نظرية عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة على نحو يكفي لمحو القيم البدوية

صراعُ الحضارةِ والبداوةِ بعد الإسلام مع ظهورِ الإسلام وانتصارِه، حدثَتْ ثورةٌ حقيقيَّةٌ حاولَت تغييرَ معظمِ الأعرافِ والتقاليدِ والقِيَمِ والمبادئ، وبالتالي تغييرَ العقل المجتمعيِّ الذي كان سائدًا في العصر الجاهليّ. بَيدَ أنَّ كثيرًا من تلك القِيَمِ البدويَّة أو الجاهليَّة ظلَّ موجودًا في ذلك العقل، إمَّا ظاهرًا بوضوح، أو كامنًا يظهرُ بين الفَينةِ والفَينة. وقد يظلُّ بعضُ القِيمِ مسيطِرًا أحيانًا، بشكلٍ أو آخر، على الاتِّجاه العامِّ للمجتمع، من خلال سلطةِ العقلِ المُجتمعيّ. فقد تجلَّتِ القِيَمُ العشائريَّة، مثلاً، من خلالِ ظاهرةِ الصراعِ على السلطة، أو في حالاتِ تفعيلِ الانتماءِ العشائريِّ أو التعصُّب القَبَليّ التي حَرَّمَها الإسلام: إذ جعلَ الذين كفروا في قلوبِهم الحميَّة حميَّةَ الجاهليَّة فأنزلَ الله سكينتَه على رسولِه وعلى المؤمنين وألزمَهم كلمة التقوى (سورة الفتح، 26)؛ وفي الحديث "ليس منَّا مَن دَعا إلى عصبيَّةٍ أو قاتلَ عصبيَّةً"، و قال الرسول (ص) في خُطبة الوداع: "إن الله أذهبَ عنكم نخوةَ الجاهليَّة وفخرَها بالآباء، كلُّكم لآدمَ وآدمَ من تراب، ليس لعربيٍّ على عَجميٍّ فضلٌ إلا بالتقوى."

ولكنَّ العقلَ المجتمعيَّ كان أقوى من التشريع ومن التعاليمِ الدينيَّة، كشأنِه في معظمِ المجتمعاتِ الأخرى، إن لم يكنْ جميعها.  يقولُ أحمد أمين: "إلى أيِّ حدٍّ تأثَّر العربُ بالإسلام؟ وهل امَّحَت تعاليمُ الجاهليَّة ونزعاتُ الجاهليَّة بمُجَرَّدِ دُخولِهم في الإسلام؟ الحقّ أن ليس كذلك، وتاريخُ الأديانِ والآراءِ يأبى ذلك كلَّ الإباء ..."11  
  فقد ظلَّتِ العصبيَّةُ القبَليَّةُ سائدة، وتجلَّت بِشكلٍ واضحٍ من خلالِ الصراع بين بني أُميَّة وبني هاشم  على السلطةِ أو على الخلافة، الذي أصبح صريحًا ودَمويًّا بعد مقتلِ عثمان، فضلاً عن صِراعاتٍ عشائريَّةٍ أُخرى. يقول صاحبُ "فجر الإسلام": "ولمَّا وَليَ الأُمويُّون الخلافة، عادتِ العصبيَّةُ إلى حالِها كما كانت في الجاهليَّة، وكان بينهم وبين بني هاشم في الإسلام  كالذي كان بينهم في الجاهليَّة... وعاد النـزاعُ في الإسلام بين القَحطانيَّة والعدنانيَّة، فكان في كلِّ قُطرٍ عداءٌ وحروبٌ بين النَّوعين." ويُسهبُ المؤَلِّفُ في ذِكرِ الحروب التي قامَت بين الأزْد وتَميم، و بين كَلب وقَيس (يمنيّين وعدنانيّين) وغيرهم بعد الإسلام.12 وهنا يَظهر الصراعُ بين عقلٍ مجتمعيٍّ تقليديٍّ قديم وعقلٍ مجتمعيٍّ تقدُّميٍّ أكثرَ حداثة.  فقد جاء الإسلامُ بنظامٍ متكاملٍ و بمبادئَ جديدة، ورسمَ للحياة مُـثلاً عُليا ووسائلَ خاصَّةً لتحقيقها تختلفُ عن تلك التي كانت معروفةً في العصر الجاهليّ؛ في حين كان العقلُ المجتمعيُّ العربيُّ مشحونًا بالتراثِ القديم، ومعظمُه يحفلُ بقِيَمِ البداوة المتجذِّرة. 
