والجود بالنفس أقصى غاية الجود 

وأول من جاء بهذا المعنى هو علقمة بن عبدة في البيت السابق (2) . وجـاء فـي اللآلـي في شرح أمـالي القـالي قـول علقمة بن عبدة في المدح بالشجاعة (3) :

  فجالدتهم حتى اتقوك بكبشهم           وقد حان من شمس النهار غروب (4)   




(1) الديوان : 46 . وفيه ( وأنت بها يوم اللقاء تطيب ) . (2) ينظر ديوان المعاني : 220 . (3) ينظر اللآلي في شرح امالي القالي : ج1/ 738 . (4) الديوان : 44 : وفيه : الكبش : سيد القوم ورئيسهم ، يقول جالدتهم بسيفك حتى غلبتهم فانهزموا وخذلوا رئيسهم الذي قادهم إليك ، وسلموه إليك وجعلوه بينك وبينهم .


( 37 ) الهجاء : وهو من الفنون القديمة التي وجدت في الشعر الجاهلي ، ووجوده أمر طبيعي مع وجود المديح فحينما وجد أناس يستحقون المديح ، وجد آخرون يستحقون الذم ، وقد تطور هذا الفن تطورا كبيرا في الجاهلية . فأبو عمرو بن العلاء يرى أن ( خير الهجاء ما أنشدته العذراء في خدرها فلا يقبح بمثلها )(1) . وقـال خلف الأحمر ( اشد الهجاء أعفه وأصدقه )(2) ، وقـال يونس بن حبيب ( اشد الهجاء الهجاء بالتفضيل وهو الإقذاع عندهم )(3) . أما صاحب الوساطة فيقول ( أما الهجو فأبلغه ما جرى مجرى الهزل والتهافت وما اعترض بين التصريح والتعريض وما قربت معانيه وسهل حفظه وأسرع علوقه بالقلب ولصوقه بالنفس فأما القذف والإفحاش فسباب محض وليس للشاعر فيه إلا اقامة الوزن )(4) .ويبدو أن علقمة لم يكن ميالا إلى الهجاء فنجده لم يهج أحداً بعينه ولكنه ذكر الهجاء بصورة عامة إذ قال :

      لحى الله دهرا ذعذع المال كله        وسود أشباه الإماء العوارك (5)
 ---------------------------------------------

(1) العمدة :ج2/ 170 . (2) المصدر نفسه :ج2/ 170 . (3) المصدر نفسه :ج2/ 170 . (4) الوساطة : 38-39 . (5) ينظر لسان العرب : (ذعع) وفيه : سود من السواد وذعذع الريح الشجر : حركه تحريكا شديدا ، وذعذت الريح التراب فرقته وذرته وسفته كلها بمعنى واحد . وينظر الديوان : 130 .

( 38 )

كما نجد لعلقمة في باب التقريع والتوبيخ(1) قوله :

   ومولى كمولى الزبرقان دملته        كما دملت ساق تهاض بهـا وقر 
   إذا ما أحالت والجبائر فوقهـا         إلى الحول لا برء جميل ولا كسر
   نراه كـأن الله يجـدع انفـه       وأذنيه إن مولاه تـاب لـه وفر
   ترى الشر قد أفنى دوائر وجهه     كضب الكـدى أفنى براثيـه الحفر (2)

وقال أبو القاسم الداعية ( أدنى الأعراض عرض لا يرتع فيه ذم )(3) . ومن هذا يبدو لنا أن علقمة غير ميال إلى الهجاء والمتصفح لديوانه لا يجد غير هذه الأبيات التي ذكرناها في الهجاء ولم يكن الهجاء لشخص معين إنما يمكن عده عتابا وتوبيخا أو تحذيرا لمن أراد القيام بمثل هذه الأعمال . الفخر : الفخر هو المدح نفسه ، والفخر يقوم على الفضائل الاجتماعية التي أقرتها الحياة العربية (4) ، ألا أن الميزة الغالبة في شعر الفخر هو التعبير عن غبطة النفس وزهوها وحب الانتصار أو شعور بالتفوق والقدرة (5) .


(1) ينظر التذكرة الحمدونية : 314 . (2) الديوان : 109-110 : وفيه ( تهاض ) من الهيض وهو كسر بعد

      جبـر . وفيـه ( أتـى الحـول لا بـرء جبير ولا كسـر ) ، وفيـه   
     (وعينيه إن مولاه ثاب له وفر ) ، وفيه ( كضب الكدى أفنى أنامله الحفر).

(3) بهجة المجالس وأنس المجالس : لابن عبد البر القرطبي : 572 . (4) ينظر الفروسية في الشعر الجاهلي : 238 . (5) ينظر فن الفخر وتطوره في الأدب العربي : 6 .


