محمد بنعزوز القاسمي الحسني

محمد بنعزوز القاسمي الحسني (1324هـ= 1906م - 21 رمضان 1404 هـ/21 جوان 1984م) شيخ علاّمة جزائري.

عرف تاريخ الجزائر المعاصر الكثير من الرّجال الصادقين العاملين، الذِّين نذروا أنفسهم لخدمة البلاد ونفع العباد، وقاموا بواجبهم تجاه دينهم ووطنهم، لكن للأسف لا يزال تاريخهم مجهولا، لا نعرف عنه الشيء الكثير.

كانوا يعملون ليل نهار، في صمت وفي هدوء، بعيدا عن الأضواء والشهرة، معتمدين في ذلك على الله، متوجهين بقلوبهم ونفوسهم إلى بارئ السموات والأرض، يستمدون منه العون، مطبقين لأوامره، متمسّكين بدينه، مخلصين أعمالهم له وحده، لا ينتظرون من النَّاس جزاء ولا شكورا، بالرغم من إمكانية الحصول على مناصب أعلى ومراكز أقوى ومغريات أشهى، أفنوا أعمارهم في خدمة العلم والديّن، تنوير الشعب توجيهه وإرشاده، الدعوة إلى الله والتمسّك بدينه الحنيف، تكوين الآلاف من الطلبة والأئمة والأساتذة في مختلف العلوم الشرعيّة، وذلك في أحلك الظروف وأصعبها.

ومن هؤلاء الأفذاذ الذِّين عملوا بتفان وإخلاص وجد ومثابرة في سبيل الدفاع عن الديّن ورفعة ألويته عاليا، والحفاظ على مقدّسات هذا الشعب الأبيِّ: الشيخ محمّد بنعزّوز القاسميِّ الحسنيِّ الشريف الهامليِّ. الإمام الفقيه المالكيّ، العالم العامل، ينتمي إلى أسرة علمية دينية أدت دورا هاما في تاريخ الجزائر الثقافي والديني وهي أسرة قاسمي الحسني بزاوية الهامل. والده هو الشيخ الحاج المختار بن الحاج محمّد الهامليِّ، العالم الفقيه الزاهد، شيخ زاوية الهامل المعروفة أثناء الحرب العالمية الأولى. .

ولد رحمه الله سنة 1324هـ= 1906م ببلدة الهامل، أي في بداية القرن العشرين، وهو ما يمثل بالنسبة لتاريخ البلاد توقف الحركات الثورية وانتهاء المقاومة الشعبية المنظَّمة وغير المنظَّمة، وهي فترة عرفت ركودا وجمودا شديدين على جميع المستويات، بل بات المواطن الجزائري البسيط لا يفكر في شيء إلاَّ في الحصول على قوت يومه.

توفي والده الشيخ المختار سنة 1915م، وتركه صغيرا في رعاية أعمامه وأخيه الشيخ محمّد المكيّ. وظهر نبوغ الولد بنعزّوز مبكرا، إذ لم يتم العقد الأول من عمره حتَّى حفظ القرآن وأتقن تجويده ورسمه، نشأ على حب طلب العلم والحرص عليه.

وكان أول شيوخه في العلم شيخ الجماعة بالزاوية القاسميِّة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسيِّ، شيخ والده، وهو صاحب التأثير الكبير عليه، وفي سنة 1917 انتقل إلى الجزائر العاصمة، أين درس بالجامع المالكيّ على يد الشيخ أبي القاسم الحفناويّ، مفتي المالكية بالجزائر، ثمَّ عاد بعدها إلى الزاوية القاسميِّة.

وقد كان الشيخ بنعزّوز من ألمع طلبة الزاوية في فترة ما بعد الحرب العالميَّة الأولى، وتمكن من العلوم الفقهية والعلوم اللغوية، والحديث والتَّفسير ـ وقد كتب فيه فيما بعد ـ، وذلك في ظرف وجيز جدا، وتدَّرج في سلَّم التعليم إلى أن صار أستاذا رفقة شيوخه الذِّين تولوا تعليمه من قبل، وكان عمره إذاك 18 سنة.

