نقاش:ابن خلدون

ابن خلدون تفرق دمه بين البلدان العربية والأندلس.. وأصبح اليوم رمزا لوحدة المغرب العربي

ثباتيرو استفرد به.. وبوتفليقة شكره على حسم الخلاف بين الجزائر وتونس


الرباط: عبد الله الدامون


وحّد ابن خلدون بلدان المغرب العربي بقوة، بعد أن فرقت بينها السياسة وحولت اتحاد المغرب العربي إلى رميم بفعل تصدعات مزمنة بين بلدان تتكامل في كل شيء إلا في واقع الوحدة.


وتحتفل الجزائر وتونس والمغرب وإسبانيا بذكرى ابن خلدون في أجواء سياسية معقدة، في الوقت الذي يجتمع ممثلو هذه البلدان في إشبيلية أو المغرب لإحياء ذكرى ابن خلدون، الذي عاد إلى واجهة الأحداث بقوة هذا العام بعد أن تحول إلى مادة دسمة في السياسة والثقافة وعلوم الاجتماع، وأيضا مادة للتنافس بين بلدان كثيرة.


ومن النادر أن تجتهد خمسة بلدان في الاحتفاء برمز تاريخي وعلمي كبير، مثلما حدث في الذكرى المئوية السادسة لوفاة المؤرخ والعالم العربي عبد الرحمن بن خلدون، الذي شغل الناس حيا وميتا، حتى أصبحت الكنائس الكاثوليكية، التي طاردته قبل مئات السنين، تعود اليوم لتفتخر بكون الأندلس، التي عاش فيها هذا الرجل الفذ لسنوات طويلة، كانت نموذجا للتعايش بين الثقافات والديانات، بينما كان الرهبان المتعصبون والقساوسة الحقودون يطاردون وقتها الأندلسيين المسلمين، ليرموا بهم في قوارب متهالكة في البحر، ثم يستولوا على كل أملاكهم.


لكن ذلك التاريخ الذي مضى ويخيل للجميع أنه انتهى، يعود اليوم ليذكر الناس بأحد أكثر وجوهه إشراقا، في ذكرى عالم أعطى مقدمته ورحل، فيما ظل الناس ينشغلون بالهوامش. ويحس المغاربة والجزائريون والتونسيون والإسبان بأن ابن خلدون ملك لكل واحد منهم، بينما يقول المصريون إن لهم فيه نصيبا، لأنه توفي في القاهرة عام 1406 ميلادية، بعد أن نزح من الأندلس التي أصيبت بلعنة نظريته في ازدهار وانحطاط الحضارات.


ولم يكن الصراع حول ابن خلدون قضية كواليس في هذه البلدان. وخلال القمة العربية في الجزائر، وصف رئيس الحكومة الإسبانية، خوسي لويس رودريغيث ثباتيرو، ابن خلدون بأنه أندلسي، وثمرة للحضارة الأندلسية المزدهرة، وهو ما علق عليه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، في دعابة سياسية، بأن إسبانيا أخرجت بلدان المغرب العربي من الخلاف حول ابن خلدون، بعد أن أعلن ثباتيرو أنه أندلسي، محاولا بذلك أن يستفرد برجل تتصارع الأمم من اجل الانتساب إليه.


وعاش ابن خلدون أغلب فترات حياته في اشبيلية، ثم انتقل بعدها إلى المغرب وعاش فيه ردحا من الزمن، وكان دائم التنقل بين المغرب والأندلس، سار إلى وهران الجزائرية، حيث بدأ كتابة «المقدمة»، ثم انتقل إلى تونس حيث عاش لزمن قبل أن ينتقل إلى مصر التي أنهى بها حياته.


وتعتبر تونس الأكثر حماسا لجعل ابن خلدون تونسيا. ويصر التونسيون على أن الرجل ولد في بلدهم قبل أن يهاجر مع عائلته إلى الأندلس ويصبح اشبيليا قلبا وقالبا. وفي شارع الحبيب بورقيبة بوسط العاصمة التونسية، يوجد تمثال حجري لابن خلدون وهو واقف بشموخ ويمسك بيده كراسا. غير أن التمثال علاه الغبار، كما علا الغبار الفكر العربي حاليا. إلا أن المغاربة يبدون أكثر نجاعة في فهم ابن خلدون، عبر دراسات كثيرة تقتفي أثر الرجل وتلقي على مسيرته المزيد من الأضواء. ويعمل معهد الدراسات الإسبانية ـ البرتغالية في المغرب بجهد ملحوظ كي يجعل من الذكرى 600 لوفاة ابن خلدون محطة كبرى من أجل تسليط المزيد من الضوء على سيرة ذلك الرجل، الذي لا يزال يوصف، إلى حد اليوم، بانه واحد من نوابغ التاريخ. وتكثف نشاط المعهد، بتنسيق مع مؤسسة التراث الأندلسي، عبر ضفتي مضيق جبل طارق، بواسطة باحثين مختصين في الدراسات الإسبانية والبرتغالية، لكي تجعل من عام ابن خلدون، سنة استثنائية في دراساتها وأبحاثها، ليس فقط ارتباط بابن خلدون، بل أيضا بدراسات أعمق حول عالمين يتقاربان جغرافيا وثقافيا، ويتباعدان سياسيا بملايين السنوات الضوئية. وفي الوقت الذي تتنافس بلدان المغرب العربي على محو تشتت السياسة بوحدة التاريخ، فإن إسبانيا تحاول أيضا أن تمحو عار محاكم التفتيش وطرد ملايين الأندلسيين من بلادهم، عبر إقامة معارض وندوات ومؤتمرات خاصة بهذا العلامة العربي، الذي أعطى في السياسة وعلوم الاجتماع نظريات ما زال علماء هذا العصر يقفون أمامها مشدوهين، كأطفال يقفون حيارى في محراب المعرفة.