( 39 ) إذ يقول قدامة بن جعفر على الشاعر أن لا يمدح الرجال ألا بما يكون لهم (1) ، إلا أن الشاعر يخص نفسه وقومه ، وكل ما حسن في المديح حسن في الافتخار وكل ما قبح فيه قبح في الافتخار (2) . ومما ينسب إلى علقمة بن عبدة انه افتخر بتقديم الطعام في يوم اشتد فيه الجوع ولا يفعل مثل هذا ألا المعروف بالجود والكرم إذ قال :

   وقد يسرت إذا ما الجوع كلفـه        معقب من قداح النبع مقروم 
   لو ييسرون بخيل قد يسرت بها        وكل ما يسر الأقوام مغروم (3) 

كما تفاخر بالشرف والشرف ذو منزلة كبيرة عند الجاهليين إذ بدأ الشعراء يتفاخرون بوصف الشخص ذي شرف كبير بينهم فقد تفاخر علقمة بن عبدة بالشرف إذ قال :

     من بازل ضرب بأبيض باتر          بيديْ أغرَّ يجر فضل المئزر (4)

كما تفاخر طرفه بن العبد بالشرف إذ قال :

     ثم راحوا عبق المسك بهم            يلحقون الأرض هداب الأزر (5)

أي ذو نعمة وترف ورائحة المسك تفوح منهم على الدوام وثيابهم طويلة يجرونها وراءهم من الخيلاء . ونجد علقمة بن عبدة تفاخر بكونه شاعرا إذ قال : من رجل أحبوه رحلي وناقتي يبلغ عني الشعر إذ مات قائله (6) (1) ينظر نقد الشعر : 95 . (2) ينظر العمدة : ج2 /143 . (3) الديوان : 77 . (4) الديوان : 107 . وفيه : ( من بازل ) يعني الناقة المسنة و( الأبيض)

         السيف الصقيل و ( الباتر ) القاطع ، و( الأغر ) أي غلام كريم الأفعال. 

(5) ديوان طرفة بن العبد : 79 . (6) الديوان : 131 . ( 40 ) يعني انه يعطي ناقته ورحله للمرء كي يروي شعره للناس لان الانسان يموت ويبقى قوله . الوصف : الوصف كلمه عامة تندرج تحتها معان كثيرة ، لذا قال قدامه ( الوصف إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات ، ولما كان اكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني . كان أحسنهم وصفا من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها ، ثم باظهرها فيه حتى يحكيه بشعره ، ويمثله للحس بنعته )(1) . كما قال ابن رشيق ( الشعر الا أقله راجع إلى باب الوصف )(2) ، وأحسن الوصف ما نعت به الشيء حتى يكاد يمثله عيانا للسامع (3) . ولهذا يصح أن نقول أن كل ما يقع تحت الحواس يمكن وصفه ، وأصل الوصف الكشف والإظهار ، نحو وصف الثوب الجسم ، إذا نمَّ عليه ولم يستره (4) . أما ابن الأعرابي (ت 231هـ ) فقد قال : ( ولا وصف أحد نعامة ألا احتاج إلى قول علقمة بن عبدة ) (5)

   صعل كأن جناحيه وجؤجؤه                 بيت أطافت به خرقاء مهجوم
   تحفه هقلة سطعاء خاضعة                 تجيبه بزمار فيـه ترنيم (6).

ومنها يتبين أن لعلقمة ابتكارات رائعة ووصفاً دقيقاً أخاذاً ، ولا سيما وصف النعام . قال ابن هشام صاحب السيرة النبوية : الصيب المطر وهو من صاب يصوب مثل قولهم السـيد من سـاد يسود والميت من مات يموت وذكر وصف (1) نقد الشعر : 118 . (2) العمدة : ج2 /294 . (3) ينظر المصدر نفسه : ج2 / 294 . (4) ينظر المصدر نفسه : ج2 / 295 . (5) ينظر الأغاني ج16 /296 . (6) الديوان : 63 . ( 41 ) علقمة بن عبدة للمطر إذ قال :

     كأنهم صابت عليهم سحابة           صواعقها لطيرهن دبيب (1)

وقوله :

      فلا تعدلي بيني وبين مغمر          سقتك روايا المزن حيث تصوب (2)

قال ابن إسحاق أي ( هم من ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل من الذي هم عليه ، من الخلاف والتخوف لكم على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب يجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت )(3) ، يقول الله عز وجل ( يكاد البرق يخطف أبصارهم )(4) .

كما ذكر صاحب الحيوان أبياتا لعلقمة في الوصف إذ قال : ووصف علقمة بن عبدة ناقته وشبهها بأشياء منها وأجاد في وصفها(5) إذ قال :
   تلاحظ السوط شزرا وهي ضامزة      كما توجس طاوي الكشح موشوم 
  كأنهـا خـاضب زعـر قوائمـه      أجنى لـه باللـوى شري وتنوم(6)

إذ قال الجاحظ محتجا على قول علقمة في وصف النعام بكونها لا تسمع إذ قال ( تقول العرب ضربان من الحيوان لا يسمعان الأصوات ، وذلك عام في الأفاعي والنعام )(7) . (1) الديوان : 46 . (2) المصدر نفسه : 34 . (3) السيرة النبوية : 935 . (4) سورة البقرة : 20 . (5) ينظر الحيوان : ج4/ 132 . (6) الديوان : 57- 58 .وفيه الشزر : نظرة فيها أعراض والضامز: الساكت  : الظامر والموشوم : المخطط قوائمه بالسواد . الزعر : قلة الريش والتنوم : شجر له حمل كحمل الخروع . (7) ينظر الحيوان : ج4 / 133 . ( 42 ) واعتد من أدعى للنعام الصمم إذ قال علقمة :

     فوه كشق العصا لأيا تبينه             أسك ما يسمع الأصوات مصلوم (1)

وقال لا يصلح أن تكون ما في الموضع الذي ذكر ، لان ذلك يصير كقول القائل ( التمر حلو ، والثلج بارد ، والنار حارة ، ولا يحتاج إلى أن يخبر عن الذي يسمع هذا الصوت لأنه لا مسموع ألا الصوت )(2) . وكان أبو مالك يقول العيثوم أنثى الفيل ويدل قول علقمة بن عبدة : على أن العيثوم من صفات الفيل العظيم الضخم ، إذ قال :

