ليو العاشر

(تم التحويل من Pope Leo X)
ليو العاشر
Leo X
Papacy began9 مارس 1513 (اُنتخب)
11 مارس 1513 (أُعلن)
انتهت بابويته1 ديسمبر 1521 (8 سنوات، 8 شهور، 20 يوم)
سبقهيوليوس الثاني
خلفهأدريان السادس
الترسيم17 مارس 1513
أصبح كاردينال26 مارس 1492
تفاصيل شخصية
اسم الميلادجيوڤاني دي لورنزو ده ميدتشي [1]
وُلِد11 ديسمبر 1475
فلورنسا، جمهورية فلورنسا
توفي1 ديسمبر 1521
روما، الدول البابوية
پاپوات آخرون اسمهم ليو
بابوي styles of
ليو العاشر
C o a Papas Medicis.svg
أسلوب الإشارةقداسته
أسلوب المخاطبةقداستك
الأسلوب الدينيالأب المقدس
الأسلوب بعد الوفاةلا يوجد

البابا ليو العاشر Pope Leo X (11 ديسمبر 1475 – 1 ديسمبر 1521)، ولد باسم جوڤاني دي لورنزو ده مديتشي، كان بابا من 1513 حتى وفاته في عام 1521. وكان آخر بابا منتخب لم يكن كاهناً (كان فقط شماسا).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكردينال الغلام

إن البابا الذي خلع اسمه على عصر من أزهى العصور وأكثرها خلوداً في تاريخ روما ليدين بتاريخه الكنسي إلى ما كان لأبيه من دهاء سياسي وخطط سياسية بارعة، ذلك أن سكستس الرابع كاد يقضي على لورندسو ده ميديتشي، وكان لورندسو هذا يرجو أن يعلو سلطان أسرته وأن يكون أبناؤه وحفدته آمنين على أنفسهم ومراكزهم في فلورنس إذا كان أحد أبناء هذه الأسرة من بين أعضاء مجمع الكرادلة، يشغل مكاناً في الدوائر الداخلية للكنيسة. ولذلك أخذ يعد ابنه الثاني جوڤني للمنصب الكنسي وكاد يفعل به هذا منذ مولده. ولمّا بلغ الغلام العاشر من عمره (1482) حلق شعر يافوخه ، وما لبث أن نفخ بمناصب ذات أجر من غير عمل؛ فقد عين وصياً على بعض أملاك الكنيسة، على أن يكون له الفائض من ريعها. وفي السنة الثامنة عين رئيساً لدير فون دوس Font Douce في فرنسا، وفي سن التاسعة كانت له رياسة دير پاسنيانو Passignano ذات الإيراد الضخم، وفي الحادية عشرة كان رئيساً لدير منتي كسينو ذي الذكريات التاريخية؛ وقبل أن يختار جيوفني للجلوس على عرش البابوية كان قد اجتمع له ستة عشر من هذه المناصب(1). وقد عيّن وهو في سن الثامنة كبيراً للموثقين البابويين، ثم عين كردنالاً في سن الرابعة عشرة.

وقد زود هذا الحبر بكل ما يتاح لأبناء الواسعي الثراء من ضروب التربية والتعليم؛ فنشأ بين العلماء، والشعراء؛ ورجال الحكم، والفلاسفة، وعين مارتشيلو فنتشينو Marcilio Ficino مربياً به، وتعلم اللغة اليونانية على دمتريوس كلكنديلس Demetrius Chalcondylese، والفلسفة على برناردو دا ببينا Bernardo Bibbiena الذي أصبح فيما بعد أحد كرادلته. وأشرب، مما في قصر والده وما حوله من مجموعات فنية ومن حديث حول الفن، حب الجمال الذي كاد يكون له ديناً حينما نضجت سنه. ولعله قد أخذ عن والده سخاءه العظيم وعدم مبالاته بالمال، كما أخذ عنه حياته المرحة، التي تكاد تكون أبيقورية، وهاتان الصفتان هما اللتان امتازت بهما حياته وهو كردنال وكذلك وهو بابا، وكانت لهما آثار بعيدة المدى في العالم المسيحي. ولمّا بلغ الثالثة عشرة من عمره التحق بالجامعة التي أنشأها والده في بيزا، وظل فيها ثلاث سنين يدرس الفلسفة واللاهوت، والقانون الكنسي والمدني. ولمّا بلغ السادسة عشرة سمح له علناً بأن ينضم إلى مجمع الكرادلة في روما؛ وقد بعثه إليه لورندسو (12 مارس من عام 1492) مزوداً برسالة تعد من أكثر الرسائل طرافة في التاريخ.

من واجبك ومن واجبنا جميعاً نحن الذين يهتمون بمصلحتك أن نعتقد أن الله حبانا بعنايته؛ وليس ذلك لما أفاضه على بيتنا من النعم ومظاهر التبجيل والتكريم فحسب، بل لأنه فضلاً عن هذا وأعظم منه قد أسبغ علينا، في شخصك أنت، أعظم ما استمتعنا به حتى الآن من عز وكرامة، وهذه النعمة التي أنعمها علينا، والتي هي في حد ذاتها من أجل النعم، ليزيد من قدرها ما يصاحبها من الظروف، وخاصة ما كان منها متصلاً بشبابك وبمكانتنا نحن في العالم. ولهذا فإن أول ما أعرضه عليك، هو أنه ينبغي لك أن تسبح بحمد الله، وأن تذكر على الدوام أن كل ما نالك من خير ليس مرده ما تتصف به من فضائل، أو فطنة، أو حسن تدبير، بل إن مرده هو فضل الله عليك، وهو دين لا تستطيع أن توفيه إلاّ بالتقوى؛ والعفة، وأن تجعل حياتك مثلاً يحتذى. وإن ما يفرضه عليك أداء هذا كله من واجبات ليزداد ويعظم لأنك قد بانت عليك في سنيك المبكرة مخايل تدل على أن العالم سيجني منك هذه الثمار الطيبة متى نضج عقلك وجسمك... فاعمل إذن على أن تخفف العبء الملقى على كرامتك المبكرة، بالتزام النظام في حياتك، وبمثابرتك على دراسة العلوم التي تؤهلك لمنصبك. ولشد ما سرّني إذ علمت أنك في خلال العام المنصرم، قد أكثرت من تناول العشاء الرباني ومن الاعتراف، وأنك فعلت هذا من تلقاء نفسك. ولست أعتقد أن ثمة طريقة ينال بها رضاء الله خيراً من أن تعتاد أداء هذه الواجبات وأمثالها...

وإني لأعلم حق العلم أنك، وأنت تقيم الآن في روما بؤرة المظالم والشرور جميعها، ستزداد في وجهك الصعاب حين تحاول أن تأخذ نفسك بالتزام هذه النصائح. نعم إن تأثير القدوة الطيبة لا يزال منتشراً قائماً لم تدرس معالمه، ولكنك ستلتقي في أكبر الظن، بأقوام يحاولون جهدهم إفساد خلقك وإغراءك بارتكاب الإثم؛ ذلك أنه ليس بخاف عليك أن ما بلغته من مكانة سامية في هذه السن المبكرة قد جر عليك حسد الحاسدين؛ وأن الذين عجزوا عن أن يحولوا بينك وبين هذه المكانة السامية لن يدخروا وسعاً في الحط منها وذلك بإغرائك على أن تأتي من الأعمال ما تفقد به تقدير الشعب لك، فيدفعونك بهذا إلى الهاوية التي تردوا هم فيها، ولهم في شبابك ما يغريهم ويؤكد لهم في ظنهم أنهم لا شك ناجحون فيما يحاولون. فحصّن نفسك إذن لملاقاة هذه الصعاب بكل ما تستطيع من قوة العزيمة، لأن الفضائل لا تزال في هذه الأيام ضعيفة الشأن بين إخوانك في مجمع الكرادلة. ولست أنكر بطبيعة الحال أن من بينهم رجالاً صالحين، أوتوا قسطاً كبيراً من العلم والمعرفة، يضربون بحياتهم أحسن الأمثلة لغيرهم من الناس، وأنا أوصيك بأن تتخذ هؤلاء قدوة لك، وأن تسلك في حياتك مسلكهم، فأنت إذا حذوت حذوهم وسرت على سيرتهم، ازداد تقدير الناس لك وانتشر صيتك بقدر ما تميزك سنك ومكانتك عن غيرك من زملائك. بيد أني أنصحك بأن تباعد ما بينك وبين ملق المتملقين؛ وأحذر الخيلاء والمظاهر الباطلة في سلوكك وحديثك؛ ولا تتصنع الزهد، وحتى الجد نفسه لا تبد مسرفاً فيه؛ وأرجو أن تفهم في مستقبل الأيام معنى هذه النصيحة وتسير عليها سيراً يفوق كل ما أستطيع الإفصاح عنه.

