الشعر الغنائي الإنجليزي

الشعر الغنائي Lyrical Ballads عام 1798


وفي يناير سنة 8971 ظهر في كولردج حافز آخر يحفزه على التفرغ للشعر، إذ إن جوسياه Josiah وتوماس ودجوود Wedgwood - ابني جوسياه ودجوود( 0371 - 5971) ووريثاه - عرضا على الشاعر شبه المفلس راتباً سنوياً مقداره 051 جنيهاً (057،3 دولار) شريطة أن يتفرّغ تماماً للشعر والفلسفة• وكان أبوهما صانع فخار أتقن صنعته فجعل فخاره وخزفه مشهورا في أوربا كلها• وكتب كولردج لهما خطابا في 71 يناير يرحب فيه بهذه المنحة، وأغرق في التأمل والاندماج في عملية الإبداع ليكمل (أغنية الملاّح القديم) واقترح كولردج على وردزورث بعد أن تسلح بهذه المنحة الدالة على شهرته في مضمار الشعر - أن يجمعا معا قصدائدهما الجديدة في مجلدات تحمل اسميهما فقد تعود عليهما بمبالغ مالية تكفي لتمويل رحلة يقومان بها إلى ألمانيا• لقد كان كولردج يأمل في أن عاما يقضيه في ألمانيا سيمكنه من تعلم اللغة الألمانية بشكل يكفي لقراءة الأعمال الكبرى التي ألفها الألمان من جوته (جيتة) إلى كانط Kant في لغتها الأصلية وفهمها، فهؤلاء الأعلام الألمان قد جعلا من ألمانيا رائدة في مجال الفلسفة الأوربية بلا منازع أو على الأقل جعلتها تنافس إنجلترا وفرنسا في مجال الأدب والفكر• ولم يكن وردزورث متحمساً لألمانيا، لكن لأن فرنسا وشمال إيطاليا كانا في قبضة الثورة الفرنسية، فقد وافق كولردج على خطته•

وفي أبريل سنة 8971 وجها دعوة للناشر كوتل Cottle ليأتي إليهما من بريستول ليسمع أشعارهما الأخيرة، وأتى واستمع إليهما وعرض ثلاثين جنيها لشراء حق الطبع، وأراد أيضا أن ينشر اسمي الشاعرين ولكن كولردج رفض قائلا إن اسم وردزورث ليس شيئا أما اسمي فيلاقي احتجاجا عنيفاً(42)• وبعد ذلك بثمانية عشر عاما شرح كولردج نظريته الكامنة وراء هذا التعاون (العمل المشترك):

من المتفق عليه أن محاولاتي تتناول شخوصاً وشخصيات ميتافيزيقية (فوق الطبيعة) أو على الأقل رومانسية •••• أما السيد وردزورث فقد جعل هدفاً له أن يضفي الجدَّة والجاذبية على أمور تحدث كل يوم، وأن يثير مشاعر تناظر ما أثيره من أمور فوق طبيعيه (ميتافيزيقية) بلغت الأنظار إلى ما في العادات من بلادة ولا مبالاة، إنه يوجه شعره إلى ما في العالم أمامنا من جمال وعجائب •••لقد كتبت الملاح القديم من هذا المنطلق وكنت أجهز أيضا بمثل هذه الروح لعمليّ الليدي السوداء وكريستابل Christable اللذين كنت فيهما أكثر اقترابا من تحقيق هذه الغاية(52)•

