علي قنديل

Kandeel.jpg

على قنديل طب القاهرة 1975 شرارة خاطفة على قوس الحياة و الموت 5/4/1953-17/7/1975

رسالة حب – أيمن أبو الحسن


كنت في الإعدادية ، عندما وصلنى الخبر الفاجع بمقتله، كان صديقا لأخى الأكبر و تحدثت معه كثيرا .. كان متواضعا.. طيبا .. غنيا .. كان دلتا نهر النيل.. رحم الله على قنديل


لا تسل عن "على"

فقد دحرجته خيول المساء

إلى آخر القمح و الفول

حين تساقط حقل السماء

و أخفى الصغار و هم يصنعون العشاء

تماما : يؤدون دور المحبين و الأنبياء


..............


أنا الشعر

و الشعر ياقوتتى الأنثوية

هل الكون يعلم أنى أغنى لآخر ما

بعثرته جياد البرية

أنا النار و الشعر لحمى

و كفاى حمالة للحطب

هل الريح تعلم إنى إنفلاق الشعاع

و إنى إنعتاق الغضب

انا الطين و الشعر فأس

تزاوجنى بالسماد الرهيب

فيزهر في إخضرار الدموع

و شهد الصراخ

و بوابة من كتاب الغيوب


نحن الآن في حضرة شاعر غير عادى .. شاعر يملك رؤية خاصة جدا و يرى أكثر و أعمق مما يلزم.. فكان مصرعة المشبوه علامة على خطورة رؤيته ...


له ديوان واحد وحيد ، "كائنات على قنديل الطالعة" ، لم ينشر إلا بعد رحيله ، نشره أصحابه الفقراء على نفقتهم الخاصة، و كتب له المقدمة الشاعر الكبير محمد عفيفى مطر ...

يقول مطر:


كان ميلاده الشعرى، بشارة ووعدا مثقلا بالإحتمالات و التفجيرات الخلاقة ، و كان مصرعه المشبوه، شهادة كاملة، و تحققا مذهلا ، لكل ما رأى ، و لكل ما تنبأ به تلميحا و تصريحا قولا و كتابة ، و ترك لنا قرنفله ملتهبة ، تتفتح على أسفلت المدينة الهشة المتوحشة..ليكتمل القوس الفاجع بين 5/4/1953-17/7/1975 و كانت " الشمس في عز الظهيرة" و " لا يفهم الملوك و الأباطرة"...


و يضيف " مطر"


طالع هو من ساحة الفقراء، و بيوتهم و حواريهم العارية، كأنه فارس الفتح،ينتزع مكانه بعطاءه و تفوقه، في كل يوم يفتح بشهوة الحياة و عشق المستقبل المضئ نافذة بيته..حتى إذا ما إلتحق بكلية الطب، تكاملت فيه، شموليه الشاحر الكاهن الشاعر الطبيب. و بالبصيرة المستيقظة المستنفرة، كان " ثقل الأمانة" مكتوبا على وجهه الهادئ العذب بتقاطيعه المسكونة بالفصول الأربعة...الدوائر البنية الغامقة / هالات تظهر كل ربيع حول عينيه، و شحوب الإبتلاء و السهر المبعثر في الشوارع و الجوع، آخر ما رأيناه، و هو بلا مأوى ، ( يكتب بخطاه المجهدة ورؤياه المستقبلية الفسيحة آخر قصائدة)..


و مصرعه المشبوه، خاتمة لموسم لم يكتمل ، فقدته أسرته الفقيرة ، و قد كان مدخرهاو مسعاها، و فقده الشعب، و كان بموهبته الفذة و نضجه المبكر و إنجازه المضئ، من أنبل و أشرف أبنائه، و في تاريخ عذابه، و حلمه الدائم الوهاب جوهرة من الإمكانات الكبيرة...


