جامع القرافة

جامع القرافة هذا الجامع يُعرف الاَن بجامع الأولياء وهو القرافة الكبرى وكان موضعه يُعرف في القديم عند فتح مصر بخطة المغافر وهو مسجد بني عبد اللّه بن مانع بن مورع يُعرف بمسجد القبة‏.‏

قال القضاعيّ‏:‏ كان القرّاء يحضرون فيه ثم بني عليه المسجد الجامع الجديد بنته السيدة المعزية في سنة ست وستين وثلاثمائة (977م) وهي أمّ العزيز بالله نزار ولد المعز لدين الله أمّ ولد من العرب يقال لها تغريد وتدعى درزان وبنته على يد الحسن بن عبد العزيز الفارسيّ المحتسب في شهر رمضان من السنة المذكورة وهو على نحو بناء الجامع الأزهر بالقاهرة وكان بهذا الجامع بستان لطيف في غربيه وصهريج وبابه الذي يُدخل منه ذو المصاطب الكبير الأوسط تحت المنار العالي الذي عليه مصفح بالحديد إلى حضرة المحراب والمقصورة من عدّة أبواب وعدّتها أربعة عشر بابًا مربعة مطوّبة الأبواب قدّام كلّ باب قنطرة قوس على عمودي رخام ثلاثة صفوف وهو مكندج مزوّق باللازورد والزنجفر والزنجار وأنواع الأصباغ وفيه مواضع مدهونة والسقوف مزوقة ملوّنة كلها والحنايا والعقود التي على العمد مزوّقة بأنواع الأصباغ من صنعة البصريين وبني المعلم المزوّقين شيوخ الكتاميّ والنازوك وكان قبالة الباب السابع من هذه الأبواب قنطرة قوس مزوّقة في منحنى حافتيها شاذوران مدرّج بدرج وآلات سود وبيض وحمر وخضر وزرق وصفر إذا تطلع إليها من وقف في سهم قوسها شائلًارأسه إليها ظنّ أن المدرّج المزوّق كأنه خشب كالمقرنص وإذا أتى إلى أحد قطري القوس نصف الدائرة ووقف عند أوّل القوس منها ورفع رأسه رأى ذلك الذي توهمه مسطحًا لا نتوء فيه وهذه من أفخر الصنائع عند المزوّقين وكانت هذه القنطرة من صنعة بني المعلم وكان الصناع يأتون إليها ليعملوا مثلها فما يقدرون وقد جرى مثل ذلك للقصير وابن عزيز في أيام البازوريّ سيد الوزراء الحسن بن عليّ بن عبد الرحمن وكان كثيرًا ما يحرّض بينهما ويغري بعضهما على بعض لأنه كان أحبّ ما إليه كتابٌ مصوّرًا أو النظر إلى صورة أو تزويق‏.‏

ولما استدعي ابن عزيز من العراق فأفسده وكان قد أتى به في محاربة القصير لأنّ القصير كان يشتط في أجرته ويلحق عجب فيه صنعته وهو حقيق بذلك لأنه في عمل الصورة كابن مقلة في الخط وابن عزيز كابن البوّاب وقد أمعن شرح ذلك في الكتاب المؤلف فيه وهو طبقات المصوّرين المنعوت بضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس وكان البازوريّ قد أحضر بمجلسه القصير وابن عزيز فقال ابن عزيز‏:‏ أنا أصوّر صورة إذا رآها الناظر طنّ أنها خارجة من الحائط‏.‏

فقال القصير‏:‏ لكن أنا أصوّرها فإذا نظرها الناظر ظنّ أنها داخلة في الحائط فقالوا هذا أعجب فأمرهما أن يصنعا ما وعدا به فصوّرا صورة راقصتين في صورة حنيتين مدهونتين متقابلتين هذه تُرى كأنها داخلة في الحائط وتلك ترى كأنها خارجه من الحائط فصوّر القصير راقصة بثياب بيض في صورة حنية دهنها أسود كأنها داخلة في صورة الحنية وصوّر ابن عزيز راقصة بثياب حمر في صورة جنية صفراء كأنها بارزة من الحنية فاستحسن البازوريّ ذلك وخلع عليهما ووهبهما كثيرًا من الذهب‏.‏