ولم تطل مدَّة تدريسه إذ نجده في سنة 1345هـ= 1926م ينتقل إلى جامع الزيتونة لمواصلة رحلته العلمية، وبالزيتونة تلَّقى علومه عن أساتذة أجلاء منهم: الشيخ محمَّد الزغواني المالكيّ، الشيخ محمّد الهادي العلاني،ّ الشيخ عثمان الخوجة الحنفيّ، الشيخ معاوية التميميّ...وغيرهم من مشايخ الزيتونة الفضلاء. وفي صائفة 1346هـ= 1927م، وبعد حصوله على الإجازة من شيوخه بتونس عاد إلى زاوية الهامل، واستقرَّ مدرسا بالزاوية وتولَّى التدريس رفقة جمع من الأساتذة الآخرين: الشيخ بن السنوسي الديسيِّ، الشيخ أحمد بن الأخضر الشريف، عبد العزيز بن أحمد الفاطميِّ ....

كان الشيخ بنعزوز القاسمي الحسني رحمه الله يبدأ يومه العلميّ بعد صلاة الصبح، فيشرع في تدريس علوم القرآن: من تفسير معانيه، وأسباب النزول، ومعه علم الحديث رواية ودراية، وإذا طلعت الشَّمس يبدأ بدرس التوحيد والعقيدة، واللّغة والنحو، وبعد العصر السنوسي الحساب والجوهر المكنون.

كان رحمه الله يبدأ يومه العلميّ بعد صلاة الصبح، فيشرع في تدريس علوم القرآن: من تفسير معانيه، وأسباب النزول، ومعه علم الحديث رواية ودراية، وإذا طلعت الشَّمس يبدأ بدرس التوحيد والعقيدة، واللّغة والنحو، وبعد العصر السنوسي الحساب والجوهر المكنون. إلاَّ أن الذي اشتهر به الشيخ هو تخصَّصه في الفقه المالكي، وعكوفه على تدريس كتبه، مختصر خليل وشروحه، وكان درسه الفقهيَّ نموذجيا، لكونه لا يعتمد على الحفظ وحده، بل كان يرجع إلى المصادر والمراجع محاولا استخراج الأحكام الفقهيَّة من الكتاب والسنَّة، مستنبطا محاورا مناظرا. ممَّا جعل حلقته تتَّسع أكثر فأكثر، عاما بعد عام.

وكان يختم مختصر خليل كل سنَّة، ويحضر مجلسه جمع من العلماء، ويحتفل بيوم الختم. ولعلَّ من أهمِّ الأحداث التِّي عرفتها الساحة الثقافية هو تأسيس "جمعية العلماء المسلمين"، وقد شارك الشيخ بنعزّوز في تأسيسها بنادي الترّقي بالجزائر، وكان من أعضاء الجمعية العامَّة، بعدها انسحب الشيخ من الحياة السياسيَّة ومن المعارك التِّي كانت تشهدها أحيانا الساحة الجزائرية، ويرجع ذلك ـ ربَّما ـ لعاملين اثنين:

أ ـ حبه الشديد للعلم والتعلم والتعليم، وتفرغه التام لأداء هذه المهمَّة النبيلة على أكمل وجه. فهو يرى أن أفضل الجهاد هو خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه.

ب ـ طبيعته المسالمة التِّي لا تحب الظهور، ولا تحب الدخول في المعارك والصراعات، فالرجل رجل فقه وعلم، يبتعد قدر الإمكان على التحزب والتشرذم، حتَّى أنَّـه لم يشارك في أي دعوى حزبية أو سياسية، اللَّهم إلاَّ ثورة التحرير المباركة التِّي أيَّدها بقوة ودعمَّها بكل ما استطاع.

