الحصون السبعة

فى حوالى عام 1886، بعد أربع سنوات من فشل الثورة العرابية بسبب خيانة الخديو وبعض النخب المصرية، واحتلال القوات الإنجليزية البلاد، عاش الشعب المصرى أسوأ سنوات القهر والظلم والشعور بالعجز، وقد حاول أن ينسى أو يتناسى مرارة الهزيمة وانكسار حلم أن تكون: «مصر للمصريين»، فاستسلم البعض للغيبيات وللخرافات وإلى كل ما يجعله لا يرى الواقع بمرارته، على أمل أن يظهر عرابي آخر ينقذهم من القهر، ووسط هذا المناخ كان الرواة الشعبيون يؤججون هذه الأحاسيس بالقصص الشعبية الخرافية التى قد تعين على الصبر وتفتح بابًا للأمل في ظهور البطل القادر على تخليصهم من هذا العجز والانكسار، وذلك برواية قصص أبو زيد الهلالى وعنترة بن شداد والأميرة ذات الهمة وغيرها من قصص الأبطال التى تسرى عنهم وتجعلهم يتوافقون مع الواقع، وكانت تروى هذه القصص شفاهة في المقاهى ومناطق السمر.

بعد ظهور الطباعة نشرت هذه السير الشعبية بين دفتى كتاب، حيث قامت بعض دور الطباعة بجمع هذه القصص الخرافية وإتاحتها للقراءة بعد أن كانت تروى على ربابة في الحوارى والموالد والمقاهى والأسواق، وكان من بين هذه القصص سيرة شعبية بطلها الإمام على بن أبى طالب، نسج خيوطها وأحداثها وصور شخوصها أحد الرواة الشعبيين من الشيعة الإمامية، من هو؟ وفى أى عصر عاش؟ وما جنسيته؟ وهل القصة التى ألفها رواها على المستمعين أم أنه دفع بها لأحد الرواة المهرة؟ وهل ألفها باللغة العربية أم الفارسية؟

كل ما نعرفه أن قصة الحصون السبعة، أو حروب الإمام على بن أبي طالب ضد الهضام بن الجحاف ملك الجن، قد وصلتنا في مصر من خلال أحد الرواة، اختلفوا حول حياته ومصداقيته، اسمه أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن محمد البكرى، البعض أرجعه إلى القرن السادس الهجرى، والبعض الآخر، وهو الأقرب، نسبه إلى القرن الثالث الهجرى، وقد شككت مصادر السنة في مصداقيته، وأكدت كذبه، وقيل: إنه أكذب من مسيلمة، قال الذهبى في الميزان: «فما أجهله وأقل حياءه، ما روى حرفًا واحدًا من العلم بسند، ويُقرأ له في سوق الكتبيين كتاب (ضياء الأنوار) و(رأس الغول) و(شر الدهر) وكتاب (كلندجة)، و(حصن الدولاب)، وكتاب (الحصون السبعة) وصاحبها هضام بن الحجاف، وحروب الإمام على معه وغير ذلك»، وذكر في شرح مجانى الأدب بأنه: «صاحب كتاب الأنوار والسرور والأفكار في مولد محمد، وله أيضا كتاب الحكم وغير ذلك، ولا يوثق بروايته، كان يخلق الكلام كثير الكذب، توفى في أواسط القرن الثالث الهجرى»، وقد وصفه القلقشندى أيضا بالكذب في صبح الأعشى، والصفدى في الوافى بالوفيات، كما أن السمهودى (ت 922هـ) اتهمه أيضا بالكذب، وكذلك ابن حجر ووصفه بالدجال، قال: «إنه يحوك القصص الباطلة».

تختلف سيرة الحصون السبعة عن السير الشعبية التى نعرفها، مثل أبو زيد الهلالى، والأميرة ذات الهمة، وعنترة بن شداد وغيرها في أنها تنطلق من شخصيات تاريخية دينية إلى شخصيات ووقائع خيالية، كما أنها تضفى معجزات وقدرات لا بشرية للإمام على بن أبى طالب تفوق قدرات ومعجزات النبى والإنسان بشكل عام.

يحكى البكرى في هذه السيرة أن أحد الجان المسلمين جاء إلى رسول الله يشكو له ملك الجان الكفرة، أكد له أنه يسخر قبيلته وبعض قبائل الجن لعبادة الأصنام، وأنه صنع صنمًا وجعل له حفرة سماها النار وأخرى الجنة يعاقب ويحسن فيها لأتباعه، وطلب من الرسول أن يساعدهم على التخلص منه ومن جبروته وكفره، وأكد أن الإمام على بن أبى طالب الوحيد الذى يستطيع هزيمته والقضاء عليه، وتذكر السيرة أن جبريل عليه السلام نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن ابن عمه الإمام على بن أبى طالب هو المكلف بالقضاء على هذا الجن الكافر واسمه الهضام بن الحجاف، وفى السيرة نشاهد الرسول الكريم وهو يستحلف الإمام على أن يوافق على الخروج إليه، هذه السيرة التى رواها أحمد بن عبد الله البكرى المنسوب إلى الشيعة، رويت على لسان الإمام على بن أبى طالب، حيث نسبها البكرى إلى الإمام على رضى الله عنه، ولطرافتها ننشرها على أجزاء بعد أن قمنا بتعريف الأعلام الموجودة بها، وهى في أغلبها شخصيات حقيقية، بعضها من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين، كما قمنا بتعريف الأماكن، وقمنا بشرح الكلمات الصعبة تيسيرًا على القارئ، ووضعنا كل هذا بين قوسين.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

«عرفطة» الجني المسلم يستغيث بالرسول أن ينقذهم من الجن ومردتهم وعفاريتهم عبدة الأوثان

«بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذى تفرد بقائه ونور بمعرفته قلوب أوليائه وطيب أسرار الصادقين يطيب ثنائه الحى القيوم الذى لا يعزب عنه مثقال ذرة في أرضه وسمائه، أحمده سبحانه وتعالى حمدا تعرف بالعجز عن عدد آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذى تفرد بعزه وبقائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله خاتم أنبيائه وسيد أصفيائه، اللهم صلى وبارك على هذا النبى الكريم والرسول السيد السند العظيم، سيدنا ومولانا محمد وعلى أصحابه صلاة وسلامًا دائمين متلازمين بدوام أرضه وسمائه تسليمًا كثيرًا.. (وبعد) فقد روى أبو الحسن أحمد بن عبد الله محمد البكرى رضى الله عنه، قال: حدثنا يوسف بن عبد الله، وخالد بن رفاعة الجهنى قالا: حدثنا خلق كثير يروى بعضهم عن بعض فأخذنا من ذلك ما نرجوه إن شاء الله تعالى تعليقه على قدر الروايات قالوا: حدثنا صاحب الحديث عن على بن أبى طالب كرم الله وجهه ورضى عنه قال:

كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده المبارك، وكان ريح ومطر، إذ سمعنا صوتًا جهوريًّا من وراء المسجد يقول: السلام عليك يا محمد ورحمة الله وبركاته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فالتفت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:

- ردوا على أخواتكم السلام رحمكم الله.

- فقلنا: يا رسول الله على من نرد ونحن لم نرَ أحدا؟ نرد على الملائكة أم على الجان؟

- فقال: بل على أخوانكم الجان الذين آمنوا وصدقوا برسالتى، ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: اظهر لنا أيها المتكلم لنراك.

فظهر لنا شيخ قال على رضى الله عنه: وإذا به عرفطة بن شماخ، وكنت به عارفًا، لأن النبى صلى الله عليه وسلم، قد أرسلنى معه إلى قومه، فأحرقت بأسماء الله تعالى وبنوره منهم زيادة عن خمسين قبيلة من الجن وآمن منهم خلق كثير، فسلم عرفطة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس (بجوار) النبى.

- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حاجتك؟

- قال: يا رسول الله قد جئتك لأخبرك عما نحن فيه، الحرب والوقائع وقتال القبائل الجواهل (اسم فاعل من جهِلَ / وجهِل بـ حقيقة الشَّىء: لم يعلم به).

فقال النبى صلى الله عليه وسلم: مع من يا عرفطة؟

- فقال: مع كفار الجن ومردتهم وكذلك مع عفاريتهم عبدة الأوثان.

- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ديارهم قريبة منا أم بعيدة يا عرفطة؟

- فقال: يا سيدى في جبال وأوكار (جمع وكر: عش الطائر) وأودية شتى، قد أهلكنا منهم خلقًا كثيرًا وأهلكوا منا خلقًا كثيرًا، وأن لهم صنمًا يسمونه «المنيع»، وقد تعالى الله عز وجل عن أن يمثل وهو السميع البصير، فصنمهم هذا قائم بخدمة الملك الهضام بن الجحاف بن عوف بن غانم الباهلى الملقب بمرآة الموت لعنه الله، والصنم المنيع موكل به مارد يقال له عنريس بن دريس بن إبليس، وله عشيرة عظيمة وقبيلة جسيمة، ونحن في غزوهم وجهادهم، وقد اشتدت بلية القوم وتعاظم أمر الهضام وكفر بالله تعالى واتخذ من دون الله إلها يسمونه المنيع، وجعل له جنة ونارًا، وجعل له زبانية وسماهم الغلاظ الشداد، وجعل له ملائكة وسماهم البررة الكرام، وجعل في جنته الأشجار والأنهار والأطيار (والطيور جمع: طائر)، وجعل فيها المخدرات (الجميلات) المنعمات وسماهن الحور العين، وجعل له عرشًا وكرسيًّا، ومن العفاريت الطيارين وسماهم الملائكة المقربين، وأنت رسول الله لم يبلغك من ذلك كله، وقد اشتد تمرد القوم وطغيانهم وكفرانهم لرب العالمين.

(قال الراوى) فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفطة اشتد به الغضب حتى كاد يضطرب كالسفينة في الريح العاصف، وسجد على الأرض طويلًا ثم رفع رأسه، وقد سكن ما به من غيظ ولمع النور من بين عينيه صلى الله عليه وسلم حتى لحق عنان السماء، ثم أقبل على عرفطة وقال له:

- انصرف شكر الله سعيك وأحسن إليك وأنا أبعث إليهم رسولًا وهو خليفتى (المطبوع: حنيفى) ونقمتى على أعدائى.

- فقال عرفطة: يا رسول الله إذا بعثت للقوم رجالًا من الإنس أبادوهم وقتلوهم، فإن عساكر الأنس لن (المطبوع لم) يطيقوا قتال الجن ومردتهم، ولن (ط: لم) يبلغك ما تريد إلا الفارس الصنديد والبطل الشديد، قالع الحلقة والقصر المشيد ومبيد الإنس والجن في البئر العميق، مفرق الكتايب ومظهر العجايب والغرايب، صاحب الحسام (السيف) القاضب (شديد القطع) والغمام (السحاب) الساكب (سكب الماء: صبه) ابن عمك أمير المؤمنين على بن أبى طالب.

ثم غاب عرفطة عن أعين الناس، فنظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تغير لونه وظهر غيظه واحمرت عيناه وتقوس حاجباه، فغم ذلك على المسلمين وجلسوا حوله ينظرون إلى الأرض ويحدقون إلى الإمام على كرم الله وجهه، ويشيرونه عما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، والإمام على لا يتكلم ولم يرد عليهم.

(قال الراوى) فبينما الناس في ذلك، وإذا بجبريل عليه السلام قد نزل من عند رب العالمين، فوثب له النبى صلى الله عليه وسلم مسرورًا وهو ينادى: لبيك لبيك اللهم إنا نسألك الفرج منك يا مفرج كل كرب ومزيل كل هم وغم، وخرج النبى صلى الله عليه وسلم من المسجد، وقال: لا يقم أحد من مكانه حتى أعود إليكم، وخرج فمكث قليلا ثم رجع إلى أصحابه وهم جلوس كل واحد منهم في مقامه، وقد تهلل وجهه صلى الله عليه وسلم فرحًا وسرورًا وجعل النور يشرق من بين عينيه صلى الله عليه وسلم، فوثب الناس إليه يسألونه عن أمره.

(قال الراوى) فقال النبى صلى الله عليه وسلم: اجلسوا بارك الله فيكم، فجلس الناس جميعًا وصمتوا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أين سلمان (سلمان الفارسى: صحابى، توفى سنة 32هـ) وعمار (عمار بن ياسر، صحابى جليل من أوائل من أسلموا، استشهد في موقعة صفين سنة 37هـ، عن عمر 97 سنه)؟ فأجاباه بالتلبية: ها نحن بين يديك قل ما شئت يا رسول الله، فإنا لكلامك سامعون ولأمرك مطيعون.

فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم: سيروا في شوارع المدينة (وهو ما يعنى أن وقائع القصة الخرافية كانت بعد الهجرة المحمدية)، ونادوا الصلاة جامعة بمسجد المختار الله الواحد القهار، فلما سمع الصحابة منه صلى الله عليه وسلم ذلك النداء، جعلوا يهرعون إليه من كل جانب ومكان حتى امتلأ المسجد بالنبى، ثم صعد النبى صلى الله عليه وسلم المنبر (كان النبى يخطب مستندًا إلى جزع نخلة قبل أن يتخذ منبرًا، وذكر أنه أول من اتخذ المنبر) وخطب خطبة بليغة فشوق إلى الجنة ونعيمها وحذر من النار وجحيمها.

(قال الراوى) قال النبى صلى الله عليه وسلم معاشر المسلمين: إن الله جل وعلا تقدست أسماؤه ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولا إله غيره بعد، رفع السماء بلا عمد وأرسى الجبال بلا وتد، وزين السماء بالنجوم الزاهرات والأفلاك الدائرات، وأجرى فيها الشمس والقمر آيات لأولى الألباب، وبسط الأرضين (مفردها: أرض) بحكمه على تيار الماء وثبتها بالجبال الراسيات، واضحك تغوير (جمع غور: المنخفض من الأرض) البقاع (مفردها بقعة، وهى الأرض المتسعة بها أشجار مختلفة) الجامدات بفيض دموع السحاب المسخرات، وثبت الرياح العاصفات مخالب (أظافر، ومفردها: مخلب) الطيور الصافنات (الطائر الذى مَهَّد لفراخه فراشا من الحشيش والريش) وقوى قبة الجبال الراسيات تلاطم أمواج البحار الزاخرات (الزاخر: الفائض الطامى)، وعلق أستار وأوراق الأغصان النضرات.

(قال الراوى) ثم قال رسول الله صلى عليه وسلم: أيها المسلمون، أنا بشر منكم آكل مما تأكلون وأشرب مما تشربون ولا أعلم ما كان ولا يكون ولا يحيط بذلك علمًا إلا من يقول للشىء كن فيكون، ثم بعد ذلك أعلمكم أنه قد وفد على عرفطة من إخوانكم في الدين وهو من الجن المؤمنين، وقد أخبرنا عن اللعين الملك الهضام بن الحجاف بن عوف بن غانم الباهلى لعنه الله، قد اتخذ له صنمًا وسماه «المنيع»، وصنع له جنة ونارًا وملائكة وزبانية (ملائكة التعذيب في جهنم، يدفعون أهل النار إليها)، فيدخل من أطاعه وأطاع صنمه في جنة، ويعذب بناره من عصاه وعصى صنعه، وقد غره حكم إبليس اللعين واستدراجه وآهاله (فزعه)، فلما سمعت ذلك كبر على وعظم لدى ولا خفف عنى ذلك إلا حبيبى جبريل، وقد آتانى وأخبرنى عن ربى عز وجل، وهو يقول يا محمد: الله يقرئك السلام، ويخصك بالتحية والإكرام، ويقول لك: إنى قد علمت بما في نفسك، وما قد نزل بك، وأنى مبشرك أن دمار القوم ودمار صنمهم على يد رجل يحبه الله والملائكة، وهو سيف نقمتك وباب مدينتك (نسب للرسول أنه قال: أنا مدينة العلم وعلى بابها)، الذى (ط: التى) ما سجد لصنم قط، وهو زوج البتول (فاطمة الزهراء ابنة الرسول عليه الصلاة والسلام) والمتولى لدعوتك وحامل رايتك، الفتى الولى مفرق الكتائب ومظهر العجائب والغرائب، الحسام الغاضب والليث المحارب والغيث (المطر الغزير) الساكب لبنى غالب أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه، وهذه إشارة من عند ربى الأعلى، ثم أن النبى صلى الله عليه وسلم كشف عن يده فإذا فيها حريره سوداء، مكتوب فيها بقلم القدر لم يكتبها كاتب، فلما نشرها صلى الله عليه وسلم ظهر لنا نور له شعاع عظيم، فقال الصحابة: يا رسول الله أخبرنا بما فيها، فنظر فإذا فيها مكتوب: «بمشيئة الجبار أمر من الطالب الغالب إلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه»، ففرح المسلمون بذلك فرحًا شديدًا، وقالوا: لقد فاز من أمر الجبار وقربه برسول صلى الله عليه وسلم وعلى الله الأخيار وأحزن بذلك الكفار».


الهضام صنع صنمًا من الذهب ورصَّعه بالجواهر واليواقيت وجعل له جنة ونارًا

أمس بدأنا نشر السيرة الشعبية المسماة «الحصون السبعة» أو سيرة أو غزوة الإمام علىّ بن أبى طالب وسيره إلى الملك الهضام بن الجحاف وقطعه الحصون السبعة، وهى قصة شعبية خيالية من وضع المؤرخ القصصى الشيعى أبى الحسن أحمد بن عبد الله بن محمد البكرى الذى عاش في القرن السادس الهجرى، وقد جاء في الحلقة الأولى أن النبى محمدًا عليه الصلاة والسلام كان في جلسة مع بعض الصحابة، فدخل عليهم عرفطة بن شماخ جنى من المسلمين وألقى التحية، الرسول طلب منه أن يظهر نفسه للصحابة، وبعد أن ظهر في صورة شيخ وتعارفوا استغاث عرفطة بالرسول أن ينقذ الجن المسلمين من الملك الهضام بن الجحاف الكافر الذى يعبد الأصنام، حيث إن الأخير يعذب الجن المسلم ويجبرهم على الارتداد عن الإسلام وعبادة صنمه الملقب بـ«المنيع»، وقد رشح عرفطة الإمام علىّ بن أبى طالب لقيادة الجيش الذى سيرسله لمحاربة الهضام، وبعد انصرافه نزل جبريل عليه السلام على الرسول يحمل رسالة تكليف لعلىّ بن أبى طالب بالذهاب لمحاربة الهضام، ومن وهنا يبدأ الراوى حلقة اليوم:

قال الراوى: ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقبل على أصحابه وقال لهم: معاشر المسلمين هل فيكم من وصل إلى ديار اللعين الهضام بن الجحاف بن عون فيخبرنا بما شاهد من أبطاله وأعوانه وكفره وطغيانه، فقام عند ذلك رجل من المسلمين يقال له عبد الله بن أنيس الجهنى رحمة الله عليه (أنصارى، توفى سنة 74هـ): هو الذى سأل الرسول عن ليلة القدر.

فقال: أنا أخشى أن يداخل قلبك الوهم والهم عن وصفى.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل يا ابن أنيس فإنا لا نخاف مع الله أحدا.

فقال يا رسول الله: أنت بأبى وأمى أن خبره عظيم، إن الهضام بن الجحاف لما نظر إلى أصنام العرب التى يعبدونها من دون الله عز وجل، وجعل في سماء القبة حجرا من المغناطيس، وفى أسفل القبة حجرا آخر، وعن يمين القبة حجرا، وعن يسارها حجرا يوازن بعضها بعضا ويعادل بعضها بعضا، وأوقف الصنم في وسطها في الهواء يجذبه كل حجر بقوته، وذلك الصنم مرصع بالجواهر واليواقيت (مفردها ياقوته: من الأحجار الكريمة) النفيسة وكساه بالحرير الملون، ونصب له كرسيا مرتفعا مكلَّلا بالدر والجواهر، وشده بقضبان الذهب الأحمر والفضة البيضاء، فما كان من العاج الأبيض كانت كواكبه من الذهب، وما كان من الأبنوس الأسود كانت كواكبه من الفضة البيضاء، جعل لتلك القبة بابا عظيما من الذهب الأحمر، وعلق على باب القبة سترا مزركشا، وعلق من داخل القبة قناديل من اللؤلؤ بسلاسل من ذهب يوقد بطيب الادهان (ط: الأذهان)، وبنى من خارج القبة بيتا عظيما مانعا بالعلو، وجعل سقف القبة من خشب الصندل وفصل أرضها وحيطانها بالرخام الملون، وجعل من ورائها بيتا آخر مثل البيت الأول، وما زال كذلك حتى جعلها سبعة بيوت على بعضها بعضا ولها سبعة أبواب، منها ما هو من العاج، ومنها ما هو من الأبنوس وغير ذلك، وقد ركب في تلك البيوت جامات(مفردها جامة: وهى الزجاج) من البللور المختلف الألوان، فإذا طلعت الشمس على تلك الكواكب أشرق نورها على تلك البيوت والقبة، وجعل على كل باب حاجبا موكلا به، فإذا ورد إليه وارد أو قصد إليه قاصد من بعض الملوك أوقفه الحاجب الأول والثانى كذلك، حتى ينتهى إلى الباب السابع، وكلما جاوز بابا نظر إلى غيره، فإذا هو أعظم من الذى قبله، فإذا وصل إلى المكان الذى فيه عدو الله الهضام وجده جالسا على سريره (عرشه، كرسى الملك)، وقد أحدقت به جنوده والحجاب حوله، فإذا وقعت بين يديه أمره الهضام بقلع ثيابه فيقلعها ويلبسونه ثيابا غيرها، ويقولون له: إن ثيابك هذه عصيت فيها، فهى لا تصلح أن تدخل على الإله المنيع وأنت تطلب منه الغفران، ثم يدفع له خاتما من الحديد ويقولون له: إن هذا الخاتم الذى تريد به عفوه عنك، فإذا ثبت في يدك فقد عفا عنك وقبل توبتك، ثم بعد ذلك يأمر الملك الهضام بفتح القبة لذلك الشخص، فإذا دخل على الصنم وجد في نفسه شيئا، فيظن أن الصنم قد قربه إليه، فيقولون له أشد يدك على الخاتم ولا تخلعه فيغضب عليك الذى أنت طالب رضاه، وكلما قرب من الصنم جذبته السلسلة إلى ورائه، فإذا كان لا ينقلع الخاتم من يده يأمرونه بالسجود فيخر ساجدا، ولم يزل كذلك حتى يهتف به من جوف الصنم الشيطان الموكل به ويأمره بالقيام فيقوم فينذر ذلك الشخص مما أمكنه من الذهب والفضة أو جواهر أو جوار أو عبيد أو خيل قدر ما تصل إليه قوته، وقد استولى اللعين الهضام بهذه الحيل على أموال الناس.

فلما فرغ من ذلك خرج إلى فلاة (الأرض الواسعة المقفرة، ج: فلا وفلوات) عظيمة ملء الأرض فجمع الصناع، وأمر بحفر حفرة طويلة طولها أربعمائة ذراع وعرضها مثل ذلك، ثم جعل لها أساسا وبناها بالصخور العظام، وأوقف عليها ألف عبد أسود غلاظا، وأفرد لها ألف بعير يحملونها الأحطاب والأخشاب، وألف عبد يجمعون لهم ذلك ويحملونه إلى الحفرة، وألف يضرمون النار في الليل والنهار، وسمى تلك الحفرة جهنم، حتى إذا مر بهم طائر احترق من شدة لهيبها، وبنى لها درجات عاليات، ولما فرغ من ذلك بنى دائرة واسعة طولها عشرون فرسخا (الفرسخ نحو خمسة كيلومترات) وعرضها مثل ذلك، وجعل طينها المسك والزعفران وأحجارها من جميع الألوان، مثل الأحمر والأصفر والأبيض والأخضر والأزرق، وغرس فيها الأشجار وجمع فيها كامل الأوصاف والأطيار، وبنى في وسطها دكه بيضاء من الرخام المختلف الألوان، واتخذ فيها قصور وجعل سقوفها من الذهب الأحمر والفضة البيضاء، وجعل فيها مجالس وقبابا (مفردها: قبة) زاهرات، وفرش أرضها من العقيق الأحمر والسندس الأخضر، وجعل فيها جوارى أبكار كأنهن الأقمار، ونظم ذوائبهن بالدر والياقوت، ووكل بأبواب تلك المقاصير غلمانا مردا (الأمرد: الذى لم تنبت لحيته) جردا وسماهم الملائكة، عليهم حلل من أنواع الحرير وعلى رؤوسهم عمائم خضر، وجمع في هذه المقاصير من الفواكه الصيفية والشتوية من أطيب الأثمار، وجعل فيها الأطيار تغرد على الأغصان بأنواع اللغات، وجعل فيها أصناف الطيب (العطر) المعجون بماء الورد من حول تلك المقاصير، وفيها الخمر مسكوب والعسل مصبوب واللبن محلوب يصب في قنوات، فمن أطاع هذا الصنم أدخله هذه الجنة وتلذذ بنعيمها، ومن عصاه أدخله هذه النار يتلظى بجحيمها، وقد تزايد أمر هذا اللعين الجبار، وشاع بين العرب بشجاعته وعظم شره حتى لقبوه بمرارة الموت.