وربما أخذت هذه النظرية شكلها بعد كتابة القصائد• وقد وضح هذا وردزورث في مقدمة الطبعة الأولى: تعتبر معظم القصائد الواردة في هذه الطبعة تجارب شعرية• لقد كتبت في الأساس من وجهة نظر مؤداها التحقق من المدى الذي يمكن فيه للغة العادية (لغة الحوار) في الطبقتين الوسطى والدنيا أن تكون قادرة على تحقيق أغراض الشعر وما يحدث من بهجة• لقد اعتاد القراء على الزخارف اللفظية والأساليب الفارغة لكثيرين من الكتاب المعاصرين، لذا فإن هؤلاء القراء إذا ثابروا على قراءة هذا الكتاب إلى نهايته ربما كان عليهم أن يقاوموا ما يحسون به من غثاثة وسماجة وغرابة• إنهم سينظرون إلى الشعر الذي ألفوه واعتادوا عليه ثم يندفعون متسائلين بأي حق أطلقنا على محاولاتنا هذه لفظ الشعر؟ إنه لمن المرغوب فيه ألا يعاني مثل هؤلاء القراء أمام كلمة الشعر المتفردة، تلك الكلمة التي تنازع الناس حول معناها؟ انه لمن غير المرغوب فيه أن تقف هذه الكلمة عائقا بين الناس وبين الاستمتاع (بما نكتب)•••• والقراء الأرقى حكما قد لايوافقون على الأسلوب الذي كتبنابه كثيرا من هذه القصائد••• فسيظهر لهم أن المؤلف (الشاعر) رغبة منه في تجنب الأخطاء الشائعة قد تنازل كثيرا واستخدم كثيرا من التعبيرات الشائعة جدا والتي لا تتسم لفرط تداولها بالوقار الكافي•••(62)• وتدخل النثر ليقطع عليهم روح الشعر: مالك منزل أفوكسدن أحاط آل وردزورث علما أن لاحق لهم في الإقامة في المنزل بعد 03 يونيو 8971• وفي 52 يونيو غادر وليم وردزورث ودوروثي إلى بريستول للتفاوض مع كوتل Cottle (الناشر) وفي 01 يوليو استقلتهما سفينة ليعبرا نهر سيفرن Severn وسار عشرة أميال في ويلز إلى كنيسة تنتيرن Tintern Abbey• وبالقرب من هذه الخرائب الجميلة جدا وفي طريق العودة إلى بريستول ألف وردزورث القصيدة التي أضيفت كقصيدة أخيرة إلى ديوانهما الشعر الغنائي Lyrical Ballads•

وتم نشر هذا الديوان الصغير في 4 أكتوبر 1798 بعد تسعة عشر يوما من مغادرة الشاعرين - غير المعترف بشاعريتهما - قاصدين ألمانيا• لقد كان عنوان الديوان مناسبا؛ فقد كان إسهام كولردج الرئيس يسير على نسق الأشعار الإنجليزية القديمة - حكايات شعرية صالحة للغناء، وكان معظم إسهام وردزورث قصائد غنائية بسيطة تتناول الحياة البسيطة تكاد تقتصر على استخدام ألفاظ من مقطع واحد يستخدمها الفلاحون الإنجليز• وكانت القصيدة الأولى في الديوان هي (أغنية الملاح القديم) وشغلت 51 صفحة من 711 صفحة هي كل صفحات الديوان وهي أطول قصائده وربما أفضلها رغم أن إنجلترا لم تدرك ذلك إلا ببطء، أما وردزورث فلم يعترف بقيمتها أبدا• حقيقة ان هذه القصيدة كانت حاوية على أخطاء كثيرة لكن لايجب التركيز على الأخطاء التي نعتبرها منافية للعقل (أفكار اللامعقول) في الحكاية الشعرية، ذلك لأن كولردج كان قد اقتحم عالم الغموض حيث الأسرار والرموز وحيث الخيال الذي يجعل كل شيء ممكنا(72)، ففي عالم الخيال يمكن أن تنتج أحداث جسام من وقائع تافهة أو بسيطة• ومع هذا فإنه يتمسك بعبير الأسرار في الحكايات والأساطير القديمة، كما يتمسك بأوزان وايقاعات الأشعار الغنائية والقصصية البسيطة القديمة (فالملاح القديم) تكاد تحملنا معه إلى النهاية• إنها (الملاح القديم) تعتبر - بالطبع - واحدة من أعظم قصائد الشعر الغنائي في اللغة الإنجليزية•

أما إسهامات وردزورث فتكاد كلها تكون نماذج من الحكمة التي وجدها في شخصيات البسطاء• وبعض هذه القصائد مثل (الصبي الأبله Idiot boy) و(سيمون لي Simon Lee) هجاهما المتابعون (النقاد) بصخب، لكن من منا لم يتعاطف مع حب الأم المتسم بالصبر لطفلها غير المؤذي ضعيف العقل (طفلها الأبله) ؟ (إن شطراً واحدا من هذه القصيدة المفهومة يخبرنا عن العشب الأخضر - الذي تكاد تسمعه في أثناء نموه(82) أيمكن أن يكون هذا التعبير اقتباساً من دوروثي؟) وبعد أن أطال كثيرا في قصائده ذات المذاق الريفي أنهى وردزورث الديوان بأبيات تأملية من (أميال قليلة) فوق (دير تنترن Tintern Abbey)• إنه هنا يقدم لنا تعبيرات فائقه (سامية) تعبر عن مشاعره عن أن (الطبيعة) و(الرب) هما شيء واحد (على وفق تعبير سبينوزا Deus sive Natura) إنهما (الطبيعة) و(الرب) لايتحدثان فحسب من خلال معجزات النمو (أو التطور) وإنما أيضا من خلال الرهبة التي تبدو (من خلال قصر نظر البشر) قوى مدمرة كان تيرنر Turner يتعبد في محرابها (أي الرهبة) عند ممارسة فن الرسم• ومن جولاته (وردزورث) في الغابات والحقول، وتجديفه على صفحات البحيرات الهادئة وتسلقه فوق الصخور الضخام الوعرة، وعن آلاف النداءات صياحا أو همساً الصادرة من آلاف الكائنات الحية، وحتى من تلك الموجودات التي يفترض ألا حياة فيها نسمعه - عن هذا ينشد -:

