الكدرة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خطاب الفرجة وتداعيات الجسد في رقصة الكدرة بالصحراء المغربية/ المختار العسري

·       تمهيد

    اذا كان التواصل بين بني البشر،  يعتمد عدة لغات اشارية وطقوسية، تعكس أشكالا عديدة من التمسرح الذي يشكل تراثه الفرجوي، فإن اللعب نزعة فطرية لدى الانسان، يحمل العديد من الاشارات والدلالات الفرجوية، وإن اختلف  من شخص الى آخر حسب العمر والبيئة، إذ لكل منا ألعابه الخاصة سواء كان شابا أو كهلا أو عجوزا، ذكرا أو أنثى، فالكل يستجيب لنزعة اللعب ويلبيها حسب العمر والبيئة والمستوى الفكري والاقتصادي والثقافي. فنحن نتواصل في خطابات فرجوية، يتخذ فيها الجسد مساحة مهمة.

  وتعتبر رقصة "الكَدْرَة" التي تنتشر "بين سكان منطقة واسعة تمتد من لحمادة شرقا عبر أقاليم درعة وزمور إلى الساقية الحمراء، "[1] من أبرز الأشكال الفرجوية التي يعكس اللعب فيها ثقافة فئة اجتماعية من بلادنا،  ذات حمولة فرجوية غنية لازالت بكرا، تحتاج للدراسة والتنقيب

* فما دلالة خطاب الفرجة؟

* وكيف يتداعى الجسد في رقصة الكدرة ؟

1 - الخطاب و الفرجة:

-        دلالة الخطاب:

تتعدد معاني الخطاب في اللغة، حيث اعتبر ابن منظور" الخطاب والمخاطبة : مراجعة الكلام، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطابا، وهما يتخاطبان، والخطبة مصدر الخطيب، وخطب الخاطب على المنبر، واختطب يخطب خطابة، واسم الكلام : الخطبة...عند العرب هي الكلام المنثور المسجع، ونحوه"[2]

  واذا انتقلنا الى علم اللسانيات، فإننا "نجد الخطاب يساوي الكلام"[3] وبذلك يكون الخطاب  عبارة عن منتوج فردي، صادر من ذات واعية؛ ذات إرادة، كاملة الحرية للتعبير عن نفسها بالنسق الذي تريده، وهكذا " فالخطاب هو كل كلام مباشر أو غير مباشر شفويا أو مكتوبا، ويلقى على المستمعين قصد التبليغ والتأثير. ويختلف نوع الخطاب باختلاف مضمونه والمواقف التي يلقى فيها، ومن هنا يتعدد الخطاب فمنه؛ الخطاب السياسي، والاجتماعي، والديني، والعلمي والتعليمي، ..."[4]

أما في الاصطلاح، فالخطاب كل ما يندرج تحت السياقات الاجتماعية و يضطلع بمهمة توصيل رسالة، و يعكس ايديولوجية صاحبه وطريقة تفكيره، والمتأمل فيه يجد له مرجعا ينحت منه.

  واذا كان الخطاب هو كل ما يصدر عن الانسان ويقوم به، من سلوكات تحمل دلالات معينة؛ من حركات ،أو كلام أو اشارات، أوملامح... فإنها تعد من بين أبرز الوسائل والطرق التي يتواصل بها الناس ويتخذونها وسيلة للتعبير والتواصل مع الاخرين. ولا يقتصر التواصل على الطرق السابقة فحسب، بل  تعد الفرجة من أبرز الوسائل التي تستعمل للتواصل، والتفاعل ومعرفة تجارب الانسانية. فقد كرم الله الانسان، وأعطاه زمام الأمر والنهي، وجمله باللغة والخطاب، حتى أضحى كل جزء من حياته فرجة، تشكلت منذ أول الخليقة، وارتبطت بالأعياد الدينية، ومنها اعياد "ديونزوس" عند الاغريق. تلك الأعياد التي تعكس خطابات فرجوية.