على أنك لست بغافل عمّا للأخلاق التي ينبغي لك أن تتخلق بها من شأن عظيم، لأنك تعلم حق العلم أن العالم المسيحي على بكرة أبيه سوف يزدهر ويعمّه الرخاء إذا اتصف الكرادلة بما يجب أن يتصفوا به من أخلاق طيبة؛ ذلك أنهم إن كانوا كذلك كان البابا حتماً من الصالحين في جميع الأوقات. وطمأنينة العالم المسيحي، كما تعلم، إنما تعتمد على وجود البابا الصالح. فاعمل إذن على أن تكون بحث إذا كان سائر الكرادلة مثلك، كان لنا أن نرجو نيل هذه النعمة الشاملة. وليس من السهل أن أسدي إليك نصائح مفصلة دقيقة تسترشد بها في سلوكك وحديثك، ولهذا فحسبي أن أنصحك بأن تكون العبارات التي تستخدمها في حديثك مع الكرادلة وغيرهم من ذوي الدرجات العلي خالية من التشامخ، يزنيها تقديرك واحترامك لمن يحدثك... على أن من الخير لك في زيارتك هذه لومة - وهي أولى زياراتك لهذه المدينة، أن تصغي إلى غيرك من الناس لا أن تكثر أنت من التحدث إليهم...

واجعل عدتك وثيابك في المناسبات الرسمية دون الدرجة الوسطى لا فوقها، واعلم أن البيت الجميل، والأسرة الحسنة التنظيم أفضل من الحاشية الكبيرة والمسكن الفخم... وأن الحرير والجواهر لا تليق بمن هم في مثل مركزك؛ وإنك لتستطيع أن تظهر ذوقك بأحسن مما تظهره هذه الثياب والجواهر بأن تحصل على عدد قليل من الآثار القديمة الظريفة، أو بجمع الكتب الجميلة الشكل، وبأن يكون أتباعك من المتعلمين الحسني التربية لا بالكثيرين. وادع غيرك إلى دارك أكثر مما تتلقى الدعوات إلى دور غيرك، وإن كان عليك ألا تسرف في هذه أو تلك. وليكن طعامك بسيطاً، ومارس الرياضة البدنية بالقدر الكافي؛ لأن من يلبسون الثياب التي تلبسها سرعان ما تصيبهم الأمراض إذا لم يعنوا بأجسامهم أعظم العناية... واعلم أن قلة الوثوق بالناس عن الحد الواجب حير من الإسراف في الثقة بهم. وثمة قاعدة ألفت إليها نظرك وهي لدى أفضل من كل ما عداها: استيقظ من النوم مبكراً، فإن هذا الاستيقاظ المبكر لن يفيدك صحة في الجسم فحسب، بل إنه سيمكنك فوق ذلك من أن تنظّم أعمال اليوم وتنجزها؛ وإذ كان مركزك يحتم عليك القيام بأعمال متعددة، كأداء الصلوات والخدمات الدينية ؛ والدرس، والاستماع إلى ذوي الحاجات وما إلى ذلك، فإنك ستفيد من هذه النصيحة أكبر فائدة... وسيطلب إليك في أغلب الظن أن تتوسط لدى البابا في ظروف معينة. ولكن عليك ألاّ تكثر من الإلحاح عليه ومضايقته، لأن مزاجه يجعله أعظم ما يكون سخاء على أقل الناس إلحاحاً برجائهم ومطالبهم. إن عليك أن تراعى هذه النصيحة لئلاّ تغضبه، وألاّ يفوتك أن تتحدث إليه في بعض الأوقات في موضوعات أحب إلى النفس من هذه الشفاعات؛ وإذا كان لابد لك أن تطلب إليه منه، فاطلبها بالتواضع والخضوع الذين يسرانه ويوائمان مزاجه. استودعك الله(2).

وتوفي لورندسو قبل أن يمضي بعد هذا الوقت شهر واحد، ولم يكد جيوفني يصل إلى "بؤرة الفساد والظلم". حتى عجّل بالعودة إلى فلورنس ليؤيد بيرو أخاه الأكبر في أن يرث سلطانه السياسي المزعوم. وكان من المصائب القليلة التي لاقاها جيوفني في حياته أنه كان في فلورنس حين سقط بيرو عن عرشه.ولم يجد هو وسيلة للنجاة من غضب المواطنين على آل ميديتشي، ذلك الغضب الذي لم يفرقوا فيه بين أفراد هذه الأسرة، إلا أن يتخفى في زي راهب فرنسيسي، وأن يشق طريقه وهو متخف في هذا الزي بين الجماهير المعادية، وأن يطلب الالتحاق بدير سان ماركو الذي سخا عليه أسلافه بالهبات، ولكنه كان وقتئذ تحت سيطرة سفنرولا عدو أبيه. ولهذا أبى الرهبان قبوله فيه، فاختفى وقتاً ما في إحدى ضواحي المدينة، ثم اتخذ سبيله فوق الجبال لينضم إلى أخوته في بولونيا؛ وقد تجنب الذهاب إلى روما لأنه كان يكره الإسكندر السادس؛ وعاش ست سنين هارباً أو منفياً، ولكن يلوح أنه لم يكن في خلالها يعوزه المال. وقد زار في هذه الأثناء مع جويليو ابن عمه (الذي أصبح فيما بعد الباب كلمنت السابع) وبعض أصدقائه ألمانيا، وفلاندرز، وفرنسا. ثم اصطلح آخر الأمر مع الإسكندر فاتخذ مقامه في روما (1500).

وأحبه كل من كان في تلك المدينة. فقد كان متواضعاً، بشوشاَ، سخياً في غير تظاهر، وقد بعث بهبات قيّمة إلى معلميه بوليتيان وكلكنديلس، وأخذ يجمع الكتب والتحف الفنية؛ وحتى دخله الكبير نفسه لم يكد يفي بما يقدمه من هبات الشعراء، والفنانين، والموسيقيين، والعلماء.وكان يستمتع بجميع فنون الحياة وطيباتها؛ بيد أن جيوتشيارديني Guicciardini الذي لم يكن قلبه يخلو من كره للبابوات، يصفه بأنه "قد اشتهر بأنه إنسان طاهر الذيل، مبرأ من كل نقيصة خلقية"(3)؛ وقد هنأه ألدوس مانوتيوس Aldus Manutius بحياته التقية النقية"(4).

وبدأت الأقدار تعاكسه من جديد حين عينه يوليوس الثاني مندوباً بابوياً يحكم بولونيا وإقليم رومانيا (1511)، ورافق الجيش البابوي إلى رافنا؛ وخاض المعركة وهو أعزل يشجع الجند ويشد عزائمهم؛ وأطال المكث فوق ما ينبغي في ميدان الهزيمة؛ يصلي على الموتى، حتى قبضت عليه سرية يونانية تعمل في خدمة الفرنسيين المنتصرين. ولمّا سيق أسيراً إلى ميلان، سرّه أن يرى أن الجنود الفرنسيين أنفسهم قلّما كان يعنيهم أمر الكرادلة المنشقين ومجلسهم الذي لا يستقر في مكان، وأنهم كانوا يحرصون على المجيء إليه لينالوا بركته، ومغفرته، ولعلم أيضاً قد جاءوا لينالوا رفده.واستطاع أن يفر من آسريه الرفيقين به، وأن ينضم إلى القوات البابوية - الإسبانية التي نهبت براتو Prato واستولت على فلورنسا، واشترك مع أخيه جوليانو في إعادة آل ميديتسي إلى سلطانهم (1512)؛ ثم استدعى بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت إلى روما ليشترك في اختير من يخلف يوليوس على عرش البابوية.

ولم يكن وقتئذ قد جاوز السنة السابعة والثلاثين من عمره، وقلّما كان يتوقع أنه هو نفسه سيختار بابا. وقد دخل المجمع المقدس محمولاً على محفة يعاني آلام ناسور في الشرج(5). واحتدم النقاش أسبوعاً، اختير بعده جوڤاني ده مديتشي بابا (11 مارس سنة 1513)، ويلوح إن الرشا لم تكن من أسباب هذا الاختيار، وتسمى باسم ليو العاشر؛ ولم يكن قد رسم بعده قسيساً، ولكن هذا النقص قد تدور في 15 مارس.

