محمد خير الدين الأسدي

محمد خير الدين الأسدي.jpg

أحد أشهر مؤرخي الثقافة السورية

في عام 1900 ولد أحد أشهر مؤرخي الثقافة السورية وهو محمد خير الدين رسلان، الذي أصبح فيما بعد (الأسدي) في داخل السور لقلعة حلب وهو حي الجلوم القديم، حيث كانت حلب في تلك الفترة التي كانت تحت الحكم العثماني. نشأ الأسدي في بيت لا تقل المعرفة فيه فكان والده الشيخ عمر رسلان أستاذ الصرف واللغة العربية في المدرسة العثمانية الكائنة في باب النصر والمدرسة الخسروية الكائنة بالقرب من مدخل قلعة حلب، ذلك ما جعل الأسدي يدرك مبكراً أهمية العلم والمعرفة، فتلقى تعليمه الأول في مدسة شمس المعارف عام 1904 ومتردداً على المدرسة الرضائية كطالب مستمع، أتى ذلك مترافقاً بذهابه إلى المدارس التركية حاصلاً فيها على شهادة الرشدية التي تعادل حالياً الشهادة الثانوية.

انتقل بعد ذلك إلى المدرسة العثمانية ليكمل تعليمه في اللغة العربية. كان الأسدي نتيجة عالمه الذي نشأ فيه قد أدرك ضرورة عدم اعتماده فقط على الدراسة الأكاديمية، فكانت مطالعاته الخاصة قد زادت خبرته وثقافته متفوقاً على أبناء جيله، ففي العشرين من عمره كان يمتلك مكتبة شخصية ضخمة ساعدته ف دراسة المسائل اللغوية والنحوية والفهم العلمي، كما عمل على الاتصال بكبار المفكرين والأدباء في ذلك الزمن والاستفادة من علومهم وخبراتهم.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نشأته

لم تكن طفولة الأسدي جيدة كثيراً نتيجة سوء العلاقة بين الشيخ عمر وزوجته التي انتهت بالطلاق. تلك الحادثة المبكرة تركت في الأسدي نزعة للانطواء والانكباب على الدراسة والبحث منذ فتوته. وبعد الطلاق غادر الوالد إلى الطائف ليعمل كمدرس للعربية وبقي هناك لسبع سنوات مع زوجته الثانية، فعاش خير الدين مع أمه التي تزوجت بعد طلاقها وأقام في حي العقبة معها. بعد سقوط الدولة العثمانية وتحرير سوريا لأول مرة بعد زمن طويل قام الشيخ عمر، المعروف باعتزازاه للغة العربية بتغيير كنيته من رسلان إلى أسد، على اعتبار أن رسلان كلمة تركية تعني أسد، وفيما بعد قام خير الدين بإضافة ياء النسبة ليصبح مشهوراً بتلك النسبة (الأسدي). عمل الأسدي كأستاذ للغة العربية في المدرسة الفاروقية وفي عام 1922 قام بعمل إحدى الخطوات التي ساهمت بتغامز المثقفين عليه وهي خلعه للطربوش حي قيل عنه بأنه مجنون وما فعله أشبه بالكفر والزندقة، لكنه لم يكترث كثيراً للعادات المتعارف عليها في المجتمع واستمر بعمل ما يحقق له رضاه الشخصي، وفي تلك الفترة حصل له أكثر الأشياء التي ستغير مجرى نظرته للحياة على المستوى النفسي وتجعله أكثر انطواءً وخجلاً وتركيزاً على البحث والمعرفة وهي المسرحية التي أخرجها عام 1923 بعنوان الاستقلال، حيث انفجرت في يده قطعة من البارود أثناء العرض أدت إلى بترها. تلك الحادثة جعلت الأسدي يترك المدرسة الفاروقية وينتقل إلى مدرسة الهايكازيان الأرمنية، ثمتعاقد بعد فترة وجيز مع الكلية العلمانية (اللاييك) التي أصبحت تُعرف فيما بعد باسم المعهد العربي الفرنسي. بقيت حياة الأسدي خلال تلك الفترة عالقة ضمن المعاجم والبحوث والتاريخ والتدريس حتى وفاة والده عام 1940 مع انتشار الحرب العالمية، فقام خير الدين بواجب الدفن اتجاه والده ودعته تلك الحادثة للتأمل عميقاً في الموت والانكباب على قراءة ودراسة أعمال المتصوفة في التاريخ الإسلامي (ابن عربي والحلاج والسهروردي والشيرازي). كانت تلك القفزة الفكرية التي خلقت طبعاً جديداً للأسدي وهي تصوفه العقلي الذي استمر حتى نهاية حياته حيث عمل على كتابه (أغاني القبة) الذي قُدم فيما بعد بإذاعة طهران. في عام 1945 مرض الأسدي إلى درجة الموت، وأصبح متيقناً من عدم شفائه، فقرر أن يهب مكتبته إلى مؤسسة خيرية تعوله في ما تبقى له من حياة، لكن عدد من المسؤولين ومنهم عمر أبو ريشة مدير دار الكتب الوطنية والمحافظ أقنعاه بتقديم مكتبته إلى دار الكتب بحلب لقاء مرتب شهري يحدده هو، فاشترط أن تُسند إليه وظيفة قيّم فرع الاختصاص ليرشد الباحثين والمؤلفين إلى المراجع، وأن يتقاضى لقاء ذلك مرتباً شهرياً قدره 250 ليرة، فتم نقل المكتب وتوظف الأسدي، لكن الأمر لم يطل به حتى وقع شجار بينه وبين رئيس البلدة فأقيل من الوظيفة، وظل يعيش على هبة المكتبة وتدريس بضع ساعات يُكلف بها، لكن ذلك الأمر أيضاً لم يستمر، فتم حرمه من هبة المكتبة. كان الأسدي منذ نشأته مولعاً بالتاريخ والآثار، فبعد شفاءه عام 1946 قام بأول رحلاته إلى فلسطين ومصر، فزار القدس ومدناً أخرى، وكانت أقرب للرحلة العلمية، فطالع مخطوطات خزانة يوسف باشا الخالدي في القدس ومكتبة الإسكندرية. واستمرت رحلاته خلال العشر سنوات اللاحقة في البحث والاطلاع والتفكير، فكان يعمل السنة بكاملها في التدريس ثم يصرف كل ما جناه في عمله على رحلاته العلمية في الأشهر الأخيرة من السنة، فزار تركيا والعراق وإيران ويوغسلافيا وهنغاريا وبلغاريا والنمسا وألمانيا واليونان وقبرص واسبانيا وليبيا وتونس والمغرب ومالطا والحبشة والسودان واليمن والحجاز ولبنان والأردن. لم تكن زياراته للسياحة بقدر ما كانت تهدف للبحث والمعرفة، فاكتسب مخزوناً فكرياً هائلاً.