-        دلالة الفرجة ومقوماتها

  تحمل الفرجة في لسان العرب، مجموعة من المعاني منها؛ الخلل بين الشيئين، والخصاصة بين الشيئين، والانفراج. كما تدل على انكشاف الكرب وذهاب الغم والهم، والفريج هو الظاهر البارز. وهكذا ورغم تعدد دلالات الفرجة في المعاجم العربية إلا أنها تدور حول المعاني الاتية:

الفرجة تعني اتساع الفضاء بين الشيئين

الفرجة تعني العضو الجنسي عند الرجل والمرأة

الفرجة ذهاب الغم والهم، وهي  عكس الكبت والتأزم

الفرجة تعني الخلاص من الشدة

  أما في اللغة اللاتينية فإن الفرجة spectacle، تدل على كل ما يمنح للنظر، و أصلها spectar أي ما يرى ويشاهد، و يهدف تحقيق الراحة للمتلقي، ومعه تحقيق نهاية الصراع. ومن ثم فالفرجة تعد وسيلة للتعارف بين الناس تحقق التواصل بينهم، ويتبادلون من خلالها الثقافة وتجارب الأجداد، يقول في هذا الصدد الدكتور خالد امين: "يمكن اعتبار الفرجة اذن كبؤرة لانبعاث الثقافة، ووسيط يعكس الثقافة، صحيح أن الفرجة آنية  تزول فور إنجازها، اذ توجد ضمن زمان ومكان معينين، لكن تأثيرها يظل مشعا في ذاكرة المتلقي بعد انتهائها..."[5]  ومن هنا نعتبر "الفرجة سلوكات ونسقا من الحركات تقدم للمشاهدين من اجل التمتع. ونعتبر أن لحظة الاحتفال، هي اللحظة الأمثل لتقديم الفرجة والدلالات المعجمية للكلمة تؤكد هذا، فالاحتفال وأشكال الفرجة المتداولة فيه تقصد إلى ذهاب الكرب ومحو الغم عن الناس"[6]

عناصر الفرجة:

يتجاذب الفرجة عنصرين مهمين؛ الأول بشري والثاني فني

1--  العنصر البشري للفرجة:

يشكل بعض الناس، مصدرا للفرجة، فنحن نرى في كل ما يصدر عنهم، سواء كان قولا، فعلا، او اشارة، ما يثيرنا ويستهوينا ويمتعنا، ومن بين هؤلاء الناس، نذكر المشعوذ، ماسح الأحدية، البراح...غيرهم من الشخصيات الموجودة في حياتنا اليومية، فعندما يستلهمها المبدعون، في أعمالهم، ويتم تجسيدها في المسرح والحياة، تصبح عناصر فرجوبة.

2-- العناصر الفنية للفرجة

تنقسم العناصر الفنية الى أربعة أقسام،

أ‌-       عناصر أسلوبية

-        الاستهلال: الافتتاح أو المدخل التمهيدي

-        التوكيد: ويكون في النص وفي المعني، وفي كل الفنون، فهو يضفي دلالة جديدة على الموقف الدرامي ، فيصير أكثر تأثيرا ويكسب اللحظة الشعورية بعدا أعمق .

-        التكرار: يتم تكرار حركة او كلام او اماءة من اجل توكيد اللحظة

-        التنويع: من اجل تجاوز الملل

-        التجسيد: ويتم فيه معايشة الفعل، و تحقيقه

-        التشخيص: أي اقتباس لأداء شخص او فعل أو حركة

-        الايهام: اتفاق بين الجمهور والممثلين على توهم صدقية وواقعية العرض

-        التشويق: هو ما يجعل المتلقي متيقظا ومتابعا للحظات العرض

-        التكثيف: التقاط اللحظات الساخنة و تكثيفها

- ب-  عناصر فرجوية  حركية

يظهر هذا النوع من الفرجة مع الحركة، ويتغير تبعا لنوع الاداء، ويتجلى  في مجموعة من العناصر:

التوقع: ويتجلى في ذلك التعاقد الضمني بين الممثلين والمتفرجين، ويرتبط هذا العنصر بأفق انتظار المتفرجين