    تتبع جونا إذا ما هيجت زجلت           كـأن دفـا على علياءَ مهزوم 
    إذا تـزغم من حافاتها ربـع           حنت شغاميم من أوساطها كـوم
    يهدي بها أسجح الخدين مختبر           من الجمال شديد الخلق عيثوم(3)

أما صاحب الحماسة المغربية فقد ذكر في باب الوصف قول علقمة بن عبدة في وصف الخيل إذ قال :

     وقد اغتدي والطير في وكناتها         وماء الندى يجري على كل مذنب
    0000000000000000           000000000000000000
     بمنجرد قيـد الأوابـد لاحـه           طـراد الهـوادي كل شأو مغرب 
    0000000000000000            0000000000000000000
     إذا أنفذوا زادا فـان عنانـه           وأكرعه مستعملا خير مكسب (4)

(1) الديوان : 59 . (2) الحيوان : ج4 / 133 . (3) ينظر الحيوان:ج7/ 39.وينظر الديوان:74-76:وفيه الابيات فيها تقديم وتأخير( إذا تزغم من حافاتها ربع حنت شغاميم في حافاتها كوم ) وفيه ( يهدي بها أكلف الخدين مختبر من الجمال كثير اللحم عيثوم) . (4) ينظر الحماسة المغربية : 634 : وينظر الديوان : 88-93 . ( 43 )

أما صاحب الخيل فقد ذكر لعلقمة أبيات في وصف الخيل وهي :
   وقـد أقـود أمام الخيل سلهبـة           يهدي بها نسب‘ في الحي معلوم 
  لا في شظاها ولا أرساغها عنت           ولا السـنابك أفنـاهن تـقليم(1)

أما الحافظ اليغموري (ت 673هـ) فقد قال في الوصف لم يصف أحد عيني أمراه ألا أحتاج إلى قول عدي بن الرقاع :

    لولا الحياء وأن رأسي قد بدا             فيه المشيب لزرت أم القاسم
   وكأنهـا وسط النساء أعارها             عينيه أحور من جاذر جاسم (2)

ولا وصف أحد نجيبا ألا أحتاج إلى قول حميد بن ثور ، ولا وصف أحد ظليما ألا احتاج إلى قول علقمة بن عبدة :

     هيق كأن جناحيه وجؤجؤه              بيت أطافت به خرقاء مهجوم (3)

ولا اعتذر أحد ألا أحتاج إلى قول النابغة :

       فأنك كالليل الذي هو مدركي         وان خلت أن المنتأى عنك واسع(4)

الحكمة والأمثال : لقد كانت العرب لا تعد الشاعر فحلا حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره فلم يعدوا امرأ القيس فحلا حتى قال :

     والله انجح ما طلبت به                والبر خير حقيبة الرحل (5)

(1) ينظر الخيل : 213 : وينظر الديوان : 73 . (2) نور القبس : 307 . (3) ينظر المصدر نفسه : 308 : وينظر الديوان : 63 : وفيه

       ( صعل كأن جناحيه وجؤجؤه         بيت أطافت به خرقاء مهجوم ) .

(4) المصدر نفسه : 308 : وينظر ديوان النابغة : 56 . (5) شرح شواهد المغني : جلال الدين عبد الرحمن السيوطي : تح /محمد محمود : مصر : 1322هـ: 85 . وينظر ديوان امرىء القيس : 238.

( 44 )

وكانوا لا يعدون زهيرا فحلا حتى قال :

 ومهما تكن عند امرىء من خليقة        ولو خالها تخفى على الناس تعلم (1)

فعد هذا البيت ( من بدائع حكمته الشعرية ومن اعجب الأبيات وأصدقها حكمه وأدخلها معرفة أخلاق الناس )(2) . ولقد ذكر اليوسي (ت 1102 هـ)( من أبيات الحكمة والتمثيل نبذة صالحة يقع بها الإمتاع ويحصل الانتفاع بها )(3) ، إذ قال علقمة بن عبدة من الحكمة :

    وكل قوم وأن عزوا وأن كثروا           عديمهم بأثافي الدهر مرجوم
    وكل حصن وأن طالت سلامته            علـى دعائمه لابد مهجوم (4)

أما الحصري القيرواني (ت 453هـ) قال: قال علقمة بن عبدة لرجل رآه عابسا في وجه رجل أخر يعتذر أليه ، إذا اعتذر إليك المعتذر فتلقه بوجه مشرق ، لينبسط المتذلل ، ويؤمن المتنصل (5) . أما اليوسي قال المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء أخر بينهما مشابه ليبين أحدهما الأخر ويصوره ، نحو قولهم ( في الصيف ضيعت اللبن ) وقول علقمة بن عبدة :


(1) ديوان زهير ابن أبي سلمى : 86 . (2) الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الأعجاز :يحيى بن حمزة

      ابن علي بن إبراهيم العلوي (ت 749هـ) بيروت 1982م : ج3/120 .