(قال الراوى) فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال: يا ابن أنيس لقد حدثتنى عن أمر عظيم لم أسمع مثله قط، وأين أرضه وبلاده ومستقره؟ قال: يا رسول الله بأطراف اليمن مائلا إلى العمران في واد يقال له وادى القمر، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أمير المؤمنين وحامى حوزة الدين، مفرق الكتائب ومظهر العجائب ومبدى الغرائب، الليث المحارب والغيث الساكب، والحسام القاضب ليث بنى غالب أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب، فلما سمع نداء رسول الله صلى الله عليه وسلم علىّ بن أبى طالب وثب قائما على قدميه وأنشد وجعل يقول شعر: لبيك من داع ومن منادى، لبيك نور الله في البلاد، لبيك من داع إلى الرشاد، فرجت عنى كربة الفؤاد، قل ما تشاء يا أكبر العباد، أفديك بالآهلين والأولاد.

(قال الراوى) فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم ضاحكا من قول الإمام علىّ كرم الله وجهه ورضى عنه، ثم أقبل الإمام علىّ النبى صلى الله عليه وسلم ووقف بين يديه، فضمه النبى صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقبله بين عينيه، وقال: معاشر المسلمين هذا على ابن عمى ووارث علمى، وزوج ابنتى وحامل رايتى، وسيف نقمتى، من أساء إليه أساء إلىّ، ومن أحسن إليه فقد أحسن إلى، ومن أحبه فقد أحبنى، ومن أبغضه فقد أبغضنى، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.

ثم قال عليه الصلاة والسلام: أسمعت ما وصفه عبد الله بن أنيس الجهنى عن عدو الله هضام بن الجحاف وتجبره وكفره وجموحه؟ قال: نعم يا رسول الله، فقال رسول الله: يا أبا الحسن إن الله أمرنى أن أخبرك بهذا الخبر، وقد وعدنى ربى بنصرك وحفظك ورجوعك إلىّ سالما غانما، فماذا تقول؟ وأمر لك عصابة من المسلمين وجماعة من المؤمنين تسير فيهم إلى عدو الله الكافر وقد بلغنى بأنه تكاسر من الورود، وأن أكثر منهم مددا، وهو القادر على أن لا يبقى منها أحدا.

(قال الراوى) فأطرق الإمام علىّ رأسه، ثم رفع رأسه إلى النبى صلى الله عليه وسلم ونظر ولم يتكلم، ثم عاد إلى إطراقه ساعة ولم يتكلم، ثم عاودها ثالثا فعظم ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم، وقد تبين في ذلك الوقت في وجوه المنافقين وقال بعضهم لبعض: إن علىّ بن أبى طالب كره التوجه إلى الهضام ويحق له ذلك، ومن يقدر على وصف عبد الله بن أنيس؟ وتكلم المؤمنين على قد ما وصل إليهم وقال بعضهم: لا شك أنه يطلب جماعة يسير بهم إلى عدو الله ولكنه استحياء رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر له ذلك، وقال بعضهم: إن عليا كره الخروج من غير جذع ولا فزع، وكثرت الأقوال بين الناس وعظم على النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا الحسن ما السكوت والتوانى برد الجواب ما أملت منك إلا أنك أمر مبادر وإلى ما أخبرتك مسارع، فهل لك من حاجة فتقضى أو كلمة فتمضى؟

(قال الراوى) فلما سمع ذلك الإمام علىّ كرم الله وجهه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم ضاحكا وقال: يا رسول الله حاجتى تقضيها كائنة ما كان، قال: نعم أى والذى بعثنى بالحق بشيرا ونذيرا أنى أقضيها إن وجدت إلى قضائها سبيلا، فقال الإمام علىّ رضى عنه: ألم تأتِك البشرى من عند المولى الكريم رب العالمين أن ترسلنى لهذا الأمر وضمن لك سلامى وحفظ رعايتى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: نعم يا أبا الحسن، فقال الإمام علىّ كرم الله وجهه: إذا كان من يعصمنى ويسلمنى ويحفظنى لا حاجة بأحد غيره، ولا تبعث لهذا الأمر أحد سواى، فحسبى يا رسول الله نصر الله عز وجل وهو خير الناصرين، واسأل الله جلب المسرة إلى فؤادك.

نص الرسالة التى كتبها النبى عليه الصلاة والسلام للهضام ملك الجن

فى الحلقتين السابقتين عرفطة الجنى المسلم ذهب إلى النبى محمد عليه الصلاة والسلام مستغيثا من جبروت الهضام بن الحجاف ملك الجن الكافر، وحكى للنبى قيام الهضام بإجبار قومه من العفاريت والجن والمردة بعبادة (المنيع) وهو صنم ضخم، أعد حوله حفرة كبيرة أشعل فيها نارا وسماها جهنم، وأخرى أشجارا وفاكهة وأنهارا وأطلق عليها الجنة، مَن يعصى يدخل النار، ومَن يُحسن أسكنه الجنة، وطلب من الرسول أن يكون الإمام علِىّ بن أبى طالب رضى الله عنه الفارس الذى يَفِده لمحاربة الهضام، لأنه الإنسان الوحيد القادر، حسب تقدير الجن المسلم، على محاربة الجن والعفاريت وهزيمة الملك الهضام وجيشه من الجن والعفاريت الكفرة، وقرأنا أيضا في الحلقتين السابقتين نزول جبريل عليه السلام على الرسول وأبلغه أنه سبحانه وتعالى اختار ابن عمه لمحاربة وقتل الهضام، بعدها دعا الرسول الصحابة إلى الصلاة بالمسجد، وبعد أن أدوا الفرض وقف على المنبر وخطب وأخبرهم بأمر الهضام وما نزل به جبريل من تكليف، ثم استفسر من الصحابة عن الهضام، وأخبره أحد الصحابة بما يعرفه، وقيل إنه يسكن في وادى القمر وهى بالقرب من اليمن، ونادى الإمام علِىّ واستشاره في ما هو فاعل، وبعد فترة صمت وتفكير وافق على القيام بالمهمة، وهنا قال الراوى:

فلما سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم تهلل وجهه فرحا مسرورا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحسن كفاك الله شانيك وأهلك معاديك (من يعاديك: عدوك)، ثم كبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكبّر المسلمين جميعا عند ذلك فرحين بما كشف الله من قلوبهم من الهم والكرب وإرغام أنف المنافقين أعداء الله، قال عبد الله بن أبى (بن) سلول لعنه الله وهو رأس المنافقين بالمدينة (سيد قبيلة الخزرج، توفى سنة 9هـ، وصلى عليه الرسول، ونزل بعدها قوله تعالى «ولا تصلى على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله» التوبة: 84): هذه أعظم فرحة وحق اللات والعزى (ومعهما مناة: أصنام كانت تُعبَد في مكة والقرى المجاورة لها قبل الإسلام، وكانت تشكل ثالوثا أنثويا. انظر كتاب الأصنام لابن الكلبى) لتحرقن عظام علِىّ بن أبى طالب بنار الهضام، ولو خرج محمد إليه بجميع أصحابه ما قدروا عليه، ولا بقيتم ترون علِىّ بن أبى طالب بعد هذا اليوم إن هو خرج إليه، ثم إن النبى صلى الله عليه وسلم دعا بدواة وقرطاس وقلم ودفعها إلى الإمام علِىّ بن أبى طالب، وقال له: اكتب يا أبا الحسن إلى عدو الله الهضام كتابا بالتحذير، فكتب الإمام علِىّ كتابا يقول فيه:

«بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا كتاب من رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن عبد مناف داعى الورى إلى الإنصاف وهاديهم إلى طريق الخير والغفران إلى الهضام بن الحجاف الباهلى أما بعد، لقد اتصل إلينا ما أنت عليه من التكبر والتجبر والعتو (الاستكبار وتجاوز الحد، وتُجمع: عتاة وعتى) على الله عز وجل، وما صنعته من جنة ونار، يا ويلك والويل ثم الويل لك تتخذ الحديد والجنادل أربابا من الله عز وجل، أرأيت ما صنعته من نارك لو أنك أمرت عبيدك الذين ينقلون الحطب والأخشاب أن يسكنوا عنه يوما واحدا لسكن لهيبها وانقطع وهجها وخمد حرها، يا ويلك والويل لقومك، بل لو حملوا إليها الماء وسكبوه فيها لطفئت حرارتها وذهبت جمرتها، فأين نارك من نار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين، لا يخمد حرها ولا يبرد لهيبها وهى لا توقد بحطب ولا بخشب بل توقد بسخط الله عز وجل، فلا تخمد في ليل ولا في نهار عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، واعلم أن نارك التى توقدها إنما هى جزء منها، وهى اثنان وسبعون جزءا، وأما جنة الخلد التى وعد المتقون ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، لا يفنى نعيمها ولا ينقص ثمرها ولا يصفر ورقها، والمؤمنون فيها متنعمون في جوار رب العالمين وعلى الأرائك متكئون، وأما جنتك التى أحدثتها فلو أمرت بمنع الماء عنها لجفت أغصانها وفسد ثمارها، فاترك ما أنت عليه من تكبرك على خالقك ورازقك ولا تنفعك نارك ولا جنتك، فقل معى لا إله إلا الله محمد رسول الله واشهد لى بالرسالة تكن من الفائزين والصديقين، فإن أبيت رميتك بسيف قاطع وبطل مانع».

(قال الراوى) ثم إن الإمام على كرّم الله وجهه قرأ الكتاب على النبى صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبى صلى الله عليه وسلم الكتاب بيده الكريمة وطواه بعد أن ختمه بخاتمه الشريف ثم قال: يا أبا الحسن خذ معك من المسلمين رجلا فإذا قربت من ديار عدو الله فقدمه أمامك رسولا بهذا الكتاب، فإن أجابه إلى ما دعوناه إليه وآمن بالله وصدق برسالتى فكف يدك فإن الله حليم لا يجعل بالعقوبة على من عصاه، وإن أبى هو وعصى فانظر لنفسك وتدبر أمرك واحذر من الحصون في مسيرك وتوكل على الله، وقل لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم ذلك الكلام من على كرم الله وجهه (القسم بالصيام طوال فترة رحلته وحربه) تغرغرت عيناه بالدموع، ثم قال: اللهم لا تفجعنى بفقده ولا تحزنى من بعده، اللهم إنه وديعتى إليك فاحفظه حتى ترده سالما إلىَّ يا من لا تخيب عنده الودائع، ثم إن الإمام عليا رضى الله عنه انصرف إلى منزله وبات الليلة يتحدث مع أولاده، فلما أصبح الصباح قام الإمام علِىّ رضى الله عنه، فتوضأ وأفرغ آلة حربه وتحزم بمنطقته (بحزامه)، وتنكب (حمل على كتفه) بجحفته (قربة الماء)، وضم أولاده وجعل يقبّل هذا مرة وهذا مرة، ثم أقبل على فاطمة الزهراء رضى الله عنها وقبّلها بين عينيها، ثم خرج إلى المسجد وصلى مع النبى صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، ثم قال: يا رسول الله منك القول ومنى السمع والطاعة أتأذن لى بالخروج، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: لله الأمر من قبل ومن بعد، فإذا عزمت فتوكل على الله، ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما على قدميه، ونهض الناس معه ولم يبقَ أحد إلا خرج مع النبى صلى الله عليه وسلم، وهو يوصى الإمام عليا كرم الله وجهه ويحدثه بما يجرى به في طريقه، والناس يتعجبون من سير الإمام علِىّ وحده، فلما بعد عن المدينة وقف النبى صلى الله عليه وسلم وودع الإمام علِىّ ودعا للإمام بدعوات تحجب عنه خلق الأرض والسماوات ثم أمر الإمام بالمسير، وقال: سر بارك الله فيك الله خليفتى عليك.

(قال الراوى) ثم إن صلى الله عليه وسلم رجع وأمر الناس بالرجوع، فرجع الناس وسار الإمام طالبا بلاد اللعين الهضام وحيدا بنفسه ليس معه من يؤانسه إلا الله، وكان المنافقون قد خرجوا جميعا عند الوداع وهم يقولون: أما ترون هذا علِىّ بن أبى طالب، إذ هو تعرض لمرارة الموت لم يبق لهذه الديار يعود وهم فرحون مسرورون، يقولون قد فقد علِىّ بن أبى طالب حين صار لمرارة الموت، والنبى صلى الله عليه وسلم والصحابة يدعون للإمام بالنصر والتأييد على أعدائه، فهذا ما كان من أمر المنافقين والنبى صلى الله عليه وسلم.

(قال الراوى) وأما ما كان من أمر الإمام علِىّ كرم الله وجهه فإنه سار واستقام به المسير واسلم نفسه لله عز وجل وأنشد شِعرًا:

أسير وحدى إلى ما قد أراجيه

إذ كل ما قدر الله من أمر ألاقيه

لا تكره الموت في بدو ولا حضر

إن يدن منك فكن أنت مدانيه

أسير مستسلما لله معتمدا

عليه في كل أحوالى أناجيه

به الود وما لى عنه من عوض

جل الإله فإنى من محبيه

ما لى سواه وما لى عنه مصطبر

وكيف عبد يرجى من مراجيه

صلى الإله على طه وعترته

ما دام طير على غصن يناجيه

(قال الراوى) فبينما الإمام سائر وقد غاب عن المدينة وإذا بصائح من ورائه ينادى: يا أبا الحسن سألتك بالله ورسوله أن تقف لى حتى ألحقك، فوقف الإمام والتفت وراءه، وإذا برجل طويل السواعد عريض المناكب وهو يسرع في خطاه ويهرول في مشيه، فتأمله الإمام علِىّ رضى الله عنه فإذا هو رجل من أشرار المنافقين، يقال له ورقة بن خضيب (شخصية خيالية) من أقارب ابن أبى سلول (عبد الله بن أبى بن سلول، بادر بنشر رواية حادثة الإفك، ت 9 هـ) المنافق لعنه الله، وكان الملعون يتجسس الأخبار لعدو الله الهضام بن الحجاف، ويظهر الإسلام ويكتم النفاق، ويريد بذلك أنه يظهر برسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه، فلم يجد لذلك سبيلا فلما نظر الإمام خرج في ذلك اليوم وحيدا فريدا، أقبل ذلك الرجل على قومه المنافقين فرحا مسرورا، وقال لهم: الآن قد بلغت مرادى وبلغت أمنيتى، وها أنا أريد أن أرافق علِىّ بن أبى طالب إلى أن أجد منه فرصة أو غفلة عند نومه أو سيره، فاقطع رأسه وامضِ به إلى الملك الهضام لأنال عنده المنزلة العليا وعند الإله المنيع الرفيع، وأتقرب إليهم وأصير عندهم صاحب قدر وأشفى قلبى من العلل، فقال إخوته المنافقون: نشكر اللات والعزى (صنمان عُبدا قبل الإسلام)، وفرحوا بذلك فرحا شديدا لما يعلمون من شجاعته وقوة قلبه، فما منهم إلا وقد وعد بصلته (الصلة: العطية والإحسان)، وجعل له جعلا (أجرا أو رشوة) إن وصل إلى ذلك.

(قال الراوى) فعند ذلك خرج ورقة بن خضيب ولحق أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه معارضا له سالكا طريقا، قال فالتفت الإمام إليه، وقال:

- من أنت؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين تريد؟

- فقال ورقة: أتيت أريد مرافقتك ومصاحبتك ومساعدتك على أعدائك، لأننى مبتهج بمحبتك ومجتهد في خدمتك.

- قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه: من أحبنا لقى بحبنا نعيما، ومن أبغضنا لقى ببغضنا جحيما وكان الله بما قضى عليما، ارجع يا ورقة لا أُنس لى بك والله أعلم بما أضمرت فجزاك عليه يوم يقوم الناس لرب العالمين.

- فقال ورقة: يا أبا الحسن إنى ما أتيت حتى استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموافقة والمسير معك والمساعدة لك على أعدائك.

ثم إنه (ورقة) ألحّ عليه (الإمام علِىّ) في السؤال بالمخادعة والحيلة، ومع ذلك لم يخف عن الإمام ما أضمره اللعين وما هو طالبه، فأخذ حذرا منه وولّى عنه ناحية إلى ناحية من الطريق وسمح له بالمسير معه.

(قال الراوى) ثم سار الإمام متجانبا (متجنب) متباعدا عنه، وسار عدو الله إلى جانبه ولم يبدله شيئا وكتم أمره، فقال له الإمام: إن كان ولا بد من مصاحبتى فلا تسألنى عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا، فأجابه ورقة إلى ذلك، وقال: بأبى أنت وأمى، وكيف أتعرض لك في شىء وأنت من بيت النبوة ومعدن الرسالة، وأقتبس منك ومن علمك ولا أنازعك في صنعك ولا أمانعك في أمرك، وإنما أنا مساعدك في سفرك ومعاونك على أعدائك، فعند ذلك خلَّى الإمام سبيله، وجعل يقول:

مَن صاحب الليث يرجو منه خدعته

يسقى من أظفاره كأس الردى جرما

من يشرب السم لا يأمن عواقبه

لو كان يعلم عُقبَى السم لامتنعا

مَن أضمر الشر يأتى نحوه عجلا

مسارعا قاصدا قد جاء متبعا

نص رسالة النبى للهضام

خضيب وأمير المؤمنين


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الإمام يبدأ رحلته بقتل رجل يقف وسط الصحراء ويعرض عليه الماء والطعام مجانًا

فى الحلقات السابقة ذهب عرفطة الجنى المسلم إلى النبى محمد عليه الصلاة والسلام، واستغاث به من جبروت الملك الهضام الحجاف الجنى الكافر، وحكى للنبى قيام الهضام بإجبار قومه من العفاريت والجن والمردة المسلمين بعبادة «المنيع» وهو صنم ضخم، أعد حوله حفرة كبيرة أشعل فيها نارا وأسماها جهنم، وأخرى أشجارا وفاكهة وأنهارا وأطلق عليها الجنة، من يعصِ يدخل النار، ومن يحسن أسكنه الجنة، وطلب من الرسول أن يكون الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه الفارس الذى يرسله لمحاربة الهضام، لأنه الإنسان الوحيد الذى يقدر على محاربة الجن والعفاريت وهزيمتهم، وفى نفس الحلقة نزول جبريل عليه السلام إلى الرسول وأقرأه السلام من الله عز وجل، وأبلغه أنه سبحانه وتعالى اختار ابن عمه لمحاربة وقتل الهضام، فدعا الرسول الصحابة إلى الصلاة بالمسجد، واستفسر من الصحابة عن الهضام، وأخبره أحد الصحابة بما يعرفه، وقيل إنه يسكن في وادى القمر بالقرب من اليمن، وقى حلقة الأمس أملى الرسول الكريم الإمام على الرسالة التى يحملها إلى الهضام الكافر، خيَّرَه فيها بين عبادة الله الواحد القهار والدخول في الإسلام أو الحرب»، وطلب الرسول من الحضور أن يتبرع أحدهم بحمل رسالته إلى الهضام، وتقدم جميل بن كثير لتنفيذ هذه المهمة، واشترط أن لا يكون تحت إمرة على بن أبى طالب، ولا يسير معه في رحلة واحده لأنه لا يطيق هذا، ووافق الرسول وسلمه الرسالة، وودع جميل أهله والصحابة وانطلق بالرسالة إلى الهضام، كما قام الإمام على ببدء رحلته نحو الملك الهضام وفى بداية الطريق اكتشف أن أحد الأشخاص يتفقد أثره، واتضح أنه هو ورقة بن خضيب أحد المنافقين، وقد اتفق مع المشركين والمنافقين على أن يتتبع الإمام على بن أبى طالب ويقطع رأيه في غفلة أو غفوة منه، وسأله الإمام على عن السبب الذى دفعه إلى أن يتتبعه، قال: إننى أردت أن أتعلم منك، فاستكمل الإمام على رحلته وهو على حذر منه، وأنشد بعض الأبيات الشعرية، وفى حلقة اليوم تظهر مشقة ومصاعب الرحلة، فقد قال الراوى:

«فلما سمع ورقة هذه الأبيات من الإمام لم يرجع عما أضمره (أخفاه)، بل إنه ازداد غيظا على غيظه، ولم يزالا سائرين والإمام على يقول: حسبى الله ونعم الوكيل، حتى وجب عليهما (الصلاة) فلم يجد الإمام ماء يتوضأ منه، فسار إلى أن قرب العصر، فأشرف الإمام على رجل واقف على بئر وقد ملأ سقيه، وإلى جانبه مائدة منصوبة وعليها صحف مملوءة بالطعام وأقراص من العيش، فلما نظر ذلك الرجل الإمام وورقة قال: هلما إلى الطعام الفاخرة والماء البارد بلا ثمن ولا جزاء، فأسرع إليه الإمام ولم يمهله حتى قبض على أطواقه، وجلد (ضرب) به الأرض وجلس على صدره وحز رأسه، ثم عمد إلى الماء فأراقه، ثم حفر حفرة كبيرة وجعل فيها الطعام ورد عليه التراب حتى غيبه، وسار كأنه لم ينبه شيئا.

فقال له ورقة: يا أبا الحسن، قد تجرأت على فعلك وأسرفت في صنعك وظلمت في حكمك بما فعلت بهذا الرجل الذى يبرد الماء لعابر هذا الطريق، وينصب للجيعان من غير ثمن ولا جزاء، وتقدمت إليه وذبحته والى طعامه فدفنته وإلى مائه فأرقته، وتركتنا نلتهب عطشا، فوالله لقد تجرأت في فعلك وأسرفت في صنعك.

فقال له الإمام: ألم أقُل لك لا تسألنى عن شىء حتى أحدث لك منه ذكرا، ارجع الآن فانك لن تستطيع معى صبرا (انظر: قصة موسى والخضر في سورة الكهف الآيات 65-82).

(قال الراوى) فازداد اللعين كفرا وامتلأ غيظا وقال في نفسه: كيف أرجع وأدع ابن أبى طالب، وحق اللات والعزى لا أرجع حتى أقطع رأسه وأمضى بها إلى الملك الهضام وأبرد قلبى وأشفى غليلى، ثم أقبل على الإمام بمكره وخداعه، وقال: يا أبا الحسن أنتم أهل الجود والكرم والإحسان والعفو والامتنان، ولست أعود إلى شىء تكره، فسمح له الإمام بالسير معه، فسار إلى وقت العصر ثانى يوم، فأشرف الإمام على حوض مملوءة وبجانبه مسجد قد طرح النحل على جدرانه، وإذا بشيخ كبير جالس إلى جانبه وعنده جارية حسناء وعليها أثواب الزينة وثياب مزعفرة، فلما وصل إليها الإمام حل منطقته ووضع سلاحه، وأخرج زنادًا (خشبتان يقدح بهما النار) كان معه، وقدح (أشعل) منه نارا وأطلقها في المسجد، فاحترق المسجد سريعا وتساقطت حيطانه، ثم إنه حفر حفرة وعمد إلى الصَّبيَّة فجعلها فيها ورجمها حتى ماتت، ثم عمد إلى الشيخ فقطع يديه ورجليه وتركه مخضبا (ملطخا) بدمائه، ثم عمد إلى الماء فتوضأ وصلى وانصرف كأنه لم يفعل شيئا.

(قال الراوى) فلما رأى ذلك ورقة ثار وامتلأ غيظا وحنقا على الإمام، لكنه خشى من صولته وهجومه عليه، قال له وهو يلين له الكلام: يا ابن أبى طالب، والله ما أمرك الله ولا رسوله ولا نطق بذلك القرآن، عمدت إلى المسجد فأحرقته وهدمته والآن عاد خرابا، وعمدت إلى الشيخ فقطعت يده ورجليه من غير ذنب ولا جناية سبقت منه إليك، ثم عمدت إلى صبية من حسن الناس وجها فرجمتها حتى ماتت وهى كانت تصلح لمثلك، والله لا نصرت وهذه الفعال فعالك، فتبسم الإمام وقال: والله لولا أنى أريد أن أظهر لك بيان بما رأيته وإلا كنت عجلت بروحك، ولا كذبت على وعارضتنى في شىء لا تعرفه ولا لك عليه طاقة، ولكن أسامحك وامضِ إلى حال سبيلك ولا تتعرض لى فأهلكت، وتدبر أمرك، وانظر إلى ما أنت له صانع وسيظهر لك، يا ويلك أما رأيت وعاينت؟ وإن سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرك به، فارجع عنى واستغنم السلامة وأكرم الناس، من إذا قد عفا وهذه الثانية؟ إذا عدت إلى الثالثة جازيتك بفعلك، يا ويلك ألم أقل لك ما قاله العبد الصالح لموسى بن عمران: إنك لن تستطيع معى صبرا (الكهف: 72)، فقال: يا أبا الحسن اعف عما قلت ولست أعود إلى ما تكرهه، ودخل على الإمام بمكروه وخداعه وهو يظن أن يظفر به، فسمح له الإمام بالمسير معه.

ولم يزالا سائرين إلى غروب الشمس وهم على غير طريق، فبينما هما سائرين، وإذا هما بواد فيه عين ماء كثيرة المياه، وبجانبها حظيرة واسعة وعلى بابها عبد عظيم الخلقة أحمر العينين عريض المنكبين مفتول الساعدين، فلما نظرهما قال للإمام: اعدلوا إلى هذا المنزل الرحب الطيب الخصيب، فقال ورقة عند ذلك: أعدل بنا يا أبا الحسن إلى هذا المنزل فقد ولا النهار وأقبل الليل، فقال الإمام: سر ولا تتعرض لما ليس لك به علم، فقال ورقة: والله ما بك خوف من هذا الأسود حيث رأيته يطيل النظر إليك، فلما سمع الإمام ذلك تغير وجهه وقال لورقة: ويلك أمثلى يفزع من أبيض وأسود وأنا من أهل العلم والتأويل والدلالة والتفصيل؟ ثم عطف الإمام ناحية العبد فلما رآه العبد مقبلا إليه وقف ورحب به وفتح له باب الحظيرة، فدخل الإمام ودخل الأسود في نحوهما وأغلق باب الحظيرة، فلما وصل الإمام وسط الحظيرة، وإذا هو بجماجم مقطوعة وعظام مهشومه فوقف ينظر إلى ذلك ويتفكر ويتعجب، وإذا هو بسبعين عظيمين قد خرجا من جانب الحظيرة، وقصد أحد منهما إلى نحوى الإمام والآخر إلى ورقة، فالسبع الذى وصل ورقة هدر وزمجر، فلما عاين ذلك قصد نحو الإمام وهو يرتعد كالسعفة في مهب الريح، واصطكَّت أسنانه واهتزت ركبتاه من شدة ما نزل به من الخوف والفزع، وهو ينادى برفيع أصواته: أدركنى يا أبا الحسن خالفتك فهلكت، فبالله عليك يا أبا الحسن خلصنى مما أنا فيه، ولا تؤاخذنى بسوء أفعالى فأنت من أهل الكرم والجود، فتبسم الإمام ضاحكا من مقالته، وأما الإمام فلم يعتنِ بالسبع الذى وصل إليه ولم يلتفت إلى ميلته، فلما قرب السبع من الإمام صرخ صرخته المعروفة الهاشمية فتضعضع السبع من شدتها ووقف مكانه وخمدت قوته من صوت الإمام، وجعل ينادى: أنا السيف المسلول أنا ابن عم الرسول/ أنا مفرق الكتائب أنا مظهر العجائب/ أنا الحسام القاضب (القاطع) حامل ذو الفقار/ أنا البحر الساكب القاضب/ أنا ليث بنى غالب/ أنا أمير المؤمنين على بن أبى طالب، ثم وثب على السبع بقوته وضربه ضربة عظيمة فمات، ثم حمل الإمام على السبع الذى حمل على ورقة فوثب عليه ونادى: أنا الليث التمام/ أنا البطل المقدام/ أنا قاتل اللئام/ أنا مفرج الزحام، فعند ذلك فر السبع داخل البيت عندما نظر ما حل بأخيه، وجعل العبد يحدّ النظر إلى الإمام ويتعجب مما فعل، فجرد صفيحة (رخامة عريضه) هندية وتقدم إلى السبع يحرضه وهو في شدة غيظه على قتل أخيه، فحرضه على الإمام فعمد السبع إلى الإمام وعمد الأسود إلى ورقة يريد قتله قبل قتل الإمام، فقال ورقة للأسود: مهلا وقيت (حميت من) الردى (الهلاك) وكفيت شر العدا، فإننى معين لك على أمرك، لعلى أقتله وآخذ رأسه إلى الهضام لأنال المرتبة العليا، والآن اختلطنا بعدو الملك الهضام، فإن قتلناه فتكون لنا اليد العليا عند الملك الهضام وعند الإله الرفيع، فعند ذلك فرح الأسود من مقاله ومال على الإمام وورقة معه وقال: يا ابن أبى طالب إلى أين طالب فانظر إلى نفسك وتدبر أمرك؟ فلم يلتفت الإمام وهجم على السبع وضربه ضربة هاشمية بين عينيه، فلما نظر الأسود ذلك انذهل وعلم أنه إن أقدم على الإمام أرداه (أهلكه)، فرمى صفيحته من يده ونادى: يا ابن أبى طالب ارفق على أسيرك وأحسن إلىّ، فإنى لم أعلم بك ولا بمكانك حتى سمعت ذكرك من رفيقك، أحسن إلىّ يا أبا الحسن أحسن الله إليك، فلما سمع ذلك منه الإمام قال: اعتزل حتى أفرغ من عدو الله وأعود إليك فيقضى الله بحكمه ما هو قاضٍ.

ملك الجان يشكو الكفرة للرسول

يحكى البكرى في هذه السيرة أن أحد الجان المسلمين جاء إلى رسول الله يشكو له ملك الجان الكفرة، أكد له أنه يسخر قبيلته وبعض قبائل الجن لعبادة الأصنام، وأنه صنع صنمًا وجعل له حفرة سماها النار وأخرى الجنة يعاقب ويحسن فيها لأتباعه، وطلب من الرسول أن يساعدهم على التخلص منه ومن جبروته وكفره، وأكد أن الإمام على بن أبى طالب الوحيد الذى يستطيع هزيمته والقضاء عليه، وتذكر السيرة أن جبريل عليه السلام نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن ابن عمه الإمام على بن أبى طالب هو المكلف بالقضاء على هذا الجن الكافر واسمه الهضام بن الحجاف، وفى السيرة نشاهد الرسول الكريم وهو يستحلف الإمام على أن يوافق على الخروج إليه، هذه السيرة التى رواها أحمد بن عبد الله البكرى المنسوب إلى الشيعة، رويت على لسان الإمام على بن أبى طالب، حيث نسبها البكرى إلى الإمام على رضى الله عنه، ولطرافتها ننشرها على أجزاء بعد أن قمنا بتعريف الأعلام الموجودة بها، وهى في أغلبها شخصيات حقيقية، بعضها من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين، كما قمنا بتعريف الأماكن، وقمنا بشرح الكلمات الصعبة تيسيرًا على القارئ، ووضعنا كل هذا بين قوسين.

فى بداية رحلة الإمام على بن أبى طالب إلى محاربة الهضام بن الحجاف ملك الجان الكافر، اقتفى أثره أحد المنافقين لكى يقطع رأسه في غفلة منه، هذا المنافق يدعى ورقة بن خضيبة (وهو من الشخصيات الوهمية في السيرة)، وقد صبر عليه ابن أبى طالب رغم خطورته، وفى الطريق قابلهما عبد أسود أمام حظيرة وبصحبته سبعان مفترسان، دعا الإمام والمنافق للراحة في المنزل، ودخل الإمام بعد إلحاح من ورقة المنافق وظهر لهما السبعان، وبعد أن قتل الإمام أحدهما، أظهر المنافق ما يضمره واتفق مع العبد أن يشتركا في قتل الإمام ويحملان رأسه إلى الملك الهضام، لكى يحصلا على رضاه، لكن قد خاب ظنهما وقتل الإمام السبع ثم عمد الإمام إلى ورقة وقال:

«- يا رأس النفاق، قد أظهرت يا عدو الله ما كنت له ساترًا، وما أنت عليه عازم وضامر، فانظر الآن لنفسك وتدبر أمرك فقد آن أوان قتلك

- ثم نادى ورقة: يا ابن أبى طالب، سألتك بحق محمد ابن عمك إلا ما أبقيت على وأحسنت بكرمك إلى.

- فقال له: بعد نفاقك وكفرك ما أبقى عليك هيهات هيهات.

- فلما أيقن اللعين بالهلاك قال: يا ابن أبى طالب الظلم لا يفارقك ولا يفارق ابن عمك، فحدثنى عما ظهر لك أنت في طريقك هذه من سوء فعلك مما لا يرضاه الله، ثم افعل ما بدا لك فإنى أشهد أنك أنت وابن عمك ظالمان ساحران.

فغضب الإمام من ما قاله ورقة غضبًا شديدًا، وقال له: يا عدو الله، إن الله تبارك وتعالى قد باعد بيننا وبين الظلم والعدوان، وجعلنا من أهل الكرم والإحسان، ويل لك ولقومك، فأنا أكشف لك ولقومك جميع ما رأيته في طريقنا، أما الرجل الذى أقبلنا عليه وعنده الماء والطعام فإنه كان مسمومًا، إنما صنعه للناس حيلة، فإذا أكل أحد الطعام وشرب من الماء هلك لوقته فيأخذ ما كان معه، وقد أهلك بهذه الحيلة خلقًا كثيرًا، فلما أتيته قتلته عمن قتل من الناس، وأهرقت الماء ودفنت الطعام لئلا يأكل منه الطير والوحوش فيهلكون، وأما الشيخ الذى أتيناه بالمسجد وعنده الجارية فإنها بنته، وهو ينكحها للصادر والوارد، فإذا أنزل عنده سالك طريق عرض عليه ابنته، فإن أجابه إلى ذلك كان، وإلا يتركه حتى ينام ويسرق منه جميع ما معه، فلما قدمت عليه قطعت يديه ورجليه لأجل سرقته، ورجمت الجارية لزناها حتى ماتت، وأحرقت المسجد، وأما هذه الحظيرة وهذا الأسود وهذان السبعان فيقتل بهما جميع من أتى إليه في هذه الحظيرة، ويأخذ ما كان معه، ثم إن الإمام تقدم إلى ورقة وضربه بذى الفقار (سيفه) على رأسه ففلقه نصفين، ووصل إلى الأرض وعجل الله روحه إلى النار.

فلما نظر (العبد) الأسود إلى ذلك حار عقله ونادى:

- يا ابن أبى طالب، امدد يدك فإنى أشهد أن لا الله إلا الله، وأن ابن عمك محمد رسول الله، وأنى كنت في لجج الضلالة سارح، فلا زلت لك منذ هذا اليوم إلا مواليًّا.

- فعند ذلك تبسم الإمام على كرم الله وجهه، وقال له: خذ سلب (ملابسه وسلاحه) عدو الله، وامض حيث شئت مصاحبًا للإسلام، فقال: يا أمير المؤمنين إنى لا أكون معك وبين يديك، فقال له الإمام: هذا جبل بعيد لا يصل إليه كل ضامر سلول.

- فقال الأسود: هذا الوصف لا أجده إلا لك يا ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم أنت زوج البتول، وابن عم الرسول سيف الله المسلول، إلا يا أمير المؤمنين، سألتك بحق ابن عمك ألا أخبرتنى إلى أين تريد؟

- فقال له: إنى والله أريد الهضام بن الحجاف وصنمه المنيع وحصنه الرفيع لأذيقه السم الفقيع.

- فقال الأسود وقد تحول سواد وجهه إلى الإصفرار لما سمع بذكر الهضام.

- فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تعرض نفسك للهلاك، فطريق ما ذكرته غير سالك، فكيف تصل إليه وبينك وبينه سبعة أودية وفيها سبعة حصون، وكلها مملوءة بالرجال والأبطال، لا يطير عليهم طائر إلا منعوه من الجواز حتى يستخيروه، ووصولك إلى صنمه أبعد من ذلك، وأن له جنة ونارًا ويدخل في جنته من أطاعه ويدخل في ناره من عصاه، وأنا أخشى عليك مما أعده من الأهوال.

- فقال الإمام: امض أنت إلى حال سبيلك، ومعى ربى تعالى ينصرنى، وهو معى أينما توجهت فهو حسبى ونعم الوكيل، ثم قال له: ما اسمك؟

- فقال له: اسمى هولب.

- فقال الإمام: اكتم أمرى ولا تبيح بسرى، وامض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدد إسلامك على يديه.

- فقال هولب: يا سيدى هذا الذى ضمرت عليه.

(قال الراوى) فعند ذلك ودع (العبد الأسود هولب) أمير المؤمنين، وسار إلى المدينة قاصدًا النبى عليه السلام، وأمير المؤمنين ساير بلاد الهضام حتى ولى النهار وأقبل الليل، فعبد غروب الشمس صلى المغرب والعشاء ثم سافر طول ليلته حتى لاح الفجر فصلى الصبح، ثم سار وطاب له السير وقرب الله البعيد وسهل عليه كل صعب شديد.

(قال الراوى) حدثنا أمير المؤمنين رضى الله عنه قال: كنت أرى الجبال الشاهقة أمامى، فبينما أنا أتفكر في الوصول إليها فما أدرى بنفسى إلا وأنا قد وصلت إليها وعولت عليها بحول الله وقوته، ولا أدرى بتعب ولا ألم، كل ذلك بحول الله سبحانه وتعالى وبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنشد وجعل يقول شعرًا:

طاب المسير بنور الله إذ لمعا

وبأن ضوء الفجر إذ طلعا.

واد الظل

(قال الراوى) وسار الإمام على رضى الله عنه يطوى المنازل ولا يعوج المناهل (مورد الشرب على الطريق) إلى أن وصل إلى أرض اليمن، جعل يكن بالنهار ويمشى بالليل إلى أطراف البلاد وشرف على العمران، حتى وصل إلى واد الظل وهو أول الأودية السبعة، وهو واد معشب أخضر نعمه عظيمة كثيرة النبات والأشجار والمياه، والظل المديد واختلاف الألوان وحسن الأطيار(مفردها: طير، وتجمع طيور وأطيار)، إذا فيه رعاة معهم أغنام، ثم نظر إلى صدر الوادى، فإذا هو بحصن حصين وهو يسمى حصن الوجيه، وهو في صدر الوادى يلوح كأنه لؤلؤة له نور ساطع وإشراق لامع، فلما نظر إليه الإمام حمد الله تعالى وشكره وأثنى عليه على تيسير العسير الذى قرب إليه البعيد وسهل كل صعب شديد.

(قال الراوى) ثم إنه انحدر إلى ذلك الوادى، وإذا عارضه نهر ماء جار يلوح صفاء بياضه والخيل والأنعام والإبل وسائر المواشى، مرعاه (المرعى: جمع مراع وهو موضع الرعى، العشب) البر الآخر مما يلى ديار القوم والرعاة مجتمعين، ومعهم واحد بيده غابه يصفر بها، وقد نظره القوم وهم يرتجزون الأشعار، فنزل الإمام رضى الله عنه إلى جانب النهر، وقد نظره القوم فلم يخاطبهم، ثم إنه حل منطقه وتوضأ وصلى، فلما رآه القوم يصلى بهتوا إليه ولم يدروا ما هو صانع؟ وقد دهشوا من ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده، فقطعوا ما كانوا فيه من لهوهم ولعبهم، وقال بعضهم لبعض: كأن هذا من بعض كتب العرب، فقال بعضهم إنما هو جنة، وقد أكثر القوم في الإمام رضى الله عنه، وهو مشغول بما هو فيه. (قال الراوى) فلما فرغ من صلاته مال متكئا إلى جحفته (قربة الماء)، فقال بعض القوم:

- من أين أنت أيها الرجل؟

- فقال لهم: من طين من حمأ مسنون خلقنى وقدرنى الذى يقول للشىء كن فيكون.

- فقال لهم الراعى: ألم أقل لكم إنه مجنون قذفته جنية إلى هذا المكان فترك الراعى قول أصحابه، وقالوا: يا هذا من أين أقبلت؟

- فقال له الإمام: من عند مولاى الذى كفانى بنعمته ونعمنى بفضله وكرمه.

- فقال الراعى: أفقير مولاك أم غنى؟

- فقال الإمام مولى الموالى علمه بحالى يكفى عن سؤالى مالك المشرق والمغرب والبر والبحر والسهل والوعر والأرض والسماء عليه توكلت وبه أستعين.

- فقال الراعى: صدقت وبالحق نطقت، أقدم علينا أيها الرجل، فالطريق أمامك هذه الصفة صفة الهناء المنيع، وهو في إحسانه بديع، ثم أنهم سروا سرورًا عظيمًا وفرحوا به فرحًا شديدًا، وقالوا له:

- يا فتى بلغت السلامة ومناك وأدركت هواك فإن أحببت تأتى إلينا فدونك والجسر عن يمينك، واجعل راحتك عندنا لتسر بنا ونسر بك.

- فقال لهم: الإمام من يهدى الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وإنى أرجو أن أكون على الطريق متبع النبى الناصح.

(قال الراوى) فاعرض الأعيان عنه، لأنهم لم يفهموا كلامه، وقالوا له: إن في كلامك تخليطًا وفى لسانك تفريطا، إن كلامنا لك ضايع فاعرضوا عنه، ورجعوا إلى لعبهم ولهوهم، وأقام الإمام رضى الله عنه مكانه إلى أن وجب العصر فصلاه، وإذا بالرعيان (تجمع أيضا: رعاة، ومفردها: راعى) تصارخوا وتصايحوا، فقال لهم الإمام: معاشر القوم ما صراخكم؟ فقالوا: ننظر إلى قطيع الظبا (الظبى: اسم الذكر، والجمع: أظبٍ، وظباء، وظُبيّ، والأنثى ظبْية) منحدرا من الجبل، فلما نظر الإمام إلى داره ووثب قائمًا على قدميه ثم نزع أطماره (ملابسه البالية، ومفردها: طمر) وسلاحه، وقال لهم: دونكم وحفظ أثوابى وسلاحى، فقالوا: وأين تريد؟ فقال: أريد هذه الظباء لعلى أنال ظبيًا، فلم يبق أحد منهم إلا وقد ضحك من قوله، واستهزأ عليه، ثم قال بعضهم لبعض: ألم أقل لكم إن الرجل هائم على وجهه مخبوط في عقله، ثم تركهم الإمام ومضى وهم ينظرون إليه ويظنون أنه لا يبرح من مكانه لعظم خلقته وكبر بطنه، ثم إن الإمام قام حتى توارى عن أعين الرعاة، وقد قطع الشعاب وهو يشب من ربوة إلى ربوة ومن شجرة إلى شجرة، ثم أدركها وهى في شدة جريها فقبض على اثنين منها واحدة بيمينه وأخرى بيساره، وأقبل كأنه الريح الهبوب والظباء في يديه، فلما رأى الرعاة الظباء في يديه كبر الإمام في أعينهم، ولم يزل الإمام سايرًا حتى أتى سلبه (ملابسه) واستخرج سكينًا وذبحهما وسلخهما وأجاد غسلهما، ثم حفر حفرة والتفت يمينًا وشمالًا يطلب حطبًا فلم يجد شيئا من ذلك الحطب، ورمى في الحفرة حتى ملاها، ثم قدح زناد وخرج نار أضرمها في ذلك الحطب، فتأججت وصار جمرا، فكشف الجمر عن الحصى، وأخذ الظبيين ورماهما في الحفرة وردم عليهما النار من فوقهما.

هذا والرعاة ينظرون إليه ويتعجبون من فعله، وهابوا أن يتقدموا إليه وأمسكوا عن سؤاله، فلما فرغ الإمام مما أراد غسل يديه ولبس ثيابه، وقعد ينظر غروب الشمس، لأنه كان صائمًا، فقال الرعاة: يا فتى نحن ضيوفك الليلة لتطعمنا مما اقتنصت من الظبا، فقال الإمام: إنما يضاف من يكون قاطنا بالديار، فقالوا له: سألناك بإلهك الذى تعبد ألا ما عرفنا باسمك الذى تعرف به لأننا رأينا منك ما لم نره من أحد من غيرك، فقال لهم: اسمى زيد، وكانت أمه سمته زيدا، وسماه أبوه حيدر، وسماه النبى عليا لما أمره الله أن يسميه بذلك الاسم الحسن (فى التوراة إله بنى إسرائيل هو الذى يسمى الأنبياء عند ولادتهم)، فقالوا له: يا فتى لقد أعطاك الله من الشجاعة ما لم يعطه لأحد، وبقى القوم يتحدثون، فبينما هم كذلك، إذ وقعت صيحة من الوادى وتتابع الصياح، فجعلت الرعاة تمرد أغنامها يرومون (يطلبون) أن يجمعوها، وأسرع بعضهم إلى بعض إلى أهل الحصن والإمام ينظر إليهم، وإذا بخيول مسرعة فظن الإمام أن أهل الحصن فرحوا له، فلم يكن من أمره إلا أنه شد منطقه (حزامه) وقبض على جحفته (بقايا الماء) فأقبلت الخيل أفواجًا في الوادى، وكانت أربعة آلاف، حمية لأصحابهم أن يطرقهم طارق، وفرت جميع الرعاة في جميع خبايا الوادى يبكون ويتصارخون، فقال الإمام: تبكون وليس لكم مال ولا نوال (نصيب)، إنما المال لغيركم وأنتم مستأجرون، فقالوا له: يا فتى إنما نبكى على أنفسنا، لأن سيدنا الأعظم الهضام إذا أخذ له مال رجع بالقيمة علينا، يقول: أنتم علمتم مالى لأعدائى، فلم يرض بالقتل بل يحرقنا بناره، وفعل ذلك بمن كان قبلنا من الرعاة، وقد رأيت ما دهمنا كثرة الخيل، فقالوا: ولو كان مليكنا الهضام وإلهه المنيع لما وصلوا إليهم هؤلاء الأقوام، ولم يخلصوا الغنائم من أيديهم، لأنهم قد عرفوا بالبلية وصاحبهم قد يتم العرب، ولا تقتصر يده إلا عن بلدة واحدة، فقال الإمام: ما هذا البلد التى لا يضرب إليها؟ فقالوا له: مدينة يثرب مسكن عبد الله، بها فارس لا كالفرسان، ويقال عنه: إنه مفرق الكتائب وهازم الجيوش ومفرق المواكب، الحسام (السيف) الغاضب، والليث الغالب، والبحر الساكب، ليث بنى غالب أمير المؤمنين على بن أبى طالب.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تحذير الملك المغضب من محاربة على بن أبى طالب

إله الملك المغضب حذره من محاربة على بن أبى طالب وقال له: إنه وحش الفلاة... فقالت له وفود العرب إن إلهك يذل ولا ينصر

فى وادى الظل التقى الإمام على بن أبى طالب، كما سبق ونشرنا في حلقة الأمس، مع بعض الرعاة ودار بينهم حوار عن بلاده وهويته، حدثهم عن الإسلام والمسلمين وعن الله الواحد القهار، واستخفوا بكلامه واعتقدوا أنه مخبول، وبعد أن اصطاد الظباء وأخذ يسلخه وينظفه ويشعل النار لتسويته، سمعوا أصوات خيول قادمة فدب الرعب في قلوب الرعاة وأسرعوا للهرب والاختباء، وأكدوا قبل هروبهم أن الخيول عليها فرسان الملك، وخافوا من البطش بهم، اقترب الإمام على منهم واستفسر منهم عن الملك، وذكروا له أن الإنسان الوحيد القادر على مواجهتهم وهزيمتهم رجل عربى من سكان بلدة تسمى يثرب،

اليوم نستكمل الحوار الذى دار بين على والرعاة في مخبأهم، حيث يقومون بوصف صفاته وملامحه وقدراته له، فيسمع ما يقولونه عنه ويبتسم دون أن يكشف عن هويته، ويجب قبل أن ندخل للحوار ألا ننسى أن هذه السيرة وصلتنا من خلال أحمد بن عبد الله بن محمد أبو الحسن البكرى الذى عاش في القرن الثالث الهجرى، وأننا لا نمتلك ما يثبت أنه هو الذى قام بتأليف هذه السيرة أو أنه كان يرويها فقط، وعلينا أن نتذكر كذلك أن البكرى ليس من الثقات، وأن السيرة تروى على لسان الإمام على بن أبى طالب.

(قال الراوى) فلما سمع الإمام هذا الكلام تبسم ضاحكا وقال: أيها الراعى ما اسم هذا الرجل؟ وما الذى يعبد؟ وأين مسكنه؟ فقد حدثتنى بعجيب، فقال: يعرف بالمغضب، وأما معبوده فإنه صنعه من الجزع اليمانى، وكانت العرب تأتى إليه وإلى صنمه ليخبرهم بجميع ما يسألونه عنه، فلما كان يوم من الأيام والناس محدقون به ويسألونه، وقد شكوا إلى ملكهم المغضب من على بن أبى طالب لما فعل بسادات العرب من القتل، فقال لهم: يا قومى تأخروا عنى لأتقدم إلى إلهى العظيم، وأشاوره لكم في هذا الغلام وفى المسير إليه، فتأخروا عنه.

(قال الراوى) فعند ذلك تقدم الملك المغضب إلى إلهه وهو معتمد فيه (متوكل عليه)، واستشاره في حرب على بن أبى طالب، وقال: إلهى قد سمعت ما ذكرته العرب من خبر هذا الغلام وشجاعته وشكوا من فعاله، وقد شكوا إلى وإليك، فهل لك أن تشير لنا أن نسير إليه ونقاتله وأنت أخبر منا بذلك؟ فمهما أمرتنا به امتثلناه، (قال الراوى) فلما فرغ من كلامه دخل الشيطان في جوف الصنم، ونهى المغضب عن ذلك، وهو يظن (الملك المغضب) أن الكلام من الصنم، ثم تململ وارتجز وأنشد يقول:

دع ما قصدت من ارتكاب مهالك

ومكاره مقرونة ببلاء

لا تطلبن لقاء على إنه

وحش الفلاة كذا لسفك دماء

(قال الراوى) فلما سمع المغضب والعرب كلام الصنم حزنوا من كلامه فخاف الملك، وخاف العرب ورجعوا عن عبادته وقالوا: إلهك يذل ولا ينصر، فهو (الصنم) أولى بأن يدك ويحرق فتفرقوا عنه، فعند ذلك تسامعت العرب والقبائل بملكنا الهضام وصنمه «المنيع» الرفيع، وقيامه على طول الأيام معلقا في الهواء، فعطفت (مالت واتجهت) العرب جميعهم إليه، ورأوا منه معجزات وكلمهم بالدليل ووعدهم بهلاك على بن أبى طالب، وأن يكفيهم مؤنته (الجهد والبذل البدنى والعقلى).

فانصرفت (اتجهت) وجوههم إليه وأقبلوا بجمعهم عليه، فعظم ذلك على المغضب واستنجد بالعربان وبذل لهم الأموال، فجرت بينه وبين صاحبنا الهضام حربا شديدة ما شهدت العربان مثلها، وأقاموا مدة من الشهور يقتلون حتى فنى أكثر الجماعات، وافترقوا على ما هم عليه من العداوة والبغضاء، وبقى كل واحد منهم يغير على صاحبه كما ترى، وكانت العربان سعت بينهم بالصلح على أنهم يجتمعون جميعا ويسيرون إلى على بن أبى طالب ولم يكن قد انفصل بينهم أمر،

فتبسم الإمام على ضاحكا من قوله، ثم أطرق برأسه إلى الأرض ساعة وهو متفكر في أمر الحصون التى بينه وبين عدو الله الهضام، فأجمع أمره على ملاقاة المغضب وقومه، وأقبل على الراعى المخاطب له وقال: إلى أين هؤلاء القوم سائرون، فقال له: يا فتى، أما هو فبيننا وبينه فرسخان في مضيق بين جبلين، يجمعون السابقة إلى المضيق ثم يقع البيع والشراء فيها ليأخذ كل واحد ما يخصه وينصرف إلى محل سبيله، أو يقصد كل واحد منهم مكانه ومحل نومه، فقال الإمام: يا ويلكم فما منع صاحب هذا الحصن عن لحاقهم، فقالوا له: يا فتى تجلى إلهنا بالبركة أن في كل حصن ألف رجل، ولو اجتمع كل من في الحصون لكان هو كفئا للجميع.

فلما سمع الإمام ذلك الراعى المخاطب له أخذ سيفه ودرقته(ترسه)، وحزم وسطه بمنطقته (حزامه)، ثم أتى إلى جانب النهر، وثبت عزمه ووثب فارتفع في الهواء ارتفاعا عاليا، فعبر بتلك الوثبة إلى جانب النهر الآخر، وكان عرض ذلك النهر أكثر من عشرين ذراعا، ففزع الرعاة بما عاينوه وذهلت عقولهم خوفا من الإمام، فقال لهم: مهلا يا قوم لن ينالكم منى إلا خيرا إن شاء الله تعالى، فإن غبت عنكم حتى جن الليل فاخرجوا ما في الحفيرة وكلوه فأنتم أحق به من النار، فقالوا: إلى أين تريد؟ فقال لهم: أريد أن ألحق القوم فعسى أن أنال منهم خيرا، فظن الرعاة أنه يطلب منهم رفدا (إعانة) أو معاونة، فقالوا له: يا فتى إن وقعت عينهم عليك لم يسمعوا كلامك دون أن يسفكوا دمك وهم أربعة آلاف فارس، وملكهم المغضب أعظم من الجميع وأكثرهم أذية، ومع ذلك أن وهبوك شيئا أخذ منك فلا تعرض نفسك للهلاك، فقال لهم الإمام: لا صبر لى عن القوم لا بد من اللحاق بهم، فلم يكن غير قليل حتى لحق بالقوم ونظر الخيل والأسنة تلمع، فقصر الإمام في مشيه حتى دخل القوم في المضيق والسابقة معهم، وليس لذلك المضيق منفذ غير هذا الذى دخلوا منه بأجمعهم، أتى الإمام إلى فم المضيق وجلس تحت درقته حائما من وراء صخرة، قابضا بيده على سيفه وهو يسمع حديث القوم في بيعهم وشرائهم وقد غابت الشمس فصلى الإمام المغرب في مكانه، وقال: اللهم ارزقنى من عندك فطرا حلالا طيبا.

ولم يزل القوم كذلك إلى أن دخل الليل وطلع القمر وامتلأت الأرض بنوره، فبينما هو كذلك إذ سمع بعار غنم ورغاء (صوت) إبل، فإذا هو بشويهات (تصغير وجمع شاة: الضأن والماعز والظباء والبقر والنعام وحمر والحش)، وفرسين ومطيتين (ما يمتطى من الدواب، كالبعير والناقة، تجمع: مطايا ومطى)، سرج وفارس معتقل برمحه ولامته، فقال الإمام: يوشك أن هذا قسم هذا الفارس، فكن الإمام إلى أن خرج الفارس وما معه من فم المضيق، فلما قرب الإمام لم يمهل عليه وضربه فوقع على الأرض قطعتين، فأخذ الإمام جميع ما معه وتركه ورجع إلى مكانه، فلم يكن إلا هنيهات وقد أقبل آخر على مثل وهو ينادى بصاحبه المعين: قف حتى أجمع سهمى بسهمك ونسير جميعا، فلم يرد عليه، فما استتم كلامه إلا وقد وافاه الإمام ولوى شماله إلى يمينه وقبض عليه ودق عنقه في الأرض، وضم الجواد إلى الجواد والماشية، وجر الرجل الأول من الطريق إلى خارج المضيق وجر صاحبه إليه، ورجع إلى مكانه فلم يستقر فإذا هو بصهيل خيل ورعاة إبل وبعار غنم وثلاثة فوارس من وراء تلك الأغنام والإبل والخيل، فتفكر الإمام فيما يحتال به عليهم ساعة حتى خرجوا من المضيق، فأسف الإمام من خروجهم وخاف أن ينبههم قبل أن يفرغ منهم، فتقدم الإمام إلى أحدهم وضربه بالسيف على مراق بطنه (المرق: ما رق من الشىء، تجمع مراق، ومراق البطن: ما رق منه ولان في أسفله) فسقط إلى الأرض نصفين، فالتفت إليه صاحباه، فوثب الإمام عند التفاتهما وضرب أحدهما فجندله(صرعه)، وأراد الثالث فسبقه إلى داخل المضيق وهو صارخ مستغيث بأصحابه ويقول: أدركونى فقد هلك أصحابكم وهلكتم جميعا فاطلبوا لأنفسكم الخلاص، فقالوا بأجمعهم: يا ويلك ما الذى دهاك، فقال يا قوم: إنه بباب المضيق موت نازل وهو لكل من خرج منكم قاتل، فصاح به المغضب وقال: يا ويلك، وسأله عن حاله، فأخبره بما رأى وعاين من أمير المؤمنين، فقال له (الفارس): أيها السيد (المغضب) رأيت من شجات مزعجات لا تكون لبشر قط، ولكنه سماوى الفعال، فصاح به اللعين وقال: لعل أن يكون معه جيش كثير، فقال: يا مولاى ما معه غيره وهو أسعى على إقدامه، إذا وثب جاوز الفرس بالوثبة ويخلع الرأس من الرقبة، فصاح به المغضب، وقال: لا أم لك، لعله يكون من بعض عمار (الجن) هذا المكان، ثم التفت إلى رجلين من قومه عرفوا بالشدة والقوة والمراس، فقال لهما المغضب: انظرا إلى ما يقول الجبان.

فنهضا على أقدامهما وركبا خيولهما وسلا سيوفهما إلى أن قربا من باب المضيق فصرخا: من الطارق لنا في هذا الليل الغاسق؟ من المعترض لنا في سطوتنا؟ فإن كنت من الجن فنحن من مردة الجن، وإن كنت من الإنس فنحن من عتاة الإنس، فمن أنت؟ يا ويلك انطلق قبل أن نرميك بالعطب ونحللك بالويل والغضب، هذا والإمام ساكت لم يرد عليهما جوابا وهما على وجل، والإمام قد لصق بالأرض إلى إن وصلا إليه وحاذياه بفرسيهما، فوثب إليهما كالأسد وقبض بيده على جواد الأول ورفعه من الأرض ثم حذف (رمى) به الجواد الثانى، فوقعت الصدمة على رجلين من الفرسين، فاندق الفرس الثانى واندق صاحبه، وسقط الأول على أم رأسه فأنشج شجة عظيمة من حيث خرج من المضيق صارخا مستغيثا بقومه، فبادروا إليه وقالوا له: ما وراءك؟ قال: ورائى البحر المغرق والموت المفرق، فقالوا: صف لنا ما رأيت؟ قال: فإنى رأيت ما لا يقدر القارئ على وصفه، فقالوا: ما هو لا أم لك؟ فقال: هل رأيتم رجلا يحمل فرسا براكبه؟ قالوا: لا، قال: هذا الرجل حمل فرسا براكبه ثم صدم به الآخر فدق الفرس وراكبه، فلما سمع القوم ذلك ذهلوا وحاروا، وقالوا: كيف يكون ذلك؟ وكيف يتفق أن رجلا يفعل هذا الفعل؟ فقال: ها هو بباب المضيق، فمن أراد أن يعلم الأمر بالتحقيق فهذا بباب المضيق فينظر إلى ما نظرته من التصديق، فلما فرغ من قوله حتى وثب المغضب بنفسه وصاح عليه وضربه بسيفه فقتله، وقال له: قبحتك اللات والعزى، تبا لك ولمن ذكرت، أمن الرجال هذا من لا يخاف سطوتى؟ ثم قال: احتفظوا على أنفسكم حتى أعود إليكم، فقال له قومه: أيها الملك معك أربعة آلاف فارس من صناديد العرب والسادات، وتتقدم أنت بنفسك دونهم ونحن نعلم أن فيك الكفاءة لأهل الأرض في الطول والعرض ولكن نخشى عليك أن يكون هذا من عمار الجان أو من الجن الأشرار فنخاف عليك من طوارقهم، فقال لهم: بحق اللات والعزى لا بد لى من الدنو إليه، فإن كان من الإنس قتلته، وإن كان من الجن أبدته، ثم إنه حزم وسطه وجرد سيفه، وكان عدو الله عظيم الخلقة كبير الجثة شديد الهمة، فتوجه إلى الإمام وهو يبربر كالأسد وينشد ويقول:

أيها الطارق في ليل غسق

وفاتكا فينا بسر قد سبق

إنى أنا المغضب واسمى قد سبق

اقطع الهامات في يوم الفرق

(قال الراوى) فلما سمع الإمام قول المغضب علم أنه كبير القوم ورئيسهم فقال: هذا والله بغيتى ومرادى، اللهم سهل ساعته، قال: وأقبل عدو الله منفردا بنفسه حتى وصل إلى المضيق، فنظر إلى القتلى وهم مجندلون فتحقق الأمر وارتعدت أوصاله وقال: وحق اللات والعزى لقد صدق صاحبنا فيما قال، وإنما ظلمناه بقتلنا إياه، ثم إنه وقف بباب المضيق وهو ذاهل العقل، وقد سمعه الإمام رضى الله عنه تعالى عنه وهو يقول: وحق اللات والعزى ما فعل هذه الفعال أحد الأمم السابقة، ولا قوم عاد وثمود، ولا يقدر على ذلك إلا الغلام الذى يقال له على بن أبى طالب، فلما سمع الإمام مقالته تقدم إليه وهو على مهل فلما دنا منه ووصل إليه، نظره عدو الله فتحير، فبينما هو كذلك إذ وثب إليه الإمام وهجم عليه ولوح بحسامه (سيفه) وقال: ويل لك ولآبائك وأجدادك أبا المنعوت بهذه الفعال، أنا مبدى العجائب، أنا مظهر الغرائب، أنا البحر الساكب، أنا على بن أبى طالب.

بداية المعركة

حروب الهضام والمغضب

صاح الإمام على في الملك المغضب: أنا مبدى العجائب.. أنا مظهر الغرائب..أنا على بن أبى طالب

وصول الإمام لوادي الظل حاملاتً رأس الملك المغضب

الإمام يصل وادى الظل وهو يحمل رأس الملك المغضب في يد وفى الأخرى يجر الماشية المسروقة:


إلى وادى الظل عاد الإمام على بعد أن قتل الملك المغضب وبعض فرسانه الذين قاوموه والذين رفضوا الدخول في الإسلام، وقد كان الإمام ذهب للمغضب ومعه 4 آلاف فارس إلى واد يبعد فرسخين عن وادى الظل، وهناك واجههم بمفرده وقتل من قتل، ثم عرض عليهم الدخول في الإسلام، وخيّرهم بين أن يعلنوا الشهادة أو يقتلهم، واستجاب ألف فارس وأعلنوا إسلامهم ورفض سبعمئة فارس فقتلهم من أسلموا، بعد ذلك طلب ممن أسلموا خمسة رجال يساعدونه في حمل الغنائم، وكانت ما سرقه المغضب وفرسانه من الرعاة، فتقدم له خمسة من الفوارس الشجعان وحملوا معه الغنائم ونزلوا على وادى الظل، وقابل هناك الرعاة الذين سبق وتركهم لقتل المغضب، وعندما شاهدوه ومعه بعض فرسان الملك المغضب اصفرت وجوههم وخافوا من على بن أبى طالب أن يقتلهم، فطمأنهم وحكى الفرسان الذين اصطحبهم ما جرى من بطولات الإمام، وكيف قتل الملك المغضب، وتحولت وجوههم من الاصفرار والغم إلى الاحمرار والفرح، خصوصا بعد أن شاهدوا معه ومع الفرسان ما سرق منهم من ماشية، وأقبلوا على الإمام ودار بينهم هذا الحوار:

«قال الراوى» فتبسم الإمام رضى الله عنه ضاحكا من قولهم وقال: إنى لا أستعين إلا بالله وبالمؤمنين، قالوا له: يا مولانا نفديك بالآباء والأمهات أخبرنا عما هى كلمة الإيمان؟ قال: هى كلمة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان وهى أن تقولوا معى بأجمعكم: لا الله إلا الله محمد رسول الله، قال جنبل بن ركيع: أما أنا فأقولها غير متأخر عنها، لما قد ظهر لى من الآيات والبراهين، لولا أن لك إلها واحدا عظيما وهو على كل شىء قدير، ما وصلت إلى ما وصلت، وأنا يا مولانا أشهد أن لا الله إلا الله، وأن ابن عمك محمدا رسول الله، فلما نظر أصحابه إلى إسلامه وأسلموا جميعا وحسن إسلامهم، كانوا واحدا وأربعين رجلا رعاة، ففرح الإمام بهم وبإسلامهم وقال لهم: يا قوم لا يصح إسلامكم إلا بكف قناع الحق وبذل السيف في أصحابكم فقالوا: والله يا سيدنا لو أمرتنا أن نقتل آباءنا وأولادنا في رضاء الله ورسوله ورضاك لفعلنا ذلك، فشكرهم الإمام ودعا لهم وقال: يا قوم هل عند أهل الحصن علم بأخذ سائقتكم «ما يساق وهى الأغنام والماشية»؟ قالوا: نعم وقد سبق الخبر من حصن إلى حصن حتى انتهى إلى الملك الهضام فأرسل لنا هجانين «مفردها هجان، وهو راكب الجمل» وواعدنا بالعذاب وبعده القتال، وقد اغتاظ غيظا ومع ذلك فهو من بقية التبابعة، وأن الملك المنتقم من جماعته وأن له جثة لم يحمله إلا الخيل العتاق، وقد جعله في أول حصن من الحصون، لأن الملك الهضام يخاف من مكره، فلذلك أبعده وجعله في أول حصونه، فلما سمع الإمام منهم ذلك الكلام تبسم ضاحكا، وقال لهم: إذا أرجعتم سائقتكم هذه إلى حصنكم ووصلتم إلى صاحبكم، فلا تكشفوا له عن خبرى ولا عن اسمى، فعسى أن يخرج إلىّ وأن يقضى الله ما هو قاض، فقال جنبل: يا سيدى إن خرج معه قومه وأصحابه وجميع عشائرهم وهم فرسان في القتال ونخاف أن يحول بينك وبينه حائل فتلومنا على ذلك، فقال لهم الإمام: إن الله فعال لما يريد، فإذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، ثم أقام القوم بقية يومهم إلى أن دخل المساء فرجعوا بالسائقة «الماشية» إلى حصنهم، وكان أهلهم قد قطعوا الرجاء من مواشيهم، فلما رأوا الرعاة قد أتوا بالسائقة إلى حصنهم تباشروا ووقع الصياح في جميع جهات الحصن بأن: السائقة رجعت، فجاء القوم ولم يعلموا ما كان السبب في ذلك، فلما سمع القوم المنتقم بذكر الخبر، وكان المنتقم في هذا الوقت متكئا فاستوى جالسا، وقال: يا ويلكم ما هذا الأمر العجيب؟ فقالوا: إنه بلغنا عن الرعاة: إنه لما غار عليهم المغضب وأخذ المال وساقه ومضى به، كان عندهم رجل غريب عابر سبيل، فما زال في أثر القوم حتى دخلوا المضيق، فسد عليهم باب المضيق وما زال يقتل منهم واحدا بعد واحد، حتى خرج إليه المغضب بنفسه فقتله وحز رأسه وجاء بها معه، وأتى بالمال العظيم معه وقتل منهم خلقا كثيرا، وأتى بسائقتنا سالمة ودفعها إلى الرعاة بأجمعها.

فلما سمع المنتقم هذا الكلام قهقه بالضحك الشديد حتى كاد يقع على قفاه، وقال: كذبوا وحق اللات والعزى وحق الإله المنيع، ولا أظن إلا أنهم هموا بأخذ السائقة فسد عليهم الطريق الإله المنيع، فلم يجدوا لهم منفذا ينفذون منه فرجعوا إلينا بهذه الحيلة، ثم أمر بإحضار الرعاة فأحضروهم بين يديه، وقال لهم: بأى حيلة أردتم أخذ السائقة لأنفسكم وضربتم عنا الحيلة، وحق المنيع إن لم تخبرونى وتصدقونى إلا قتلتكم جميعا. «قال الراوى» فعند ذلك نظر بعضهم إلى بعض وتطاولوا «مدوا عنقهم ونظروا» إلى جنبل بن ركيع لأنه كان سريع الجواب، فقال: اعلم أيها السيد العظيم أن من قطعت أنامله سرى الألم في جسده جميعه، ومن حاد عن طريق الحق وقع في المضيق، وما كنا نخرج من بلادنا ونترك أولادنا وإلهنا المنيع الذى يحفظنا وإذا سألناه أعطانا، ونترك ما صفاه من العيش ونتعرض للمنيع فيرمينا في المهالك والدواهى «النوائب والكوارث مفردها: داهية» ويحرقنا بناره وليعلم إلهنا المنيع حقيقة أمرنا والخافى في سرنا فلا تكذبنا أيها السيد في قولنا، فإن الذى طرقنا هو من عطفات المغضب الذى كان يطرقكم كل عام فلا بقيتم ترون له غرة أبدا ما دام الجديدان وبقى الزمان فقد قتله وقتل معه خلقا كثيرا من قومه، فقال: يا ويلكم ومن فعل بهم هذا الفعال؟ ومن ذا الذى قدر عليهم؟ قال: فعل بهم رجل غريب من العرب وأنا أصفه لك كأنك تراه: هو غلام بطين تجلس الوحوش حواليه للمباشرة «الملامسة» وحسن منظره ومنطقه بالصواب، ويقلع الشجرة الراسخة الأزلية.

«قال الراوى» فلما سمع المنتقم وصف جنبل بن ركيع، عظُم ذلك عليه لما وصفه من شجاعة الإمام رضى الله عنه، ثم قال المنتقم: ويحك يا جنبل وأين يكون هذا الغلام؟ قال قريب من بلادنا، فلما سمع ذلك المنتقم صرخ في قومه وعشيرته، فاجتمع إليه القوم وحضروا بين يديه، فقال: يا قوم إن هذا الرجل الذى رد سائقتكم وقتل عدوكم قد انتهى، فقالوا: السمع والطاعة يا أيها السيد نحن لكلامك مطيعون، ثم توعدوا بالخروج إليه في الغد، وكانت تلك الليلة التى قدم فيها الرجال من عند أمير المؤمنين، فلما برق ضياء الفجر وفتح باب الحصن خرجت الرجال، فلما تكامل القوم خرج خلفهم المنتقم، وهو مشتهر بلبس الأحمر والأصفر فركب جوادا من عناق الخيل، وقد لبس أفخر ما عنده من لامة حربه وخرج من حصنه بجميع قومه، وسار المنتقم أمام قومه وهو يرتجز وينشد:

ليس الهجوم على الرجال بعزة

يدعى شجاعا مهلكا بمناجل

بطل شجاع نازل بفنائنا

أوفى العدة نائل أو نازل

سيروا بنا نلق الغلام بجمعنا

لنراه حقا مثل قول القائل

«قال الراوى» فعندما نظر جنبل إلى ما عزم القوم قال: يا قوم إنى أريد أن أسبق قبل القوم إلى الإمام رضى الله تعالى عنه فأخبره بذلك، ثم سار جنبل وقد حاد عن الطريق وسار في بعض الشعاب إلى أن وصل إلى الإمام فسلم عليه فرد عليه السلام وقال له الإمام: ما وراؤك يا جنبل؟ فقال سيدى حفظك الله وأنعم عليك انظر إلى أمامك وقد أتاك المنتقم بجميع قومه، فقال الإمام: إنه غنيمتى ورب الكعبة، ولكنه قد عظم عليك ما رأيت من الجيوش يا جنبل، والذى بعث ابن عمى رسولا وبالحق بشيرا ونذيرا، لو خرج إلىّ ملككم بجميع جيوشه لكنت ألقاه بمفردى، فقال جنبل: يا سيدى إن الهضام إذا ركب يركب معه خمسمئة ألف عنان سوابك في النزال من قومه خاصة، غير ما يتبعهم من الرقيق والغلمان والعبيد فكيف تلقاه ومعه هذا الجميع كله؟ فقال له الإمام: والذى بعث ابن عمى بالحق بشيرا ونذيرا، إنه إذا برز إلى الهضام أتلقاه وحدى ولو يكن معه جميع من في الأرض من الطول والعرض، فإن ثقتى بربى جل وعز فقل وأوجز، فقال: سيدى المنتقم لم يترك في الحصن رجل يرجى، بل خرج بهم إليك والمنتقم بعد يمثلهم، فانظر ماذا ترى وما تأمرنى به أنا وأصحابى فإنا لكلامك سامعون، فلما سمع الإمام ذلك جازاه خيرا، ثم قال له: بل الذى أمركم به أيسر مما ذكرت وأقرب مما إليه أشرت، فقال جنبل: ما الذى تأمرنى به؟ قال الإمام رضى الله عنه: يا جنبل خذ أصحابك الذين أسلموا معك «ألف فارس من فرسان الملك المغضب، وقد أشهروا إسلامهم في موقعة بين الجبلين» وادخلوا الحصن وأغلقوا الأبواب وأوثقوها من داخل، ولا تدعوا أحدا يدخل عليكم وأنكروا أمركم واتركونى أنا وهذا الجيش، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، ينصر الله من يشاء وهو على كل شىء قدير، فلما سمع جنبل ذلك من الإمام التجم عن الخطاب، فقال: يا سيدى نخاف أن يسمع بذلك الملك الهضام فيأتينا بجيوشه، فقال له الإمام: يا جنبل إن لك نفسا وأجلا مقسوما، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

«قال الراوى» فلما سمع جنبل من قول الإمام رضى الله تعالى عنه قال: إن كان الأمر كما ذكر فوالله لأمتثلن لما أمرتنى به، ثم قال جنبل لأتباعه: إن كنتم آمنتم بالله ورسوله واتبعتم وليه فأطيعوه واسمعوا قوله ولا تبالوا من الموت إذا نزل، فلما سمعوا ذلك تباشروا بما بشرهم به جنبل من قول الإمام من الخلود في جنات النعيم، وهانت عليهم أرواحهم في مرضات ربهم، وقالوا: يا جنبل ما الذى تريد أن تصنع؟ فقال جنبل ادخلوا الحصن على بركة الله ورسوله وأغلقوا بابه وأوثقوه وتحصنوا فيه، ولو دهمكم الملك الهضام بجيوشه وعساكره ما وصل إليكم لأنه حصن منيع كثير الطعام والماء، فإن طال بكم الحصار لم تنالوا منه، وإن حدث في هذا الغلام حادث فإن ابن عمه محمد صلى الله عليه وسلم.

«قال الراوى» فلما سمعوا مقالة جنبل وثبوا إليه، وقالوا له: أنت علينا مشير فسر بنا على ما تحب وتختار، ثم إن جنبلا أخذهم وتقدم بهم إلى الحصن، فلما وصلوا إلى باب الحصن وجدوا عليه جمعا كثيرا من النساء ينظرون أزواجهن وأولادهن وملكهم المنتقم، فلما وصل جنبل وأصحابه إليهن جعلوا يفسحوهن عن الباب لداخل الحصن، فاستحيت النساء من ذلك وقالت: يا ويلكم من عبيد ما أقل أدبكم، وما الذى نزل بكم حتى تفعلوا ذلك؟ فقالوا: يا ويلكن ألم تعلمن أن هذا الغلام الذى نزل بكن ودهمكن في أزواجكن وأولادكن هو العذاب الواقع والسم الناقع «القاتل» ابن عم الرسول أمير المؤمنين على بن أبى طالب، قد أتى إليكم بجيش وقد كمنوا في الشعاب، وقد نزل إلى سيدكم المنتقم بجيشه، وقد أمرنا بحفظ الحصن وما فيه والحماية عنه، فمن كان عندها سلاح فلتأتنا به، واجمعوا الجنادل «الصخر» والأحجار «قال الراوى» فلما سمع النساء ذلك بادرن إلى أماكنهن وأتين بجميع الأسلحة، ثم أقبل جنبل على أصحابه وقال: يا قوم إنى أخاف أن يضرب الشيوخ علينا الحيلة ويمكروا بنا، فقال أصحابه: وما الذى ترى؟ قال: الرأى عندى أن تمضوا إليهم وتقتلوهم فلا حاجة لنا بهم.

«قال الراوى» فمضى العبيد وقتلوا الشيوخ عن آخرهم، قال: فلما رأت النساء ذلك تصارخن، فقال جنبل لأصحابه: أوثقوهن كتافا واطرحوهن في بعض زوايا الحصن، ففعلوا وطابت خواطرهم ووقفوا على أعلى السور وأشهروا سيوفهم ونصبوا الأعلام وفرقهم جنبل في جوانب الحصن، فهذا ما كان من أمر جنبل وقومه، وأما ما كان من خبر عدو الله المنتقم فإنه قد سار بقومه حتى أشرف على أمير المؤمنين، الذى لم يكبر عليه عظم كثرتهم، بل إنه أظهر ميله إلى الحرب، وكان على شاطئ النهر مما يلى حصنهم وديارهم، فوثب قبل وصولهم إليه وثبة عبر بها إلى الجانب الآخر، وأقبل إلى الجسر وتأمله فإذا هو من الخشب مركب على أعمدة، فضرب بيده على ما يليه من الأخشاب فقلعها من موضعها وأزالها من مكانها، وكان عليه كثير من التراب فانهال جميع ذلك في النهر وذهب به الماء، وانقطع الجسر وعاد الإمام مكانه وصار متكئا على جحفته غير مكترث، ولم يزل الإمام جالسا مكانه إذ أشرف عليه القوم وما زالوا سائرين إلى أن وصلوا إليه فنظروا إلى النهر فرأوه وقد قطعه الإمام وحده فعظم عليهم ذلك وتعجبوا منه، وقالوا: وحق زجرات المنيع ما يفعل هذا رجل واحد، ثم أنشد يقول:

يا أيها الرجل الجميل فعاله

نعم المعارك قد فعلت صنيعا

لك عندنا مال وأحمال جزا

أنى لأمرك في الأمور مطيعا

«قال الراوى» فمضى العبيد وقتلوا الشيوخ عن آخرهم

قد أتاك المنتقم

الملك المنتقم

قتل الشيوخ وربط النساء


الملك المنتقم

ارتعدت فرائص «المنتقم» وقال لقومه: يا ويلكم أدركونى من قبل أن تفقدونى من بينكم.. فهذا الغلام الذى خرجت بكم إليه هو على بن أبى طالب

الملك المنتقم عندما حكى له عبيده عن مقتل الملك المغضب و4 آلاف فارس من أحد الرجال العرب، ثارت ثائرته وجمع فرسانه وقرر الذهاب إلى البحث عن هذا الرجل وقتله والتمثيل بجثته، وبالفعل جمع فرسانه في الحلقة الماضية وترك الحصن ذاهبا لملاقاة الرجل العربى قاتل الملك المغضب وفرسانه.

جندل بن ركيع أحد عبيده الذين التقوا الإمام على بن أبى طالب في وادى الظل بعد عودته من قتل المغضب، قرر أن ينزل من الحصن ويذهب إلى الإمام على يحذره من الملك المنتقم وجيشه الجرار، وقبل أن يصل الملك المنتقم قابل جندل بن ركيع الإمام على وحذره من الملك وجيشه، وأمره الإمام أن يقدموا له خدمة بسيطة وهى أن يغلقوا أبواب الحصن لكى يمنعوا الملك المنتقم وجيشه من العودة والاختباء في الحصن، وبالفعل عاد جندل وقام هو وزملاؤه الذين أشهروا إسلامهم على يد الإمام بالاحتيال على نساء الفرسان وأخذ الأسلحة من دورهم تحت دعوة الدفاع عنهم في حالة وصول جنود الفارس العربى إلى الحصن، وقاموا بقتل جميع الشيوخ في الحصن خوفا من مكرهم، ثم قاموا بتقييد النساء وأغلقوا أبواب الحصن جيدا ووقفوا على أسوار الحصن وهم يشهرون سيوفهم في انتظار المرتد من جيش الملك المنتقم لكى يقتلوه، أما الملك المنتقم فقد وصل في الحلقة الماضية إلى النهر، وقبل أن يمر على الجسر إلى الضفة الأخرى كان الإمام على بن أبى طالب قد قام بهدم الجسر، ثم قفز وطار وعبر النهر إلى الضفة التى يقف فيها الملك المنتقم ثم:

«قال الراوى» فلما سمعه الإمام بادر بالغضب ووثب وثبة الأسد وتجرد من أطماره «ملابسه البالية» ثم جرد سيفه وأخذ جحفته «القربة: ما يجتحف به الماء» وعدو الله باهت لا يدرى ما هو عازم عليه، ثم تقدم الإمام إلى شاطئ النهر بوثبة واحدة واجتمع وانفرد من الأرض فعدا النهر بوثبة وهجم على عدو الله وقال له: أنت عدوى وأنا عدوك، وأنت طلبى وأنا طلبتك يا ويلك أفق من رقدتك، أنا العذاب الواقع أنا الأسد الزؤور والوحش الجسور وزوج البتول وابن عم الرسول، ممزق الكتائب ومظهر العجائب ليث بنى غالب على ابن أبى طالب.

«قال الراوى» فمال إليه الفرسان من كل جانب ومكان، ولما سمع المنتقم مقالته وعلم أنه على بن أبى طالب ارتعدت فرائصه وصرخ بصوت قوى وقال لقومه: يا ويلكم أدركونى من قبل أن تفقدونى من بينكم، فهذا الغلام الذى خرجت بكم إليه وقدمت بكم عليه هو على بن أبى طالب، فمالت الفرسان ووثب إليه الإمام وضربة ضربة بسيفه عرضا فرمى عدو الله بنفسه إلى الأرض ونادى: يا ابن أبى طالب ليس العجلة من شأنك، فرمى الإمام السيف عنه وقال: يا عدو الله وعدو نفسك قل ما أنت قائله، فعند ذلك حمل عليه القوم حملة واحدة قوية وهجموا بكثرتهم ودهموا بجمعهم، ثم قام عدو الله وحمل على الإمام وقد قوى عليه قلبه وشد عزمه بإنجاد قومه له وقال: يا ابن أبى طالب هذا ما جنيته لنفسك وإن لم ترد سائقتنا «الماشية» إكراما منك إلينا بل أردت الخديعة والدخول حصننا والذى أملته بعيد يا ابن أبى طالب يا عدو المنيع وعدو الآلهة العظام، فما بقى محمد ابن عمك ينظر إلى طلعتك، فإن الحياة عادت حراما عليك بعد هذا اليوم، فقال الإمام: كذبت يا ملعون ولا أزول عنكم حتى أذيقكم كأس الموت والحمام «قضاء الموت وقدره» وأنا الأسد الضرغام والبطل المقدام ممزق الكتائب ومظهر العجائب ليث بنى غالب على بن أبى طالب، فلما سمع المنتقم ذلك ثار من الغيظ وقال لقومه: احملوا عليه بكثرتكم وميلوا عليه بكليتكم، ثم صرخ جديعة بن كثير «شخصية وهمية» وكان غلاما كثير الجسارة وفارسا مشهورا، فحمل عليه الإمام ولم يمهله حتى ضربه عرضا فرمى رأسه مع رقبته، فلما نظر القوم ذلك حاروا ودهشوا من فعاله وهابوا أن يتقدموا إلى ورائهم وهم ينادون إلى أين يا ابن أبى طالب لنذيقك اليوم المعاطب؟ وظنوا أنهم قادرون على الإمام. «قال الراوى» فصرخ فيهم الإمام صرخة الغيظ المشهورة في القتال، ثم حمل فيهم وصاح: إلىّ يا أولاد اللئام وحق رب الكعبة لا أزول عنكم حتى أبدد «أفرق» شملكم، ثم حمل عليهم الإمام ووضع درقته «ترسه» في صدر القوم، وأنشد يقول:

أنا الخطاب والجزار ادعى

أمير المؤمنين فهل معانى

أنا قرم «سيد أو فحل» الهياج الهاشمى

هدمت لخيبر بدء الزمان

أفيض على الأرامل بالعطايا

وأكرم جيرتى في كل آن

وهل نار الحروب سوى على

فدونكم ترونى بالعيان

«قال الراوى» فلما سمعوا ذلك نظر بعضهم إلى بعض والمنتقم مطرق لكلام الإمام كإطراق الحصان لصلصلة «صوت» اللجام، فعند ذلك أقبل عليه قومه وقالوا له: أيها السيد ما الذى تأمرنا به؟ قال لهم: هل تتبعونى؟ قلوبكم مملوءة من الحزن والوجل شقيتم من قوم تتبعون الشعار وقد جللكم، فما تم كلامه حتى برز إلى الإمام من القوم غلام رشيق وبيده عتيق وهو على مضمر من الخيل العتاق «الأصيل»، فتقدم إلى المنتقم وقال: أيها السيد وحق المنيع لآتيك برأسه سريع، فقال المنتقم: ابرز إليه فلك كل المكارم، فلما خرج الغلام من بين القوم، قال الإمام: ظهر لى شجاعته فأحببت أن يكون مثله لله ورسوله، فناديته: يا غلام أرى سيدك قدمك للمهالك فارجع فإنى لك ناصح، فلما سمع الغلام كلام الإمام تبسم ضاحكا وقال: أنا ما انزعج إلا من نار المنيع، فقال: فعطف عليه الإمام وضربه عرضا على صدره فخرج السيف من ظهره فسقط أبو الهراش.

المنتقم يواجه الإمام

«قال الراوى» فلما نظر المنتقم ذلك مشى إلى الإمام وله جسم كالبعير ونادى برفيع صوته: يا ابن أبى طالب إن البغى مسرعة الرجال وسهام الأبطال، ومن زها بنفسه وعجب بشجاعته أورده ذلك موارد العطب، ومن سل سيفه ظلما قتل به رغما، «قال الراوى» ثم إن الإمام حمل على عدو الله وحمل الآخر كذلك وتقارنا وتحاربا، وشهد القوم منهم مشهدا عظيما ما روى الرواة مثله، قال الإمام: فوجدت عدو الله صبورا على الضرب جسورا على الطلب، ثم إن الإمام جمع نفسه وقد كثر بينهم العراك والقلق، وقد احمرت الحق، فعلم الإمام من عدو الله التقصير وقد أشرف على الهلاك فنادى ابن أبى طالب وقال للمنتقم: أرفق قليلا أرفق قليلا حتى أخاطبك بكلام لك فيه المصلحة، فتأخر عنه الإمام وقد طمع في إسلامه، وقال في نفسه: والله اشتهيت أن يكون مثل هذا الأسد الأروع في الإسلام ثم تأخر عنه وقال له: قل ما تشاء، فقال: يا ابن أبى طالب، أنا قد أرحمك لحسن فعالك، ورأيت أن أعفو عنك وأطلق لك السبيل لأنى علمت أنك قد أشرفت على الهلاك، فأنا أبعث إليك بفرس ومطية وأزودك الماء والزاد، وأهب لك من الأموال ما يكفيك وترجع إلى ابن عمك سالما غانما، وأنا أشهد لك بين القبائل والعربان بالشجاعة والبراعة، ثم حمل الإمام مع كلامه وقال: يا ويلك اشر لنفسك وأهلك وأولادك وجميع قومك أن يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم حمل الإمام وطلب إنجاز الوعد، فنظر عدو الله إلى الإمام، وقد عزم على قتله وصمم بعد أن ارتعدت فرائصه وصار يرتعد كالسعفة في الريح البارد فنادى وقال: يا ابن أبى طالب الصدق أوفى سبيل، فبالله أبقنى فإن لى في القوم مالا وأهلا وأولادا، فإن ملت إليك يقطعوا بينى وبين أهلى وأولادى وجميع مالى، فخلِّ سبيلى حتى أخاطب قومى فإن أجابوا إلى ما أريد كان الرأى الحسن، وإن خالفونى دبرت أمرى وخالفتهم وفارقتهم، فقال له الإمام: افعل ما بدا لك وأنت بين الجنة والنار فامض إلى أيهما شئت، وطمع الإمام في إسلامه فخلى سبيله، فرجع المنتقم إلى قومه وقد تضعضعت «تهدمت» أركانه وخمدت نيرانه، فقالوا له: أيها السيد الكريم ما فعلت بهذا الغلام؟ فقال المنتقم: وسطوة المنيع لقد نازلت الأبطال فما رأيت غلاما أصبر من هذا على القتال، فما الرأى في أمره وما تفعلون؟ فقالوا: نحن معك فالذى ترضاه لنفسك رضيناه لنا والذى تأمرنا به فعلناه، فقال يا قوم: إن هذا الغلام يريد منا أن نرفض عبادة المنيع الإله الرفيع ونعبد إلهه، ونشهد لابن عمه بالنبوة ونكون معيرة العرب في المحافل، قالوا: وما نرى جوابنا إلا أننا نمهله بقية يومنا هذا إلى أن ينسبل الظلام فنسير إلى حصننا ونتحصن فيه من داخله، ونوفق أقفاله فلا يستطيع الوصول إلينا، ونرسل رسولا إلى الملك الهضام فيأتينا بجنوده وعساكره، وأهل كل حصن يمدوننا بالنصر على عدونا فقالوا جميعا: أفلح الله رايتك أيها السيد، هذا هو الرأى السديد فاتفق رأيهم على ذلك ثم قالوا: دبر هذا الأمر بعقلك إنه لا يصلح إلا لمبارزة كسرى وقيصر.

الهروب إلى الحصن

«قال الراوى» فلما اختلط الظلام نظر الإمام إلى جهة القوم، وإذا هو برجل خارج من جيش المنتقم مسرعا إلى جهة الحصن فظن أنه رسول فلصق بطنه وتأمل، فإذا هو بآخر قد خرج من ورائه وآخر في أثره، وهم ينسلون واحدا بعد واحد هربا إلى الحصن، فلما رأى ذلك الإمام علم أنهم عزموا على الهروب إلى الحصن، فأخذ سيفه وجحفته وجعل يزحف على بطنه كالحية على وجه الأرض إلى أن وصل إلى جانب النهر، وجمع نفسه ووثب فعدى النهر، ولم يعدل عليهم بل عدل عنهم، وأسرع إلى جهة الحصن يريد الوصول إليه قبل أن يصل إليه أحد منهم، فما زال الإمام يسرع في سيره فلم يكن إلا أقل من ساعة حتى وصل إلى الحصن ولم يصل إليه أحد قبله، فنظر إلى أعلاه فرأى العبيد على أعلى السور، وقد رفضوا الرقاد «النوم» وأداموا على السهر بكليتهم، وقد خلعوا العذار «جانب من اللحية» في مرضاة الملك الجبار، فلما نظر أسرع جماعة منهم وهموا أن يرموه بالأحجار، فنادى الإمام: لا ترموا بأحجار وافتحوا إلى الباب شكر الله سعيكم وأمنكم من عدوكم، فعرف القوم صوته ففتحوا له الباب وفرحوا به فرحا شديدا، وكانوا قد آيسوا «يئسوا» منه، وقالوا: يا سيدنا أقلقتنا بإبطائك وكثر خوفنا عليك، ونوينا على القتال إلى أن نقتل عن آخرنا في مرضاة ربنا، فجزاهم الإمام خيرا، ثم قالوا: فما كان خبرك حتى أبطأت علينا؟ فقال: ما يكون إلا الخير والسلامة وفى هذه الليلة يظهر لكم إن شاء الله تعالى تمام الكرامة، ثم قال لهم الإمام: اخرجوا بأجمعكم خارج الباب، ولا تمنعوا أحدا من الدخول، وأنا أبلغكم منهم المأمول، فقال جنبل بن ركيع: يا سيدى وما الذى عزمت عليه؟ قال: أن أضرب رقابهم، فذهل القوم من كلام الإمام وخرجوا بأجمعهم إلى خارج الحصن، فلم تكن إلا ساعة وإذا بالقوم مقبلين وفى أوائلهم ذؤيب بن ياسر الباهلى «شخصية وهمية»، فقال له جنبل ما وراءك يا ذؤيب؟ فقال: لا تسألنى عن الموت الفاصل، ثم هم ودخل في الحصن والإمام يسمع كلامه ثم ضربه ضربة قسمه نصفين ثم سكت وأخفى حسه، فبينما هو كذلك إذ دخل آخر فقاربه الإمام وضربه ففلق رأسه عن جسمه.

الموت الفاصل

«قال الراوى» فبينما هو كذلك إذ دخل آخر فقاربه الإمام وضربه فأزال رأسه عن جثته، وإذا بضجة عظيمة فتأملهم، وإذا هو بعدو الله المنتقم راكبا على بعيره وحوله غلمانه وشجعانه، وقد أحاطوا به من كل جانب، فلما وصلوا إلى باب الحصن أناخوا البعير «يقال للجمل والناقة بعير، ج: أباعر وأباعير وبعران» ثم حملوا عدو الله وأنزلوه، فتقدم إلى باب الحصن يريد الدخول فوقف والتفت إلى أصحابه، وقال لهم: يا ويلكم الزموا باب حصنكم إلى أن تتكامل أصحابكم وادخلوا الحصن وأغلقوا بابه وتحصنوا، ثم إن عدو الله تركهم على الباب ودخل الحصن ومعه رجل من جماهير قومه، فرفع جنبل صوته يسمع الإمام وقال: يا مولاى يبلغك الإله مأمول وأعطاك سؤالك، لقد أبردت بعقلك قلبى وسررت خاطرى، فعند ذلك فهم الإمام إشارة جنبل، وكان للحصن بابان من داخل بعضهما، فوقف الإمام رضى الله عنه عند الباب الثانى، وأخذ سيفه وجحفته ثم أقبل على عدو الله المنتقم وحواليه السيوف مسلولة، وهو في وسط القوم كعلو الفارس على الراجل، فلما وصل إلى الإمام وثب عليهم وصاح صيحته المعروفة الهاشمية، وقال: إلى أين يا لئام؟ إلى أين المفر من ابن عم خير البشر؟ فلما سمع القوم ذلك ولوا هاربين يمينا وشمالا، وصار عدو الله وحده واقفا باهتا لا يدرى ما يصنع فنادى: يا ابن أبى طالب أحسن إلىّ وأبق بكرمك علىّ، فقال الإمام: أتخدعنى يا عدو الله، والله إن لم تقر لله بالوحدانية ولمحمد ابن عمى بالرسالة لأقتلنك أشر قتلة، فقال له: يا ابن أبى طالب بحق ابن عمك محمد إلا أبقيت علىّ، فعند ذلك أخذ الإمام عمامته بعد أن ألقاه على الأرض وكبه على وجهه وأوثق كتافه وجمع يديه إلى رجليه وتركه لا يستطيع أن يتحرك وعمد إلى القوم، فقال لهم: قولوا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقالوا بأجمعهم: نشهد أن لا إله إلا الله، وأن ابن عمك محمدا رسول الله، فقال لهم الإمام رضى الله عنه: ما يتحقق عندى إسلامكم فقالوا له: يا ابن عم رسول الله هذا حقيقة إسلامنا، قال: نعم. «قال الراوى» فعند ذلك جردوا سيوفهم وعمدوا مع الإمام إلى الباب الذين هم داخله، ففتحوه فوجدوا القوم قد دخلوا كلهم من الباب الأول، واجتمعوا عند ذلك الباب الذى من داخله أمير المؤمنين فخرجوا لهم وحطوا السيف فيهم.

عبيد الملك المنتقم خيَّروا جنوده بين الإسلام أو الموت على باب الحصن

بدأت السيرة باستغاثة الجنى المسلم عرفطة بن شماخ بالنبى محمد عليه الصلاة والسلام، من جبروت ملك الجن الكافر الهضام بن الحجاف الذى صنع من الحجر إلها سماه المنيع، وجعل له نارا وجنة لهما زبانية وحور عين، يدخل النار الذى يعصاه والجنة من يرضى عنه، وطلب من الرسول أن يرسل له الإمام على بن أبى طالب، لأنه -على حد قوله- هو الوحيد القادر على محاربة الجن والعفاريت والانتصار عليهم، ويستشير الرسول الصحابة وخلال استشارته لهم ينزل جبريل ويخبر الرسول باختيار الله عز وجل الإمام على لمحاربة الملك الهضام، ويتم تكليف على ويخرج بمفرده للمهمة.

وفى الطريق إلى اليمن وهو المكان الذى يعيش بقربه الملك الهضام، يتبعه أحد المنافقين بهدف انتهاز فرصة وقتله، ويمر الإمام بوقائع تشبه قصة الخضر وموسى المذكورة في القرآن، فيقتل رجلا يقدم للمارة الماء والطعام المسموم، ويقتل رجلا يقدم زوجته للمارة، ثم يقتل المنافق الذى طلب مصاحبته في رحلته بعد أن فسر له سبب قتله كل هؤلاء، بعد ذلك يصل الإمام إلى وادى القمر في اليمن، ومن هناك يبدأ حروبه ليس مع الجان بل مع ملوك من بنى الإنسان يتبعون ملك الجان، أولى هذه المعارك مع الملك المغضب، حيث يحصره هو وجيشه الذى يصل تعداده أربعة آلاف فارس بين جبلين ويقتل المغضب وينتصر على الجيش، وتنتهى المعركة بإعلان ألف فارس منهم إسلامهم، بعدها جمع الغنائم وحملها معه خمسة من الفرسان وعاد بها إلى وادى الظل، وفى وادى الظل تبدأ معركته البشرية الثانية، حيث يسمع الملك المنتقم، وهو أحد الملوك البشريين التابعين لملك الجان الكافر، بخبر مقتل الملك المغضب بين فرسانه في موقعة بين الجبلين، فيثور جدا ويقرر الانتقام له، فسأل عن القاتل، قالوا له: أحد الفرسان من العرب، فجمع جيشه وذهب بنفسه لملاقاة هذا القاتل لقتله، أحد عبيده واسمه جندل بن ركيع سبق أن أشهر إسلامه، عندما علم بنية الملك المنتقم أسرع إلى الإمام على ليخبره، فطلب منه الإمام أن يقدم له خدمه صغيرة وهى إغلاق أبواب الحصن من الداخل بعد خروج المنتقم وجيشه وعدم تمكينه من العودة للحصن مرة أخرى، وبالفعل تم ما أمره به، بل إنه والعبيد زملاءه قاموا بقتل الرجال الشيوخ في الحصن، كما قاموا بتقييد نساء الملك وفرسانه بالحبال، الإمام على قابل المنتقم وفرسانه وقتل بعضهم وكاد أن يقتل المنتقم، وعندما دخل الليل اكتشف أن المنتقم وفرسانه بدؤوا في الهروب والعودة إلى الحصن للاحتماء فيه، فسبقهم إلى الحصن ووقف على الباب ينتظرهم، وفوجئ المنتقم به وحاولوا التسلل إلى داخل الحصن تحت ظلام الليل، فوقف العبيد مع الإمام لهم بالسيوف، اليوم نبدأ مع الراوى أول محاولة لدخول الحصن:

(قال الراوى) فعند ذلك جردوا سيوفهم وعمدوا مع الإمام إلى الباب الذين هم داخله، ففتحوه فوجدوا القوم قد دخلوا كلهم من الباب الأول، واجتمعوا عند ذلك الباب الذى من داخله أمير المؤمنين فخرجوا لهم وحطوا السيف فيهم. وأقبل جنبل (أحد عبيد الملك المنتقم) وقومه من خلفهم وصاحوا فيهم: الله أكبر فتح ونصر، هذا والإمام رضى الله عنه يقول: أأمروهم أن يقولوا: لا الله إلا الله وإلا نفنيكم عن آخركم، فمن قالها ارفعوا عنه السيف ومن أبى فاقتلوه، فما زالوا كذلك إلى أن مضى ثلث الليل، فنادى القوم بأجمعهم: الأمان يا ابن أبى طالب ونحن أسراك وفى يدك، فقال لهم رضى الله عنه: لن يؤمنكم من سيفى إلا أن تقروا لله بالوحدانية ولمحمد الرسالة وإلا أفنيكم عن آخركم فصاحوا بأجمعهم: نحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ابن عمك رسول الله، فأمر القوم أن يرفعوا عنهم السيف، فما مضى نصف الليل الأول إلا وقد كفاه الله القوم ولم يبق عندهم من يقاتل أبدا، وأقبلت الرعاة وجنبل إلى الإمام، وقبلوا يديه وهنؤوه بالسلامة وبما فتح الله عليه في تلك الليلة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم خر ساجدا لله تعالى في وسط الحصن شكر الله تعالى، (قال الراوى) فلما فرغ الإمام من سجوده ورفع رأسه واستوى قائما أمر بإحضار عدو الله المنتقم، فاحضر بين يديه فأمر بحل كتافه وقال: يا عدو الله وعدو نفسك أنك على شفا جرف (على حرف بئر لم تبن بالحجارة) هار (انهار أو هدم) إما إلى النار وإما إلى الجنة، يا ويلك أقر لله بالوحدانية ولمحمد بالرسالة تفز في الدنيا والآخرة واصرف عنك المحال ودع عبادة الأصنام.

المنتقم يرشو الإمام

فقال المنتقم: يا ابن أبى طالب اجعل لك جعلا أرسله إليك وإلى ابن عمك في كل عام من جميع ما تختاره من الصنوف المثمنة من الجواهر والذهب الأحمر وما أشبه ذلك، فقال له الإمام: يا ويلك أما مالك ومال قومك ومال ملكك إن شاء الله تعالى احمله كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أقتلك وأكسر صنمك، وأنت والله ما يخلصك من سيفى إلا قول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال: يا ابن أبى طالب أما هذه الكلمة لا أقولها أبدا، وإن عجلت قتلى فلى من يأخذ الثأر، وها هو أمامك المسمى بالخطاف هندى الحميرى يقتنص الوحوش في فلواتها (فلاة: صحراء) والأسود في غاباتها، فلما سمع الإمام ذلك من عدو الله فار (غلى واعتمل) بالغضب وقال: الذى أوصلنا إليك يوصلنا إلى غيرك، وأما أنت فقد عجل الله بروحك إلى النار، ثم قام الإمام، على قدميه وضرب عدو الله المنتقم بذى الفقار (اسم سيفه) فأزال رأسه.

قتل النساء

(قال الراوى) ثم إن الإمام عليا رضى الله عنه أمر بإحضار النساء فأحضرت بين يديه فعرض عليهن الإسلام، فمن أسلمت أقرها في مكانها ومن أبت وكل بها من يقتلها (هذا الكلام بالطبع مخالف للشريعة الإسلامية)، فلما فرغ الإمام من ذلك جمع الأموال وجمع ذلك كله في دار عدو الله المنتقم وقفل عليه وختمه وأوصى بحفظه، ثم أقبل الإمام على القوم وقال لهم: إن الله سبحانه وتعالى قد دعاكم للإسلام ومن عليكم بالإيمان وأنقذكم من ظلمات الكفر والطغيان، وأنى ماض عنكم فالله في أنفسكم فلا تكفروا بعد إيمانكم ولا تنافقوا في إسلامكم آمل الله الرجعة إليكم عن قريب إن شاء الله تعالى بعد بلوغ ما أريد من ملككم الذميم واصرف شره وشر صنمه وشيطانه الرجيم، فقالوا جميعهم: يا ابن عم الرسول إنا لن نؤمن إلا بحقيقة أمرنا وقد علم الله صدقنا، وأراد لنا الحياة واطمأنت أنفسنا ونسير معك وبين يديك، فما يكبر علينا أن نقاتل بين يديك ملكنا وأهلنا، فلما سمع الإمام منهم ذلك سر بمقالتهم وعزل لهم مئة رجل يمكثون في الحصن، وأمر عليهم جنبل بن خليل الباهلى (شخصية درامية سيرية) وأوصاه بالشفقة على من في الحصن ووصاهم بحفظ ما فيه، وأمر على الرعاة جنبل بن وكيع، فقال جنبل: يا أمير المؤمنين والذى بعث ابن عمك بالحق بشيرا ونذيرا لا تؤخرنى عن المسير معك لحرب قومى وقتال عشيرتى، يطول دهرنا وزماننا ولا أتركه حتى يشفى غليل قلبى وما قدمت من ذنبى، فجزاه الإمام خيرا على كلامه وقال له: يا جنبل فإن الله كريم لا يعجل على من عصاه، ثم إن الإمام دعا بعبد يقال له حصن بن شنبش (شخصية وهمية من شخوص السيرة) وأمره على الرعاة وأوصاه بحفظ السائقة والأموال وأوصاه يروحها كل ليلة إلى داخل الحصن.

وادى الحديق

ثم سار الإمام وأخذ معه ثلاثمئة فارس طالبين حصن رامق ووادى الحديق (من الأماكن التى لا وجود لها خارج السيرة) وصاحبه الأمير عليه الخطاب بن هند الحميرى (شخصية خيالية درامية) الملقب بمروع الوحوش، فساروا وقد أخفى الله أمرهم وما جرى لهم، فلم يعلم أحد من أهل الحصون والأودية، وأما الملك الهضام فقد اشتد كفره وطغيانه وتجبره، وقد شاع في العرب ذكره وعظم خطره وكان يركب كل سنة ثلاث مرات إلى صنمه، فإذا دخل عليه خر له ساجدا من دون الله عز وجل، فلا يرفع رأسه حتى يهتف الشيطان بصنمه ويأمره بالقيام.

رسالة الرسول

(قال الراوى) فبينما عدو الله في تزايد كفره، إذ ورد عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع جميل بن كثير العابد (وهو الذى تبرع في بداية السيرة بحمل رسالة الرسول إلى الملك الهضام مشترطا عدم رئاسة على بن أبى طالب له، وهو من شخوص الدرامية) فاستأذن في الدخول على الملك، قيل له: اصبر حتى نخبر الملك بقدومك، ثم إن الحاجب أخبر الوزير بقدوم ذلك القاصد فأخبر الملك بذلك، فقال: أيها الملك إنه أتاك اليوم قاصد، يذكر أنه من عند محمد صاحب يثرب وابن عمه على بن أبى طالب، واستأذن في الدخول عليك والوصول إليك فأوقفه الحاجب وأخبرنى بخبره وها أنا أخبرتك.

(قال الراوى) فلما سمع الملك الهضام بذلك عظم عليه وقال: أو قد ذكرنى محمد مع من ذكر، وعرض لى مثل ما عرض لغيرى؟، أيظن أنى كغيرى من العرب وأن إلهى كسائر الآلهة، ثم أمر ببساط مجلسه فبسط وستوره علقت وبعث أكابر قومه فأقامهم حوله بالسلاح والنشاب (النبل واحدته نشابة، ج: نشاشيب) وبأيديهم العمد والحرب، ولبس الملك تاجه المرصع باليواقيت والجواهر وأظهر نعمته، وأقام ترجمانه بين يديه لأجل ما يبلغ الكلام إلى القاصد، ثم أمر بإحضار قاصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، فتبادرت غلمانه وحجابه إلى جميل بن كثير فأتوا به أسرع من طرفة عين، وقالوا له: اجمع عقلك وبين فضلك وانظر لمن تخاطب واعلم من تكلم، ثم دخلوا به إلى أن وقف بين يديه.

رسول النبى للهضام

فلما نظر جميل إلى مملكته وسلطانه وحجابه وغلمانه وتاجه الذى على رأسه، ويواقيته والقوم محدقون به التجم عن الكلام وتبلد عن السلام، فغضب الملك لذلك وعرف الغضب في وجهه، فاضطرب القوم لذلك وماج بعضهم ورفعوا العمد والسيوف وتوقوا خطاب الملك لكى يبادرهم بسوء، فنظر الترجمان إلى ذلك، وكان صاحب عقل وأدب وفضل، فقال للملك: اعلم أيها الملك أن هيبة المملكة ومرتبة السلطنة تلجم الناظر عن الكلام عن مقالته في النظم حتى تدهشه عن السلام، (قال الراوى) فذهب عن الملك ما كان قال به، ثم قال الترجمان لجميل: إن الملك يقول لك ويلك من أنت؟ ومن أين أقبلت؟ وإلى من قصدك؟ ورسول من أنت؟ قال جميل ابن كثير: أنا رسول صاحب يثرب محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وقد حملنى هذا الكتاب وأرسلنى إليك لأطلب الجواب، ولا أطلب شرا ولا ضرا وقد أزعجنى من هيبة الملك، فتبسم الملك الهضام ضاحكا وقال: هلم إلى بكتابك، فتقدم إليه جميل وناوله الكتاب، ففكه وقرأه وفهم مضمونه ومعناه وقهقه حتى كاد أن يقع على قفاه، (قال الراوى) ثم التفت الهضام إلى جميل وقال: يا ويلك صف لى هذا الغلام المذكور في الأرض (لاحظ أن الراوى جعله في البداية يغفل النبى محمد تماما ويسأل عن الإمام على بن أبى طالب، ولا يسأل عن النبى محمد ولا عن ديانته)، فقال جميل: أيها الملك إن الكفر أقبح بالعبد الدنىء فكيف بالسيد؟ فإن أحببت أن أصف لك فلى عليك شرطان، أحدهما إن وصفته لك فلا يكبر على الملك فيقتلنى بغير ذنب وأنت أغنى الناس عن ذلك، والثانى أخاف أن أصف لك شأنه العظيم فيبلغ غيره فأكون كذابا، وأنا الآن أسألك أيها الملك: أن لا تسألنى عن هذا السؤال فإنى لا قدرة لى عليه، فقال الملك: إن قلت ما فيه على الحق فلا خوف عليك إن كنت صادقا، فقال جميل: أيها الملك إنه غلام موصوف بالشجاعة معروف بالبراعة، أخف من البرق إذا لمع وأسرع من الفهد إذا وثب حسن اليقين، (قال الراوى) فلما فرغ جميل من كلامه تبسم الهضام ضاحكا وقال: وحق زاجرات المنيع (الصنم الذى يعبده) لقد وصفت صاحبك وأحسنت في وصفه، فدع عنك هذا الكلام واقصر عن وصف هذا الغلام، واعمل في خلاص نفسك قبل حلولك في رمسك (قبرك، تجمع: رموس وأرماس) وقل لأى شىء اتبعت محمدا وآمنت به؟ فقال جميل: على أن ينقذنى من النار ويدخلنى الجنة التى هى دار القرار، فقال الهضام: ومتى يكون هذا الأمر؟ فقال جميل: إذا قامت القيامة وقامت الخلائق من التراب إلى الاجتماع في دار الحساب، فقال الهضام: قد أخبركم صاحبكم محمد أنكم تموتون وتصيرون رفاتا ويختلط اللحم هذا باللحم، والعظم هذا بالعظم، وتمضى عليكم الدهور والأعوام، ثم تعودون بأجساد وأرواح، ثم يكون بعد ذلك حساب وعقاب وجنة ونار؟ فقال له: نعم، قال له: وإلى أين هذه النار وهذه الجنة؟ قال: شىء لا يفنى ولا ينقضى فعجل يا ويلك بالعاجل ودع الأجل.[1]

جنة المنيع وناره

(قال الراوى) ثم التفت اللعين إلى بعض أولاده، وكان اسمه ناقد وقال له: قم يا بنى اكشف له عن الجنة والنار (حفرتان كبيرتان، وهما من صنيعة الملك الهضام) وخيره بين الدارين فإن اختار المقام في دار النعيم فدعه يأكل من فواكهها وثمارها، ثم أخذ ناقدا جميل وذهب به إلى الجنة وقد رأى جميع ما فيها ثم قال ناقد: اتبعنى حتى أكشف لك عن دار هى أحسن من هذه، ثم أخرجه وعمد به إلى النار، وقد كان أرسل إلى العبيد الموكلين بها الذين سموهم الزبانية، فأمرهم بإضرامها وتقويتها، فلما أن قرب منها ناقد وجميل، قربه وأطلعه في درج عال مبنى من الرخام الملون حتى انتهى إلى أعلى الدرج، فقال ناقد لجميل: أتختار أى الدار أردت؟ فلما أشرف جميل على النار ونظر إلى قعرها وكثرة زفيرها قال: أبعدونى عنها وامضوا بى إلى الجنة، فلما دخل فيها جميل وتوسطها واستنشق ريحها وتصايحت به حورها، افتتن جميل واحتوى الشيطان على قلبه، فسلب الله تبارك وتعالى منه الإيمان ومال إلى ملتهم ورفض الإسلام، (قال الراوى) فعدل من ورائها جميل لعنة الله عليه إلى تلك الآلات والستور والآنية من الذهب والفضة فقال للجارية: لمن هذه؟ قالت: لك وأنا لك وجميع هذا لك حتى تمضى من وقته وساعته إلى الإله المنيع، فهو إلهنا الأعظم، فتخر له ساجدا وتقر له بالعبودية، فقال لها: حبا وكرامة أنا أسجد له مئة سجدة، ثم خرج جميل وناقد ابن الملك معه، لأنه كان يوصى الحور العين أن يخاطبه ويقلن له ذلك.

جميل بن كثير موفَد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملك الهضام وصل أخيرا إلى مملكة الهضام، وقام في حلقة الأمس بتسليم الملك رسالة الرسول، وقد سخر الهضام من الرسالة، لكن المدهش أن الهضام لم يسأل جميل بن كثير عن الرسول الكريم وعن الديانة الإسلامية، بل سأله عن على بن أبى طالب الذى سمع عنه من قِبل أعوانه، وفى حلقة الأمس أمر الهضام ابنه ناقد أن يأخذ جميل في جولة يشاهد فيها الجنة والنار التى صنعها ويقارن بينهما وبين الجنة والنار التى وعد بهما النبى محمد صلى الله عليه وسلم المسلمين، وفى نفس الحلقة كان الإمام على بن أبى طالب قد أجهز على الملك المنتقم على باب حصنه، ثم عرض الإسلام على أسراه من فرسانه وعلى نسائه، وحسب ذكر الراوى قام بقتل من رفضوا الدخول في الإسلام، وهذا بالطبع يخالف شريعة الإسلام السمحة، بعد ذلك استعد الإمام للتوجه إلى حصن رامق في وادى الحديق لمقابلة الملك الخطاب بن هند الحميرى أحد أتباع الملك الهضام الكافر، وفى نهاية حلقة الأمس بعد جولة جميل بن كثير مع ناقد نجل الملك في جنة المنيع إله الملك الهضام، وافق جميل على السجود للمنيع مئة سجدة، فهل سجد موفد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصنم المسمى المنيع؟، هذا ما سنراه بداية من حلقة اليوم، قال الراوى:

فلما خرج جميل قال ناقد: إلى أين تريد؟، قال: إلى الإله المنيع والرب الرفيع أسجد له وأقر له بالعبودية، فقال له ناقد: أفلحت يا هذا ونجحت، ثم أقبل ناقد راجعا إلى الصنم، فما زال كذلك حتى قرب من الأبواب وما زالوا كذلك حتى دخلوه فيها وهمّ المتنعمون في الجنة أن يدخلوا معهم فمنعهم الحاجب من الدخول، فتصايحوا بناقد وقد قالوا له: دعنا ندخل إلى ربنا المنيع إلهنا السميع فننظر إلى معجزاته ودلائله وآياته؟، (قال الراوى) فأذن لهم ناقد بالدخول وهو أمامهم قابض على يد جميل لعنه الله، فما زال يدخل من باب إلى باب إلى أن دخل البيت الذى فيه الصنم، فنظر القناديل توقد بأطيب الادهان، ونظر الصنم معلقا في الهواء لا يرفعه عمود من تحته ولا علاقة من فوقه، فحار جميل واندهش وأعطاه ناقد خاتما من الحديد الصينى كبيرا، فأخذه جميل بيده وتقدم إلى الصنم، فلما شم الصنم رائحة المغناطيس جذبه بالقوة المركبة من الحديد، فلما نظر جميل إلى ذلك حار، فعلم ناقد ذلك منه فقال: يا ويلك أسجد فإن الإله قد قربك إليه، فعند ذلك سجد جميل لعنه الله وسجد معه جميع القوم، فأقبل الشيطان اللعين الموكل بالصنم فدخل جوفه وجعل يهذى بكلام التضليل، (قال الراوى) فصاح به الخدم من كل جانب ومكان يقولون: يا جميل ابشر بالخير الجزيل، فقد جاد عليك المنيع بالكرم والتفضيل، وقد خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، فرفع رأسه ورفع الناس رؤوسهم، فلما فرغ تمسح القوم به تبركا وهنوه على ذلك وقبلوا يديه وكذلك ناقد، ولم يزالوا من حوله محدقين إلى أن وصلوه الجنة التى يزعمونها، فلما دخلها استقبلته صاحبته الطاغية بكأس من خمر وقالت له: خذ هذه الكأس فهى تمام الفرح وزوال العمر، ولم يبق بعد يومنا هذا ولا نصب، فتناول الكأس من يدها وتجرعها وأبعده الله تعالى عن بابه وطرده عن نبيه ونام مع صاحبته وكفر بالله العظيم، ثم أتى ناقد إلى أبيه وأخبره بذلك، ففرح الهضام فرحا شديدا وقال: وحق المنيع لو وصل إلينا على بن أبى طالب لفعلنا به مثل هذا، وكان يصير إلى ما صار إليه صاحبه وينسى ابن عمه، وهل يرى هذا النعيم والعيش السليم ويتباعد عنه؟، وما زال الملك في كفره وطغيانه.

صرخة الصنم

قال: فلم يمض إلا يومين أو ثلاثة بعد أمر جميل والقوم في لهوهم وسرورهم والسدنة(السادن: الخادم والحاجب) من حول الصنم، قد هجع (نام) القوم في بعض الليالى، إذ صرخ الصنم صرخة عظيمة فازدحم على الأبواب، وقام الملك من على سريره وأولاده حواليه، فقال الملك لولده الأصغر: وكان اسمه غنام انظر يا بنى المنيع، ولا شك أنه وقع بنا أمر فانظر ما هذا الخبر؟، فمضى غنام ورجع وهو طائش العقل فقال: يا أبت إنه صراخ المنيع ولا شك أنه وقع أمر، فركب الملك من وقته وركب أولاده من حواليه، وسار بهم الملك حتى دخل الصنم بعد سكوته، فلما دخل عليه الملك صاح واضطرب ونطق الشيطان من جوفه ينشد ويقول: قد حل في ساحتكم ليث بطل، ورمى شجعانكم كلا بالخيل هذا على قريب قد وصل فأدهموه بالسيوف والنبل، ثم اقطعوا منه بعزمكم الأمل فهو لكم وفى يديكم قد حصل، (قال الراوى) وكانت هتفة الصنم قبل أن يصل الإمام إلى حصن الوجيه، حين قتل المغضب وخلص السائقة (الماشية) وردها، وتعوق بعد ذلك حتى فتح الحصن، فلما سمع الملك من صنمه هذا الكلام قال: يا إلهى ويا سيدى لا وقفته بين يديك ذليلا، ثم إن الملك التفت إلى ولده ناقد، وكان أكبر أولاده فقال له: يا ناقد اسجد لإلهك فإنك لعدوه قاصد وله قائد وعن قريب تأتى به حقيرا ذليلا، فخر ناقد ساجدا للصنم فسمع عنده ضاحكا واستبشارا وفرحا وسرورا من الصنم: يا ناقد ارفع أمرك وأسرع بالاستعجال وجمع الأبطال، وتأتى به في القيد والأغلال منكّسا في أسوأ حال، فلما سمع ناقد قام مسرعا ووقف مع أبيه إلى منزله، فقال الملك: يا بنى إنك وافر العقل تام الفضل، وإن إلهك لا يحذر إلا من أمر عظيم، وهذا الغلام المذكور على بن أبى طالب، وأنه قد شاعت بين العرب أخباره، وقد ظهر أنه فارس صنديد وقرم (سيد) عنيد، إلا أن إلهك وعدك النصر عليه، وأخبرك أنه وحيد فريد، فامضِ إليه وخذ من تختاره من قومك وعشيرتك، وأوصيك إذا لقيته فحذّره من نارى وشوقه إلى جنتى، فإن ركن فجُد بالعفو عليه، وابسط جناح الإحسان، وإن أبى فاغتنم انفراده بأنك آمن من ناصر ينصره ومعين يعينه، ولا شك أنك تجده عند حصننا الأقصى وهو حصن الوجيه نازلا مع الرعيان.[2]

ألف فارس لمحاربة الغلام

(قال الراوى) فعند ذلك قام ناقد على قدميه، وجعل يخترق الصفوف ويتصفح وجوه الرجال وينتخب الأبطال، واختار أن يأخذ من صناديد (الصنديد الشجاع) القوم ألف فارس، فلما لاح ضياء الفجر خرج ناقد وقومه وقد تزينوا بزينتهم المدخرة عندهم، ولبسوا فوق رؤوسهم التيجان المرصعة باليواقيت والجواهر المثمنة وركبوا الخيول العربية، وناقد بن الملك الهضام أكثر منهم زينة وله ذوائب تبلغ مؤخرة سرجه، وهو مقلد بسيفين عن يمينه وعن شماله وبيده رمح خطى، فلما تكامل أصحابه وعزموا على المسير ركب أبوه يشيعه ويوصيه ويحرضه على الإمام رضى الله عنه إلى أن بعد عن الحصن، فرجع الملك إلى حصنه وصار ناقدا وهو يجد المسير، فبينما هو سائر إذ لاحت غَبرة عظيمة فتأمّلها وقال لقومه: ما تكون هذه الغبرة العظيمة؟، فقالوا: لعل أن تكون غبرة رمال أو ظباءً شاردة أو زوابع عاقدة، فقال لهم ناقد: لو كانت كما تقولون لكانت منفرجة وهذه عقدة معنقدة، فتأمّلوها جميعا فقال بعضهم: وحق المنيع إن هو إلا جيش، وقال بعضهم غير ذلك، فتحير القوم من ذلك ووقفوا جميعا، فبينما القوم واقفون متحيرون إذا انكشف الغبار ولاحت الأسنّة (أسنة الرماح) ولمعانها وهى تبرق كالبرق وكواكبها زاهية، فذُهل القوم من ذلك ولم يعلموا أنه جيش الإمام على (رضى الله عنه)، وكان الإمام قد نظر من بعيد فقال لقومه: يا قوم ألا ترون ما أرى؟، فقالوا: يا ابن عم رسول الله ما ترى؟، قال: أرى جيشا كبيرا، فتأمل القوم فنظروا جيش ابن الملك، فقال: يا معشر المسلمين لا شك أن أصحاب الحصون قد بلغهم خبرنا، فهل منكم من يسرع إليهم فتقدم إليه جنبل بن ركيع (من الشخصيات الخيالية)، وقال له: يا مولاى أنى لكلامك سامعا ولأمرك طائعا، أؤمرنى بما تشاء وتختار فإنى وحق ابن عمك محمد لا أخالف لك أمرا، فجزاه الإمام على ذلك خيرا وقال له: أنت لها يا جنبل فأسرع إليهم، فإن كانوا من أعدائنا فلا بأس أن تخدعهم بخديعتك، وأذكر لهم أنكم ظفرتم بى وأمسكتمونى، وأنكم سائرون بى إلى الملك الهضام لتأخذوا منه الجزاء والإكرام، ثم قال له الإمام: بادر وفقك الله إلى مسيرك.

يهوى كالبرق

فمشى جنبل ابن ركيع إلى أن قرب من جيش ابن الملك الهضام، فوجدهم قد جردوا السيوف وعزموا على القتال والحرب، فنظر جنبل إليهم، وإذا هو ناقد بن الملك وكان أعرف الناس، وكان جنبل صاحب خديعة وكثير المكر والحيل، فلما عرفه وتحققه وعرف أنه ناقد بن الملك، ترجل جنبل عن جواده وأقبل يسعى على قدميه، فلما قرب من ناقد خرّ ساجدا لله تعالى، فلما نظر إليه ناقد عرفه وظن أنه ساجد إليه فقال: يا جنبل ارفع رأسك فقال: يا مولاى عبدك وابن أمتك، فقال ناقد: اركب جوادك فركب جواده، فقال له ناقد: يا بن ركيع ما وراءك؟، وما الذى بلغك من خبر هذا الغلام كثير الانتقام على بن أبى طالب؟، فقال جنبل: اسمع يا مولاى بينما نحن في سرحنا وغنمنا على ما جرت عادتنا ونحن في الظل مجتمعون نرتع ونلعب، إذ حضر إلينا غلام من أعلى الوادى وهو يهوى كالبرق ويهرول في مشيه ويوسع في خطواته، ثم اجتمع ووثب وثبة عدى النهر يثب كالأرنب ويخطو كالأسد، يقصر الليث عن وثبته في عظم خلقته وكبر جثته، كبير الساعدين بعيد ما بين المنكبين، فتحققناه وتقربنا منه وتصايح أهل الحصن، ونزل إليه سيدنا المنتقم فنازله في ميدان الحرب، فلم يزل به ومعه حتى تعثرت رجله في حجر فوقع على وجهه، فترامى عليه الرجال والأبطال فأخذوه باقتدار أسيرا وملكوه، وصار في أيديهم حقيرا ذليلا، ثم كتفناه وحملناه بعد أن جندل منا جماعة كثيرة من الرجال والشجعان والأبطال، فأجمعنا على قتله فمنعنا من ذلك سيدنا المنتقم، وأمرنا بحمله إلى الملك المكرم ليحكم فيه بما شاء ويمضى فيه ما أمره المنيع الإله الرفيع، فلم نجسر أن نسير به إلا في عدة من الأبطال والرجال الفوارس، وهذا يا مولاى جملة أمرنا وغاية خبرنا.

الخطاف

(قال الراوى) فلما سمع ناقد ذلك ما قاله جنبل تهلل وجهه فرحا وسرورا ثم قال: وحق المنيع لقد فرحتم بهذا الغلام واستوجبتم فعلكم الإكرام، وما خرجت من مكانى لهذا الغلام الكثير الانتقام فحصل لكم بلا ملام، لكن يا جنبل أرعبنى وصفك لهذا الغلام، فعد إلى قومك وأمرهم أن يسرعوا إلينا ويقدموا بهذا الغلام علينا، فعاد جنبل راجعا، وقال: يا أبا الحسن لقد أتيتك بطير سمين، وهو ابن الملك في ألف فارس، قال: فسار الإمام حتى وصل إلى عسكرنا، فقال ناقد: وجبت لك البشارة يا جنبل، فأين هذا الغلام المسمى عليا؟، فلم يتم كلامه حتى تقدم الإمام إلى ناقد وأسفر عن لثامه وقال له: ها أنا معدن المواهب، أنا المشهور في المناقب، أنا على بن أبى طالب.

(قال الراوى) فلما سمع ناقد كلامه قمح جواده بالسوط وصرخ في قومه وقال: يا قوم إن جنبلا خدعكم ولم ينجيكم من القوم إلا القتال الشديد فأقرنوا المواكب وصفوا الصفوف فنفرت الرجال للحملة، فقال الإمام لأصحابه: احملوا بارك الله فيكم وعليكم، وبقى ينظر لعلى أن يقع نظره على ناقد فيقبضه، قال: فحملت الرجال على الرجال واختلط الجمعان ووقفوا السيف بينهم، قال: فبينما الإمام ينظر ناقد، فإذا هو قد وجده حسن الوجه صغير السن، فلما نظره الإمام أشفق عليه أن يقتله، وكان لا يرحم كافرا قط غيره، فبينما الإمام وناقد حملا على بعضهما وإذا بصياح عالٍ، فإذا هو صاحب حسن الرامق ويسمى الخطاف وكان قد أرسل إليها أصحاب ناقد، وقالوا له: الحق بن الملك فإنه مع على يشد القتال، فلما أشرف عدو الله الخطاف على ناقد قال: يا مولاى ما يكون للملوك قتال، ارجع ودعنى مع هذا الغلام، ثم تقدم الخطاف إلى الإمام وهو ينشد ويقول:

مالى أرى القوم في كرب وفى حرج قد مر بلواجمهم بالويل والكفر

وكلهم جزعوا من خوف سيف على نسل الكرام المسمى من ذوى مصر القوم قوم إله يعرفون به من الحديد ومن جزع ومن صفر

لا تركن عنا تحت ذلته حتى أطوف به في البدو والحضر

(قال الراوى) ثم حمل عدو الله وجعل يخوض المعمعة بسيفه وقاتل في ذلك اليوم قتالا شديدا، فبينما هو يكر على المسلمين وإذا بصوت الإمام (رضى الله عنه) وهو يقول: أنا ابن الأبرار من نسل هاشم المختار أنا ماحق الأشرار، فلما سمع عدو الله صوت الإمام ونهراته وزجراته ومهارته في الحرب، وهو يخطف الفارس من سرجه ويضرب به الثانى فيقتل الاثنين فهابه القوم، ولم يزل السيف يعمل والدم ينزل إلى وقت العصر فافترقوا وقد ملئت عرضا الوادى بالقتلى وتراجع الفريقان في أماكنهم، ورجع الإمام إلى عسكره يترنم ويقول شعر:

حرمة الحرب بغيتى ومرادى وطريقى إلى فنا الأوغاد

يا ابنة الطهر لو رأيت حروبى وشهودى وشدتى وجلادى

وولوج الحسام في منهل النقع لا شفى من اللئام فؤادى

هل من مبارز؟

(قال الراوى) فاستبشر به وفرحوا وهنئوه بالسلامة، فرجعت الطائفة الأخرى إلى موضعها خاسرة، فلما أصبح الصباح تراجع الفريقان وقام الحرب والطعان، ثم قال الإمام: إن القوم أكثر منا عددا وأقرب منا ديارا، وأنى أخاف من نجدة تنجدهم فيكثر علينا الأمر ويكثر علينا الشر، وأنى أرى من الرأى أننا نبادرهم قبل أن يبادروننا، وذلك أهيب لنا في قلوبهم وارهب في نفوسهم، ثم قال لأصحابه: قفوا مكانكم حتى أسير بين الصفين واطلب البراز فعسى أن يخرج عدو الله الخطاف بلا تعب، فقالوا: يا سيدنا إن في القوم أسدين أحدهما ناقد بن الملك، والآخر الخطاف فأخذوهما وقد عرفتهما بالأمس، قال الإمام: حسبنا الله ونعم الوكيل، ثم خرج الإمام منفردا بنفسه وأخذ رمحه وغير حلته، فلما تمثل بين الصفين قال الخطاف لناقد: من هذا الذى تعرض للقتال وطلب المبارزة؟، قال ناقد: هلا تعرفه؟، قال: لا، قال: هذا على ابن أبى طالب، فقال الخطاف: إنى أراك يا ناقد كثير الوصف له لعلك كثير الارتعاد منه، قال: نعم، فبينما هم كذلك إذ زحف الإمام عليهما حتى قاربهما ثم نادى: هل من مبارز؟، هل من مناجز؟، فلم يبرز إليه أحد فحمل على الميمنة فقلبها على الميسرة، وقال: ما شاء الله تعالى ورجع إلى مكانه ونادى: هل من مبارز؟، هل من رواح إلى قابض الأرواح؟، فلم يجبه أحد، فحمل على الميسرة فقلبها على الميمنة وقال: ما شاء الله ورجع صوب القلب ونادى: أين من زعم أنه كريم، فلم يتم كلامه حتى انقض عليه ناقد وهو على جواد أشقر وبيده رمح طويل حتى صار بين يدى الإمام ونادى: يا غلام الرفق بالمرء يوصله إلى مناه، فاكشف لنا عما تريد فلعل أن تكون الإجابة عندنا والأنعام، والآن قد كشفت لنا عتابك ولعمرى قد كنت متطاولا لرؤيتك، فقل ما أنت طالب وما مرادك؟، فأعجب الإمام من كلامه وقال له: مرادى أن تقول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قلت ذلك وأقررت لله بالوحدانية فلك مالنا وعليك ما علينا، وأما صنمكم الذميم فسوف تظهر فيه العبر وأكسره أمامكم كسرة الحجر، وترجعون إلى عبادة الرحمن فتكونوا شركاء لنا وإخواننا في الإسلام، فقال له ناقد: يا ابن أبى طالب دونك إلى أم خاطر وموت باتر، فقال له الإمام: دونك والقتال، قال فوقف ناقد يتكلم في نفسه ويقول: وحق المنيع وزجراته لو تركناه حيا لغشنا في منزلنا وطرقنا في مرقدنا، ولعمرى أنى أجد في كلامه حلاوة ولمنطقه مرارة، أنى أرغب وأخشى أن يفعل ربى الأعظم ما يشاء، فقال الإمام: يا ناقد أطلق لسانك بالوحدانية لله تعالى، وأشهد بالرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم يمحُ عنك ما سبق، قال ناقد: ما أنا بالذى يفعل ذلك ويبقى له العار والشنار (العيب).


فى الحلقة السابقة كان الملك الهضام قد أرسل ابنه ويدعى ناقد على رأس جيش جرار لملاقاة الإمام على بن أبى طالب لكى يقتله ويأتى برأسه إلى والده، أو يحضره مكبلا في الحديد أسيرا ذليلا، وتقدم الجيش حتى التقى بالفعل مع الإمام وطلب منه أن يشهر إسلامه هو ووالده وجيشه الجرار أو أن يقتله، وتقدم له أحد الفرسان يدعى حسن رامق «شخصية درامية» يلقب بالخطاف، ودار الحوار وطال وقال الراوى:

فلما سمع الإمام كلامه علم أن لا بد له من لقائه، فتقاربا وعظم الجدال والفريقان ينظران، فما زال حتى مضى النهار وأقبل الليل، فخاف الإمام أن يدركه الليل ولم ينل منه ما أمله، فحمل عليه الإمام وكان قد ظهر له من ناقد التقصير، فطمع فيه وجعل يدبر عليه الحيلة من أين يأخذه؟ فتصارخت الأبطال وتزاعقت الشجعان وإذا بالمشركين يصرخون ويقولون: خرج الخطاف وانذهل العسكران والخطاف «حسن رامق» ينادى: لا تعجل يا غلام علينا فنعجل عليك، وأبق علينا نُبق عليك، فوثب الإمام على ناقد وقبض عليه فتعلق به وتعاركا طويلا، فأدركهما الخطاف فتعلق بهما وماجت الخيل فأخفاهم عن الأبصار، وسمعنا صراخ الخطاف وقد همد، وسمعنا هدرات «تردد الصوت في الحنجرة» الإمام وزجراته «صياحه» ثم خمدت «هدأت»، فلم يسمع لهما حس هذا والغبار متزايد، وقد طال على الناس المطال ولم يبق أحد من الفريقين إلا وآيس «يأس» من الإمام رضى الله عنه فقال جنبل: نحن فرطنا في الإمام إذا تركناه مع هذين الاثنين ولم نخرج إليه ولم نساعده ولم ننجده ونفديه بأنفسنا، وأى عذر لنا عند الله فأجمعوا أمركم واحملوا بأجمعكم فعسى أن نخلص سيدنا وأميرنا، وأنه قد وقع بين حجرين دامغين ولا خلاص له من بينهما إلا أن يشاء الله، وقد رام كل فريق أن يحمل على صاحبه، وقد زاد القلق واشتد الأرق وأزورت «مالت» الحدق «جمع حدقة، حدقة العين» وإذا بصرخة عالية، وإذا بالإمام قد خرج من المعركة وهو يقول: فتح ونصر وخذل من كفر، هذا وناقد في يده كالحمام في مخالب الباز، ونظروا وإذا بفارس هارب من تحت العجاج «الغبار» فتأملوه، فإذا هو الخطاف وأما ناقد فصار مثل العصفور في يد الباشق «أشبه بالنسر، من الجوارح ويشبه الصقر» فسلمه الإمام لأصحابه وقال: يا معشر الناس إن القوم قد خمدت جمرتهم فاحملوا عليهم بارك الله فيكم وعليكم، فقالوا: يا أميرنا الليل قد أقبل والنهار قد أدبر، فقال لهم الإمام: أضرموا النيران فإنها ليلة كثيرة الأهوال والله أعلم بالمآل.

«قال الراوى»: فعلوا ذلك وأقبلوا على السهر والرصد وهم جلوس قابضون على أسلحتهم، وتولى الإمام حرس المسلمين إلى أن أصبح الصباح، وأما المشركون فهربوا مع الخطاف إلى الحصن، فقال عسكر ناقد: يا خطاف تمضى إلى حصنك وتخلى ابن سيدنا في الأسر، أما وحق المنيع فلا نسلمه لعلى إلا أن قتلنا عن آخرنا ولا لأى شىء خرجت معنا وقد رميت سيدنا ورجعت وأنت سالم. فقال الخطاف: يا ويلكم لقد قاتلت ومانعت عن نفسى وسعيت في خلاصه فما استطعت، ولو أن لعلى كفئا لما خلصت من يديه، فقالوا له: امض إلى حصنك ونحن إذا أصبح الصباح سعينا في خلاصه، وأما الإمام فإنه لما طلع الفجر أذن وصلى بأصحابه صلاة الصبح، ثم أقبل يحرض الناس على القتال ويقول: يا معشر الناس اعلموا أنكم في غمرة ساهون وكنتم تعبدون الأوثان، فأنقذكم الله وأسعدكم بفعلكم وهذا عدوكم بإزائكم، ثم إن الإمام دعا بناقد وقال له: يا ناقد لقد نفد فيكم القضاء وقيدك رب السماء وأنت في أمل فهل لك أن تبقى عليك قبل أن تسكن برمسك «الرمس القبر» قال: يا ابن أبى طالب اتنجى منك ناج بعد أن كان بينى وبينك من الوحشة والبغضاء والعداوة، قال الإمام: يا ناقد إذا كان قلبى مبغضا على كافر وأسلم وأقر بالوحدانية لله ولمحمد رسوله بالرسالة بدلت البغضاء بالمحبة وانقلبت الوحشة بالمودة، فإذا قررت بهما بطيب عيشك وتفوز بخير الدنيا والآخرة، قال: يا ابن أبى طالب من يخلصنى من المنيع قال له: إن طول الله عمرى لتنظرن صنمك المنيع بأمر هائل شنيع وتراه في النار التى وصفتها ملقى حريقا، فقال: يا ابن أبى طالب لا شك فيك ولا في ما أظهرته وفعلته فقد وهبت نفسى لك في هذا اليوم ولا أبالى بما يلحقنى من المنيع ولا من أبى وذوى حسبى، وأنا أقول أشهد أن لا الله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وقد أفلح من آمن بربكم وخاب من كذبكم. وها أنا أقاتل بين يديك في القوم لله ورسوله ولك ولابغك الرضا.

«قال الراوى»: فسر الإمام سرورا عظيما وقال له البس آلة حربك واركب جوادك حتى تخرج إلى قومك ثم أمر المسلمين بالركوب فركبوا خيولهم وفعلوا ما أمرهم به الإمام، فلما تقاربوا من المشركين قال الإمام لناقد: يا ناقد ابرز بين الصفين وادع قومك إلى الإسلام فلعل الله يهديهم كما هداك، فخرج ناقد وهو راكب على جواده ولابس آلة حربه، فلما نظروا إليه فرحوا فرحا شديدا ولم يبق أحد منهم إلا عرفه وقد ظنوا أن الإمام أطلقه، فلما قرب ناداهم بأعلى صوته: يا قومنا قد ظهر الحق وانكشف الغطاء وجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، يا قوم عدوا عن الضلالات واعتذروا لرب البرايا يغفر لكم ما مضى، وها هو آت يا معشر قومى وعشيرتى ليبلغ عنى كبيركم وصغيركم أنى قائل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، لا أحول عنها ولا أزول وما أنتم أشد منى بأسا ولا أقوى مراسا، وهذا باب قد فتح الله طريقه لكم ولاح لكم بحقيقة، فكونوا مثلى تفوزوا بالشهادة وتكونوا من أهل السعادة، فما كان غير ساعة من الزمان حتى ظهر من القوم كردوس عظيم نحو ألف فارس، ولم يزالوا سائرين حتى وقفوا عنده وإذا هم من أصحابه الذين خرجوا معه من عند أبيه وهم يقولون: يا سيداه لنا أسوة بك والذى تختاره إحنا نرضاه، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا تصديق إيماننا، ثم عطفوا على قومهم أصحاب الخطاف ووضعوا فيهم السيف البتار، وحملت المسلمون معهم والإمام في أوائلهم وناقد إلى جانبه، فلم تكن إلا ساعة حتى ولت المشركون ولم يزل السيف الطعن واقعا فيهم، وكان الخطاف على ساقة «قيادة» العسكر فقاتل قتالا عظيما، فلما ولت أصحابه ولى طالبا للحصن فدخل الحصن هو وأصحابه، ثم إن الإمام جمع الغنائم وكثرت المسلمون واشتدوا بناقد وعزمه وقوته، وصار المسلمون نحوا من ألف وخمسمئة فارس وكلهم أبطال عوابس فتبعوا أصحاب الخطاف ولم يزالوا معهم إلى باب الحصن فدخلوا الحصن وأغلقوا بابه، ونزلت المسلمون عليه بقية يومهم وقد امتلأت الحصون بذكر الإمام وقد قذف الله في قلوبهم الرعب.

«قال الراوى»: ثم إن الخطاف لما دخل الحصن قال أصحابه: يا سيداه ما وراءك وما الذى دهاك وبشره رماك؟ فكان لا يقدر أن يرد جوابا من شدة الخوف فقال لهم: أغلقوا الباب وحصنوا أنفسكم ففعلوا ما أمرهم به وهو جالس، فلما سكن روعه سألوه: ما دهاك؟ قال يا قوم قد ذهب زمانكم فقالوا: أيها السيد بين لنا ما وراء كلامك فقد أرعبت قلوبنا من خطابك؟ فقال يا قوم قد دهمتكم المحمديون وهم ليوث أبطال يقدمهم الليث المغوار الذى كأنه صاعقة من السماء قد نزلت وأخذت قلوب الرجال مفلق الهام، وقد احتوى على ناقد بن الملك وأتباعه وقد خطفه من سرجه فانظروا لأنفسكم فإن عليا لاحق بكم.