التورية: ويقتضي ان للفظ معنيين الأول قريب والثاني بعيد، وهو المقصود من الكلام

التحول: وهو تغير الفعل الى ضده، وهو تغيير مفاجئ ، إما الى المأساة او الملهاة

الآلية: وهي نوع من الصنعة، تجعل من الفرجة بناء متكاملا من جميع نواحي التعبير الصوتي والحركي ونجدها في فرجة العرائس مثلا

العفوية: وهي تلقائية الأداء دون تصنع او تكلف، وهي الوجه الثاني للارتجال

الانسيابية:  وهي الاسترسال في الاداء

المزاوجة: عندما تكون للشخصية وظيفتان ، يؤديهما  دون تداخل أو أي تشويه

التعارض: وهو تقاطع في الأداء يساعد في وصول المعنى

بالإضافة الى مجموعة من العناصر الأخرى مثل؛ المقابلة، و الترادف، والكناية

ج- عناصر فرجة تكوينية

ويكون الاداء فيها حركيا، حيث تستشف طقوسها من العادات والتقاليد ، كحفلات الختان، والمآتم وحفلات العرس وغيرها.

د- عناصر فرجة مهيئة

ونقصد بها تلك الفرجة التي يتفق ضمنيا حولها الجمهور والفرقة المسرحية، حيث تتحمل هذه الأخيرة مسؤولية إعدادها (ديكور، أزياء، مكياج، إضاءة،...)، بينما يتماهى الجمهور مع العرض فيصبح الزيف حقيقة  يقول "الطيب الصديقي" : " المسرح فن مباشر حيث يخاطب البشر، هذه هي القاعدة الاولى، ولكن ما يستعمله المسرح هو الادوات المسرحية التي يلتجئ اليها. هي ادوات مزيفة، مثلا تضع صندوقا بلاستيكيا في وسط الخشبة وعلى رأسك تاج "كارطوني" وفي يدك عكاز، وتردد: هذا عرشي، وهذا تاجي، وهذا صولجاني. ولا احد يناقشك...هذه المواد كلها مزيفة، ومع ذلك يستطيع هذا الممثل ان يؤثر علينا حتى تسيل دموعنا.

نعيش بمواد مزيفة ومغلوطة ولا تمت للحقيقة بصلة، فالديكور واللباس والكلام لا علاقة له بالحقيقة هذه كلها مواد اختارها المخرج مع المؤلف واستطاعا ان يؤثرا على الناس"[7]  .

  وهكذا يكشف هذا القول الوجه الثاني للمسرح والذي هو الزيف، الذي يتخذ أشكالا مختلفة، وخلق عوالم احتمالية، أو وهمية، حيث أن الاغراق او التجاوز، كمظهرين للزيف، هو الذي يجعل من هذا الفن فرجة، ذلك ان " التمسرح و الفرجوي، كلاهما يتموقع الى جانب التجاوز والإسراف والتفخيم"[8] . ومن دلالات الفرجوي أنه "ما يثير  الحواس، ويثير اهتمام من يرى او يسمع  بسبب نوع من اللايومي، والمظهر الاستثنائي اللا منتظر ،ومن تجاوز معيار مسلم به..  الفرجوي في المسرح هو كل لحظة تنتج أثر صدمة بصرية، سمعية، انفعالية، تستولي على المتفرج، ليس بما يقوله النص، وإنما بالكيفية التي يقال ويعرض ويتم إخراجه بها ، إن الفرجوي يؤثر على جسد الجمهور بشكل فيزيولوجي"[9]

تعد الفرجة المغربية ، خلاصة تجربة قرون من الإبداع الفردي والجماعي، تعكس تداخل عدد من الحضارات مرت بالمغرب وأثرت دون ريب في الشخصية المغربية، كالحضارة الفينيقية والقرطاجية والرومانية  ثم الاسلامية، وهو ما ولد  فرجة مغربية غنية الأصول، وهذا ما يجعلنا نقول" إن المغرب  يزخر بإرث فرجوي شعبي عريق يحمل جذورا تاريخية قديمة تعكس، أصالته وتميز كيانه الوجودي وقيمة الإنسانية والفنية، ويشكل مخزونا ضخما تتجلى من خلاله الهوية الوطنية بكل مقوماتها التاريخية والحضارية والثقافية والفكرية والجمالية...، "[10]