ومـرَّ عقد الثلاثينيات والرجل مكبّ على تدريس العلم الشريف بزاوية الهامل، وجاءت الحرب العالميَّة الثانيَّة، وعرف المجتمع الجزائريّ، كثيرا من التغيَّرات، وعرضت على الشيخ مناصب عدة في مناطق مختلفة من الوطن منها مفتي الديار الجزائرية، فرفضها كلها وفضَّل البقاء بمسقط رأسه الهامل، مواصلا مسيرة الآباء والأجداد، مخلصا عمله لله وحده.

حوَّل مسكنه بـ"تغانيم" بالقرب من زاوية الهامل، إلى ناد علميّ فكريّ ثقافيّ تجتمع فيه نخبة من العلماء والأساتذة وطلبة العلم. كمَا اهتَّم في هذه الفترة بجمع الكتب والمخطوطات، وقد وصفه أحد التقارير الأمنية الفرنسيَّة في هذه الفترة (1952م) بأنَّـه: "من مشائخ زاوية الهامل وأعيانـها، يتولَّى التدريس بها الآن، على ثقافة تقليديَّة عالية، لا يتقن اللغة الفرنسية".

وقبل اندلاع الثورة انتقل الشيخ إلى مدينة حاسي بحبح بولاية الجلفة، أين أسس مدرسة لتعليم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة واتخذها منبرا لتنوير الشعب ودعوته إلى الكفاح المسلح، وبالرغم من مضايقات الاحتلال الفرنسي إلاَّ أنَّ الشيخ صمَّم على بلوغ أهدافه وإبراز حقائق الاستعمار والدعوة إلى التمّسك بالدين الحنيف والمبادئ الإسلاميَّة والعادات والتقاليد الأصيلة، ومحاربة كل من يدعو إلى التفرقة والاندماج، وفي هذا ما فيه من الجهاد والكفاح.

كان دأبه وديدنه في مجالسه تلك ودروسه، الدعوة إلى الله وإلى إحياء السنّة النبويّة، والقضاء على البدع والخرافات والتمييز بين الحق والباطل، والحرص على توجيه النَّاس إلى أخذ الدين من منابعه الأصليَّة: الكتاب والسنَّة.

بعد الاستقلال، طلب منه سكان مدينة عين وسَّارة وأعيانَـها الانتقال إليهم، وتوليِّ التوجيه والإرشاد بها، فلم يجد الشيخ بدًّا عن تلبية طلبهم، واستقرَّ بمدينة عين وسَّارة، وقضى سنواته الأولى بها مدّرسا لبعض العلوم من فقه وتفسّير وحديث، لمختلف طبقات الشعب، وفي السنوات الأخيرة لما شعر بنوع من الإعياء، قصر التدريس على بعض الأئمة والأساتذة في مكتبته بمنزله، وكان دأبه وديدنه في مجالسه تلك ودروسه، الدعوة إلى الله وإلى إحياء السنّة النبويّة، والقضاء على البدع والخرافات والتمييز بين الحق والباطل، والحرص على توجيه النَّاس إلى أخذ الدين من منابعه الأصليَّة: الكتاب والسنَّة.

كمَا تولَّى مهمّة الإفتاء والتِّي كان يمتنع عنها في السابق، لكن أصبحت في حقِّه بهذه المدينة فرض عين، ممَّا جعله يفتح أبواب منزله للمستفتين، ورجال القضاء والقانون، وظلَّ هذا دأبه وديدنه إلى أن لقي ربّه ليلة 21 رمضان 1404 هـ= 21 جوان 1984م بمدينة البليدة بعد مرض ألزمه الفراش مدَّة طويلة، ودفن بمسقط رأسه الهامل في يوم مشهود، وشيَّعه جمع غفير في موكب مهيب غشيه حزن وأسى على فقد علم بارز، وأبَّـنه غير واحد.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مكتبتـه