(3) المحاضرات في الأدب واللغة:174:ط1على الحجر بفاس 1317 هـ . (4) الديوان : 64-67 : وفيه : ( بل كل قوم وإن عزوا وان كثروا عريفهم بأثافي الشر مرجوم ) ، وفيه ( وكل بيت وأن طالت إقامته على دعائمه لابد مهدوم ) . (5) ينظر زهر الآداب وثمر الألباب : 991 . ( 45 )

    ويـلم لذات الشـباب معيشة           مع الكثر يعطاه الفتى المتلف الندي 
   وقد يقصر القل الفتى دون همه           وقـد كان لولا القل طلاع انجد(1)

والقل الضم : الإقلال وهمه ما يفعله من المكارم والعطايا فينعم الفقير : ومن ذلك قول الأمام الشافعي ( رضى الله عنه ) :

     أرى نفسـي تتـوق الـى أمور         يقصـر دون مبلغهـا مـالي 
     فنفسـي لا تطـاوعنـي لبـخل         ومـالي لا يبـلغني فـعالي (2) 

أما أبو منصور الثعالبي ( 429هـ) قال من أمثال العرب عن أبي عمرو قولهم كانت عليهم كراغية البكر ، أي استؤصلوا أستئصالا (3) .وقال أيضا كانت عليهم كراغية السقب وهو ولد الناقة يعنون رغاء بكر وثمود حين عقر الناقة قدار بن سالف وهو احمر ثمود . وقال علقمة في سقب :

   رغا فوقهم سقب السماء فداحص            بشكته لم يستلب وسليب (4) 

وقال صاحب مجمع الأمثال هذا البيت يضرب في التشاؤم بالشيء (5) .


(1) زهر الاكم في الأمثال والحكم : 1570 : وينظر الديوان : 121-122 : وفيه ( وقد يعقل القل الفتى دون همه ) . (2) المصدر نفسه : 1570 . (3) ثمار القلوب في المضاف والمنسوب : 747 . (4) الديوان : 46 . وفيه الداحص ، والفاحص ، والماحص سواء يقال للشاة إذا ذبحت دحصت برجلها أي ضربت بها .وقال أبو الحسن في الكامل في اللغة والأدب ج1/5: الداحض الساقط والداحض أيضا الزالق . (5) مجمع الأمثال :ج3/20 : للميداني(ت 518هـ) بعناية قطة العدوي ط1 /1843م .

( 46 ) وذكر صاحب حلية المحاضرة : قال أبو علي اخبرني محمد بن يحيى عن أبي الحسن الاسدي عن الرياشي عن الأصمعي قال ( ما رأيت شعرا قط أشبه بالسنة من قول عدي بن زيد )(1) إذ قال :

  عن المرء لا تسال وسل عن قرينه            فكل قرين بالمقارن يقتدي (2)

وقال اشعر بيت قيل في وعظ أبناء الدنيا قول علقمة بن عبدة :

   وكل قوم وأن عزوا وأن كثروا            عزيزهم بأثافي الدهر مرجوم 
   وكل حصن وان طالت سلامته            على دعائمه لا بد مهزوم (3)

واشرد بيت قيل في وصف أحوال النساء قول علقمة بن عبدة :

  فان تسـألوني بالنسـاء فأننـي           بصير بأدواء النسـاء طبيب 
  يردن ثـراء المال حيث علمنـه           وشرخ الشباب عندهن عجيب 
  إذا شاب راس المرء أو قل ماله            فليس له في ودهن نصيب (4)

كما قال وأشرد مثل قيل في قَسْم الأرزاق(5) قول علقمة بن عبدة :

     ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه           أنّى توجه والمحروم محروم (6)

يقول من كان مرزوقا ينل الغنم وينعم الناس ، ومن كان محروما لم ينل شيئا .


(1) ينظر حلية المحاضرة : ج1/277-278 . (2) ديوان عدي بن زيد : 106 . (3) الديوان : 64-67 . وفيه ( عريفهم بأثافي الشر مرجوم ) .وفيه (وكل بيت وإن طالت أقامته على دعائمه لا بد مهدوم ) . (4) الديوان : 35-36 . (5) حلية المحاضرة : ج1/278 . (6) الديوان : 66 .

( 47 ) الظواهر اللغوية و العروضية :

   لم يكن شعر علقمة بن عبدة بعيدا عن الدراسات اللغوية إذ كان شعره ميداناً للشواهد اللغوية والنحوية لذلك وقف عنده علماء اللغة والنحو والبلاغة ، ومن أهم هذه الظواهر التي وقف عليها القدماء .

1- الظواهر النحوية :

   لقد استشهد ابن قتيبة (ت 276هـ) بقول علقمة بن عبدة :
      فأن تسألوني بالنساء فأنني         بصير بأدواء النساء طبيب (1) 

عندما تأتي الباء مكان عن (2) ، إذ تأتي الباء بمعنى عن بعد السؤال ، نحو قوله تعالى ( فسئل به خبيراً )(3) أي عنه ، ويقال آتينا فلانا نسأل به،أي عنه .

     أما المعافى بن زكريا ( ت 390هـ) فقد استشهد بقول علقمة بن عبدة :
       بها جيف الحسرى فأما عظامها      فبيض وأما جلدها فصليب (4) 

في الاجتزاء بالواحد عن الجمع في موضع ( وأما جلدها ) ، فقال ( أضيف فيها واحد إلى جماعة تجوزا وعنى به معنى الجمع )(5) .


(1) الديوان : 35 . (2) أدب الكاتب : 595 . (3) سورة : الفرقان : 59 . (4) الديوان : 40 . (5) الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي : المعافى بن زكريا / تح / محمد مرسي الخولي /1981م : 1283 .