ومن هنا يمكن القول إن الفرجة المغربية، فرجة أصيلة تتشابه كثيرا مع الفرجات العالمية ،خاصة في الشروط الضرورية التي يجب توفرها لتحقيق تواصل فرجوي (الممثل / المتفرج/ المكان)، وهو ما يتحقق في فرجات مثل ؛ سلطان الطلبة والبساط وعبيدات الرما، ورقصات أحيدوس واحواش والكَدْرَة وشرتات  وعيساوة  وكناوة و غيرها، حيت الالتقاء المباشر  بين اللاعبين والمتفرجين في الاسواق و المواسم والاعراس. وهنا نسجل التشابه الكبير بين هذه الفرجات  والأشكال المسرحية التي كانت رائجة عند الإغريق، ومثال ذلك" المشاهد التمثيلية التي تعرضها فرجات الأسود واللبؤتين والجمال والنوق، والقطط والكلاب، التي تشبه إلى حد بعيد مشاهد الجوقات المقنعة بأقنعة الماعز لدى اليونان"[11]

2- رقصة الكَدرة وتداعيات الجسد

      يعتبر الرقص من أقدم الأنماط التعبيرية التي أبدعها الانسان منذ وجوده الأول، وما رسها في حياته اليومية ، اذ نستطيع به ان نميز ما بين الحضارات، لذلك فهو من اكثر تجليات العبادة التصاقا بالإنسان. ورغم" كون الرقص وسيلة من وسائل التنفيس والترفيه وتفعيل أجواء المتعة والفرجة، إلا انه يتجاوز ذلك إذا ما ربطناه  بأبعاده الرمزية والنفسية التي تساهم في خلق روابط وشيجة وصادقة مع العالم"[12]، وحين يرقص الإنسان ويسعد، فهو بذلك يعبر عن حاجاته ورغباته وأمانيه. وبذلك يخضع الطبيعة لنفسه، بالإضافة إلى انه لا يكتفي بالتعبير عن ذاته، بل يعبر عن أفراد جماعته.

وبعودتنا للتراث الفرجوي المغربي، تبرز مجموعة من الرقصات والألعاب التراثية، نذكر منها رقصة الكَدْرَة، هذه الرقصة التي" تنتشر بين سكان منطقة واسعة، تمتد من لحمادة شرقا عبر أقاليم درعة وزمور الى الساقية الحمراء، وتكاد في واقعها اليوم ان تكون من خصوصيات مدينة "كلميم" حيث ترتبط بالرجال الزرق "[13]، لكن "جل الدارسين الذين تناولوا  بالبحث موضوع "الكدرة"، ربطوها بالدرجة الأولى بوادي نون ومنطقة أمحاميد الغزلان(التي تقع في الجنوب الشرقي من إقليم ورززات  على ضفتي نهر درعة)... وهي منطقة صحراوية تقع في درعة الوسطى"[14]

    واذا كان القِدْر أهم عنصر في الرقصة، إذ سميت باسمه، حيث "يطلق اسم "الكَدْرَة" أصلا على ذلك الإناء الذي يتم استخدامه كأداة موسيقية وحيدة في (رقصة الكدرة)، وهو عبارة عن جرة او قلة من الطين يتم تحكيم فوهتها بقطعة من الجلد من اجل تكثيف الهواء داخلها، وبناء على قانون خاص، يتم الضرب على قطعة الجلد هاته بواسطة قضيبين من غصن شجرة، يحدث على إثره إيقاع موسيقي يميز الرقصة، تسايره عملية التصفيق المستمرة..."[15]