وكمثالٍ مُحدَّدٍ وملموسٍ على بعض مظاهرِ المحافظةِ على القِيَم الجاهليَّة الثَّاويةِ في العقلِ المجتمعيِّ البدويِّ أو الجاهليِّ بعد الإسلام، نذكرُ ظاهرةَ الأخذ بـ"الثأر"، التي ظلَّت سائدة، حتَّى يومِنا هذا، في معظمِ المجتمعاتِ العربيَّة، أي ظلَّت قابعَةً في "العقلِ المجتَمعيِّ العربيّ" المعاصِر. مع أنَّ هذه الظاهرةَ  تُخالفُ تمامًا نصًّا قرآنيًّا صريحًا: ولا تَزرُ وازرةٌ وِزرَ أُخرى. (فاطر:18) وأوَّل مرَّةٍ  تجلـّت فيه هذه الظاهرة في الإسلام كانتْ بعد سنواتٍ قليلةٍ من وفاة الرسول (ص) ( أي في سنة 23 هـ)، حين طعن أبو لؤلؤة  الخليفةَ عُمر، فثارَت "حميَّةُ الثأرِ الجاهليَّة" لدى ولدِه عُبيد الله، الذي استلَّ سيفَه فقتل جُفينة و الهرمزان وابنة أبي لؤلؤة. وحصلَ خلافٌ بين المسلمين بعد ذلك على عقابِه، لأنَّه خالفَ نصًّا تشريعيًّا صريحًا. بَيدَ أنَّ الخليفةَ عثمان عفا عنه  وسيـَّرهُ  إلى الكوفة وأقطعَه أرضًا ودارًا.13 وبذلك انتصرَ العقلُ المجتمعيُّ الجاهليُّ القديمُ على سلطةِ النصِّ التشريعيِّ الذي يفرضُه الدين الجديد. 
التمييزُ بين العَرَب والأعراب
كرَّس القرآنُ الكريم العديدَ من الآيات للحديثِ عن الأعراب. منها:قالتِ الأعرابُ آمنّا، قُلْ لم تؤمنوا ولكنْ قولوا أسلَمنا ولمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم (الحجرات 14)، والأعرابُ أشدُّ كُفرًا ونِفاقًا وأجدرُ ألا يعلموا حدودَ ما أنزلَ الله على رسولِه. (التوبة97) وورَدَ في تفسيرِ الطَّبري أنَّ "الأعرابَ، وهم مَن نزلوا البادية، أشدُّ جحودًا وأشدُّ نِفاقًا من أهلِ الحَضَر في القُرى والأمصار..."14لذلك حدثَ صِراعٌ بين قِيَمِ البداوة وقِيَم الدين الإسلاميّ. ويُمكنُ القولُ إنَّ تلكَ القيمَ المتناشزةَ كانت تتصادمُ  وتتعايشُ وتتقاطعُ وتتداخل. يقولُ أحمد أمين: "إذاً، كان في عصورِ الإسلامِ الأُولى نزعاتٌ جاهليَّةٌ ونزعاتٌ إسلاميَّة، كانت تسيرُ جَنبًا إلى جَنب." ويُشيرُ إلى تأثُّر الأدبِ الأُمويّ، وخاصَّةً الشعر، بالنـزعاتِ الجاهليَّة، ومنها "المعاني الجاهليَّة والهجاء الجاهليّ والفخرُ الجاهليُّ والحميَّةُ الجاهليَّة." أمَّا النـزعةُ الإسلاميَّة فقد ظهرَت في العلوم الشرعيَّة.15 ومع أنَّ المجتمعَ الحضريَّ في الجزيرة العربيَّة، على قلَّتِه، كان أكثرَ تقبُّلاً لقواعدِ الدينِ الجديدِ من المجتمع البدويِّ الذي كان يشكِّلُ الأغلبيَّةَ الساحقةَ للمجتمع العربيّ، كما يرى جمهورُ المؤرِّخين، فالمجتمعُ الحضريّ ظلَّ هو الآخر محتفظًا بقِيَمِه القَبَليَّة ذات الأصولِ البدويَّة، شأنه شأْن المجتمع البدويّ، كما ظهر ذلك في التعصُّب القَبَليِّ ، مثلاً، في الصراعِ على السلطة، والحميَّة الجاهليَّة، والأخذِ بالثأر من أهلِ القاتل أو قبيلتِه، على النحوِ الذي أوضحْناه آنفًا، وعشراتٍ من القِيَمِ البدويَّة. وذلك لأنَّ التركيبةَ المجتمعيَّةَ لأهمِّ الحواضر في الجزيرةِ العربيَّة، مثل مكَّة والمدينة والطائف، كانت قبليَّة، أو بالأحرى ذاتَ أصولٍ وقِيَمٍ بدويَّةٍ واضحة. تمامًا كما يحدثُ اليوم حتَّى عندما تستقرُّ بعضُ القبائل في المدن والقرى الحضريَّة في معظم البلدان العربيَّة ولكنَّها تظلُّ محتفظةً بقِيَمِها وعاداتِها التقليديَّة خلال أجيالٍ وأجيال.                                                         