ودهش الناس جميعاً من هذا الاختيار وابتهجوا له؛ فقد سرهم وأثلج صدورهم، بعد دسائس الإسكندر وسيزاري بورجيا السوداء وحروب يوليوس واضطراباته هو وأحفاده، أن يتزعم الكنيسة في ذلك الوقت شاب امتاز وهو لا يوال فتياً بقلبه الطيب السمح، وكياسته ودماثة خلقه ومجاملته، ومناصرته السخية للآداب والفنون، وأن يقودها كما يبدو في طريق السلام. ولم يخش ألفنسو صاحب فيرارا، الذي حاربه يوليوس بلا هوادة، المجيء إلى روما؛ ورد إليه ليو كل ما كان له في دوقيته من امتيازات، وشكر له الأمير هذه اليد فأمسك بركاب ليو حين امتطى جواداً بيسير في موكب التتويج في السابع عشر من شهر مارس. وكانت هذه الحفلات التي أقيمت بمناسبة تتويجه فخمة لم سبق لها مثيل من قبل أنفقت فيها مائة ألف دوقة(6). وقدم فيها المصرفي أغستينو تشيجي Agostino Chigi مركبة نقش عليها باللغة اللاتينية ذاك النقش الذي يعلن فيه أمل الشعب: "لقد حكمت من فيل فينوس" (أي الإسكندر)، "وحكم بعدئذ المريخ" (يريد يوليوس)، و "الآن تحكم بالاس Pallas" و(الحكمة) وطاف الناس بشعار أكثر من هذا إيجازاً وإحكاماً: "كان المريخ، وتكون بالاس، وأنا فينوس، سأكون أبداً"(7). وابتهج الشعراء، والمثالون، والمصورون، والصيّاغ؛ وانبعثت في قلوب الكتّاب الإنسانيين آمال بعودة عصر أغسطس الذهبي, وقصارى القول أن أحداً لم يتربع على كرسي البابوية من قبل أن تحف به هذه البشائر والآمال والبهجة التي تغمر قلوب الشعب على بكرة أبيه.

وإذا جاز لنا أن نصدق الملفقين من كتّاب ذلك العصر فإن ليو نفسه قد قال لأخيه وهو منشرح الصدر: "فلنستمتع بالبابوية ما دام الله قد وهبنا إياها"(8). ولعل هذا القول مدسوس عليه، وحتى إن صح لا يدل على شيء من عدم الاحتشام، بل ينم على روح جذلة، لا تنسى أن تكون كريمة كما تكون سعيدة، وهي لا تدري وقد واتاها الحظ السعيد أن تصف العالم المسيحي كأنه يتمخض بالثورة على الكنيسة.


ليو وأوربا 1513 - 1521

ووضع مؤتمر بولونيا الهيبة الدبلوماسية في كفة، والجرأة والسطوة في كفة أخرى، وبقي أن تُعرف أية الكفتين هي الراجحة. وأقبل الملك الشاب الوسيم يزهو في معطفه الموشى بالذهب وفراء السمور، والنصر معقود لألويته، وجيشه من ورائه؛ يتوق إلى أن يلتهم إيطاليا عن آخرها، ولا يبقى فيها إلا البابا حارساً له على أملاكه؛ وليس لليو في مقابل هذا إلا سحر منصبه ودهاء آل ميديتشي. ومن ثم فإذا كان ليو قد أثار الملك على الإمبراطور، وانتقل من جانب إلى جانب بالحيلة والمراوغة، ووقع مع كل منهما المعاهدات ضد الآخر، إذا كان قد فعل هذا بحكم الظروف فليس لنا أن نغالي في وزن أعماله هذه بميزان العدالة الصارمة. ذلك أنه لم يكن لديه من السلاح ما يستخدمه لنيل أغراضه غير هذه الوسيلة، ولقد كان عليه أن يدافع عن تراث الكنيسة الذي وكل أمره إليه؛ ثم إن أعداءه كانوا هم أيضاً يستخدمون هذا السلاح نفسه بالإضافة إلى جيوشهم ومدافعهم.

ولقد بقيت الاتفاقات السرية التي عقدت في ذلك الاجتماع في طيات الخفاء إلى يومنا هذا. ويلوح أن فرانسس حاول أن يستدرج ليو إلى محالفته ضد أسبانيا؛ فطلب إليه ليو أن يمهله حتى يفكر في الأمر- وتلك هي الطريقة الدبلوماسية في الرفض؛ وسبب ذلك أن سياسة الكنيسة التقليدية التي طال عليها الأمد لا تسمح بأن تطوق دولة واحدة أملاكها من الشمال والجنوب(11). وكانت النتيجة الواضحة الوحيدة لاتفاق عام 1516 هي إلغاء قرار بورج التنظيمي The Praqmalie Sanction of Bourges. وكان هذا القرار المعقود في عام 1438 قد أقام مجلساً عاماً له السلطة العليا على البابوات ومنح ملك فرنسا حق تعيين ذوي المناصب الكنسية الكبرى في فرنسا. ووافق فرانسس على إلغاء هذا القرار، بشرط أن يبقى للملك حق الترشيح لهذه المناصب؛ وقبل ليو هذا الشرط. وقد يبدو أن هذا كان هزيمة للبابا، ولكن ليو حين قبله إنما كان يجري على سنة جرى بها العمل في فرنسا من عدة قرون؛ وكان يفعله هذا يوفق دون قصد بين الكنيسة والدولة في فرنسا توفيقاً لا يُبقي للملكية الفرنسية أسباباً مالية لتأييد حركة الإصلاح الديني. ثم إنه بهذا العمل قد وضع حداً للنزاع الذي طال عليه الأمد بين فرنسا والبابوية على سلطة المجالس والبابوات وحدود هذه السلطة.

واختتم المؤتمر بأن طلب الزعماء الفرنسيون إلى ليو أن يغفر لهم أنهم شنوا الحرب على سلفه؛ ووجه إليه فرانسس بهذه المناسبة الخطاب قائلاً: "أيها الأب المقدس! ليس لك أن تعجب من أننا كنا أعداء ليوليوس الثاني فقد كان هو على الدوام أعدى أعدائنا، ولم نلق في أيامنا خصما أقوى منه، ذلك بأنه كان في واقع الأمر قائدا بارعا ممتازاً، ولو أنه كان قائداً للجند، لكان أعظم منه بابا"(12). وغفر ليو ذنوب أولئك التائبين الأشداء على بكرة أبيهم، وباركهم، وكادوا في آخر الاجتماع أن يقطعوا قدميه تقبيلاً(13).

وعاد فرانسس إلى فرنسا تعلو هامته هالة من المجد، واستسلم زمناً ما للعشق واللهو. ولما مات فرديناند الثاني (1516)، فكر ملك فرنسا مرة أخرى في غزو نابلي، ولعله أراد أن يتخذ هذا العمل وسيلة مجيدة للتخلص من زيادة السكان في فرنسا. ولكنه مع ذلك عقد معاهدة للصلح مع شارل الأول حفيد فرديناند الذي أصبح الآن ملكاً على أرغونة، وقشتالة، ونابلي، وصقلية. فلما مات مكسمليان (1519)، ورشح حفيده شارل ليخلفه على عرش الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ظن فرانسس أنه أجدر بتاج الإمبراطورية من ملك أسبانيا البالغ من العمر تسعة عشر عاماً. وأخذ يسعى بنشاط لأن يفوز بالانتخاب لهذا المقام الرفيع. ووجد ليو نفسه مرة أخرى في أخطر المواقف. لقد كان يفضل أن يؤيد فرانسس، لأنه رأى أن اتحاد نابلي، وأسبانيا، وألمانيا، والنمسا، والأراضي الوطيئة، تحت سلطان مليك واحد، يوسع رقعة ملكه، ويزيد ثروته وعدد رجاله زيادة تخل بتوازن القوى، ذلك التوازن الذي كان فيه حتى ذلك الوقت وقاية للولايات البابوية. لكن اختيار شارل رغم معارضة البابا سينفر منه الإمبراطور الجديد في الوقت الذي يحتاج فيه أشد الاحتياج إلى معونته للقضاء على الفتنة البروتستينتية. وتردد ليو أطول مما يجب في أن يشعر الناخبين بنفوذه؛ واختير شارل الأول إمبراطورا وأصبح هو شارل الخامس. وواصل البابا سياسة توازن القوى فعرض على فرانسس أن يحالفه؛ ولما تردد الملك كما تردد هو من قبل وقع ليو على حين غفلة اتفاقاً مع شارل (8 مايو سنة 1521)، عرض عليه الإمبراطور الشاب فيه كل شيء تقريباً: عودة بارما وبياتشندسا، ومعونته ضد فيرارا ولوثر، وإعادة فتح ميلان وإعطائها إلى آل اسفوردسا، وحماية الولايات البابوية وفلورنس إذا هوجمت.

وتجدد القتال في شهر سبتمبر من عام 1521، وقال الإمبراطور في ذلك: "إني أنا وابن عمي فرانسس على تمام الوفاق؛ فهو يريد ميلان وأنا أريدها"(14). ‎‎وتولى قيادة القوات الفرنسية في إيطاليا أوديه ده فوا Odet de Foix فيكونت لوتريه Vicomte de Lautrec. وكان فرانسس قد ولاه هذه القيادة بناء على رجاء أخته التي كانت في ذلك الوقت عشيقة الملك. وغضبت لويز أميرة سافوى Louise of Sovoy أم الملك من هذا التعيين وحولت في الخفاء المال الذي أعده فرانسس لجيش لوتريه إلى أغراض أخرى(15)؛ وامتنع من كان في ذلك الجيش من السويسريين عن القتال لمنع مرتباتهم عنهم. ولما اقترب من ميلان جيش بابوي قوي بقيادة القائد المحنك برسبيرو كولنا ماركيز بسكارا والمؤرخ جوتشيارديني، أثار أنصار الإمبراطورية من حزب الجبلين فتنة ناجحة بين الأهلين الذين كانوا يرزحون تحت أعباء الضرائب الفادحة، انسحب على أثرها لوتريه من المدينة إلى أملاك البندقية؛ واستولى جنود شارل وليو على المدينة وكادوا لا يريقون في سبيل ذلك قطرة دماء؛ وأصبح فرانتشيسكو ماريا اسفوردسا وهو ابن آخر من أبناء لدوفيكو دوقاً لميلان تابعاً للإمبراطور، وكان في مقدور ليو أن يواجه الموت وهو في نشوة الانتصار.

البابا السعيد

وبدأ ليو عمله بداية طيبة إلى أبعد حد، فعفا عن الكرادلة الذين دبروا مؤتمر بيزا وميلان المعادي له، وانتهى بذلك خطر الانقسام؛ ووعد ألاّ يمس الضياع التي يتوفى عنها الكرادلة، ووفى بهذا الوعد. وأعاد افتتاح مجلس لاتران، ورحب بمندوبيه بلغته اللاتينية البليغة. وأدخل على الكنيسة بعض إصلاحات صغيرة، وخفف الضرائب؛ ولكن مرسومه الذي دعا فيه إلى الإصلاحات الكبرى (3 مايو سنة 1514) لقي مقاومة شديدة من الموظفين الذين كانوا يخشون من أن تنقص هذه الإصلاحات من دخلهم، ولهذا لم يبذل جهداً كبيراً في تنفيذه(9) وقال في هذا: "سأتدبر الأمر، لأرى كيف أستطيع أن أرضي كل إنسان"(10) لقد كان هذا هو طبعه، وكان طبعه هذا سبباً فيما حاق به من بلاء.

وليست الصورة التي رسمها له رفائيل (المحفوظة في بتي) والتي أخرجها بين عامي 1517 و 1519 مشهورة شهرة صورة يوليوس، ولكن ليو نفسه ملوم على هذا بعض اللوم! فقد كان حين صور أقل عمقاً في التفكير، وأقل بطولة في العمل، وأقل قدرة في قرارة نفسه. ولم تكن هذه الصفات لتكسب ظاهر وجهه وجسمه روعة وجلالاً. وكانت الصورة صادقة إلى أبعد حدود الصدق. فقد أظهرته رجلاً ضخماً، يتجاوز الحظ الأوسط في الطول، كما يتجاوزه أكثر من هذا في وزن الجسم. وقد اختفت بدانته التي تقلل من هيبته تحت ستار ثوبه المصنوع من المخمل الأبيض والموشى بالفراء الثمين، والحرملة الحمراء القرمزية؛ له يدان ناعمتان رخوتان، جردتا في الصورة من الخواتم الكثيرة التي تزينهما في الأوقات العادية؛ ومنظار للقراءة يساعد عينيه القصيرتي النظر؛ ورأس مستدير وخدان منتفخان، و أنف ضخم وأذنان عريضتان؛ وتمتد بعض الخطوط الدالة على الحقد والضغينة من الأنف في طرفي الفم، وعينان ثقيلتان، وجبهة عابسة بعض العبوس ذلك هو ليو الذي كشرت له الدبلوماسية عن نابها، ولعله قد آلمته حركة الإصلاح التي كانت قاسية عليه، وليس هو ليو الصياد والموسيقي المرح، ونصير الآداب والفنون الجواد الكريم؛ الرجل المثقف الذي ينتهب اللذات، والذي ابتهجت روما بتتويجه أعظم ابتهاج. وإذا ما شئنا أن ننصفه وجب أ، نضم سجل حياته إلى صورته، ذلك أن الرجل منا رجال كثيرون عند مختلف الرجال وفي مختلف الأوقات؛ وليس في مقدور أبرع مصور أن يظهر كل هذه الصفات في وجه إنسان ما في لحظة واحدة.

وكانت الصفة الأساسية في أخلاق ليو، والتي هي وليدة حياته المحظوظة هي طيبة قلبه. فقد كان يجد كلمة طيبة يقولها لكل من يلقاه، وكان يرى خير النواحي في كل إنسان عدا البروتستنت (الذين لم يكن يسعه أن يبدأ بفهمهم)؛ وكان يسخو على كثيرين من الناس سخاء استنزف كثيراً من أموال الكنيسة، وكان من أسباب حركة الإصلاح الديني. ونحن نسمع الشيء الكثير عن أدبه، ورقة حاشيته، وكياسته، وبشاشته، ومرحه حتى في أوقات المرض والألم (فقد أجريت له عدة جراحات لاستئصال ناسوره ولكنه كان يعود بعدها على الدوام، وكان في بعض الأحيان يجعل تحركه عذاباً ليس بعده عذاب). وكان يترك لغيره من الناس، على قدر ما يستطيع، أن يحيوا حياتهم كما يشاءون. وقد تغلبت القسوة على اعتداله وحنوه الأصليين حين تبين له أن بعض الكرادلة يأتمرون به ليقتلوه. ولقد كان شديداً صارماً مجرداً من الرحمة في بعض الأوقات، فعل ذلك مع فرانتشيسكو ماريا دلا روفيري رجل أربينو وجيان باولوبجيلوني رجل بروجيا(11).

وكان يسعه أن يكذب كما يكذب الدبلوماسي إذا أرغمته الظروف على الكذب، وكان من حين إلى حين يتفوق على الساسة الغادرين الذين يريدون أ، يوقعوه في حبائلهم. لكنه كان في أكثر الأحيان ذا قلب رحيم؛ ونتبين هذا حين نهى (دون جدوى) عن استعباد الهنود الأمريكيين، وحين بذل كل ما في وسعه ليقاوم وحشية محاكم التفتيش التي كان يلجأ إليها فرديناند الكاثوليكي(12). وكان رغم نزعته الدنيوية العامة يؤدي جميع واجباته الدينية بذمة وأمانة، فكان يصوم، ولا يرى أي تناقض أساسي بين الدين والمرح، وقد اتهم بأنه قال لبمبو يوماً ما: "إن الأجيال جميعها لتعلم حق العلم كيف أفدنا من هذه الخرافة - خرافة المسيح"؛ ولكن المصور الوحيد الذي ورد فيه هذا القول هو مؤلًّف جدلي عنيف يسمى موكب البابوات The Pageant of Popes كتبه حوالي 1574 رجل إنجليزي لا شأن له يدعى جون بيل john Bale، وحتى بايل الذي لا يؤمن بدين ورسكو Rosucoe البروتستنتي يرفضان هذه القصة ويعتقدان أنها هي نفسها خرافة(13).

وكانت متعه ومسرّاته تختلف من الفلسفة إلى المهرجين الماجنين. وكان قد تعلم على مائدة أبيه أن يقدر الشعر، والنحت، والتصوير، والموسيقى، والخط الجميل، وزخرفة الكتب، والمنسوجات الرفيعة الجميلة، والمزهريات والزجاج، وكل أشكال الجمال مع جواز استثناء أصلها ومعيارها وهو المرأة؛ وكانت رعايته للفنانين والشعراء جرياً منه في روما على التقاليد الكريمة التي كان يسير عليها أسلافه في فلورنس، وإن كان استمتاعه بالفنون شاملاً شمولاً لا يصل به إلى حد الذي يجعله هادئاً مرشداً للذوق الفني. وقد كانت طبيعته السهلة مانعة له من أن يعني بالفلسفة عناية جدية، وكان يعرف أن النتائج والأحكام المستخلصة من المقدمات المنطقية كلها زعزعة غير أكيدة، ولم يشغل باله بما وراء الطبيعة بعد أن غادر الكلية الجامعية. وكان في أثناء تناوله الطعام تقرأ له الكتب، وهي عادة كتب التاريخ أو يستمع إلى الموسيقى، وفيها كان سليم الذوق صحيح الحكم، فقد كان ذا أذن موسيقية كما كان رخيم الصوت. وكان بلاطه يضم طائفة من الموسيقيين يغدق عليهم المال؛ وقد استطاع المؤلف والملحن الموسيقى برنارد أكلتي ، ولم يشغل باله بما وراء الطبيعة بعد أن غادر الكلية الجامعية. وكان في أثناء تناوله الطعام تقرأ له الكتب، وهي عادة كتب التاريخ أو يستمع إلى الموسيقى، وفيها كان سليم الذوق صحيح الحكم، فقد كان ذا أذن موسيقية كما كان رخيم الصوت. وكان بلاطه يضم طائفة من الموسيقيين يغدق عليهم المال؛ وقد استطاع المؤلف والملحن الموسيقى برنارد أكلتي Bernard Accolti (المسمى يونيكو أريتينو Unico Aretino لأنه ولد في أدسو ولأنه لم يكن يجاريه أحد في سموله ارتجاله الشعر والقطع الموسيقية) بفضل الأجور التي نالها من ليو أن يشتري دوقية نيبي Nepi الصغيرة؛ وحصل منه يهودي عازف على العود على قصر ولقب كونت؛ وعُيّن المغني جبريل مرينو Gabrial Merino كبير أساقفة(14) ووصلت جوقة المرنمين في الفاتيكان بفضل تشجيع ليو ورعايته إلى درجة من السمو لم يسبق لها من قبل مثيل. وكان رفائيل صادقاً كل الصدق حين صور البابا وهو يقرأ كتاباً في الموسيقى الدينية. وكان ليو يجمع الآلات الموسيقية لجمالها وحسن أنغامها، وكان منها أرغن مزدان بقطع من المرمر يرى جستليوني أنه أجمل أرغن رآه أو سمعه.

كذلك كان ليو يحب أن يحتفظ في بلاطه بعدد من المازحين والمهرجين؛ وكان هذا مما يتفق مع ما أعتاده أبوه ومعاصروه من الملوك، ولم تروع له روما التي كانت تحب الضحك حباً لا يزيد عليه إلاّ حب الثروة والجماع، وقد يبدو لنا إذا عدنا بنظرنا إلى تلك الأيام الخالية أن مما تعافه نفوسنا أن تتردد أصداء النكات الخفيفة والقبيحة في أرجاء البلاط البابوي بينما كانت ثورة الإصلاح الديني الجامعة تشعل نارها في ألمانيا. ومما يحكى عن ليو أنه قد سره مرة أن يرى أحد المهرجين من رهبانه يبتلع حمامة دفعة واحدة، أو أربعين بيضة متتابعة(15)؛ وأنه قد قبل مسروراً من وفد برتغالي حين شاهد قداسته(16). وإذا جيء له بشخص يستطيع بفكاهته، أو صورته المشوهة، أو بلاهته أن يدخل السرور عليه، كان هذا طريقاً مؤكداً لكسب رضاه(17). ويبدو أنه كان يحس بأن الترويح عن نفسه بهذه الوسائل من حين إلى حسن يشغله عن آلامه الجسمية، ويخفف عن نفسه عبء المتاعب النفسية، ويطيل حياته(18). وكانت له عادة تمت بصلة إلى عادات الأطفال وتقلل من حقد الحاقدين عليه. ذلك أنه كان يلعب الورق أحياناً مع الكرادلة، ويبيح للجمهور أن يشاهد اللعب حتى إذا فرغ منه وزع قطعاً من الذهب على الحاضرين.

وكان الصيد أحب ضروب التسلية إليه؛ فقد كان هذا مانعاً له من البدانة التي كان مستعداً لها بطبيعته، وكانت تمكنه من الاستمتاع بالهواء الطلق وبمناظر الريف بعد أن كان سجيناً في الفاتيكان. وكان له إسطبل به كثير من الجياد يخدمها مائة سائس؛ وكان من عادته أن يفرغ في شهر أكتوبر كله للصيد والقنص. وكانت أطباؤه يحبذون هذه العادة أعظم التحبيذ، ولكن باريس ده جراسيس Paris de Grassis كبير تشريفاته كان يشكو من أن البابا يظل منتعلاً حذاءيه الثقيلتين زمناً طويلاً "لا يستطيع أحد معه أن يقبل قدميه"، وكان ليو يضحك من هذا بكل قلبه(19). ونحن نرى البابا أرق حاشية مما نراه في صورة رفائيل حين نقرأ أن الفلاحين. أهل القرى كانوا يفدون عليه لتحيته حين يمر في طرقهم، وأنهم كانوا يقدمون له عطاياهم المتواضعة - وأن البابا كان يجزل لهم العطاء حتى كان هؤلاء ينتظرون بشوق زائد رحلات الصيد التي يقوم بها. وكان يهب بناتهم الفقيرات بائنات الزواج، ويؤدون ديون المرضى والطاعنين في السن، وآباء الأسر الكبيرة(20). وكان أولئك الأقوام السذج يخلصون له الحب أكثر من الألفين من الرجال الذين تتألف منهم حاشيته في الفاتيكان .

بيد أن بلاط لو لم يكن مجرد بؤرة للتسلية والمرح، بل كان إلى هذا ملتقى رجال الحكم المسئولين، ومن بينهم ليو نفسه، وكان مركز ذوي الأحلام، والعلم، والفكاهة في روما، والمكان الذي يقيم فيه العلماء، ورجال التربية، والشعر، والفنانون، والموسيقيون، ويلقون فيه أعظم الترحيب؛ وكان هو الذي تصرف فيه الأعمال الكنيسة الجدية، وتقدم فيه الاحتفالات الفخمة لاستقبال المبعوثين الدبلوماسيين، وتؤدب فيه المآدب الغالية، وتمثل فيه المسرحيات أو تقام فيه الحفلات الموسيقية، وينشد فيه الشعر، وتعرض فيه روائع الفن. وما من شك في أنه كان أرقى بلاط في العالم كله في ذلك الوقت. والحق أن بلاط ليو قد بلغ بفضل ما بذله البابوات من أيام نقولاس إلى ليو نفسه من الجهود لإصلاح قصر الفاتيكان وزخرفته، وحشد العدد الجم من عباقرة الأدب والفن، وأقدر السفراء في أوربا بأجمعها، نقول إن بلاط ليو قد بلغ بفضل هذا ذروة آداب النهضة وبهجتها، ولا نقول إنه قد بلغ ذروة الفن لأنه كان قد بلغ هذه الذروة في عهد يوليوس. ولم يشهد التاريخ قبل أيامه ثقافة بالقدر الذي شهده منها في هذا العهد، لا نستثني من ذلك عصر بركليس في أثينة أو عصر أغسطس في رومة(22).

وعم الرخاء المدينة واتسعت رقعتها بفضل ما كان يجري في شرايينها الاقتصادية من ذهب ليو، ويقول سفير الفاتيكان في هذا إن عشرين ألف بيت قد بنيت في روما في الثلاثة عشر عاماً التي تلت ارتقاءه عرش البابوية، وقد شاد أكثرها القادمون الجدد من شمالي إيطاليا الذين قدموا إليها بعد هجرة عصر النهضة. وازدحم فيها الفلورنسيون بوجه خاص لينالوا رفد البابوية الفلورنسية. وقد باولو جيوفو Paolo Giovo الذي كان يتبختر في البلاط البابوي سكان روما في ذلك الوقت بخمسة وثمانين ألفاً(23)، ولسنا ننكر أنها لم تكن قد بلغت بعد ما بلغته فلورنس او البندقية من جمال، ولكنها كانت بإجماع الآراء محور المدنية الغربية؛ وقد سماها مارتشيلو ألبريني Marcello Alberini في عام 1527، "ملتقى العالم كله"(24). ولم يغفل ليو، وسط ملاهيه وشئونه الخارجية، عن تنظيم استيراد الطعام وتحديد أثمانه، وإلغاء الاحتكارات، وابتياع بعض السلع بأجمعها للتحكم في أثمانها ، وخفض الضرائب، ووزع العدالة بغير محاباة، وبذل جهده لتجفيف المستنقعات البنتية Pontine Marshes، وعمل على تقدم الزراعة في الكمبانيا، وواصل أعمال الإسكندر ويوليوس في شق الشوارع في روما وتحسينها(30). وسار على نهج أبيه في فلورنس فعنى بالضروريات والكماليات فاستخدم الفنانين لينظموا له المواكب الفخمة، وشجع الاحتفالات المقنعة عيد المساخر، وبلغ من أمره أن سمح بإقامة مصارعات الثيران التي جاء بها آل بورجيا في ميدان القديس بطرس نفسه. ذلك أنه كان يرغب في أن يشترك الشعب في مرح العصر الذهبي الجديد وسعادته.

وسارت المدينة على نهج البابا، وأطلقت للمرح والبهجة العنان، فأسرع رجال الدين، والشعراء، والطفيليون، والقوادون، والعاهرات إلى روما ليعبوا كأس السعادة عبا. وكان الكرادلة وقتئذ أغنى من الأشراف القدامى، بفضل ما حباهم به البابوان، وخاصة ليو نفسه، من المناصب التي جاءتهم بالإيراد من جميع أنحاء العالم المسيحي اللاتيني. وبينا كان أولئك الأشراف القدامى ينحدرون إلى هاوية الاضمحلال الاقتصادي والسياسي، كان دخل بعض الكرادلة يبلغ ثلاثين ألف دوقة في العام (أي نحو 375.000دولار)(31). فاستطاعوا بذلك أن يسكنوا في مساكن فخمة، يقوم فيها على خدمتهم ثلاثمائة من الخدم في بعض الأحيان(32)، وتزدان بكل ما عرف في ذلك الوقت من روائع الفن والترف.ولم يكونوا يرون أنهم رجال دين بقدر ما كانوا يرون أنهم رجال حكم، ودبلوماسيون، ومديرون؛ لقد كانوا هم مجلس الشيوخ الروماني، وكانوا يريدون أن يحيوا كما أحيا أعضاء مجلس الشيوخ. وكانوا يسخرون من أولئك الأجانب الذين يتطلبون منهم أن يحيوا حياة التقى والعفة التي يحياها القساوسة؛ وكانوا يزنون السلوك، كما يزنه كثيرون من أبناء عصرهم، بموازين الجمال لا بالموازين الأخلاقية، فلم يكونوا يرون بأساً من خرق بعض الأوامر الإلهية إذا تجملوا في خرقها وفعلوا ذلك بظرف وذوق سليم. وقد أحاطوا أنفسهم بالغلمان، والموسيقيين، والشعراء، والكتّاب الإنسانيين، وكانوا من حين إلى حين يتناولون عشاءهم مع محاظي البلاط(33). ويأسفون أشد الأسف لأن ندواتهم كانت خالية من النساء، فها هو ذا الكردنال بينا يقول "إن روما على بكرة أبيها تنادي بأنّا لا ينقصنا هنا إلاّ سيدة تكون هي واسطة عقد الندوة"(34). وكانوا يحسدون فيرارا، وأربينو، ومانتوا لما تستمتع به من هذه الناحية ، ولشد ما اغتبطوا حين جاءت إزبلا دست لتبسط أثوابها ومفاتنها النسوية على حفلاتهم التي لم تكن تضم إلاّ الذكور.

وبلغ الظرف، والذوق، ولطف الحديث، وتقدير الفن غايته ذلك الوقت، ونالت الفنون والآداب على اختلاف أنواعها أعظم التشجيع، ولسنا ننكر أنه كان هناك حلقات مثقفة في العواصم الصغرى، وأن كستجليوني كان يفضل ندوات أربينو الهادئة على حضارة روما الزاهية، الومضية، الصاخبة، التي تجتمع فيها كل الأجناس، غير أن أربينو لم تكن إلاّ جزيرة صغيرة من الثقافة، أما روما فكانت مجرى دافقاً أو بحراً عجاجاً. وأقبل عليها لوثر ورآها، وهاله ما رأى واشمأزت منها نفسه، ثم جاءها إرزمس Erasmus ورآها وافتتن بها افتتاناً بلغ حد النشوة(35). ونادى مائة شاعر وشاعر بأن العصر الذهبي قد عاد.

العلماء

في اليوم الخامس من نوفمبر عام 1513 أصدر ليو مرسوماً بضم معهدين من معاهد العلم افتقرا إلى المال: هما كلية القصر المقدس أي الفاتيكان، وكلية المدينة، وأصبح المعهدان من ذلك الوقت هما جامعة روما، وخصص لهما بناء لم يلبث أن عرف باسم سابيندسا Sapienza(36). وكان هذا المعهدان قد ازدهرا في أيام البابا اسكندر، ولكنهما اضمحلا في عهد يوليوس الذي استولى على أموالهما لينفقها في الحروب، والذي كان يفضل السيف على الكتاب. وأمد ليو الجامعة الجديدة بالمال بسخاء وظل يسخو عليها حتى تورط هو الآخر في سباق للتدمير. فقد جاء إليها بعدد جم من العلماء الممتازين المخلصين لعلمهم، فلم يمض إلاّ قليل من الوقت حتى كان في المعهد الجديد ثمانية وثمانون أستاذاً - منهم خمسة عشر في الطب وحده - يتقاضى الواحد منهم ما بين 50 فلورينا و 530 (من 825 إلى 6625؟ دولاراً) في العام. وكان ليو في تلك السنين الأولى من ولايته يبذل كل ما في وسعه ليجعل الكليتين المجتمعتين أعظم جامعات إيطاليا علماً وأكثرها ازدهاراً.

وكان من أفضاله أنه أنشأ في هذه الجامعة دراسة اللغات السامية. ذلك أنه خصص في جامعة روما كرسياً لتعليم اللغة العبرية، وعين تيسيو أمبروجيو Teseo Ambrogio لتدريس اللغتين السريانية؛ والكلدانية في جامعة بولونيا. ورحب ليو حين أهدى له كتاب في نحو اللغة العبرية ألفه أجاتشيو جويداتشريو Agacio Guidacerio؛ ولمّا علم أن سانتي بجنيني Sante Pagnini كان يترجم العهد القديم من الأصل العبري إلى اللغة اللاتينية، طلب أن يرى أنموذجاً من الترجمة؛ فلمّا رآه أعجبه، وتعهد من فوره بأن يتكفل بنفقات هذا المشروع الشاق الكبير.

وكان ليو أيضاً هو الذي أعاد دراسة اللغة اليونانية بعد أن أخذت دراستها في الاضمحلال.وشرع في ذلك بأن دعا إلى روما العالم الشيخ جون لسكارس John Lascaris الذي كان يعلّم اللغة اليونانية في فلورنس، وفرنسا، والبندقية، ونظم بمساعدته مجمعاً علمياً في روما، منفصلاً عن الجامعة. وكتب بمبو على لسان ليو (في 7 أغسطس سنة 1513) خطاباً إلى ماركس موسوروس Marcus Musurus أكبر مساعدي مانوتيوس Manutius يطلب فيه إلى هذا العالم أن يحصل من بلاد اليونان على "عشرة، أو أكثر من عشرة حسبما يرى، من الشبان المتبحرين في العلم، المشهود لهم بالأخلاق الفاضلة لتؤلف منهم حلقة من الدراسات الحرة، ولكي يتلقى عليهم الإيطاليون العلم باللسان اليوناني وحسن الانتفاع به"(37). وبعد شهر من ذلك الوقت نشر مانوتيوس طبعة أفلاطون التي أتمها موسوروس من قبل، وأهدى الطابع العظيم هذا الكتاب إلى البابا. ورد عليه ليو بأن منح ألدوس دون غيره الحق في أن يعيد طبع كل ما أصدره ألدوس من الكتب اليونانية أو اللاتينية حتى ذلك الوقت، وما سيطبعه في خلال الأعوام الخمسة عشر المقبلة التي سيظل فيها وحده صاحب هذا الحق. وأعلن فوق هذا أن كل من يتعدى على هذا يحوم من حظيرة الدين، ويعرض نفسه للعقاب. وكان هذا الامتياز الفردي في طباعة المؤلفات هو الوسيلة التي تمنح بها النهضة طابعاً ما حق طبع الكتاب الذي أنفق المال على إعداده. غير أن ليو أضاف إلى هذا الامتياز وصيته بأن يكون ما يطبع من كتب ألدوس معتدل الثمن، وقد كان.

وأنشئت الكلية اليونانية في بيت آل كولوتشي Colocci على الكويرنال Quirinal، وأقيمت هناك أيضاً مطبعة لطبع الكتب الدراسية والشروح للطلاب. وأنشئ حوالي ذلك الوقت عينه في فلورنس "مجمع علمي ميديتشي" شبيه به للدراسات اليونانية؛ وجمع فارينو كامرتي Varlno Camerti - الذي اتخذ لنفسه اسماً لاتينياً هو فافورينوس Favorinus - بتشجيع ليو أحسن معجم يوناني - لاتيني نشر في عالم النهضة حتى ذلك الوقت.

وكادت غيرة البابا على الآداب القديمة تكون ديناً له وعقيدة. وشاهد ذلك أنه تلقى من البنادقة "عظماً من كتف ليفي" بنفس التقوى التي يتلقى بها أثراً من آثار كبار القديسين(38)، وانه أعلن بعد جلوسه على كرسي البابوية بقليل أنه سيكافئ بسخاء كل ما يحصل له على أي مخطوط في الأدب القديم لم ينشر بعد. ثم إنه فعل ما فعله أبوه فأرسل مبعوثيه وعماله إلى البلاد الأجنبية ليبحثوا عمّا عساه أن يكون فيها من المؤلفات القديمة، وعن كل الأشياء ذات القيمة وثنية كانت أو مسيحية، وأن يبتاعوها له، وكان في بعض الأحيان يوفد الوفود لهذا الغرض خاصة لا لغرض سواه، ويزودهم بالرسائل للملوك والأمراء يطلب إليهم فيها أن يعاونوا أولئك الرسل في البحث والتنقيب. ويبدو أن عماله كانوا في بعض الأحيان يسرقون هذه المخطوطات إذا لم يستطيعوا شراءها؛ ويلوح أن هذا هو ما فعلوه في الستة الكتب الأولى من حوليات تاسيتوس التي وجدوها في دير كورفي Corvey بوستفاليا Westphalia، لأن لدينا رسالة ممتعو موجهة إلى هيتمرس Heitmers عامل البابا كتبها ليو نفسه أو أمر بكتابتها بعد أن تم طبع هذه الحوليات ونشرها:

لقد بعثنا بنسخة من الكتب بعد أن روجت وطبعت مجلدة تجليداً جميلاً إلى رئيس الدير وإلى رهبانه، لكي يضعوها في مكتبتهم بدلاً من النسخة التي أخذت منها، وإذا كنا نريد فوق ذلك أن يعرفوا أن هذا الاختلاس قد عاد إليهم بالخير أكثر مما عاد عليهم بالأذى، فقد وهبنا كنيستهم غفراناً جماعياً(39).

وأعطى ليو فلبو بروالدو Filipo Beroaldo المخطوط المختلس، وأمره أن يصلح النص وينشره، على أن يطبعه طبعة أنيقة ولكنها في صورة سهلة القراءة. وكان مما ورد في كتاب التكليف هذا:

لقد كان من عادتنا، حتى في السنين الأولى من حياتنا، أن نرى أ، لا شيء مما وهبه الخالق لخلقه أجل شأناً وأعظم نفعاً - لا نستثني من ذلك إلاّ العلم به وعبادته الدقة - من هذه الدراسات التي هي زينة الحياة الإنسانية ومرشدها إلى الخير؛ والتي يمكن فوق هذا تطبيقها على كل وضع خاص من أوضاع الحياة والانتفاع بها فيه؛ والتي هي سلوى الإنسان في الشدة، ومصدر بهجته وشرفه في الرخاء. والتي لولاها لحرم الإنسان كل ما هو جميل في الحياة وكل ما يزدان به المجتمع. ويبدو أن المحافظة على هذه الدراسات وتوسيع نطاقها يقف على أمرين: عدد العلماء، وتزويدهم بكفايتهم من النصوص الممتازة. فأما الأمر الأول فإنّــا نرجو ببركة الله، أن نظهر رغبتنا الأكيدة في أن نكافئ أولئك العلماء الممتازين ونكرمهم وحرصنا على هذه المكافأة وذلك التكريم أكثر مما أظهرناها من قبل، وإن كان ذلك الحرص وتلك الرغبة هما منذ زمن بعيد مصدر سرورنا الأكبر.... أما الحصول على الكتب، فإناّ نحمد الله أن أتاح لنا في ذلك أيضاً الفرصة التي نستطيع بها إسداء الخير لبني الإنسان(40).

وكان ليو يظن أن الكنيسة هي التي تعين ما يفيد بني الإنسان من كتب الأدب، وشاهد ذلك أنه جدد مرسوم الإسكندر الذي يفرض رقابة الكنيسة على الكتب.

وبددت بعض الكتب التي جمعها أسلاف ليو حين نهب قصر آل ميديتشي (1494). غير أن ديرسان ماركو كان قبلئذ قد ابتاع بعض هذه الكتب، وكان ليو وهو لا يزال كردنالاً قد ابتاع الكتب التي نجت من النهب بمبلغ 2652 (33.150؟ دولاراً) ونقلها إلى قصره في روما. ثم أعيدت هذه المكتبة إلى فلورنس بعد موت ليو، وسنعرف مصيرها فيما يلي من الصفحات.

وكانت مكتبة الفاتيكان قد بلغت من الضخامة حداً تحتاج معه إلى طائفة من العلماء للعناية بها. ولمّا جلس ليو على كرسي البابوية كان كبير أمنائها توماسو إنگيرامي Tommaso Inghirami - وهو من أبناء الأشراف،وشاعر، ومحدث مشهود له بالذكاء وحسن الفكاهة والتألق في ندوات الفكهين البارعين. ثم كان إلى ذلك ممثلاً، أطلق عليه من قبيل السخرية اسم فيدرا Fedra لنجاحه في تمثيل دور فيدرا Phaedra في مسرحية هبوليتس Hippolytus لسنكا. ولمّا مات في حادثة من حوادث شوارع المدينة عام 1516 حل محله في أمانة المكتبة فلبو بروالدو الذي قسم قلبه وعواطفه بين تاسيتوس والحظية العالمية إمپريا Imperia، وكتب شعراً لاتينياً بلغ من الجودة أن كانت له ست ترجمات إلى اللغة الفرنسية إحداها بقلم كليمان مارون Clement Maron. وكان جيرولامو ألياندرو Girolamo Aleandro الذي أصبح أميناً في عام 1519، رجلاً حاد الطبع، غزير العلم، عظيم المواهب، يتكلم اللغات اللاتينية، واليونانية، ويتكلم العبرية بطلاقة جعلت لوثر يخطئ في أصله فيظنه يهودياً. وقد حاول في مجلس أجزبرج (1520) أن يصد تيار البروتستنتية، وكانت حماسته في ذلك أقوى من حكمته. وقد رفعه بولس الثالث إلى مقام الكردنالية (1535)، ولكن أليندر توفي بعد أربع سنين من ذلك الوقت لإسرافه في عنايته بصحته وفي تعاطي الأدوية(41). وقد غضب أشد الغضب لأنه أعفي من عمله حين بلغ الثانية والستين من العمر، وأساء إلى أصدقائه باعتراضه الشديد على تصرفات القدرة الإلهية(42).

وكثرت المكتبات الخاصة وقتئذ في روما، فقد كان للإسكندر نفسه مجموعة عظيمة من الكتب أوصى بها إلى البندقية، وكان عند الكردنال جريماني محسود إرزمس ثمانية آلاف مجلد مكتوبة بلغات مختلفة، أوصى بها إلى كنيسة سان سلفادور بمدينة البندقية حيث دمرتها النار. وكان للكردنال سادوليتو مكتبة قيمة وضعها في سفينة ليرسلها إلى فرنسا، فغرقت في البحر. وكانت مكتبة بمبو غنية بما فيها من دواوين أشعار بروفنسال والمخطوطات الأصلية مثل مخطوطات كتب بترارك؛ وانتقلت هذه المجموعة إلى أربينو، ومنها انتقلت إلى الفاتيكان. وحذا العلمانيون الأغنياء أمثال أجستينو تشيجي Agostino Chigi حذو البابوات والكرادلة في جمع الكتب، واستخدام الفنانين ومد يد المعونة للشعراء ورجال العلم.