وكان بدار النعمان بالقرافة من عمل الكتاميّ صورة يوسف عليه السلام في الجب وهو عريان والجب كله أسود إذا نظره الإنسان ظنّ أن جسمه باب من دهن لون الجبّ وكان هذا الجامع من محاسن البناء وكان بنو الجوهريّ يعظمون بهذا الجامع على كرسيّ في الثلاثة أشهر فتمرّ لهم مجالس مبجلة تروق وتشوق ويقوم خادمهم وزهر البان وهو شيخ كبير ومعه زنجلة إذا توسط أحدهم في الوعظ ويقول‏:‏ وتصدّقي لا تأمني أن تسألي فإذا سالتِ عرفتِ ذَلّ السائِل‏.‏

ويدور على الرجال والنساء فيُلقى له في الزنجلة ما يسره اللّه تعالى فإذا فرغ من التطواف وضع الزنجلة أمام الشيخ فإذا فرغ من وعظه فرّق على الفقراء ما قسم لهم وأخذ الشيخ ما قُسم له وهو الباقي ونزل عن الكرسيّ‏.‏

وكان جماعة من الرؤساء يلزمون النوم بهذا الجامع ويجلسون به في ليالي الصيف للحديث في القمر في صحنه وفي الشتاء ينامون عند المنبر وكان يحصل لقيمه القاضي أبي حفص الأشربة والحلوى وغير ذلك‏.‏

قال الشريف محمد بن أسعد الجوّانيّ النسابة‏:‏ حدّثني الأمير أبو عليّ تاج الملك جوهر المعروف بالشمس الجيوشيّ قال‏:‏ اجتمعنا ليلة جمعة جماعة من الأمراء بنو معز الدولة وصالح وحاتم وراجح وأولادهم وغلمانهم وجماعة ممن يلوذ بنا كابن الموفق والقاضي ابن داود وأبي المجد بن الصيرفيّ وأبي الفضل روزبة وأبي الحسن الرضيع فعملنا سماطًا وجلسنا واستدعينا بمن في الجامع وأبي حفص فأكلنا ورفعنا الباقي إلى بيت الشيخ أبي حفص قيم الجامع ثم تحدّثنا ونمنا وكانت ليلة باردة فنمنا عند المنبر وإذا إنسان نصف الليل ممن نام في هذا الجامع من عابري السبيل قد قام قائمًا وهو يلطم على رأسه ويصيح وامالاه وامالاه فقلنا له‏:‏ ويلك ما شأنك وما الذي دهاك ومن سرقك وما سرق لك فقال‏:‏ يا سيدي أنا رجل من أهل طرا يُقال لي أبو كريت الحاوي أمسى عليّ الليل ونمت عندكم وأكلت من خيركم وسع اللّه عليكم ولي جمعة أجمع في سلتي من نواحي طرا والحيّ الكبير والجبل كل غريبة من الحيات والأفاعي ما لم يقدر عليه قط حاو غيري وقد انفتحت الساعة السلة وخرجت الأفاعي وأنا نائم لم أشعر‏.‏

فقلت له‏:‏ إيش تقول‏:‏ فقال‏:‏ أي والله يا للنجدات فقلنا‏:‏ يا عدوّ اللّه أهلكتنا ومعنا صبيان وأطفال ثم إنّا نبهنا الناس وهربنا إلى المنبر وطلعنا وازدحمنا فيه ومنا من طلع على قواعد العمد فتسلق وبقي واقفًا وأخذ ذلك الحاوي يحسس وفي يده كنف الحيات ويقول‏:‏ قبضت الرقطاء ثم يفتح السلة ويضع فيها ثم يقول قبضت أم قرنين ويفتح ويضع فيها ويقول قبضت الفلانيّ والفلانية من الثعابين والحيات وهي معه بأسماء ويقول أبو تليس وأبو زعير ونحن ونقول ايه إلى أن قال‏:‏ بس انزلوا ما بقي عليّ همّ ما بقي يهمكم كبير شيء قلنا كيف‏.‏

قال ما بقي إلاّ البتراء وأم رأسين انزلوا فما عليكم منهما‏.‏

قلنا كذا عليك لعنة الله يا عدوّ الله لا نزلنا للصبح فالمغرور من تغرّه‏.‏

وصحنا بالقاضي أبي حفص القيم فأوقد الشمعة ولبس صباغات الخطيب خوفًا على رجليه وجاء فنزلنا في الضوء وطلعنا المئذنة فنمنا إلى بكرة وتفرّق شملنا بعد تلك الليلة وجمع القاضي القيم عياله ثاني يوم وأدخلوا عصيًا تحث المنبر وسعفا وشالوا الحصر فلم يظهر لهم شيء وبلغ الحديث والي القرافة ابن شعلة الكتاميّ فأخذ الحاوي فلم يزل به حتى جمع ما قدر عليه وقال‏:‏ ما أخليه إلاّ إلى السلطان وكان الوزير إذ ذاك يانس الأرمني‏.‏

وهذه القضية تشبه قضية جرت لجعفر بن الفضل بن الفرات وزير مصر المعروف بابن جرابة وذلك أنه كان يهوى النظر إلى الحيات والأفاعي والعقارب وأم أربعة وأربعين وما يجري هذا المجرى من الحشرات وكان في داره قاعة لطيفة مرخمة فيها سلل الحيات ولها قيم فرّاش حاو من الحواة ومعه مستخدمون برسم الخدمة ونقل السلال وحطها وكان كلّ حاو في مصر وأعمالها يصيد ما يقدر عليه من الحيات ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها وفي الكبار وفي الغريبة المنظر وكان الوزير يثبهم على ذلك أو في ثواب ويبذل لهم الجمل حتى يجتهدوا في تحصيلها وكان له وقت يجلس فيه على دكه مرتفعة ويدخل المستخدمون والحواة فيخرجون ما في السلل ويطرحونه على ذلك الرخام ويحرّشون بين الهوام وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه فلما كان ذات يوم أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر الكاتب وكان من أعيان كتاب أيامه وديوانه وكان عزيزًا عنده وكان يسكن إلى جوار دار ابن الفرات يقول له فيها‏:‏ نشعر الشيخ الجليل أدام الله سلامته أنه لما كان البارحة عرض علينا الحواة الحشرات الجاري بها العادات انساب إلى داره منها الحية البتراء وذات القرنين والعقربان الكبير وأبو صوفة وما حصلوا لنا إلاّ بعد عناء ومشقة وبجملة بذلناها للحواة ونحن نأمر الشيخ وفقه الله بالتقدّم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها إلى أن تنفذ الحواة لأخذها وردّها إلى سللها فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها أتاني أمر سيدنا الوزير خلد اللّه نعمته وحرس مدّته بما أشار إليه في أمر الحشرات والذي يعتمد عليه في ذلك أن الطلاق يلزمه ثلاثًا إن بات هو وأحد من أهله في الدار والسلام‏.‏

وفي سنة ست عشرة وخمسمائة أمر الوزير أبو عبد اللّه محمد بن فاتك المنعوت بالأجلّ المأمون البطايحيّ وكيله أبا البركات محمد بن عثمان برمّ شعث هذا الجامع وأن يعمر بجانبه طاحونًا للسبيل ويبتاع لها الدواب ويتخير من الصالحين الساكنين بالقرافة من يجعله أمينًا عليها ويطلق له ما يكفيه مع علف الدواب وجميع المؤن ويشترط عليه أن يواسي بين الضعفاء ويحمل عنهم كلفة طحن أقواتهم ويؤدي الأمانة فيها ولم يزل هذا الجامع على عمارته إلى أن احترق في السنة التي احترق فيها جامع عمرو بن العاص سنة أربع وستين وخمسمائة عند نزول مرى ملك الفرنج على القاهرة وحصارها كما تقدّم ذكره عند ذكر خراب الفسطاط من هذا الكتاب وكان الذي تولى إحراق هذا الجامع ابن سماقة بإشارة الأستاذ مؤتمن الخلافة جوهر وهو الذي أمر المذكور بحريق جامع عمرو بمصر وسئل عن ذلك فقال‏:‏ لئلا يخطب فيه لبني العباس‏.‏

ولم يبق من هذا الجامع بعد حريقه سوى المحراب الأخضر وكان مؤذن هذا الجامع في أيام المستنصر ابن بقاء المحدّث ابن بنت عبد الغنيّ بن سعيد الحافظ ثم جددت عمارة هذا الجامع في أيام المستنصر بعد حريقه وأدركته لما كانت القرافة الكبرى عامرة بسكنى السودان التكاررة وهو مقصود للبَرَكَة‏.‏

فلما كانت الحوادث والمحن في سنة ست وثمانمائة قلّ الساكن بالقرافة وصار هذا الجامع طول الأيام مغلوقًا وربما أقيمت فيه الجمعة‏.‏