ويقول الباحثون إنه كان لابن خلدون الفضل الكبير في وضع المدينة في غمرة التحولات المجتمعية والاقتصادية والسياسية في علاقتها مع طبيعة السلطة. ويؤكد الباحثون على إبراز المقاربة الخلدونية التي أثبتت العصور مدى عمقها بكيفية واضحة، لا سيما في ما يتعلق بتطرقها لدور المدينة في قيام الحضارات وانحطاطها، الشيء الذي جعل من الإشكاليات والتساؤلات التي طرحها ابن خلدون، مدخلا ضروريا لفهم ازدهار الحضارات وتقهقرها. ويصف الباحث المغربي محمد الناصري، المفكر ابن خلدون بانه جمع بين عبقرية الفكر النظري من ناحية، والتطبيق العملي من ناحية أخرى، حيث اكتشف عددا من قوانين حركة المجتمعات والعمران البشري، ولاحظ الأنماط الرئيسية للعمران في زمانه، وهي معيشة سكان المدن والبدو والقبيلة، كما لاحظ أن العلاقة الجدلية بين هذه الأنماط هي التي تفسر دورة الصعود والانحلال والسقوط التي عرفتها البلدان في عصره، وأن روح هذه العلاقة الجدلية هي ما أطلق عليه ابن خلدون مصطلح «العصبية»، أي الولاء المطلق للأقرباء والتحيز لهم، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين.


كما اعتبر ابن خلدون أن القبيلة أو البداوة تعد المخزون الأكبر «للعصبية»، فهي التي تمكن إحدى القبائل من الزحف على غيرها من القبائل، ثم على المدن، حيث تكون الأسرة الحاكمة في المدن قد فقدت روح عصبيتها وانغمست في حياة الترف فتفسد وتضعف، ومن ثم تعرف السقوط تحت هجمة أصحاب العصبية الجديدة، الذين يصبحون أسرة حاكمة جديدة، يجري عليها ما جرى على ما سبقها من ضعف وفساد وتحلل، فتهجم عليها قبائل أخرى فتية، بعد أن تدب إليها عوامل الفساد والانحلال.


وفي الوقت الذي أصبح ابن خلدون أهم موحد بين بلدان المغرب العربي في ذكرى موته الستمائة، فإن حياته بهذه البلدان، أو في البلدان العربية الأخرى، لم تكن عسلا. ففي المغرب شهد مقتل رفيق عمره لسان الدين ابن الخطيب في سجن بمدينة فاس، وكانت تلك الحادثة نكسة حقيقية في حياته. وعندما انتقل إلى العيش في القاهرة، فإنه تلقى نكسة أخرى عندما غرق مركب كان يقل عائلته من تونس إلى مصر. وقبل ذلك تعرضت مدينته اشبيلية للغزو من الملوك الكاثوليك وشردوا أهلها، مثلما فعلوا في كل الأندلس. غير أن كل هذا لم يمنع ابن خلدون من التفكير والتأليف، وكأنه يعطي درسا لعرب سيأتون من بعده، ينزعون نحو البكاء ونتف شعرهم بمجرد أن تلم بهم مصيبة.


وفي اشبيلية التي خرج منها قبل أزيد من 600 عام، اجتمع أخيرا رؤساء وملوك بلدان عاش فيها هذا المفكر العربي ليتحدثوا في كل شيء، حول السياسة والفكر والتاريخ والهجرة السرية. وفي القصر الذي عاش فيه ابن خلدون سنوات طويلة، في تلك المدينة المبهرة بفتنتها البسيطة والصادقة، أقيم معرض حاول منظموه المساهمة في التقريب بين العالمين الغربي والإسلامي.لقد رأى ابن خلدون نظريته في صعود وانحطاط الحضارات تتحقق أمام عينيه، وهي «نعمة» نادرا ما تتحقق لأصحاب النظريات. أما دمه الذي تفرق بين القبائل، فتتم محاولة جمع شتاته اليوم ليصنع فكرا عربيا موحدا... ربما.


المصدر:الشرق الأوسط - 02 يونيو 2006

أضافها:أحمد دداش