حلب وخير الدين الأسدي:

في عام 1950 عُيّن أميناً للسر في جمعية العاديات ثم أصبح نائباً للرئيس وبقي في منصبه حتى وفاته، وفي 1951 أصيب بصدمة قاسية نتيجة وفاة والدته ورافقه اكتئاب حاد لفترة من الزمن أصدر معها كتابه (حلب: الجانب اللغوي من الكلمة). ترك التدريس في الكلية العلمانية (اللاييك) بعد خمس سنوات من حادث الوفاة بعد أن اندلعت النار في المدرسة، وحصل على تعويض مادي اشترى فيه أسهماً في شركة الغزل والنسيج لتكون له مورداً ثابتاً يعيش منه، واضطر للجوء إلى وزارة التربية ليحصل على بعض الساعات في التدريس، وقد بقي يدرِّس في إعداديتي إسكندرون والحكمة فترة طويلة. لكن في فترة الوحدة مع مصر وقبل الانفصال تم تأميم شركة الغزل والنسيج حيث كانت أكبر صدمة مادية له، وقد خسر كل ما يملك دفعة واحدة. في ذلك الوقت كان الأسدي يكمل عمله الذي بدأه منذ زمن طويل وهو موسوعة حلب المقارنة، التي مازالت إلى اليوم إحدى أهم المراجع الفكرية والتنويرية التي عرّفت بحلب وتاريخها ولهجتها وأصولها.

مؤلفاته

ترك الأسدي الكثير من المؤلفات والمخطوطات بدأً من قواعد الكتابة العربية مروراً بكتابه النثري والشعري، أغاني القبة الصوفية، يا ليل، البيان والبديع، حلب الجانب اللغوي من الكلمة. وكتب في المقالة (ليس – حلب – السماء). وترك في مخطوطاته (الله – أيس وليس – الألف – الموسوعة في النحو – تاريخ القلم العربي – أحياء حلب وأسواقها) كما ساهم بترجمة العروج لأبي العلاء للشاعر الأرمني أويديك إسحاقيان. بالإضافة إلى العديد من المقالات التي نشرت في كثير من الصحف وبرامجه الإذاعية، وبالطبع عمله الأعظم موسوعة حلب المقارنة والتي كانت في سبعة مجلدات. بدأ المرض يداهم جسم الأسدي حتى اضطر إلى دخول مستشفى القديس لويس، ثم خرج منه إلى دار أخته حيث بقي فيها عشرة أيام، وترك الدار إلى عزلته من جديد، ثم عاوده المرض فأدخل المستشفى الوطني ولكنه سرعان ما تركه لأنه لم يجد فيه العناية الكافية، ودخل مرة أخرى مستشفى الكلمة. لكن لم يكن لديه من يدفع نفقات العلاج والمبيت فقد كان في كل مرة يدخل القسم المجاني في المستشفى لأنه لم يملك تكاليف المال اللازم للعلاج. في آخر أيامه تفاقم مرض السكري والخثرة الدموية، فأرسل طلب إلى (دار العجزة) ليقيم هناك نتيجة حاجته للعناية وفقره وفيها بقي منكباً على عمله في الموسوعة. كان يردد دائماً وهو في دار المبرّة (اكسبوني قبل أن أموت). إن الطموح الذي راوده لتأريخ مدينته كان الهمّ الشاغل لرجل أمضى حياته زاهداً ومتعففاً، وعندما شعر بدنو أجله كتب وصيته الأخيرة حيث قال فيها، لديّ مكتبة وطرائف فنية أهديها لبلادي وللعالم. وأوصى أن يُقام له ضريح لا يكتب عليه سوى “خير الدين الأسدي”. عند وفاته تم حمل جثمانه هزيلاً وفقيراً وغريباً على سيارة بيك آب من دار العجزة إلى مقبرة الصالحين فدفنه حفار القبور في ممر بين قبرين بلا جنازة وبلا مشيعين في تربة المدينة التي عشقها وخلّدها بتآليف ما خُلّدت بمثلها مدينة من قبل. أمضى الأسدي حياته عاشقاً لمدينته وفي لحظة احتياجه إليها كان غريباً وفقيراً ومُشرداً، لم يجد مساحة مترين تكون له قبراً تهدأ فيه عظامه، وكان ذلك في عام 1971. ولا يُعرف اليوم مكان القبرين الذي دفن بينهما علّامة حلب وعاشقها “خير الدين الأسدي”، وربما قد ضاع مدفنه إلى الأبد.