( 48 )


    أما أبو هلال العسكري (ت 395هـ) فقد استشهد بقول علقمة بن عبدة :
      كأن عيون الوحش حول خبائنا      وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب (1) 

في التوكيد ، قوله ( لم يثقب ) يزيد التشبيه توكيدا ، لان عيون الوحش غير مثقبة (2) .

  أما المرزوقي (ت 421هـ) فقد استشهد بقول علقمة بن عبدة :
        ويلم لذات الشباب معيشة       مع الكثر يعطاه الفتى المتلف الندي 
       وقد يعقل القل الفتى دون همه     وقد كان لولا القل طلاع انجد (3)

فلفظة ( ويل ) إذا أضيفت بغير اللام فالوجه فيها النصب : تقول ويل زيد ، والمعنى ألزم الله زيـدا ويلا ، فإذا أضيفت باللام فقيل ويل لزيد ، فحكمه أن يرفع ، فيصير مع ما بعده جملة أبتدأ بها وهي نكرة لأن معنى الدعاء منه مفهوم(4). وكما أستشهد بقول علقمة بن عبدة في جواز تكرار معنى واحد في بيتين على تقارب بينهما :

   فأن تسألوني بالنساء فأنني               بصير بأدواء النساء طبيب
   يردن ثراء المال حيث علمنه              وشرخ الشباب عندهن عجيب (5)

ألا ترى أنه لم يرَ المعنى متكررا" في البيتين بل كان أحدهما يشتمل من الأستيفاء والبيان على ما لم يشتمله عليه الأخر (6) .


(1) الديوان : 97 . (2) كتاب الصناعتين : 423 . (3) الديوان : 121 . (4) ينظر شرح ديوان الحماسة : 643 . (5) الديوان : 35 . (6) ينظر شرح ديوان الحماسة : 141.

( 49 ) كما استشهد بقوله :

      تتبع أفياء الظلال عشية        على طرق كأنهن سبوب (1)

فإنما أضاف الافياء إلى الظلال لأنه ليس كل ظل فيئا ، وكل فيء ظل ، وتحقيق الكلام تتبع ما كان فيئا من الظلال (2) .

    أما عبد القاهر الجرجاني ( 471هـ) قال : ( وأن كانت الجملة من فعل وفاعل ، والفعل مضارع مثبت غير منفي لم يكد يجيء بالواو بل ترى الكلام على مجيئها عارية من الواو ) (3) كقول علقمة بن عبدة :
     وقد علوت قتود الرحال يسفعني       يوم قديديمة الجوزاء مسموم (4) 
    أما البكري (ت 487هـ) فقد ذكر أن في قول علقمة بن عبدة : 
     وفي كل حي قد خبطت بنعمة      فحق لشأس من نداك ذنوب (5)

شأس أخوه ، وفي البيت حذف ، والمعنى ولو كان في الأرض البسيطة منهم مثله فحذف(6) ، ومثله قوله تعالى ( وإن منكم إلا واردها ) (7) .

   أما الزمخشري ( 538هـ) فقد استشهد في هذا البيت في باب ( إدغام التاء في افتعل ) فقال لقد شبهوا تاء الضمير بتاء الافتعال فقالوا خبط ، يريدون خبطت ، وفزت ، وحدت و، عدت ، ونقدت .

(1) الديوان : 40 . (2) ينظر الأزمنة والأمكنة : 36 . (3) دلائل الأعجاز  : 293 . (4) الديوان : 73 . وفيه ( يوم تجيء به الجوزاء مسموم ) . (5) المصدر نفسه : 48 . (6) ينظر اللآلي في شرح آمالي القالي : ج1/ 330 . (7) سورة : مريم :71 .

( 50 ) وقال سيبويه وأعرب اللغتين ، وأجودهما أن لا تقلب ، وقال إذا كانت التاء متحركة وبعدها هذه الحروف ساكنة لم يكن إدغاماً ، يريد نحو( استطعم ، واستضعف ،واستدرك ، لأن الأول متحرك والثاني ساكن فلا سبيل إلى الإدغام ، واستدان ، واستضاء ، واستطال ، بتلك المنزلة لأن فاءها في نية السكون (1) .

   أما أبو بركات الانباري (ت 577هـ) فقد استشهد بقول علقمة بن عبدة : 
    قديديمة التجريب والحلم إنني        أرى غفلات العيش قبل التجارب (2)

فقولة ( قديديمة ) هي تصغير قدم ولحقت التاء في التصغير شذوذا لأنه زاد على ثلاثة أحرف ، وإنما صغرت تنبيها على أن الأصل في تصغير المؤنث أن يكون بالتاء (3) .

    أما ابن الأثير الكاتب (ت 637 هـ) فقال في ( جواز إثبات الواو وحذفها  أعلم أن العرب قد حذفت من اجل الألفاظ شيئا لا يجوز القياس عليه )(4) كقول علقمة بن عبدة :
      كأن إبريقهم ظبي على شرف       مفدم بسبا الكتان ملثوم (5) 

فقوله ( بسبا الكتان ) يريد بسبائب الكتان ، شبه الأبريق بظبي على شرف لطول عنقه ، وسباب الكتان أراد السبني من الثياب فحذف (6) .


(1) المفصل في صنعة الأعراب : 587 . (2) الديوان : 119 . (3) ينظر البلغة في الفرق بين المذكر والمؤنث : 27 . (4) المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر : 996 . (5) الديوان : 70 . (6) شرح الأشعار الستة الجاهلية : للبطليوسي : 570 .