     فإن وجود الجسد يحقق نوعا من التوازن  للرقصة،" فتنهض على خطاب كوريغرافي مليء بالعلامات والإيماءات الجسدية التي تتحرك ككتابة في الفضاء، معتمدة الأداء الموسيقي و الجسدي، وبذلك يسمو الجسد في (رقصة الكدرة)ويتجاوز بعده الأنثروبولوجي، فيصبح الجسد جسدا للفرجة Corps de spectacleحسب بارث، وهو جسد يكون موضوع فرجة تجاه الجسد الأخر(جسد المتفرج) وبذلك فهو يبث رسائله، بلغة مختزلة، تكشف مفاتنه وتضاريسه الباعثة على الاغراء."[16]

فتتقارب أرواح باعدت بينها قساوة الحياة، ويتقبل الانسان اخاه الانسان، ويصبح التواصل روحيا، ميتافيزيقيا، غير خاصع للجسد المشوه ، الذي غالبا ما يكون اداة معيقة للتواصل العادي في الحياة اليومية.

  يقول (إبراهيم الحيسن) "في رقصة الكدرة، يبرز جسد انثوي، مغلف بغلالة سوداء،(ملحفة)،يتلاعب في عملية طواف وسط جمع من الرجال، الزرق  بأزيائهم التقليدية المعروفة (الدراعة)جاثمين على ركبهم وهم "يتدايحون" بالأكتاف، ويتمايلون تارة يمينا... وتارة يسارا في شكل دائري متراص،(حيث يعبر الشكل الدائري في رقصة الكدرة ،عن الحياة والخصوبة، ويحيل على الحركة والحياة ، ويعكس الحميمية والألفة والشعور بالاحتماء) يصفقون على ايقاع متعال يتناغم مع ضربات متصاعدة عل الكدرة، وهم يرددون مجموعة من الاناشيد والاهازيج الشجية، التي تملأ النفس بمواجيد الاستعبار والحماس والشعور بالروح الجماعية."[17]

حيث تستهل الرقصة، بإيقاظ النار، ثم يتم رش فضاء اللعب بالملح ، ليتوسط قائد الفرقة الذي يسمى باللهجة الحسانية "بالنَكار"، حيث يقوم بقيادة الفرقة، والتحكم في الايقاع، الى أن يصل الايقاع الى مستوى معين ، ويتم ادخال الراقصة وتشرع في الرقص الذي ليس " مجرد تحريك لأعضاء الجسد بل ينبغي ان يكون حوارا بين  الجسد والفضاء"[18]

فتتعالى الأنغام الموسيقية، والتصفيقات المتناسقة، فتتبدى حركات وايماءات غاية في الجمال والتعبير، وما ان تحمى الرقصة، بعد تأدية مجموعة من الأبيات، فيبدأ بترديد أبيات تطلب شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي:

" وَيَا نَبيَ الله

اشْفَعْ لي يَا رَسولَ الله"

ثم يضاف اليها أبيات اخرى تسمى "بالحَمَايَات" من قبيل:

" الحَمَامَة ... يَا الحَمَامَة

أَنْت زينَكْ مَا يطَامَى"

هذا البيت الذي يعبر عن الاعجاب بالجمال الذي لا يضاهى. ثم يتم ترديد أبيات اخرى، الى أن يصل الايقاع منتهاه، بعد عدة جولات، يتم فيها انشاد عدة أبيات،  مقسمة الى اجزاء، حيث يؤدي النصف الأول من الدائرة  الثلثين من البيت ، ليتم نصف الدائرة الثاني الثلث الاخير، وهكذا دواليك ، اذ يبدأ الايقاع بطيئا وبسيطا، ثم يزداد سرعة حتى يصبح أكثر "حمية" لتدخل الراقصة ، بعد ان تخلع نعليها خارج فضاء اللعب، وهو فعل يعبر عن الطقوس التي تصاحب الرقصة ، ثم تجثو على ركبتيها و "هي مغطاة بغلالة سوداء(ملحفة)، ثم تبرز أصابع يديها وهي تلوح بحركات تعبيرية على نغمات الإيقاع الذي يشبه دقات القلب، كما يبرز رأسها متمايلا يمينا ويسارا وهي مغمضة العينين، عندئذ يستمر الإيقاع مرتفعا بشكل تدريجي الى أن يبلغ منتهاه، مضيفا على الغناء متعة وجمالية فنية يصعب وصفها في كثير من الأحيان ، وهي المرحلة التي يتحول فيها كلام المجموعة الى نبرات معبرة تنبئ بنهاية القصيدة"[19]