إليها ••• إنني مدين لها بكل ما هو مقدس ومبارك،

ففيها تكمن الأسرار،

وفيها يلقى الضوء،

على كل ما هو غامض مبهم في عالمنا،

وعن طريقها تريح هذا العبء الثقيل المرعب من الغموض والإبهام في عالمنا

فبسلطان التناسق (الهارمونية) تسعد العين بالهدوء

وبسلطان البهجة العميقة

نرى أعماق كل ما هو حي(92)•


وبعد ذلك يشرئب إلى دقائق إيمانه:


لقد تعلمت،

أن أنظر إلى الطبيعة،

لاكشاب لافكر له ، لكنني أسمع في أحوال كثيرة،

هارمونية الصمت، وموسيقاه الحزينة،

إنها ليست فجة وليست ضبابية غامضة رغم سلطانها الواسع الممتد، وقدرتها

على التطهير (تطهير النفس) والسيطرة (القهر)• ولقد شعرت،

بحضور يثيرني بالبهجة،

بهجة الأفكار السامية: معانٍ تسمو،

الأشياء سمواً عميقا وبعيدا بما يتخللها،

معان محورها ضوء الشمس الغاربة،

والمحيط الهائل والهواء الطلق،

والسماء الزرقاء، وفي نفس الإنسان،

الحركة والروح اللتان تدفعان،

كل ما هو مفكر، وكل أهداف للأفكار،

وتدور في كل الأشياء، لذا ألا زلتُ

عاشقا لكل المروج والغابات

والجبال ••• معترفا أن،

في الطبيعة ولغة المعاني

دليل قلبي وحارسه وروح،

كل وجودي المعنوي (أو بتعبير آخر مغزى وجودي)(03)•


وقد وصلت دوروثي أيضا إلى هذه العقيدة (الإيمان) الشافية التي توحّد بين الطبيعة والرب ووجدت أنها لا تتفق مع العقيدة المسيحية• وفي نهاية قصيدته أضاف وردزورث إهداء يعبر فيه عن شكره لها وتسبيحه بفضلها كأخت روحه معلنا تمسكه بها حتى النهاية:


إن إيماننا البهيج الذي نتمسك به جميعا،

إيمان مقدس ومبارك• لذا دع القمر،

يبزغ بنوره عليك عندما تكون سائرا بمفردك،

ودع رياح الجبال التي بللها السديم تهب حرة،

دعها تهب عليك، •••• وفي الأعوام التالية،

عندما تصبح هذه الانجذابات البرية ناضجة

في بهجة رصينة، عندما تصبح نفسك

ملاذاً لكل ما هو محبب

ستصبح ذاكرتك مسكناً

لكل الأصوات الحلوة، وكل ما هو متناسق جميل •••(13)•


ولم يحظ هذا الديوان (Lyrical Ballads) باستقبال حسن إذ ذكرت السيدة كولردج أن أحداً لم يحب هذه القصائد - لقد كانت السيدة كولردج زوجة معذورة إذ كانت تغار من ملهمة زوجها الشاعر•

وانشغل المتابعون (النقاد) انشغالا شديدا بعدم الحبكة في قصيدة (البحار القديم) وعدم الترابط في الأفكار العاطفية في القصائد الغنائية القصيرة التي كتبها وردزورث، وبدا أن أحدا منهم لم يعترف بقصيدة (البحار القديم) كشكل سيسود مستقبلا في كل الأعمال الأدبيه الشعرية رغم أن بعض التابعين لاحظ وحدة الوجود (كون الطبيعة والرب شيئا واحدا) والإيمان بهما إيمانا شديداً في قصيدة (دير تينتيرن Tin tern Abbey)، وبيع من هذا الديوان الصغير خمسمائة نسخة على مدار عامين وعزا كولردج أحد أسباب نقص المبيع منه إلى كلمه (البحار) التي أوحت أن الديوان يتناول أغاني التجارة أما وردزورث فقد عزاه إلى احتواء الديوان في على قصيدة (الملاح القديم) هذه وليس مجرد اسم (الملاح)•