( 51 )

أما قوله :

  هل ما علمت وما أستودعت مكتوم       أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم (1)

فقد استشهد به عبد القادر البغدادي (ت 1093هـ) فقال أما قوله ( هل ما علمت 00000) ، هل هنا دخلت على الجملة الاسمية فان ما موصولة مبتدأ ، وما الثانية معطوف عليها ، ومكتوم خبر المبتدأ ، والفعلان في الخطاب الأول بالبناء للمعلوم والثاني بالبناء للمجهول .والمكتوم : المستور ، وأم حرف استئناف بمعنى بل ، لأنها منقطعة وفيها معنى الهمزة ، وجملة حبلها مصروم من المبتدأ والخبر استئنافية ، وإذ تعليلية متعلقة بمصروم بمعنى مقطوع ، والحبل استعارة للوصل والمحبة (2) . كما استشهد في ( هل يجوز أن تأتي هل بعد أم ) بقوله :

   أم هل كبير بكى لم يقض عبرته       إثر الأحبة يوم البين مشكوم (3) 

على أنه يجوز أن تأتي هل بعد أم ، فهذا البيت ليس فيه استفهامان ، فأن أم عند الشارح مجردة عن الاستفهام إذا وقع بعدها أداة استفهام أخرى سواء حرفا كانت أم اسما . وأم المنقطعة عند الشارح حرف استئناف بمعنى بل فقط ، أو مع الهمزة بحسب المعنى ، وذلك فيما إذا لم يوجد بعدها أداة استئناف وليست عاطفة عنده ، فالجواب أن أم فيها معنيان : أحدهما : الاستفهام والأخر العطف ، فلما احتيج إلى معنى العطف فيها مع هل خلع منها دلالة الاستفهام وبقي العطف بمعنى بل للترك ، ولذلك قال سيبويه : أن أم تجيء بمعنى بل ، للتحويل من شيء إلى شيء ، وليس كذلك الهمزة لأنها ليس فيها ألا دلالة واحدة (4) . (1) الديوان : 50 . (2) ينظر خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : 9946 . (3) الديوان : 33 . (4) ينظر خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : 9939-9941 . ( 52 ) ومن وجه أخر فقد جردت من الدلالة على الاستفهام حتى صارت اسما كسائر الأسماء ، ويجوز إعرابها وتثنيتها وجمعها ، كما جردوا أي من الاستفهام إذ وصفوا بها . فقد خلع الاستفهام من هل دون أم لأن هل قد استعمل في غير الاستفهام نحو ( هل أتى على الإنسان حين ) أي قد أتى ، فكان اعتقاد نزع الاستفهام منها اسهل من اعتقاد نزعه من أم (1) . كما استشهد بقوله :

         حتى تذكر بيضات وهيجه         يوم رذاذ عليه الريح مغيوم (2) 

فجعل حتى بمعنى إلى متعلقة بيظل ، كما فيه إخراج ( مغيوم ) على اصله غيم يقال غامت السماء ، وأغلمت ، واكثر ما يجيء هذا معا وكان القياس مغيم كمبيع فجاء مغيوم على خلاف القياس(3) . كما استشهد بقوله :

     لو يشا طار به ذو ميعة                   لاحق الآطال نهد ذو خصل (4)

فقال ( أن الجزم بلو ضرورة ، لأن لو موضوعة للشرط في الماضي ، قال ابن الناظم : اكثر المحققين أنها لا تستعمل في غير المضي ، وذهب قوم إلى أنها تأتي للمستقبل بمعنى إن )(5) كقوله تعالى ( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا )(6) .


(1) ينظر خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب :9943 . (2) الديوان : 59 . (3) ينظر خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : 9960 . (4) الديوان : 134 . (5) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب : 9964 . (6) سورة : النساء : 9 .

( 53 ) وليس ما أستدل به بحجة لأن غايته ما فيه أم ما جعل شرطا لـ (لو) ، مستقبل في نفسه، أو مقيد بمستقبل ، وذلك لا ينافي امتناعه فيما مضى لا امتناع غيره .

    أما صاحب لسان العرب فقد استشهد بشعر علقمة بن عبدة في كثير من المواضع منها قوله :
       بعيني مهاة يحدر الدمع منهما      بريمين شتى من دموع واثمد (1)

فقال يحدر : فعل متعدِ ولازم ، فان عديته جعلت ( بريمين ) مفعولا وإلا فبريمين منصوب على الحال ( 2) . أما صاحب معجم البلدان فقد استشهد بقول علقمة بن عبدة :

   فأوردتها ماء كأن جمامه          من الاجن حناء معاً وصبيب (3)

في حذف الموصوف وأقامة الصفة مقامه (4) .





(1) الديوان : 105 . (2) لسان العرب : ( حدر) . (3) الديوان : 42 . (4) ينظر معجم البلدان : ( المندى ) .


( 54 ) 2- الظواهر اللغوية : قال علقمة بن عبدة :

     سلاءة كعصا النهدي غل بها        ذو فيئة من نوى قران معجوم (1)

أي من سمى إبرة العقرب حمه فقد أخطا وإنما الحمه سموم ذوات الشعر وذوات الأنياب وسموم الإبر (2) وقال علقمة بن عبدة :

    وقد يقصر القل الفتى دون همه          وقد كان لولا القل طلاع أنجد (3) 

في باب فعل وفعل باختلاف المعنى (4) . وقوله :

    ألا رجل أحلوه رحلي وناقتي          يبلغ عني الشعر إذا مات قائله (5)  

وقوله ( ألا رجل ) يريد ألا من رجل (6) . وكذلك استشهد ابن قتيبه بقول علقمة بن عبدة :

                   كمـا خشخشت يبـس الحـصاد جنـوب (7)

في باب ما جاء من ذوات الثلاثة فيه لغتان فَعْل وفَعَل بفتح الفاء وسكون العين ، وفتح الفاء والعين معا(8) .