" و في الشعر... كانت الكارثة و الحلم"


قبل كارثة 67 ، كانت المقدمات ألغاما موقوتة ، تنسف بإنتظام كل ما يخضر في الساحة ، و بعد الكارثة ، جرت المحاولات المنظمة ، و المتواطئة ، لمتابعة تزييف الوعى الواقع، وفعلت النكتة السياسية فعلها المسموم ، و قامت بدورهاالتطهيرى المخرب، و قام الشعر بنفس الدور، و تحولت النكات السياسية إلى قصائد تستنزف الغضب و لا تمنحه شكلا، تدجن الثورة ، و تبقى في إطار الأحداث و المناسبات..


و في قلب هذه الأحداث، يكون " على" بحياته و بموته و كتاباته، ظاهرة خارقة للإستيعاب و الفهم المبكرين..


و من قلب الكارثة كانت مقدمات الحلم...


فى 1968 تفجرت البراءة الشعبية ، و أسفرت عن حضورها في مظاهرات و إعتصامات الشباب الجامعى ، كاشفة عن الحضور الفعلى للمستقبل، و قوته المكبوحه.. فكانت كالجملة الإعتراضيه التى تقلب شكل النص و مضمونه، رأسا على عقب..و سارع منظرو كل ما هو ميت بمصر بتقليب الأوراق و أصدروا حكم الإعدام ، و أول الحيثيات أن الطلبة لا يشكلون طبقة ، و من ثم فهم غير موجودين.. ثم أضافوا " اللامسؤل- الفوضوى-الشراذم المندسة-العملاء...إلخ" و تم الحذف و الإستبعاد، و أصيبت حركة الشباب بأبشع أمراض الشيخوخةو طفح القمع ..


عناصر تفرد " على" كما يراها مطر:


1- الإبداع في الشكل هو الإبداع في المضمون ،بلا أسبقية أو أفضلية .. و إعتبارهما معا غاية ووسيلة.

2- تكوين الفن المسكون بأسئلة مضيئة للوضع الإنسانى .. جذريا

3- رد إلإعتبار للذاكرة بمفهموم ثورى خلاق..و ليس الذاكرة على مستوى فرد أو أمة ، هى مجرد حنين لفردوس ضائع، أو هروبها لعصور ذهبية ، بل سلاح مواجهة ، وسيلة و غاية، فبإعادة إكتشاف الوجوه ، و المواقف، و إستخدامها كإضاءة للحاضر، و تعريته ، و تفجير للأحلام و تجسيد للمستقبل أيضا.

4- إكتشاف النصوص المذهلة في التصوف الإسلامى ، بما تفعله في تحرير اللغة من قشريتها المسطحة .

5- مقاومة الذيلية و التبعية المطلقة للأحزاب السياسية خصوصا في التوجهات الديكتاتورية..

6- الإنتقال من الوحدة العضوية ، ووحدة الموضوع و المضمون ، إلى وحدة المناخ الشعرى، و القصيدة بما تقوله –ومالا تقوله- مناخ كامل يتواشج فيها الحضور و الغياب، و المسافات الفارغة ، و إيقاعات التشكيل غير المحكوم إلا بطاقة إبداع الشكل الكلى كوسيلة و غاية في وقت واحد، هذا المناخ هو الواقع الشعرى الذى لا يعكس شيئا بل يقيمه مع أو ضد الواقع غير الشعرى ..و إيجاد هذا الواقع الشعرى .. ليس إلا هدما و بناء في وقت واحد..

7- تحطيم عمود الحداثة ، فكل قصيدة هى موسيقاها كما هى في شكلها ، و كما هى في مضمونها في وقت واحد..

8- الأيقاع هو زمن القصيدة الخاص و الذى لا يتشابه مع زمن قصيدة أخرى ، و زمن القصيدة هو ما يتحرك فيها من طاقة الخلق و ديمومة التغير الكيفى لعناصرها ..