لا يمكنّنا الحديث عن الشيخ بنعزّوز دون الحديث عن مكتبته العامرة الزاخرة بمئات المخطوطات وآلاف المطبوعات، والتِّي عرفت شهرة لدى الباحثين وطلاَّب المعرفة، حيث ضمّت حوالي 700 مخطوط، في مختلف أنواع المعرفة، أغلبها في العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وأصول، نظرا لتخصّص الشيخ فيها. وأكثر من ثلاثة آلاف كتاب مطبوع، إلاَّ أنَّ أهميتها ترجع إلى ما احتوته من مخطوطات طبعا. كوَّنها رحمه الله ممَّا ورثه عن والده الشيخ المختار بن الحاج محمَّد، وأضاف إليها الشيء الكثير، بواسطة الشراء من مختلف المكتبات الجزائرية والأجنبية، ومن أهم المخطوطات الموجودة بمكتبته: أسس المنقطعين وذخيرة المتوسلين لزاده، أسرار الشيخ الإمام السنوسيّ، الإسفار عن معاني الأسفار، الإعراب عن قواعد الإعراب، بهجة البسط والأنس في شرح الكلمات الخمس، تفسير ابن جزيّ، التَّنوير في إسقاط التَّدبير لابن عطاء الله، الجامع الصحيح للبخاريّ: من كتب الفكّون الجَّد، نسخ ق 06هـ، الجامع الصحيح للبخاريّ، عليه تملّك مصطفى باشا....


تلامـذتـه

تولَّى الشيخ بنعزّوز التدريس لأكثر من نصف قرن، في كل من زاوية الهامل ومدينة حاسي بحبح، ومدينة عين وسَّارة التِّي قضى بها العشرين سنة الأخيرة من حياته، ومنذ شبابه لم يعرف مهنة أخرى غير العلم والتعليم، وتتلمذ على يديه، في هاته الفترة أعداد لا تحصى من طلبة العلم، تخرجوا أئمة وقضاة ومفتين، التزموا بدورهم بنشر العلم في مدنهم وقراهم النائية، إذ أن أغلبية من درس عنه ينتمي إلى المناطق الداخلية من الوطن أو ما يعرف بالجزائر العميقة.

وتخرَّج على يديه ما يقرب من ثلاثة آلاف طالب، فهو يقول في أحد ردوده بعيد الاستقلال متحدثا عن نفسه: "علّمه ـ أي مختصر خليل بشروحه ـ لأكثر من ألفي متعلّم، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، رحم الله ميّتهم وبارك في حياة المنتظر".

ولعلَّ من أبرز تلامذته: الشيخ عبد الحفيظ القاسميِّ، مؤسّس مدرسة النجّاح بالبيرين، الشيخ معمر بن عثمان حاشي، إمام الجلفة وعالمها، الشيخ سعد بن عيسى حرزلي المعروف بالطالب سي سعد، الإمام العالم الفقيه المجاهد المعروف بزاوية الهامل...وغيرهم من الطلبة.

مـؤلفـاته

بالرغم من عناية الشيخ بن عزّوز الشديدة بالكتابة والكتاب، إلاَّ أنَّـه لم يكن كثير التأليف، ربَّما بسبب مهنة التعليم والتدريس، وربَّما لظروف الحياة الثقافية التِّي لم تكن لتشجع العالم أو الباحث على التأليف والكتابة، ومع هذا فقد ترك مجموعة من الكتابات التِّي لا تزال مخطوطة لم تـر النور بعد منها:

شرح الصدر بإعراب آيّ القطر، فهرست موضوعات ومصادر ومراجع اليواقيت الثمينة في الأشباه والنظائر الفقهيّة على مذهب مالك، لعليّ بن عبد الواحد الأنصاريّ، تحقيق كتاب ((الكواكب العرفانيَّة والإشراقات الأنسيَّة في شرح القدسيَّة)) للورتيلانيّ، كما كتب عددا من الرسائل مثل: مناسك الحج، رسالة التقوى، استعمال جلود الميتة، الزكاة. وله تقييدات في الفقه والتفسير والحديث على معظم كتبه.