(1) الديوان : 74 . (2) ينظر الحيوان :ج2/ 863 . (3) الديوان : 122 ، وفيه ( وقد يعقل القل الفتى دون همه ) . (4) ينظر إصلاح المنطق : 48 . (5) الديوان : 131 . وفيه ( من رجل أحبوه رحلي وناقتي ) . (6) إصلاح المنطق : 712 . (7) الديوان : 45 . (8) أدب الكاتب : 615 . ( 55 ) وقوله :

   كأن عيون الوحش حول خبائنا         وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب (1) 

الظباء والبقر عيونها سود في حال الحياة فإذا ماتت بدا بياضها فلذلك شبهها بالجزع الذي في بياض وسواد بعد ما ماتت ، وهذا التشبيه من التشبيهات العقم التي لم يسبقه أحد أليها ولا تعاطاها أحد بعده ، ولو قال الجزع وقام به البيت وأمسك عن قوله الذي لم يثقب لكان من أبدع تشبيه وأحسنه ، ثم زاده تتميما وحسنا بقوله الذي لم يثقب وكمل له بذلك نظم البيت ، وضع القافية ، وهذه الصناعة من الشعر تسمى التبليغ لأنه أتى بمعنى زائد بلغه إلى القافية ( 2) . وقوله :

     كأن غسلة خطمي بمشفرها       في الخد منها وفي اللحيين تلغيم (3)

الغسل مصدر غسلت والاسم منه الغسل بضم الغين ، وأما الغسلين فهو ما يسيل من صديد أهل النار (4) . وقوله :

     عقلا ورقما تظل الطير تخطفه        كأنه من دم الأجواف مدموم (5) 

عقلا ورقما : أي عكمت بالعقل والرقم وهما ضربان من الوشي فيهما حمرة ،



(1) الديوان : 97 . (2) ينظر اللآلي في شرح آمالي القالي : ج1 /102 . (3) الديوان : 54 (4) ينظر درة الغواص في أوهام الخواص : 240- 241 (5) الديوان : 51 : وفيه : ( عقلا" ورقما" تظل الطير تتبعه ) .

( 56 ) وقال الاصمعي : العقل خيط يعقل بخيط أخر يدخل فيه من تحته ثم يرفع على خيط وانتصب عقلا على انه مفعول معكوم على حذف حرف الجر وإنما قال تظل الطير تتبعه يريد انه يخيل أليها انه لحم (1). أما قوله في وصف سنام الناقة :

     قد عريت حقبة حتى استطف لها       كتر كحافة كير القين ملموم (2) 

تقول العرب : قال فلان كيت وكيت فيوهمون فيه ، لان العرب تقول كان الأمر كيت وكيت ، وقال فلان : ذيت ، فيجعلون كيت وكيت كناية عن الأفعال ، وذيت وذيت كناية عن المقال ، كما يكنون عن مقدار الشيء بكذا وكذا فيقولون : قال فلان من الشعر كذا وكذا بيتا(3) . أما قوله :

      تعفق بالارطى لها ، وأرادها       رجال فبذت نبلهم وكليب (4) 

تعفق في تخريجها قولان : تعفق بالارطي تعوذ بالارطى من المطر والبرد ، وتعفـق الوحوش بالأكمة لاذ بها من خوف كلب أو طائر ، وتعفق : تثنى واستتر ، أي استتر لها القناص (5) .


(1) ينظر شرح أدب الكاتب : 504 . (2) الديوان : 54 . (3) تصحيح التصحيف وتحرير التحريف : 536 . (4) الديوان : 38 . (5) ينظر لسان العرب : ( عفق ) .


( 57 ) أما قوله :

بل كل قوم وان عزوا وان كثروا      عريفهم بأثافي الشر مرجوم (1)

قوله ( بل ) للإضراب ، أضرب عما كان فيه واخذ وصف أحوال الدنيا واختلاف الناس فيها ، من ذل بعد عز ومن جود يتلف المال ويحمد صاحبه ، والأثافي : جمع اثفية وهي الحجارة التي ينصب عليها القدر (2) .

    أما صاحب تفسير الطبري : في تفسيره لقول الله تعالى : ( والحب ذو العصف والريحان )(3)   فيقول الحب وهو حب البر والشعير ذو الورق ، والتين : هو العصف وإياه عنى علقمة بن عبدة بقوله : 
     تسقي مذانب قد مالت عصيفتها      حدورها من أتي الماء مطموم (4)

وقوله :

       فلا تعدلي بيني وبين مغمر      سقتك روايا المزن حين تصوب (5) 

يعني : حين تتحدد : وهو في الأصل صيوب ولكن الواو لما سبقتها ياء ساكنة صيرتا جميعا ياء مشددة ، كما قيل سيد من ساد يسود ، وجيد من جاد يجود ، وكذلك تفعل العرب بالواو إذا كانت متحركة وقبلها ياء ساكنة تصيرها جميعا ياء مشددة (6) .