9- نحن الأسئلة المطروحة ، بل نحن الأسئلة المقتحمة ، بل نحن القصيدة و قد تفرقت في جسوم كثيرة .. بل نحن هدايا الشوك و لا هدوء لنا .. و لا هدوء لأحد بنا أو معنا ... فلقد مضى زمن الأجوبة التى نشترك في صياغة مقداماتها أو عناصر حيثياتها .

10- نعتمد الحلم ، و التداعى الحر، و حركة الأشياء في قوس الشفافية و الإنتقال من مستوى إلى مستوى تحت شمس الدهشة الخلاقة .. بعد هذا التقديم المذهل للشاعر " على قنديل " يضيف شاعرنا الكبير محمد عفيفى مطر قائلا: أقدم على قنديل .. قيمة شعرية متحولة ، مقتحمة ، تعلن البدء و تكرسه، واحدا من طلائع الذين لا يخافون التجريب، و يتنكرون السهل و الشائع، و الممسوخ. و تضئ هذه القيمة الشعرية مسار إكتمالها في النهاية المفتوحة للإحتمال، و تاريخ إنجازها المتحرك في المستقبل. و تمنح اصحاب الموهبة الشابة حق "وضع اليد" وجودا و موتا.. مساحة يبدأون منها مملكتهم و غناءهم الجماعى الذى إذ يبدعونه ن وطنا و يمنحون الآخرين حق المواطنة و الإنسانية الحقة....

ثم يختتم " مطر" المقدمة – بل المرثية – للديوان الوحيد لعلى قنديل و يعلن براءة " على" مما كتبه عنه ..فيقول : هذه قراءتى ، و الشاعر برئ من كل تخرصاتى ،و لا علاقة له بوجه نظرى ، رغم أننى "مطر" لا أبرئ نفسى من شئ مما أدنت به أوضاعا أو أشخاصا لم اذكرهم و يختتم ب" أما فجيعتى الخاصة بفقدانه ، فتلك حياة أخرى" محمد عفيفى مطر 8/7/1975 مقطفات من شعر " على قنديل


مُقفلة شرفاتُ الدار

والمصباحُ غائب

لا أهلا ً

لا موقد نار

لا فوضى تتجاذب رحلت أدراجُ الأسرار معهم

إلا صَمت نام وتقلقه نقط الماء السائب ...................... و في كل بيت بمنف أنا

و منفيه في كل البيوت

فإن غلبتنى الحروف أظل

و إن أنا غلبتها سأموت على وجه منف.. جنائن من لهب يستكن و فوق شفاهى آخر قبلة فإن لم اقبل ثراها .. أجن و إن أنا قبلتها صرت شعلة ..............................

صمت القبور في مخارج القرى

إشارة اللغات للدخول في المغامرة

و للبذور حين تشب عن تهادن الثرى

ولا يفهم الملوك و الأباطرة ........................ يا أيها الثعبان إلتف و إحملنى الصهد في الأجفان

و الحزن في الننى

و التين و الأعناب قد أفلتت منى

أنت الثرى

و أنت في غنى عنى ........


قد أودع السر " رع" عاشقين بمصر ، يمران فيها ، يفتش نصفهما عن كميله، و قد ضاع حابى... و لكن أنا النصف.. لا .. ليس حابى سوى الماء، أبقى أنا السر وحدى ، إذا ما عرفت .. تفتق عن قبضتى ألف نهر.. و مزقت أحجار مجراى .. أصبحت دلتا، و أبقى أنا السر وحدى ، و لكنى ما عرفت السبيل.. فويح لمن بعثرته الليالى .. أفكر أم أستغيث بحابى، أم أسأل الميتين؟.. أأقتعد في العشب ملحا حزينا أرويه من حيرتى أم أغنى ... لمن- و الأمانى قاحلة .. و الكلام معاد و ماعاد سرا خبيئا.. .................. .................


و كان ينشد في فرح و في بكاء : على أن اكون اللون الثامن في قوس فزح

..............................