وفي سنة 9971 بينما كان كولردج في المانيا أعد وردزورث طبعة ثانية من هذا الديوان• وفي 42 يونيو كتب إلى الناشر كوتل: من خلال ما سمعته وقرأته يبدو أن قصيدة (الملاح القديم) قد ألحقت ضررا بالديوان (قد يكون هذا صحيحا) •••إذا قدر طبع الديوان طبعة ثانية فإننى سأضع مكانها بعض المقطوعات الصغيرة قد تكون أكثر مواءمة للذوق العام(32) ومع هذا فقد اشتمل الديوان في طبعته الثانية على قصيدة (الملاح القديم) مع شروح غير متعاطفة قدمها وردزورث ، يبيّن فيها عيوب القصيدة وأخطاءها ولكنه لفت الأنظار إلى كونها قصيدة ممتازة • وهذه الطبعة (يناير1801) اشتملت على قصيدة جديدة لوردزورث هي قصيدة تحمل عنوان ميشيل Michael - وهي حكاية كتبها بالشعر المرسل (غير المقفى) عن راع بلغ من العمر أربعة وثمانين عاما مخلص في عمله متمسك بالأخلاق الحميدة ، محبوب في قريته ، وعن ابنه الذي انتقل إلى المدينة فغدا فاسقا منحلا • وذكر وردزورث في مقدمة جديدة للديوان بالتفصيل - وفي عبارات أصبحت الآن مشهورة -نظريته في الشعر : إن أي شيء وأية فكرة أن تثمر شعرا إذا حملت بالمشاعر والمعاني ، وإن أي أسلوب أولغة يمكن أن يكون شعرية إ ذا كان قادراً على نقل هذة المشاعر والأحاسيس والمعاني فالشعر هوفيض عفوي للمشاعر القوية• التي تعود إلى أحاسيس وعواطف تراكمت بهدوء(33) وعلى الشاعر نفسه أن يتحكم في هذه الأحاسيس وتلك العواطف قبل أن يعطيها شكلها الفني ، ولكن مثل تلك المشاعر والأحاسيس ليست قصرا على المتعلمين أو النخبة المثقفة إذ يمكن أن تكون لدى الفلاح الأمي كما يمكن أن تكون لدى الدارس أو الباحث أو اللورد وربما تتخذ شكلها أنقى وأوضح عند الأشخاص الأكثرين بساطة، ولا يحتاج التعبير عنها إلى مفردات شعرية خاصة أوأسلوب شعري خاص فأفضل الأساليب هو أبسطها وأفضل الألفاظ هو أقلها زخرفة وخلوا من الادعاء والخيلاء• والوضع الأمثل هو أن يتحدث الشاعر بلغة الرجل العادي وحتى الكلمات العلمية أو المكتسبة بالتعليم يمكن أن تكون شعرية إذا نقلت المشاعر والقيم المعنوية• وفي خاتمة المطاف فإن المضمون المعنوي -مشاعر وأحاسيس - هو المعول عليه في كل الفنون والآداب •المسألة إذن هي إلى أي مدى إذن نوظف مهارتنا (كشعراء) في توضيح الأفكار وتبرِئتها مما يشوبها والتسامي بها (جعلها نبيلة)، فالشاعر العظيم يجب أن ينقي المشاعر الإنسانية إلى درجة معينة••• ليجعلها أكثر معقولية ونقاء ودواما - باختصار أكثر توافقا وتناغما مع الطبيعة - أعني مع الطبيعة الخالدة، والروح العظمى للأشياء• لابد للشاعر أن يكون إلى جوار الإنسان، وأن يسبقه (يستشف المستقبل) بين الحين والحين(43)• والشاعر المثالي - أو الرسام أو النحات - هو فيلسوف يلبس الحكمة ثوب الفن والأدب، ويوحي المعاني من خلال الشكل الأدبي أو الفني الذي ابتغاه•

لقد قامت هذه المقدمة (التي كتبها وردزورث) بدور في التاريخ لأنها ساعدت في وضع نهاية للذوق اللغوي الذي كان سائدا غالبا في الشعر والخطابة لدى الإنجليز في العهد الأوغسطي كما ساعد على وضع نهاية للظلم الطبقي والمرجعيات الكلاسية في ذلك العصر• لقد أعلنت هذه المقدمة حرية المشاعر (حق الجميع في الشعور)، وكانت عاملا آخر من عوامل الترحيب بالقصص الرومانسي - وإن صاغها وردزورث بأسلوب أبعد ما يكون عن الرومانسية• لقد كان وردزورث نفسه ذا مزاج وصفات كلاسية فكرا وحكما لقد تفاعلت ذكرياته معه بهدوء، بينما كان كولردج رجل عواطف وأحاسيس وخيال• لقد كان التعاون بين الرجلين تعاونا مثمرا ومفيدا• إنها مشاركة ممتازة•