(1) الديوان : 64 . (2) ينظر البديع -ابن المعتز- : 9 . (3) سورة الرحمن : 12 . (4) الديوان : 55 : وفيه ( تسقي مذانب قد زالت عصيفتها ) : وينظر تفسير الطبري سورة الرحمن . (5) الديوان : 34 . (6) تفسير الطبري : سورة البقرة (19) .

( 58 ) وكما استشهد المبرد بقول علقمة بن عبدة :

     قرحاء حواء أشراطية وكفت       فيها الذهاب وحفتها البراعيم (1) 

قرحاء يريد الأنوار ، وقوله : حواء تضرب إلى السواد لشدة ريها وخضرتها (2) وكـذلك قـال المفسرون في تـفسير قـوله تعـالى ( مدهامتان )(3) سورة الرحمن : 64 ، قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء . وقولة : أشريطية ليس مما قصدنا له ، ولكنه مما يجري فنفسره ، ومعناه أنها مطرت بنوء الشرطين . كما استشهد الزمخشري (ت 538هـ) في باب ( جنب) بقول علقمة بن عبدة :

     فلا تحرمني نائلا عن جنابة      فأني امرؤ وسط القباب غريب (4)
أي : أنا في جناب فلان أي في فنائه ومحلته ومثوا جانبيه وجنانبيه وجنابتيه وجنبتيه (5) .

وقوله :

    وما أنت أم ما ذكره ربعيه          تحل باين أو بأكناف شربب (6)

وفي هذا البيت استشهاد أخر وهو من بلاغة العرب التي ورد مثلها في الكتاب العزيز ، وهو صرف الخطـاب عن المواجه إلى الغائـب والمراد بـه المخاطب


(1) لقد بحثت عن هذا البيت ولم أجده في الديوان أنما هذا البيت هو للحطيأة : ينظر ديوانه : 44 : ولا اعلم لما نسبه المبرد إلى علقمة . (2) ينظر الكامل في اللغة والأدب : ج3/ 1219 . (3) مختصر تفسير ابن كثير :ج3/ 424 ، تح/ محمد علي الصابوني . (4) الديوان : 48 . (5) ينظر أساس البلاغة : (جنب) . (6) الديوان: 35 : وفيه :

        ( وما أنت أم ما ذكرها ربعيه            يخط لها من ثرمداء قليب ) .
( 59 )

الحاضر لأنه أراد في البيت أم ما ذكرك ربعيه فصرفه عن المواجهة (1) ، وقال عز وجل : ( حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة )(2) .

   أما إدخال ألفاظ أعجمية إلى الشعر العربي فقد استشهد صاحب الامالي أبو علي القالي  بقول علقمة بن عبدة :
    رغا فوقهم سقب السماء فداحص      بشكته لم يستلب وسليب (3) 

فبالصاد غير المعجمة يقال : دحص برجليه وفحص وكان بعض العلماء يرويه فداحص وهذا الحرف ما نسب فيه أحد إلى التصحيف(4) . 3- الظواهر العروضية : أ_ الإيغال : وهو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاما من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع ، ثم يأتي بها لحاجة الشعر ، في أن يكون شعرا ، غليها ، فيزيد بمعناها في تجويد ما ذكره في البيت كقول علقمة بن عبدة :

    كأن عيون الوحش حول خبائنا       وارحلنا الجزع الذي لم يثقب (5)

فقد أتى على التشبيه كاملا قبل القافية وذلك أن عيون الوحش شبيهة الجزع ثم لما جاء بالقافية أوغل بها (6) .


(1) معجم البلدان : ( يين) .

(2)  سورة  يونس : 22 .
(3)  الديوان : 46 .
(4)  ينظر الامالي أبو علي القالي : ج1 /426  .
(5)  الديوان : 97 . ويذكر ان البيت لأمرىء القيس ينظر ديوانه : 53 .
(6)  ينظر نقد الشعر : 177.
  

( 60 ) ب _ الحذو: والحذو حركة ما قبل الردف واوا كان أو ألفا أو ياء ، فان كان الردف واوا فالحذو ضمة وان كان الردف ألفا فالحذو فتحة وان كان ياء فالحذو كسرة ، وقد يجيء قبل الواو والياء فتحة (1) ، والذي حذوه فتحة وردفه آلف مثل قول امرىء القيس :

إلا أنعم صباحا أيها الطلل البالي     وهل يعمن من كان في العصر الخالي (2)

فتحة الخاء حذو والألف ردف واللام روي وحركتها مجرى والياء وصل . وأما ما كان حذوه ضمة فقول زهير :

     منى تك في صديق أو عدو             تخبرك الوجوه عن القلوب (3)

وأما ما كان حذوه كسرة فقول علقمة بن عبدة :

       فأن تسألوني بالنساء فأنني           خبير بأدواء النساء طبيب (4)

ج _ التثليم : وهو أن يأتي الشاعر بأسماء يقصر عنها العروض ، فيضطر إلى ثلمها للنقص منها ، نحو قول علقمة بن عبدة :

      كأن إبريقهم ظبي على شرف         مقدم بسبا الكتان ملثوم (5) 

أراد بسبائب الكتان فحذف للعروض (6) .


(1) ينظر القوافي : 68 . (2) ديوان امريء القيس : 27 . (3) ديوان زهير : 58 . (4) الديوان : 33 . (5) الديوان : 70 . وفيه ( مفدم بسبا الكتان ملثوم ) . (6) ينظر نقد الشعر : 210 .

                          اعداد 
                    ايهاب مجيد محمود جراد 
                          واشراف                     
              الاستاذ الدكتور عبد السلام محمد رشيد

]]