تظهر أم تختفى يا شعر... يا خاطفى؟

حملتنى ثقل هذه الأمانة الطب، و الشعر ،و الكهانة محبة تلك أم خيانة؟

.... هل خنتنى يا شعر؟

ما أفسدك يالضياع من يبيع نفسه ليعبدك لا شعر من يخون نثرا تكون؟ ...... لا أفق يبصرنى لاسماء مزروعة خطاى في تهدج الرثاء غدا تشقنى الريح رافدا للدمع أو يجتازنى الصباح جنية أصير أين حلم الماء ........... تأتى لكل قارئ قراءة

و كل مبصر تأتيه :شمعة مضاءة

و من أباح الحب: ملكه السماء

و من تطهر قلبه بالدمع: أشعل الفضاء إن الذى أعنيه قادم لا ريب

قادم وقت الإدانة و البراءة

..............


القاهرة

دخان يقترب.سماء مدرجة في قائمة العمال.و فيما بين الحلم و مائدة الأفكار، توابيت تتناسل، فطر يتكاثر، و الساعة في عكس إقاعات القلب تدق.. أفتح نافذة، يتهدج موج يصل الشرق بأعصاب الغبطة ، أفتح عمقا، تنشطر اليقظة في ألق الشيخوخة، فأعدل هندامى ، أفتح.أفتح.أفتح تجربة: القاهرة تتربع على العرش

دائرة تتضخم .نصف القطر بديهات شرطية .. أبحث عن " فيروز" و هى تهرب من يوتوبيا إلى أخرى ، أو أفتح "دفتر الصمت" حيث عفيفى مطر يتسلق مئذنة الدمع، أو أدخل في حركة طلع يقاوم فتك العفين... أبحث .أفتح.رهج في الصدر.. و مجمرة في العينين.. و فعل يتسع نحو الأبد... عثرت على قانون القاهرة الهبى: يظل الرجل يبنى العمائر، حتى إذا إكتملت هنيئة للساكنين ، اشهر دونه و عتباتها، سيف محلى ، و دم مرتقب. ................ يقترب الدخان ساعة على عكس إيقاعات القلب تدق

أرى يوما –ربما قريب كأصابع اليد – يأتى .. يقف العالم معصوفا. يثبت كل ذى حال على حاله، اليد القاتلة يشهد عليها دم القتيل. و الكتاب الخائن تنحل عنه أحرفه. و الماء المغتصب ينتفض، و الذبائح تستيقظ،الخوف يصير التيار الجارف. النهر الذى سكت ينطق.. و من تكلم يسمع.. يوما –ربما قريب كدم محتقن-.. أقترب يا دخان و يا عربات .. و إنطرق يا حديد على قبة القلب. لا القاهرة تبقى قاهرة.. و لا الدلتا دلتا.. و لا الشاعر مسجونا في لسانه.. ساعة تدق..


........................


أغنية الدروب البعيدة الصاعدة في الليل كمئذنه وحيدة:


مرت هنا حمامة شرقية الهديل فى حزنها علامة مرت هنا الذئاب تدحرج القتيل لهوة الغياب مرت هنا أشجار تبحث عن جذور و عن غصون النار مرت هنا الخيول للريح لا تقول شيئا، و لا المجهول يشدها بعيدا مر هنا قنديل فى خطوه ترتيل عن موعد القيامة أغنية الشوارع المجروحة المبعثرة في النهار: من هذه اليمامة الأليفة مغسولة في الدمع و القطيفة من هذه اليمامة المغتربة تظل في الأضاحى/ مقذوفه من عربة / لعربة تكاد تختفى في البعد بينما نظنها مقتربة

تلخيص و عرض: أيمن أبو الحسن المصدر الرئيس: كائنات على قنديل الطالعة

شعر على قنديل /تقديم محمد عفيفى مطر

دار الثقافة الجديدة