     وبذلك ينتج الجسد في رقصة الكدرة معنى جديدا خاص به، فتتعرى أسراره، بازدياد الايقاع، و تغيير الالحان . فتتجلى مفاتن جسد وتزداد مساحات  تعبيره الكوريغرافي، حتى تفقد الراقصة السيطرة على جسدها، الذي يبلغ حد الغثيان...و يذوب وينصهر في رحاب العالم الاخر... وهكذا يظهر جسد آخر(جديد) مليء بالطاقات والأحاسيس ،مرن ومطواع، وبذلك تصبح "الكَارَة"(ميدان اللعب) ركحا يضم مشاهد فرجوية، ينسجها الجسد في علاقته بالفضاء و الفراغ.

"هذا هو الرقص في رقصة الكَدرة...إبداع جمالي له لغته الكوريغرافية، الخاصة التي تتوه في متاهات الجسد وتنصهر داخل جغرافيته، وهي ذي الكدرة رقصة  شعبية تسمو بالجسد وترقى به  الى سماوات أنقى وارحب. وتحوله الى اداة غواية وإغراء

تبدا الراقصة ،وهي حافية القدمين، عملية الرقص بتحريك راسها المنمق بضفائر مزينة بالحلي التقليدية، وذلك  وفق لحن آلة الكدرة ،وقد تعمد الى لمسها ،لتتجه بعد ذلك بالرقص نحو أفراد المجموعة الذين يزدادون تصفيقا وحماسا وحركة/التداويح كلما قابلتهم...

بذلك ترسم نوعا من الرقص الصوفي  الذي يلعب دورا مهم في التقرب للعالم العلوي...فتفقد الراقصة إحساسها بالعالم المادي، بل تنسى حتى جسدها الذي لم يعد ملكا لها، لتدخل في عالم روحاني غامض يصعب فهمه وتفسيره في كثير من الاحيان...

ولا تتمكن الراقصة من اتقان حركات الجسد، ما لم تكن على دراية واسعة، بوظيفة كل عضو من أعضاء جسدها والاحساس بقيمته في الرقص، والمدى الذي يمكن ان يبلغه في حركته التعبيرية. ثم عليها إدراك الكيفية التي تتعاون بها هذه الاعضاء، وتتكامل داخل منظومة كوريغرافية موحدة."[20]

لقد كانت بداية الرقصة، تهدف تحقيقة التواصل مع القوى الغيبية، لكنها تحولت مع مرور الزمن، لتصبح لعبا  منظما، وفق شروط ، مستعينا بالموسيقى والرقص،و الغناء، وفق تدرج ، يهدف تحقيق تواصل حددته الباحثة نوال بنبراهيم في ثلاثة أنواع هي[21] :

-        تواصل عمودي مع القوى الغيبية

-        تواصل افقي مع الجمهور يتحقق بمشاركته الانفعالية والفعلية

-   تواصل ثالث مع ذوات ممارسي الفرجة، يروم إشعال مشاعرهم العميقة، وتحرير قواهم النفسية والفكرية المكبوتة ليتمكنوا من مواجهة مشاكلهم اليومية.

  وهكذا تعد فرجة رقصة الكدرة ،متنفسا إنسانيا، وشعبيا ، يحرر المشارك من حالته النفسية المضطربة، وصراعاته الداخلة، عن طريق تطهيره من العواطف والانفعالات المكبوتة، وذكرياته القديمة الاليمة فيعانق الحرية "بعد أن ظل  مسجونا لمدة طويلة" [22] وبذلك يصبح هذا الاحتفال أصلا لكل ممارسة مسرحية، فهو" الشكل الأول والدائم للحضارة الإنسانية يستوعب جوهر الثقافة الشعبية"[23]

  هكذا تتمايل الأجساد وتتلاعب في رقصة الكدرة راسمة بذلك كتابة مشهدية بالجسد، وتوقيعا كوريغرافيا يعكس في تشكيلاته المتعددة حلم الانسان ورغبته في الحرية، فتتدفق المعاني وتتجلى الأسرار ، اسرار جسد يجمع بين المتناقضات، من خلال حركاته التي  تأخذ بعدا جماليا  في الفضاء الفارغ، ليصبح الرقص في رقصة الكدرة "إبداع جمالي له لغته الكوريغرافية الخاصة التي تتوه في متاهات الجسد، وتنصهر داخل  جغرافيته، وهي ذي "الكدرة"  رقصة شعبية تسمو بالجسد وترقى به إلى سماوات أنقى وأرحب، وتحوله إلى غواية وإغراء بمفهومها الإيروتيكي..."[24]

وتقوم رقصة الكدرة على ثلاث مقومات  أساسية ؛ الرقص والغناء والايقاع، التي تعتمد على  على جانبين مهمين في الرقصة وهما الجانب الروحي وخطاب الجسد، اللذان يساهمان في الانتقال من  الواقع المعاش الى اللاواقع الذي تصل اليه الراقصة، في أخر الرقصة، حيث يتماهى جسدها ليصبح جسدا متمسرحا، يقدم قربانا في محراب اللعب، " هكذا هو الجسد في رقصة " الكدرة". فإذا كان جسد الممثل هو القربان  الذي يقدم في المسرح، فهو نفسه المقدم في "الكدرة"، وذلك من اجل بلوغ  درجة المتعة والتنفيس عن الروح والتطهير من الجن إضافة إلى تفعيل مؤسسة الزواج، كلها أهداف تتحقق في رقصة "الكدرة" من خلال الجسد، إنه الجسد الذي يعلن عن ذاته حتى لو كان منفذا"[25] 

الكدرة" حوار بين الجسد والفضاء"[26] جسد الراقصة الذي يستشف حرارة الفضاء، ويتماهى مع انغام الايقاع، ذلك التماهي الذي أبعد الغزاة الذين حاولوا نهب خيرات احدى القبائل، اذ هيأت القبيلة المغلوبة على امرها حفلا سامرا " بطلته امرأة عارية الرأس تلوح بجدائلها وظفائرها يمينا ويسارا وسط جمع ذكوري من أبناء قبيلتها، وتقوم بمجموعة من الايماءات الجسدية والإشارات الرمزية  بذراعيها وأصابع يديها وكأنها تأمر الغزاة بالمغادرة والابتعاد عن ارضهم..."[27]

"تتمايل الأجساد اذن، وتتلاعب راسمة بذلك كتابة مشهدية بالجسد...، وتوقيعا كوريغرافيا يعكس حلم الانسان...، تصفيقات متناسقة، حركات وإيماءات جسدية غاية في الجمال والتعبير...، كل شيء في رقصة الكدرة يقوم على إنتاج المعنى... وتعرية الأسرار...، أسرار الجسد ومعانيه"[28]

ومن ثم فلا صوت يعلو فوق صوت الجسد و الايقاع الحساني البديع، الذي يزخر  مثله مثل باقي الاشكال التراثية المغربية ، بأنماط من التعبير الجسدي، يشكل عمق تاريخ عريق يمتد لقرون عديدة.

  وختاما فقد ظلت أشكال الرقص المتعددة التي عرفها الانسان المغربي، في كل ربوع الوطن، خاصة بالجنوب المغربي متنفسا له من أعباء الحياة، تحفظ كيانه وتشعره بجماعته، بالإضافة الى كونها خزانا يحفظ تراثه وتاريخه، وينقل قيمه الى الحضارية والجمالية للأجيال اللاحقة ومميزا له عن كل ما هو دخيل و اجنبي، وبذلك فهي ترسم ملامح هويتة، وأصالته عبر العصور.

ورغم دخول بلادنا عصر العولمة، الذي "ينمذج" العادات و التقاليد، حتى صار العالم اليوم ممسوخا ومشوها، الغلبة فيه للأقوى اقتصاديا  ، فإن رقصة الكدرة  لازالت تقاوم رياح التغيير و العولمة التي تأبى إلا أن "تقولب" و" تمكنن" العالم، ليصبح الكل ذو نمط تفكير موحد، فيسهل السيطرة عليه . لذلك فنحن في أمي الحاجة الى  الأشكال التراثية التي تشعرنا بالاعتزاز بتاريخ مجيد ، للتخلص من التبعية التي  بتنا نرزح فيها، واذكاء الروح الوطنية التي تحررنا من الرؤى الاستشراقية التي  ظلت تنظر الى التراث العربي ،نظرة  دونية هدفها تهميش و اقصاء الآخر، في المقابل تمجد الثقافة  الغربية باعتبارها مركزا ، على الآخرين تقليده ومحاكاته ، والذوبان فيه ، وفي قوالب ثقافته الفنية والفرجوية.

لذلك فما أحوج أجيالنا الحالية الى التعرف على تراث الأجداد ليصير سدا منيعا لهم من الضياع ، ويتعلموا من تلك التجارب ما يفيدهم في حياتهم الخاصة والعامة، ناهيك عن تحصينهم من رياح الفرقة والعنف والفكر الارهابي، تلك الأفكار التي باتت تهدد مجتمعنا من الداخل.

-        المراجع

-    عبد العزيز بنعبد الجليل، الممارسات الموسيقية في الأقاليم الصحراوية المغربية، مجلة المناهل، منشورات كتابة الدولة المكلفة بالثقافة،العدد58، السنة الثالثة والعشرون، مارس 1988

-  ابن منظور، لسان العرب، المجلد الاول،ط1، دار صادر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان،1990

  - نوارة بوعياد، مفهوم الخطاب التعليمي والعلمي الجامعي، مجلة التبيين، الجزائر،  العدد 17،1أبريل2001

-    خالد أمين، الفرجة بين المسرح والانتربولوجيا ، كتاب جماعي، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بتطوان، سلسة اعمال الندوات (رقم8)، مطبعة الطوبريس- طنجة ،ط 2000

  - سعيد الناجي، تأصيل الفرجة وطرائق الاحتفال في الثقافة العربية الإسلامية، الفرجة بين المسرح والانتربولوجيا ، كتاب جماعي، منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بتطوان، سلسة اعمال الندوات (رقم8)، مطبعة الطوبريس- طنجة ،ط 2000

- نوال بنبراهيم ، الفرجة المغربية من الإبداع إلى التلقي، الفرجة والتنوع الثقافي، مقاربات متعددة الاختصاصات، كتاب جماعي، مقاربات متعددة الاختصاصات، كتاب جماعي، المركز الدولي لدراسات الفرجة،(سلسلة دراسات الفرجة4)،الطبعة الاولى2008

- اسليمة امرز، عالي  مسدور، أشكال الفرجة في التراث الشعبي الحساني، الجزء الأول: "الرقص الشعبي" دار أبي رقراق  للطباعة والنشر، الطبعة الاولى،2014

- عبد العزيز بنعبد الجليل، الممارسات الموسيقية في الأقاليم الصحراوية المغربية، مجلة المناهل،  منشورات كتابة الدولة المكلفة بالثقافة،العدد58، السنة الثالثة والعشرون، مارس 1988

  - إبراهيم الحيسن، أشكال الفرجة بالصحراء: بين شعرية التشخيص.. وجمالية الأداء، الفرجة والتنوع الثقافي، مقاربات متعددة الاختصاصات، كتاب جماعي، المركز الدولي لدراسات الفرجة،(سلسلة دراسات الفرجة4)،الطبعة الاولى2008

- حسن المنيعي ، الجسد في المسرح ، المركز الدولي لدراسات الفرجة،(سلسلة دراسات الفرجة10)، مطبعة الطوبريس- طنجة ،الطبعة الثانية

- يونس لوليدي، المقدس والفرجوي في الليلة العيساوية، الفرجة بين المسرح والانتربولوجيا ، كتاب جماعي