«قال الراوى»: فلما سمع قومه ذلك ضجوا بالبكاء ضجا شديدا وتصارخوا بالويل والعويل، فبينما هم كذلك في صراخهم إذ ظهر إبليس اللعين في صورة شيخ كبير قد أفناه الزمان، منحنى تكاد جبهته تصل إلى الأرض، وعليه جبة صوف في شكل الرهبان، وبيده عكاز ووسطه مشدود بخيط من صوف، وفى رجليه نعلان من خوص النخل، فلما نظره القوم تنافروا يمينا وشمالا، فصرخ بهم: ما تنافركم وأنا رسول المنيع أرسلنى إليكم حتى أرى ما بكم من الجزع وشدة القلق والفزع لأسكن قلوبكم وأبرز لقتال عدوكم فأزيل عنكم الشدة وأبطل البكاء والحزن من الأعداء، وإذا أشرف عليكم هذا الغلام أتولى أنا قتاله دونكم، ولا أريد منكم بصيرا ولا معينا، وإذا رأيتمونى قد وصلت إليه واحتويت عليه، وقد ظهر المنيع بجنوده ونيرانه ودخانه فمن أراد أن يسبق إلى خيل القوم وسلاحهم فليبادر إلى ما شاء، فلما سمع القوم سجدوا للصنم ثم رفعوا رؤوسهم وزاد فرحهم قال: مروع الوحوش أيها الشيخ إنى لأظنك من جند المنيع إلهنا، فقال له إبليس: أجل وأنا رسول بينه وبين عباده لأنى أسبق الناس إلى عبادته وخدمته فجازانى بهذه الكرامة فكونوا في إمامكم حتى تروا ما يسركم من قتل عدوكم، فقالوا: أيها الرسول إنا لنراك أضناك الكبر وإنا لا نوقن أن لا طاقة لك على الحرب والنزال وشدة القتال، فقال لهم إبليس: لعنه الله كيف تشكون في المنيع وتقولون إنه لا يقدر على شىء؟ فقالوا: إنا لا نشك في ذلك أبدا ونعرف أن المنيع له عزم عظيم، ولكن نريد أن نرى شيئا من برهانك لنكون على علم وتطمئن به قلوبنا، فلما سمع منهم ذلك قال لهم: إن المنيع لو أراد هلاك هذا الغلام قبل وصوله إليكم لفعل ذلك، ولكن يريد أن يستدرجه إلى أن يوقعه في أيديكم حتى يذيقه العذاب والهوان وتنشرح صدور الرجال وتنالوا عنده المرتبة العليا والفخر الزائد العميم وبعد ذلك يهلكه فإنه ذو عزم شديد، وأنا أريكم بيان ذلك وبرهان المنيع الإله الرفيع وشدة قدرته، ثم بسط يديه وأومأ بها إلى الحصن، فخيل لهم أنه قد رفع الحصن فوق أصبعه وشاله في الهواء وقد تزعزع وارتج فذهل القوم ولذلك صرخ الرجال والنساء، ثم عاد فوضع بين يديه فرأى القوم الحصن كما كان في مكانه، فخر الجميع سجدا للمنيع، فقال لهم إبليس: يا قوم ارفعوا رؤوسكم ثم غاب عن أعينهم فلم يروه.

«فقال الراوى»: فعند ذلك قال لهم مروع الوحوش: أبشروا يا قوم فقد جاءكم الفرج، فلما سمع القوم ذلك لبسوا سلاحهم وآلة حربهم وتفرقوا في جوانب الحصن، وضربوا على سوره سرادقا من جلود الفيل، ونصبوا الرايات والأعلام وعزموا على الحرب والقتال، وقد أصلحوا شأنهم، فبينما هم كذلك إذ أشرف عليهم الإمام رضى الله عنه وأصحابه معه على مهل وعليهم الهيبة والوقار، فانحدر الإمام إلى الوادى وأشرف على حصن رامق، وقد أزهرت الحدائق والشمس قد اصفرت لغروبها، ثم نزل وأمر أصحابه بالنزول، فنزلوا من حول الحصن وانسدل الظلام وأضرموا النيران وتحارس الفريقان، والإمام رضى الله عنه متولى حرس قومه بنفسه يحوم عليهم كحومة الليث على أشباله، «قال الراوى»: فقال عدو الله الخطاف مروع الوحوش لأصحابه إنى لم أرَ رسول المنيع صنع في ابن أبى طالب شيئا وها هو نازل بإيذائنا بالسلامة، فقال له قومه: لا تستبطل قول رسول المنيع، فقال لهم: احفظوا حصنكم وانزلوا من داخله لئلا ينقبوه عليكم ويدهموكم، فابتدر جماعة من القوم إلى ذلك وعدو الله الخطاف يدور على سور الحصن لينظر ما وعده به رسول المنيع وهو قلقان شاخص إلى جهة الإمام رضى الله تعالى عنه لا يعلم بغير ذلك، بينما الإمام مع أصحابه إذ لاح لهم برق نار وإضرام شرار وقد بان من ناحية الشرق ولاح البرق فخفق إليه الإمام وقال: لمعت نار مارد نراه يتعرض لى ولأصحابى.[3]

«قال الراوى»: ثم إن الإمام رضى الله تعالى عنه أيقظ أصحابه وأمرهم بالجلوس ورفض الإمام فنظروا إلى تلك النار وهى قاصدة وشرارها متوقدة، فقال جنبل بن ركيع: يا أمير المؤمنين ما هذه النار؟ فقال الإمام: يا قوم سكنوا روعكم وطمنوا قلوبكم فإنها نار الشيطان ولا سبيل له على أهل القرآن وجنود الرحمن، فبينما الإمام يخاطب قومه إذ تزايد لهيبها فما نظر الإمام إلى ذلك أخذ رمحه وخط به خطا حول أصحابه وناداهم: اجتمعوا ولا تتفرقوا واذكروا ربكم واصبروا، ثم جعل الإمام رضى الله عنه يقرأ القرآن ويتلوا آيات الله العظام وأسمائه الكرام عند الرسم الذى خطه برمحه وهو دائرة حول أصحابه ولم يبق أحد من خارج الرسم غيره، ثم قال: معشر الناس إنى ضربت عليكم حصنا حصينا فلا يخرج منكم أحد ومن خرج لا يلومن إلا نفسه، واتركونى أنا لهم والله المعين والناصر عليهم إنه على كل شىء قدير، فقال ناقد: يا أبا الحسن كيف لنا أن نسلمك إلى هذا المارد إلا أننا نقاتل بين يديك تقربا إلى الله تعالى، فالتفت الإمام رضى الله عنه مبتسما غير مكترث بما ظهر، وقال: يا ناقد أنت أقدمك لمبارزة الرجال والأبطال فليس لك طاقة على قتال الجان، فقال ناقد: لا والله يا أبا الحسن لا أنزع الله ما أعطاك وأتم عليك ما أولاك.

الرغداء ابنة الخطاف

الرغداء ابنة الخطاف أحد قادة الملك الهضام، كانت في منزلها بالحصن عندما وصل الإمام على، ولم تكن تعرف بما يجرى من حولها، أهل الحصن أخبروا الإمام بأمرها وبشراستها وجرأتها وجبروتها، فطلب منهم أن يستدعوها، واقترح الرجال أن تذهب النساء، فنصح الإمام النساء أن يهتفن أمام منزلها بالشهادة، وعندما تستفسر منهن يحكين لها ويستدعينها للحضور أمامه، وبالفعل سألت وأخبروها فدخلت المنزل ووضعت خنجرا أسفل ملابسها وتوجهت مع النساء إلى حيث يوجد الإمام على، قبل وصول والدها الخطاف دق باب الحصن وفتحوا له وحملوه إلى الإمام على، ما الذى جرى بعد ذلك؟ الراوى قد يوضح لنا في هذه الحلقة:

«قال الراوى»: ثم تركتهم «يقصد الرغداء» وتقدمت إلى قرب الإمام وهى قابضة على خنجره وأسبلت عليه ثيابها وأضمرت أنها تحول بين الإمام وبين أبيها، وأن لا تدع الإمام أن يصل إلى أبيها وهى واقفة ترتعد من شدة الغيظ، فبينما هى كذلك إذ أقبل أبوها «الخطاف» والقوم في أثره حتى أتوا به المكان الذى فيه الإمام والمصابيح تزهو حوله وهو يحدثهم بحديث الإمام وغرائبه، إذ نظر فرأى الإمام جاثما كجثوم الأسد الضرغام «الضارى الشديد» فحقق الخطاف نظره فرأى الإمام، فعرفه فجعل كلما ينظر إليه يراه ويمسح عينيه ويعيد النظر إليه فتحققه فلما عرفه توقف عن المسير ووقعت الدهشة به وعاد كالسعفة، ثم التفت إلى القوم وقال: من هذا الرجل الذى هو جالس؟ فقالوا له: أيها السيد من معارفك وهو مشتاق إلى لقائك، فعند ذلك وثب إليه على من مكانه وثبة الأسد إذا عاين فريسته وقال له: أنا من لا تنكرنى إذا عرفت باسمى، أنا غريمك ومطلبك وإنى مشتاق إلى لقائك، أنا ممزق الكتائب، أنا ليث بنى غالب أمير المؤمنين على بن أبى طالب.

«قال الراوى»: فلما سمع الخطاف كلام على خرس لسانه وبطلت حركته، فهمّ على بسيفه وقال له: ما ينجيك من سيفى هذا إلا قول لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعند ذلك تقدمت ابنته إلى على وأرادت أن تمنعه عن أبيها، فنظر إليها أبوها طمعا أن تحميه من الإمام لما يعلم من شدتها وشجاعتها وقوتها، فنظر إليها على وصرخ عليها صرخته المعروفة فأرعشها وأدهشها بصرخته، فارتعشت واضطربت ومالت وكادت أن تسقط إلى الأرض فوقع الخنجر من يدها فاستغاثت بعلى وقالت: إنى أعوذ برضاك من سخطك يا أبا الحسن، إنى امرأة ضعيفة العقل وأخذنى ما يأخذ الأولاد على ولدهم من الشفقة، وأنى سمعت ممن رأى إليكم يقول إنكم شفعاء إلى رب السماء والأرض والمنقذون لمن ينزل به الويل والبلاء مهلا فلا تعجل بالنقمة، فسمع الإمام كلامها فتبسم ضاحكا وزال عنه الغيظ وقال: الأمر كذلك إنا عفونا عنك فقالت الرغداء: يا ابن عم رسول الله أنتم أهل الجود والكرم وحياتك أن حياتك عندى صارت قسما عظيما فامدد يدك فإنى أشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله وأنت ولى الله وسيفه ونقمته على أعدائه فانسر لذلك، وأما الخطاف فإنه حين أسلمت ابنته الرغداء وعاين ذلك منها التفت إليها وقال لها: لا نجوت عن البنات ولا بلغت من المسرات، فقال على رضى الله عنه: يا عدو الله وعدو نفسك، انظر إلى نفسك وحل ابنتك وتوطأ «دوس» في مجلسك فلست أعجل إليك وعليك، ولا أترك لله حجة إلا وأوضحها لديك، فالحق كلمتك بكلمتهم يكن لك الذى لنا وعليك الذى علينا.

«قال الراوى»: فالتفت الخطاف إلى قومه وقال لهم: ما تكون كلمتكم؟ فقالوا له: إننا قلنا جميعا رجالا ونساء كبارا وصغارا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال الخطاف: يا ابن أبى طالب إنى أريد أن تريحنى من النظر إليك فإنى أكره ذلك، فقال له الإمام: ولم ذلك يا ملعون يا عدو الله وعدو نفسه؟، قال: لأنى لا أشهد لك ولا لابن عمك إلا بالسحر والكهانة، فعند ذلك غضب الإمام غضبا شديدا وبادره بضربة فوقعت على أم رأسه، فعند ذلك اطمأنت الناس وأمنوا، فعند ذلك قال: يا معشر المسلمين إنى تركت أصحابى أريد أن أمضى إليهم أبشرهم بما منّ الله به علينا من فتح هذا الحصن وقتل عدو الله الخطاف، فعند ذلك قال القوم: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابعث من تختاره منا إليهم يؤمنهم ويبشرهم، ثم إن عليًّا دعا رجلا منهم يقال له جابر بن عقيم الباهلى «شخصية خيالية» ليبعثه فقال: لبيك يا أمير المؤمنين إنى أمضى في حاجتك وأبادر إلى مرادك، فشكره على وجازاه خيرا ودعا له ثم قال: يا جابر خذ خاتمى معك وانطلق إلى أصحابى وأقرئهم السلام وبشرهم بما منّ الله علينا من الفتح والنصر، وأمرهم بالمسير معك إلينا في مكاننا هذا، ثم قال: أسرع بما أمرتك به بارك الله فيك، فخرج جابر بن عقيم إلى أمر الإمام، فلما وصل إليهم ناداهم جابر فقالوا: من أنت؟ فقال: أنا جابر بن عقيم الباهلى، أرسلنى إليكم أمير المؤمنين، فقالوا: يا جابر أين تركت الإمام؟ فقال لهم: في الحصن والقوم حوله بعد أن ملكه وسلمت الرغداء الخطاف وجميع النساء، فلما سمع أصحاب الإمام ذلك كبروا، ثم ظهر لهم تكبير الفرج وفرحوا به فأمرهم بالمسير فساروا إلى أن أقبلوا على الحصن، فنزل إليهم جميع من بالحصن فاستقبلهم الإمام وسلم عليهم وعانق بعضهم بعضا، وفرحوا بإسلامهم، فلما اختلط الظلام دعا بجابر بن عقيم وأمره على مئة رجل يأمرهم بحفظ الغنائم، وأمر القوم كلهم بالمسير معه فقالوا: سمعا وطاعة يا ابن عم رسول الله، ثم أخذوا في إصلاح شأنه وجهزوا سلاحهم وتقلدوا سيوفهم وأتوا إلى الإمام فهم بالمسير، ثم سار الإمام رضى الله عنه وأصحابه إلى صحن الصخرة، وقد طلب له المسير فالتفت إلى القوم وقال: يا معاشر الناس إن أمرنا قد شاع في الحصون ولا بد أن تأتينا الجيوش، فهل فيكم من يأخذ لنا خبر الطريق ويسأل السالكين عن منتهى الطريق وحقيقة الأخبار؟ فكان أول من تقدم إلى الإمام ناقد بن الملك «الهضام»، فقال: يا أمير المؤمنين أنا إلى ما ذكرت مسارع، وتقدمت إليه الرغداء بنت الخطاف وقالت: يا ابن عم رسول الله إن البلاد بلادنا ونحن أعرف الناس بها وشجاعتى تعرفها الشجعان، وإذا أردت أن ترسلنى مع من تريد فافعل، ثم انتخب لها الإمام عشرة وأمَّر عليهم ناقد بن الملك، فسار ناقد فلما وصل إلى الحصن وجد أهله قد تأهبوا وعزموا على القتال، فرجع ناقد ومن معه فلما وصل إلى الإمام سأله عن الحال فقال ناقد: يا أمير المؤمنين إن القوم تحصنوا في حصنهم وعزموا على الحرب وتأهبوا للقتال، فانظر يا سيدى ما أنت له صانع؟ فقال الإمام: إذا أراد الله سبحانه وتعالى بفتحه تهدمت أركانه، قال ناقد: يا أمير المؤمنين إن في الحصن رجلا شديد القوة كثير الأذى وأحذرك أن يأتيك من أذيته شىء، فتبسم الإمام وقال: يا ناقد سر ثم سار ناقدا وأصحابه إلى أن وصلوا إلى الحصن.

فلما نظر الإمام إلى مكنته وعلوه وارتفاعه، قال: اللهم سهل علينا فتحه. ثم إن الإمام فرق عسكره كتائب ليكون هذا أهيب في قلوب المشركين لإيهام كثرة جيوشه، فلما رأوا ذلك ارتجفت قلوب القوم الذين هم داخل الحصن وقالوا لبعضهم: ما أكثر هؤلاء القوم، فبينما هم كذلك إذ أشرف أمير المؤمنين بجميع أصحابه فكبروا ونزلوا ولم يتعرضوا للقوم، فما استقر الإمام في مكانه حتى أشرف عليهم من الحصن رجل كأنه قطعة من جبل لهوله وعظمه، فلما نظره الإمام استعظم خلقته وقال: تبارك الخلاق العظيم، ثم أقبل الإمام إلى ناقد وقال له: أتعرف هذا الرجل المهول؟ فقال ناقد: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا صاحب الحصن وهو مصاهر لنا، وهو زوج ابنة أبينا ومن خوف أبى منه دفع إليه ابنته بغير مهر معجل ولا مؤجل، فبينما الإمام يسمع كلام ناقد إذ سمع صراخ عدو الله من أعلى الحصن وهو كأنه الرعد القاصف «شديد الصوت» والريح العاصف، وهو يناديه: يا معشر الجهال وعصابة الأرذال ارحلوا بأنفسكم غانمين وبأرواحكم سالمين، فلما سمع الإمام مقالته غضب غضبا شديدا، فوثب من مكانه وأفرغ عليه لامة حربه وقبض على سيفه وجحفته، وقدم الرعاة الذين هم معه وهم نحو مئتى رام فأنفذ لكل جهة من جهات الحصن وأقرنهم بأمثالهم من الرجال الذين هم بالدورق «إناء من الزجاج» لكل رجل رام رجل يلقى بدرقته «ترس من الجلد» عنه، ومال الإمام بمن معه إلى ناحية الباب، وقدم الرماة أمامه وقدم أصحابه إلى القتال فتحاربوا بالأحجار فرمى المشركون بالصخور الكبار ورمى الرماة بالنبال، فلما نظر الإمام ذلك عظم عليه فتقدم بنفسه إلى الباب وعدو الله يرمى بالأحجار والصخور، وجعل الإمام كلما وصل إليه حجر تلقاه بدرقته «ترسه» وأرخاه متباعدا عنه، وما زال القتال بين الفريقين إلى وقت العصر فعطف الإمام بأصحابه وقال: حسبكم من القتال فتراجع الناس إلى أماكنهم وعدو الله وأصحابه يعطفون ويهزؤون بهم، فعظم ذلك على الإمام وبات الفريقان يتحارسان وأضرمت النار وتولى الإمام حرس أصحابه بنفسه خوفا عليهم، فبينما هم كذلك وإذا بشخص قد ظهر في الطريق، فتأمله فنزل الإمام عن جواده وأتى إلى صخرة وجلس مختفيا وراءها حتى وصل إليه ذلك الشخص وصار محاذيا له، فوثب إليه الإمام وأمسكه من رجله ورماه إلى الأرض فقال ذلك الشخص: للإمام من أنت الذى أوهنت عظامى؟ فقال الإمام: أنا ليث بنى غالب أمير المؤمنين على بن أبى طالب، فلما سمع الشخص باسم على خرص لسانه، فلم تكن إلا ساعة والإمام واقف على رأسه حتى ردت إليه روحه وفتح عينيه وقال: يا ابن أبى طالب سألتك بحق ابن عمك أن تبقى على وتحسن إلىّ بكرمك، فقد كنت أتقيك وأحذرك قبل أن أراك، فعند ذلك عفا عنه الإمام وأوثقه كتافا وأخذه إلى عسكره فحل وثاقه وقال له: يا هذا قل الصدق تنج وإياك أن تقول غيره فتهلك، فقال الشخص: يا ابن أبى طالب أما قولى فصدق وهو الحق أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن ابن عمك رسول الله، والآن فخذ حذرك فقد أتاك عسكر جرار وهم عشرة آلاف فارس من كل بطل مداعس «غليظ طعان» يقدمهم بطل مقدم العشرة آلاف وهو غنام بن الملك الهضام «شخصية خيالية درامية» إنه لما وصلت إليه أخبارك وما فعلت في حصونه أراد أن يأتى إليك بنفسه، فأقسم عليه ولده غنام بقوة المنيع أنه يأتى ويقبض عليك ويوصلك إليه حقيرا ذليلا أسيرا، فتبسم الإمام ضاحكا من قوله وقال: له ما اسمك يا هذا؟ قال: اسمى القداح بن واثلة «شخصية درامية خيالية»، فقال له: يا قداح أريد منك أن تمضى إليهم في هذا الليل وتجعل لى طريقا معك توصلنى إليهم، فقال القداح: إذا وصلت إليهم يا مولاى ما الذى يكون؟ فقال الإمام: أفتح الحصن وأقتل عدو الله كنعان على يديك، فقال القداح: إن كنت نائما فاستيقظ فإن الذى قلته بعيد.[4]

«قال الراوى»: فوثب ناقد بن الملك على القداح ونهره وقال له: لا أم لك اعرف مكانك واعلم من تكلم، فهذا الذى تكلمه فارس الفرسان، هذا ليث بنى غالب على ابن أبى طالب، فأقصر من كلامك وإلا رميت بهذا السيف، فجزع مما سمع وأخذته الرعشة والدهشة من كلام ناقد وغيره، فقال الإمام: يا قداح قد وجب عليك الجهاد في سبيل الله فإن أردت أن يمحوَ الله ما سلف من ذنبك فهب لى نفسك لله ومرضاته في هذه الليلة، فقال القداح: إنى أخاف من القتل وورائى أطفال وليس لهم قريب ولا حبيب ولا أم عجوز كبيرة، فإذا قتلت فمن يكون لهم بعدى؟ فقال له الإمام: لهم الذى خلقهم ورزقهم عليه وأنا أضمن لك من الله السلامة، فإنه على ما يشاء قدير، ثم أخذ الإمام مطيته من أصحابه وأقبل عليهم وقال: ارتحلوا راجعين على أعقابكم، فإذا سمعتم التكبير فأطلقوا أعنة الخيل وأتونى مسرعين فارتحل القوم من وقتهم وساعتهم، فقام الإمام وركب مطيته وقال للقداح: اركب مطيتك، فركب القداح وسار والإمام معه إلى أن وصل إلى باب الحصن، وأحس بهم أهل الحصن فنادى كنعان: من الطارق لنا في هذا الليل الغاسق، فجاوبه القداح وقال: أيها السيد العظيم أنا رسول الله بشارة كنعان، وقال: لعلك يا قداح جئت من عند الملك؟ قال: نعم إنه قد أتاك ابنه له عشرة آلاف فارس، فنزل كنعان بنفسه إلى باب الحصن ليفتحه للقداح ونزل معه جماعة من قومه وقد امتلأت قلوبهم بالفرح والسرور، فتقدم الإمام إلى الباب وترك القداح وراءه لأنه سمع المفاتيح عند افتتاحها، فقبض بسيفه وطال وقوفه على الباب فلم يفتح، وكان السبب في ذلك أنه لما وصل عدو الله إلى الباب ومن معه وأراد أن يفتحه بنفسه من شدة الفرح، ظهر له إبليس، فلما نظر القوم شخصوا نحوه وذهلوا من منظره، فأتى إلى كنعان وأخذ المفاتيح من يده وولى راجعا، وأشار إلى القوم أن يتبعوه إلى الحصن فلحقوا في أثره، فلما بعد عن الباب قال: يا ويلكم أنا رسول المنيع جئت إليكم لأنظر ماذا تصنعونه بأنفسكم، حيث أردتم أن تسلموا حصنكم إلى على ابن أبى طالب بلا قتال ولا نزال، فقال كنعان: أيها الرسول الكريم وأين على بن أبى طالب؟ فقال: ها هو واقف على الباب مع القداح من حزبه ومن أهل دينه وقد ساقه إليكم ليهجم عليكم فاندهش القوم من ذلك.


المصادر

  1. ^ تقديم وتحقيق علاء عريبي (2013-07-19). "علاء عريبي يكتب: الحصون السبعة.. الحلقة العاشرة". صحيفة التحرير المصرية.
  2. ^ تقديم وتحقيق علاء عريبي (2013-07-20). "«الحصون السبعة».. الحلقة الحادية عشرة يقدمها علاء عريبى". صحيفة التحرير المصرية.
  3. ^ تقديم وتحقيق علاء عريبي (2013-07-21). "الحصون السبعة..السيرة الشعبية لمحاربة الإمام علىّ لملك الجان الكافر «الحلقة الثانية عشر»". صحيفة التحرير المصرية.
  4. ^ تقديم وتحقيق علاء عريبي (2013-07-23). "الحصون السبعة «الحلقة الرابعة عشرة»". صحيفة التحرير المصرية.