وهناك عشراتُ الأمثلةِ والشواهدِ التي تُشيرُ إلى تجذُّر بعضِ القِيَمِ البدويَّة في العقل المجتمعيّ، العربيِّ والإسلاميّ، حتَّى يومِنا هذا. ومنها عادةُ الثأر والتعصُّب القَبَليِّ والمحلِّيّ، فضلاً عن احتقارِ المرأةِ والتشاؤمِ من الأنثى بوجهٍ عامّ: وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأُنثى ظلَّ وجهُه مُسودًّا وهو كظيم (النحل57). كما تُشيرُ الأمثالُ الشعبيَّة المتداوَلةُ اليوم إلى هذا المعنى بكلِّ وضوح. (أنظر تفصيلَ بعضِها في عدد صيف 2003). كذلك اضطلع علي الورديّ بِشَرح هذه الشواهدِ في كتابِه "دراسة في طبيعة المجتمع العراقيّ". ومنها، مثَلاً، أنَّ كثيرين من أبناءِ القبائل في العراق يستنكفون من الشكوى إلى الحكومةِ حول أيَّةِ قضيَّةٍ أو اعتداءٍ يحدثُ بينهم، لأَنَّ ذلك مُنافيًا لِقِيَم الرجولة والعصبيَّة. لذلك يُفضِّلون الأخذَ بالثأر بأنفُسِهم.16 ويُمكنُ تعميمُ هذه القيمة على كثيرٍ من أفراد الأحياء الريفيَّة والتقليديَّة في العراق، حيثُ كان كثيرون منهم يستنكفون عن اللجوء إلى القانون فيُطبِّقونه بأنفُسِهم، حتَّى إذا حوكِم الجاني وحُكِمَ عليه بالسجن مثلاً، فإنَّه يبقى مطلوبًا للثأر من جانبِ أُسرةِ المَجنيِّ عليه، حتَّى بعد خروجِه من السجن. كما عانَيتُ شخصيًّا من هذه "القيمة" في طفولتي حين كان أحدُ الطلاَّبِ الأقوياء في المدرسة يضرِبُني، فلا أرفعُ شكواي إلى الإدارة كما كان ينصحُني أبي، بل أُصِرُّ على أن آخذَ بثأري منه بنفسي، فأترصَّد لهذا الولدِ الذي يكبرُني، خارجَ المدرسة، مع بعضِ الطَّلَبَة الضعفاء مثلي لنَضربَه بهراواتِنا؛ وهكذا تستمرُّ المعاركُ داخل المدرسة وخارجها للمُحافظةِ على "القِيَم البدويَّةِ العريقة" التي استقرَّت في العقلِ المجتمعيِّ الحضريّ. كما يستشهِدُ الورديّ بأحداثٍ وظواهرَ كنتُ شاهدًا عليها أنا الآخر منذ طفولتي؛ ومنها العراك بين المحلاَّت (الأحياء) البغداديَّة، والثأر بعضها من البعضِ الآخر، والتعصُّب لأبناء "المحلَّة" والدفاع عن شرفِ المرأة (عِرضها) التي تنتمي إلى نفسِ المحلَّة، في حين يُجيزُ الرجلُ "الشقاوة" (القبضاي)، لنفسِه أن يعتديَ على أعراضِ نساءِ الأحياء الأخرى، ويفتخرُ بذلك. ومن تلك المظاهرِ الوساطاتُ لدى الوزيرِ أو المديرِ العامّ، من جانبِ بعضِ وُجَهاء الحيِّ البارزين، لتعيـينِ أحَدِ أبناء الحيِّ في وظيفة، قد لا يستحقٌُّها، أو ينافسُه فيها شخصٌ آخر أكثرَ كفاءة، أو لدى مديرِ المدرسة لإنجاحِ طالبٍ فاشل إلخ. ويَعتبر الوجيهُ أنَّ ذلك جزءٌ من واجباتِه التي يفخرُ بها، شأنه شأن شيخ العشيرة. وهنا يطلُّ علينا أحدُ مظاهر الاتِّجاه الأبويِّ (البطريركيّ)، الذي يَقبعُ هو الآخر في العقلِ المجتمعيِّ العربيّ، كجُزءٍ من بقايا مراحل تطوُّر المجتمع السالفة، حيث سيكونُ لنا فيه وقفة قصيرة في ختام هذه الحلقة التي أوشكَت على الانتهاء. لذلك يُمكنُ القولُ إنَّ بعضَ الثورات الاجتماعيَّة الكُبرى، كالإسلام، قد تُغَيِّر بعضَ محتوياتِ العقل المجتمعيّ؛ ولكن، من جهةٍ أُخرى، تظلُّ بعضُ قِيَمِه الأصليَّة أَو القديمة راسخة، خلال مئاتٍ أو آلافٍ من السنين، أَحيانًا، تُقاومُ التغيير، وتعودُ إلى الظهورِ إلى السطح، بين الفينةِ والأُخرى، بل قد تبقى فاعلةً ومؤثِّرةً في العقل المجتمعيِّ بوجهٍ عامّ. فالعقلُ المجتمعيُّ يُسجِّلُ عادةً تطوُّراتِ المجتمع، ولكنَّه يظلُّ انتقائيًّا، إذْ يأخذُ بعضَها ويرفضُ البعضَ الآخر، كما ذكَرْنا في الحلَقات السَّابقة، وذلك تَبعًا لقوَّةِ القِيَم القديمة، ومدى تجذُّرِها فيه، بالقياسِ إلى القِيَم الجديدة.

وتتمَّةً لهذه الحلقة سنُحاول أن نشرح، في الحلقة القادمة، خمسَ نقاط أساسيَّة تتعلَّقُ بمسأَلةِ البداوة وترتبطُ بتكوين العقل المجتمعيّ العربيّ، وبظاهرة التمسُّك السالب بالتراث، وبالتالي بأزمة التطوُّر الحضاريّ في الوطن العربيّ؛ إضافةً إلى نقطةٍ سادسة مُكمِّلة وداعمة لآرائي في استمرار أَثَر القِـيَمِ البدويَّة في تكوين العقل المجتمعيّ العربيّ حتَّى اليوم. وهي كالآتي: 1- ظاهرة "عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة" كسبَبٍ أساسيّ ظلَّ، على الأرجح، يقبعُ وراء هذا الصراع الذي ما زال قائمًا بين الحضارة والبداوة، خلال مختلف مراحل تطوُّر الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة حتَّى يومِنا هذا، بدرجاتٍ مُتفاوتة ومُختلفة باختلاف المجتمعات على النَّحوِ الذي عرضنا بعضًا منه آنفًا. 2- أسباب هذه الظاهرة، خاصَّةً من خلال تناقض قيمة العمل المنتِج للثروة مع قِـيَمِ البداوة المُناوئة لمِثل ذلك العمَل، بما فيه الزراعة، و— 3- انتقال العرب المفاجئ من الحرمان والفقر إلى الغنى والرفاهية، الأمر الذي أدَّى إلى استغنائهم عن العمل. 4- غزوات البَدو المتواصلة على المناطق المجاورة للصحراء، أو على بعض الحواضر، على مَرِّ العصور، كسببٍ إضافيّ من أسباب تغلغُل القِـيَم البدويَّة في العقل المجتمعيّ العربيّ. 5- المقارنة بين عدم مرور العرب بمرحلة الزراعة وانتقالهم السريع إلى الحضارة في عصورهم الغابرة وبين انتقال المجتمعات الخليجيَّة المعاصرة من البداوة إلى التحضُّر السريع والغنى المفاجئ، وآثار هذا التحوُّل. 6- وخلال ذلك سنتعرَّض لبعضٍ من آراء المفكِّر محمَّد عابد الجابريّ في بداوة العرب المستمرَّة حتَّى يومنا هذا، تلك الآراء التي تدعمُ فرضيَّتَنا في تجذُّر القِـيَم البدويَّة في العقل المجتمعيّ العربيّ.

الكلمات الدالة: