تحليل فلسفي

التحليل الفلسفي Philosophical analysis (من باليونانية: Φιλοσοφική ανάλυση)، هو مصطلح عام يوصف تقنية يستخدمها الفلاسفة في التوجه التحليلي الذي يتضمن "تكسير" (مثل تحليل) المسائل الفلسفية. ويمكن الجدل أن أهم تلك التقنيات هو تحليل المفاهيم (المعروف باسم تحليل مفهومي). هذه المقالة تفحص التقنيات الفلسفية الرئيسية المقترنة بفكرة التحليل، وكذلك تفحص الخلافات المثارة حولها.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلفية

التحليل والتركيب analysis & synthesis عمليتان عقليتان تقوم عليهما معظم المناهج، والمراد منهما التفكيك العقلي لكلٍّ ما إلى أجزائه المكونة أو عناصره أو أسبابه وشروطه، وإعادة تكوين الكل من أجزائه. فالتحليل عكس التركيب. وللتحليل والتركيب أثر مهم في عملية المعرفة، فيَتِمُّ كل منهما ـ باعتبارهما منهجين للتفكير، يستخدمان التصورات المجردة، ويرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالعمليات الذهنية الأخرى ـ التجريد والتعميم، وغيرهما، حسب اختلاف الموضوع والمذهب الفلسفي. وكل تحليل يفترض مقدماً تركيباً، لأنه إذا لم يكن أمام الذهن شيء مترابط، فإنه لا يستطيع أن يحل أو يفك.[1]

ويتقدم الذهن في منهج التحليل من المركب إلى البسيط، من العرضي إلى الجوهري، ومن التنوع إلى الوحدة. وغرضه من ذلك إدراك الأجزاء لهذا الكل وإقامة الروابط بينها، ومعرفة القوانين التي تحكمها. بيد أن التحليل يفضي إلى عزل خصائص لم ترتبط بعد بالأشكال المتعينة لمظاهرها.

أما منهج التركيب فيقوم بتوحيد الأجزاء والخصائص والعلاقات التي يفصلها التحليل، في كل واحد، انتقالاً من المتوحد والجوهري إلى المختلف والمتنوع، فهو يضم العام والفردي، الوحدة والتنوع في كل حي متعين. وعليه فالتركيب يكمّل التحليل، وتضمهما معاً وحدة لا يمكن فصمها.

وثمة عدد كبير من الفلاسفة القدماء ابتداء من السفسطائيين، وسقراط وأفلاطون وأرسطو، وصولاً إلى ديكارت، وبيكون ولوك وبركلي وهيوم ثم كَنْت حتى القرن العشرين قد آثروا التحليل منهجاً فلسفياً.

فقد كان هدف السفسطائيين تحليل المعرفة، لهذا اهتم بروديقوس على سبيل المثال، بالتمييز بين المعاني المختلفة للكلمات. واستخدم سقراط منهج التحليل في معالجته التصورات الأخلاقية المختلفة، كالعدالة والتقوى والشجاعة. كما يظهر التحليل جلياً في محاورات أفلاطون خاصة في «بارميندس»، ثم في منطق أرسطو. أما في الفلسفة الحديثة فقد عمل فرنسيس بيكون على تحليل أخطاء العقل الإنساني، وحددها بالأوهام أو الأصنام، وهو الموضوع الأساسي عند فلاسفة التحليل المعاصرين (تيار تحليل اللغة العادية). وانشغل لوك بتحليل اللغة ليكشف عن دلالة الألفاظ على المعاني، وتأثير اللغة في الفكر للوصول إلى طبيعة المعرفة اليقينية البرهانية. وحلل هيوم السببية في حدود تصورات العرضية وتماثل الأحداث، ثم المعرفة كما تبدو للشعور، وخلص إلى نوعين متميزين: انطباعات وأفكار. ومارس بركلي التحليل في نقده للأفكار المجردة والعنصر المادي. وكذلك ديكارت الذي جعل من التحليل سبيلاً للوضوح في قواعده الأساسية. واستندت الفلسفة المثالية idealism الألمانية إلى منهج التحليل لتعيد الحياة إلى الميتافيزيقة. فركز كَنْت على تحليل القضايا العلمية، ونتج منه التحليل المتعالي transcendental الذي عدّه علم الصور القبلية التي يتألف منه العقل، و يقوم على تحليل المعرفة للكشف عن المبادئ والمفهومات القبلية التي تجعل المعرفة ممكنة. أما هيگل فقد أسس الميتافيزيقة على منطق جديد هو المنطق الجدلي، وهو منطق يدور حول تحليل معنى الوجود. وتأثر برادلي ـ في إنكلترة ـ بتحليل هيگل لمعنى الوجود، فأجمل رأيه في كتابه «الظاهر والحقيقة»، وحلل فيه معاني المادة والمكان والزمان والطاقة، التي هي أركان العلم الطبيعي.

وهذا يدل على أن التحليل كان مهمة الفلسفة بأكملها في حل المشكلات التصورية والمعرفية والوجودية وكذلك اللغوية، كما تجلت عند فلاسفة التحليل المعاصرين أمثال زعماء الواقعية الجديدة: مور ورَسِل وفتغنشتين (مدرسة كمبردج)، وممثلي الوضعية المنطقية (جماعة فيينة) logical positivism مثل رسل وفتگنشتين في مرحلته المبكرة، وكارناب، وأصحاب الاتجاه التحليلي اللغوي: مور، وفتگنشتين في مرحلته المتأخرة وأوستن، ورايل، وستواسون، وويزدوم، وآير وغيرهم (مدرسة أكسفورد).

أما التركيب فهو عند الفلاسفة القدماء مرادف للتأليف، بحيث تكوّن الأشياء المتعددة ما يطلق عليه اسم الواحد. لكن ديكارت يجعل من التركيب مرادفاً للترتيب فيقول في «مقالة الطريقة» «أن أرتب أفكاري، فأبدأ بأبسط الأمور، وأيسرها معرفة، وأتدرج في الصعود شيئاً فشيئاً، حتى أصل إلى معرفة أكثر الأمور تركيباً، بل أن أفرض ترتيباً بين الأمور التي لا يسبق بعضها بعضاً بالطبع، إشارة إلى هذا التركيب العقلي». والتركيب عند هيگل هو جوهر فرضيته في الصراع بين الأضداد، الذي يوصل إلى الحقيقة المطلقة من اتحاد الأضداد وانسجامها.

وترتبط مشكلة التركيبي والتحليلي ارتباطاً وثيقاً بالتمييز بين المعرفة التجريبية المستندة إلى الواقع، والمعرفة النظرية ( الخاصة بالقوانين). وقد عبر ليبنتز عن هذا التمييز بتقسيم جميع الحقائق إلى حقائق ضرورية (المعرفة النظرية) وحقائق عرضية (المعرفة المستندة إلى الواقع).

كما يميز المناطقة الصوريون المحدثون بين الحقيقة المنطقية (الأحكام التحليلية) والحقيقة الفعلية (الأحكام التركيبية). فالحكم التحليلي analytic judgement عند كَنْت مثلاً هو القضية الحملية، التي يكون فيها المحمول داخلاً في تضمن الموضوع، خلافاً للحكم التركيبي synthetic judgement الذي يكون فيه المحمول زائداً على تضمن الموضوع. ومن صفات الأحكام التحليلية أنها لا تستند إلى التجربة، ولا توصل أي معلومات عن الواقع (فهي تحصيل حاصل)، وهي تشكل محتوى العلوم الصورية (الرياضة والمنطق)؛ أما الأحكام التركيبية فهي تقوم على التجربة وتشكل محتوى العلوم التجريبية. الأحكام الأولى عبارات قبلية (أولية) والأحكام الثانية عبارات بعدية، مع أن كَنْت» يعدّها في كتابه «نقد العقل المحض» قبلية prior. ومن وجهة نظر المادية الجدلية، فإن جميع الأحكام الخاصة بأي علم تقوم في المقام الأخير على التجربة، ويتحدد تقسيم الأحكام إلى تحليلية وتركيبية بمكانها في نسق منطقي محدد للمعرفة.

وصار التحليل تياراً فلسفياً قائماً بذاته مع فلسفة التحليل المعاصر، التي أكدت ضرورة التحليل اللغوي linguistic analysis، الفلسفة التي أدت في معظم الأحيان إلى ما أسماه كارل بوبر «اللفظية الفارغة» empty verbalism. والمقصود بالتحليل في هذه الفلسفة تحليل الوحدات اللغوية، وكيفية تناول اللغة، ومعاني الكلمات، وكيفية تطور اللغة. واللغة المطلوب تحليلها ليست هي اللغة العادية natural ordinary، وإنما اللغة الاصطناعية artificial لأنها أكثر دقة في حل المشكلات الفلسفية. فتمسك بعض الفلاسفة التحليليين باللغة الاصطناعية موضوعاً للتحليل (تيار الوضعية المنطقية)، في حين رأى آخرون العكس، والوجوب الاستناد إلى اللغة الطبيعية العادية (تيار التحليل). على أن بعض التحليليين لا يندرج تحت هذين التيارين، تشومسكي Chomisky مثلاً.

والجدير بالذكر أن جميع المذاهب الكبرى في التحليل المعاصر قد اقتبست من رسل، ولمنهجه في التحليل وجهان فلسفي ورياضي، نصل لأولهما إما بتحليل التجربة وإما بتحليل اللغة، أما الثاني فبتحليل المفهومات والتصورات الرياضية وردها المفهومات منطقية. وتقوم نظريته في التحليل على ثنائية الواقع أو ثنائية العقل والمادة أو الكليات و الأحاديات. والتحليل هو اكتشاف مكونات الكل المعقد والعلاقات بينها، حتى ليمكن تسميته بتفكير في شكل علاقات relational thinking. وقد طور رسل نظريته تحت عنوان الذرية المنطقية logical atomism. وما من شك أن منهج التركيبية المنطقية logical constructionism في فلسفة رسل، ونظريته في الأوصاف descriptions theory هما محاولتان لتطبيق التحليل المنطقي على بعض مسائل الفلسفة. والنظريات التي وصل إليها في المنطق والفلسفة حصل عليها بتحليله لعناصر التجربة العادية، ومن تحليله للغة عادية واصطناعية.

أما مور (فيلسوف المعنى)، فقد استند في نقده أحد المبادئ الأساسية للفلسفة المثالية، وهو مبدأ داخلية العلاقات، إلى تحليل المعاني، محتكماً بذلك إلى ما أسماه بالمعنى المشترك common-sense. فاستخدم منهج التحليل كشكل من أشكال التعريف، ليس تعريف الكلمات، لكنه تعريف المفهومات والقضايا، فبحث عن معاني الكلمات واستخداماتها المختلفة، والفرق بين مدلولاتها الفلسفية والعادية، ولم يتخذ من التحليل اللغوي هدفاً لذاته، بل على أنه وسيلة لبلوغ اليقين حول الواقع والوصول إلى عناصر الموضوعات والمفهومات، فكان لمنهجه في التحليل المنطقي أثر بالغ في الوضعية الجديدة في بريطانية (آير وبوبر).

أما فتغنشتين فقد بدأ رَسِلياً وانتهى مورياً، فوافق رَسِل في ذريته المنطقية، وتابع مور فيما بعد في تأكيده أهمية تحليل اللغة العادية، لأن الفلسفة هي تحليل اللغة، والمشكلات الميتافيزيقية خالية من المعنى، ومعظم قضايا الفلاسفة «تنشأ من فشلنا في فهم منطق لغتنا»، و«يمكننا إزالة كل سوء فهم إذا جعلنا تعبيراتنا أكثر دقة».

ويعالج «آير» الكثير من المشكلات الفلسفية (أصالة المعرفة، العلاقة بين الموضوع المادي والمعطى الحسي) من موقف وضعي، عن طريق تحليل المفاهيم الملائمة، وترجمتها إلى اصطلاحات واضحة وضوحاً منطقياً.

وتؤكد الوضعية المنطقية، أنه لا يمكن قيام فلسفة علمية أصيلة إلا بوساطة التحليل المنطقي للعلم. وتتفق التجريبية المنطقية معها في ضرورة رد الفلسفة إلى التحليل المنطقي للغة (السيمنطيقا المنطقية والعامة logical semamtics)، التي مثَّلها «فريجة»، وأسهم كارناب وكوين وتشيرتش وكيميني في تطوير المنحى التحليلي للغة العلم، ليشمل تطبيقه علم اللسانيات الحاسوبي والترجمة الآلية والترتيب الآلي للمعلومات.

ومثّل تيار التحليل اللغوي، أو فلسفة اللغة العادية، في بريطانية مدرسة أكسفورد ( رايل وويزدوم وأوستن austin وستراوسون)، وأيضاً مثلّه في أمريكة ماكس بلاك ومالكولم وغيرهما. وقد ركز دعاته، على عكس الوضعيين المناطقة، على أن الهدف الوحيد للبحث الفلسفي هو تحليل اللغة بوصفها وسيلة تكوين، وليست انعكاساً للعالم، مع الأخذ في الحسبان أنه لا يمكن التعبير عن اللغة المنطوقة الطبيعية تماماً في إطار أي «لغة أنموذجية».

فيميز ويزدوم Wisdom بين ثلاثة أنواع من التحليل، المادي والصوري والفلسفي، ويعد التعاريف العادية للعلوم الطبيعية نماذج للتحليل المادي، ونظرية رَسِل في الأوصاف نموذج للتحليل الصوري، أما التحليل الفلسفي فيهدف إلى اختزال ما يقال، تعبيراً عن العقل إلى تعبير عن الحالات العقلية، وما يقال تعبيراً عن الموضوعات المادية إلى تعبير عن معطيات حسية.

ويصيغ رايل Ryle نظريةً أشبه بنظرية فتغنشتين، فالفلسفة عنده نشاط، هدفه رفع الخلط وسوء الفهم في التصورات التي نستخدمها في تعبيراتنا اللغوية، وأن النهج السليم لدرء هذا الخلط لا يكون إلا بتحليل عباراتنا اللغوية، لتوضيح التصورات المستخدمة، والتخلص من أخطاء التصور وبيان الصواب من الخطأ، خطأ المقولة، هذا الخطأ الذي يحدث عند ما نلصق بمقولة معينة شيئاً ينتمي إلى مقولة أخرى.

ووصف كارناب الفلسفة بأنها منطق العلم أو التحليل المنطقي لمفهوماته ونظرياته، وهذا التحليل هو البناء المنطقي للعلم، وبهذا تتحدد مهمة الفلسفة عنده بأنها تحليل اللغة تحليلاً سيميوطيقياً semiotic، أي تحليلها من حيث هي رموز لبناء الكلام المعرفي: تحليل العلاقات بين اللغة والعالم كما ترد في دلالات الألفاظ. فالتحليل والتركيب عند كارناب يرتبط بالنسق السيمانطيقي semantical system للعبارة، أي تلك القواعد التي بها تتحدد شروط صدق العبارة، والعلم المعني به هو علم السيمنطيقا أو علم دلالات الألفاظ المنطقية وتطورها.

والجدير بالذكر أن التحليل الذي بدأ مع رَسِل انتهى بالوضعية المنطقية، وما أضافه كارناب وآير تراجعا عنه في كتبهما اللاحقة، على التوالي، «الحقيقة والإثبات ـ 1935» ومقدمة آير لكتابه «اللغة والحقيقة والمنطق ـ 1946». ومما لا شك فيه أن التحليل قام معارضاً حدسية برادلي ثم برگسون، وانتهى إلى معارضة مفهوم الفلسفة بوصفها أداة إيضاح المفهومات الصعبة الأساسية.


جدل

المصادر

  • Bealer, George. (1998). "Intuition and the Autonomy of Philosophy". In M. DePaul & W. Ramsey (eds.) (1998), pp. 201–239.
  • Beaney, Michael. (2003). "Analysis". The Stanford Encyclopedia of Philosophy (link).
  • Bertolet, Rod. (1999). "Theory of Descriptions". Entry in The Cambridge Dictionary of Philosophy, second edition. New York: Cambridge University Press.
  • Chalmers, David. (1996). The Conscious Mind: In Search of a Fundamental Theory. Oxford: Oxford University Press.
  • DePaul, M. & Ramsey, W. (eds.). (1998). Rethinking Intuition: The Psychology of Intuition and Its Role in Philosophical Inquiry. Lanham, MD: Rowman & Littlefield.
  • Foley, Richard. (1999). "Analysis". Entry in The Cambridge Dictionary of Philosophy, second edition. New York: Cambridge University Press.
  • Jackson, Frank. (1998). From Metaphysics to Ethics: A Defense of Conceptual Analysis. Oxford: Oxford University Press.
  • Margolis, E. & Laurence, S. (2006). "Concepts". The Stanford Encyclopedia of Philosophy (link).
  • Ramsey, William. (1998). "Prototypes and Conceptual Analysis". In M. DePaul & W. Ramsey (eds.) (1998), pp. 161–177.
  • Stich, Stephen. (1998). "Reflective Equilibrium, Analytic Epistemology, and the Problem of Cognitive Diversity". In DePaul and Ramsey (eds.) (1998), pp. 95–112.
  • Wittgenstein, Ludwig (1953). Philosophical Investigations.

هوامش

  1. ^ "التحليل والتركيب". جريدة الشرق الأوسط. Retrieved 2011-12-19. {{cite web}}: Unknown parameter |authot= ignored (help)

انظر أيضا

وصلات خارجية

  • Analysis entry in the Stanford Encyclopedia of Philosophy by Michael Beaney
  • "Concepts" - an article by Margolis & Laurence in the Stanford Encyclopedia of Philosophy (section 5 is a good, but short, presentation of the current issues surrounding conceptual analysis in philosophy).
  • "Analytic Philosophy" - an article by Aaron Preston in the Internet Encyclopedia of Philosophy.
  • "Water's water everywhere" by Jerry Fodor - a review of C. Hughes's book Kripke: Names, Necessity and Identity at the London Review of Books (Fodor goes into several issues regarding the philosophical method of analysis).