وكثر هؤلاء جميعاً في روما على عهد ليو على كثرة لم يكن لها مثيل من قبل ولا من بعد. وكان كثيرون من الكرادلة أنفسهم علماء؛ ومنهم من أصبحوا كرادلة لأنهم كانوا قبل ذلك علماء قضوا في خدمة الكنيسة زمناً طويلاً؛ ونذكر من هؤلاء أجيديو كانيزيو Egidio Canisio، وسادوليتو، وببينا. وقد اعتاد معظم الكرادلة في روما أن يناصروا الآداب والفنون بما يكافئون بها أصحابها على إهدائهم أعمالهم ومؤلفاتهم، ولم يكن يفوق بيوت الكرادلة رياريو، وجريماني، وببينا، والدوزي، وبتوتشي، وفارنيزي، وسدريني، وسانسفرينو، وجندسا، وكازينيو، وجويليوده ميديتشي لم يكن يفوق بيوت هؤلاء إلاّ بلاط البابوات بوصفه ملتقى أصحاب المواهب العقلية والفنية في المدينة. وقد كان لكستجليوني الوديع الطبع الدمث الخلق الذي كسب به صداقة رفائيل المحب الودود وميكل أنجيلو الصارم العنيد، كان لكستجليوني هذا ندوة متواضعة خاصة به.

وكان ليو بطبيعة الحال أكبر المناصرين على الإطلاق، فلم يكن أحد في مقدوره أن ينشئ نكتة شعرية لاتينية يخرج من عنده دون عطاء. وكان العلم في أيامه يؤهل صاحبه، كما كان يؤهله في أيام نقولاس الخامس لمنصب من المناصب الرسمية الكثيرة في الكنيسة، وأضيف الشعر إلى العلم في أيام ليو. فأما أصحاب المواهب الصغرى فكانوا يصبحون كتبة، ومختزلين، وأمّا من هم أكبر من هؤلاء موهبة فكانوا يصبحون قساوسة في الكنائس الكبرى، وأساقفة، وكبار موثقين؛ وأما الممتازون منهم أمثال سادوليتو، وببينا، فقد صاروا كرادلة. وترددت أصداء خطب شيشرون وبلاغته في روما مرة أخرى، وكان أسلوب الرسائل يعلو ويهبط بانتظام كأنه الألحان الموسيقية، كما كان شعر فرجيل وهوراس ينساب من ألف رافد ورافد إلى نهر التيبر ملتقاه الطبيعي. وقد حدد بمبو نفسه مستوى أسلوب الكتابة، فقد كتب إلى إزبلا دست يقول: "أن يخطب الإنسان كما كان يخطب شيشرون خير له من أن يكون بابا(43)". وبز صديقه وزميله ياقوبو سادوليتو معظم الكتّاب الإنسانيين بأن جمع بين الأسلوب اللاتيني البليغ والخلق الذي لا تشوبه شائبة. وكان بين كرادلة ذلك العصر كثيرون من ذوي الاستقامة والخلاق الفاضلة؛ وكانت الكثرة الغلبة من كتّاب عصر ليو الإنسانيين أفضل أخلاقاً وأرق مزاجاً من أمثالهم في الجيل الذي قبله(44)، وإن كان بعضهم قد ظلوا وثنيين في كل شيء ما عدا عقيدتهم الرسمية، ولقد كان من القوانين غير المسطورة ألاّ ينطق سيد مهذب بكلمة نقد للكنيسة المتسامحة من الناحية الخلقية السخية في مناصرة العلم والأدب والفن مهما تكن عقائده أو شكوكه.

وقد اجتمعت هذه الصفات كلها في برناردو دوفيسي دا بينا Bernardo Dovizi da Bibbiena - فقد كان عالماً، وشاعراً، وكاتب مسرحيات، ودلوماسياً، وخبيراً في الفن، ومحدثاً، ووثنياً، وقساً، وكردنالاً؛ غير أن الصورة التي رسمها رفائيل له لم تظهر إلاّ جزءاً قليلاً منه - عينيه الخبيثتين، وأنفه الحاد؛ ذلك أنها غطت صلعته بقبعة حمراء، كما غطت مرحه بوقار لم يكن من عادته. وكان خفيف القدم، والحديث، والروح، يفر من ظروف الدهر كلها بابتسامة. ولمّا استخدمه لورندسو الأكبر أميناً له ومربياً لأبنائه، اشترك مع هؤلاء الأبناء في الهجرة التي حدثت عام 1494؛ ولكنه دل على مهارته بذهابه إلى أربينو حيث فتن هذه الدائرة المتحضرة بنكاته الشعرية، وأنفق بعض فراغه في كتابه مسرحية بذيئة تدعى كالندرا Calandra وتمثيلها (حوالي عام 1505)، وهذه المسرحية هي أقدم المسرحيات الإيطالية النثرية. واستدعاه يوليوس الثاني إلى روما، وعمل برناردو لانتخاب ليو بابا بأقل قدر من الجلية والاحتكاك، فجازاه ليو على هذا بأن عينه من فوره كبير الموثقين الرسوليين، ثم عينه في اليوم الثاني صراف البيت البابوي، ولم تمض ستة أشهر حتى عينه كردنالاً. ولم تمنعه مناصبه السامية من أن يضع في خدمة ليو خبرته العظيمة بالفنون وتنظيم مواكبه في الحفلات. ومثلت مسرحيته في حضرة البابا واستمتع بها ولم يعترض عليها. ولمّا أرسل قاصداً رسولياً إلى فرنسا، شغف حباً بفرانسس الأول، وكان لابد من استدعائه لأه أرق حساسية من أن يصلح للمناصب الدبلوماسية، وزخرف له رفائيل حمامه بصورة تاريخ فينوس وكيوبدة وهي طائفة من الصور تروي انتصار الحب، وكلها تقريباً مرسومة على طراز صور مدينة بمبي القديم، وتقحم المسيحية في عالم لم يسمع قط بالمسيح؛ وكان الكردنال نفسه هو الذي اختار هذه الزخارف. وتظاهر ليو بأنه لم يلاحظ شذوذ ببينا الجنسي وظل وفياً له إلى آخر أيامه.

وكان ليو يحب التمثيل - يحب المسلاة بجميع أشكالها ودرجاتها من أبسط الهزليات الماجنة إلى أكثر الملاهي غموضاً كمسرحيات ببينا ومكيفلي. وقد افتتح في أول سنة من ولايته دار تمثيل على الكبتول، شهد فيها عام 1518 تمثيلاً لمسرحية أريوستو Ariosto المسماة سبوزيتي Suppositi وضحك من كل قلبه من النكات الملتبسة المعاني التي كانت تتفرع من حبكتها - كالعبارات التي يلقيها شاب من الشبان ليغوي بها فتاة(45). ولم يكن هذا التمثيل المطرب تمثيلاً لمسالي فحسب، بل كان يشمل فوق ذلك وضع مناظر مسرحية فنية (وكان الذي رسمها في هذه المسرحية بالذات رفائيل نفسه)، ورقصاً فنياً، وموسيقى بين الفصول تتكون من أغان وفرقة من العازفين على العود والكمان، وأرغن صغير، والنافخين في القرون، والقرب، والفيف.

وقد كُتب في عهد ليو كتاب من أكبر الكتب التاريخية في عهد النهضة، كتبه باولو جيوفيو. وكان باولو هذا من أبناء كومو Como، وكان يمارس فيها وفي ميلان وروما صناعة الطب، ولكن الحماسة الأدبية التي انبعثت في البلاد عندما جلس ليو على كرسي البابوية أوحت إليه بأن يخصص ساعات فراغه لكتابة تاريخ العصر الذي يعيش فيه - من غزو شارل الثامن لإيطاليا حتى ولاية ليو - وأن يكتبه باللغة اللاتينية. وسمح له بأن يقرأ القسم الأول من هذا الكتاب على ليو، فلمّا سمعه قال بكرمه المعتاد إنه أفصح وأظرف ما كتب في التاريخ منذ عهد ليفي Livy، وأجازه عليه بأن خصص له معاشاً من فوره. ولمّا توفي ليو، استخدم جيوفيو ما أسماه "قلمه الذهبي" في كتابة ترجمة لحياة ليو شاد فيها بنصيره الراحل، كما استخدم "قلمه الحديدي" للشكوى من البابا أدريان السادس الذي لم يعبأ به. وواصل في هذه الأثناء الكدح في تاريخ عصره حتى وصل به آخر الأمر إلى عام 1547. ولمّا نهبت روما في عام 1527 أخفى المخطوط في إحدى الكنائس، ولكن أحد الجنود عثر عليه، وطلب إلى المؤلف أن يبتاع كتابه؛ ولكن كلمنت السابع أنقذ باولو من هذه المذلة إذ أقنع اللص بأن يقبل بدل المال يؤدي إليه فوراً، منصباً في أسبانيا؛ وعيّن جيوفيو في الوقت نفسه أسقفاً لنوتشيرا Nocera. وأثنى الناس على كتاب التاريخ وعلى التراجم التي أضيفت إليه لأسلوبه السلس الواضح، ولكنهم عابوا عليه عدم العناية بتحري الحقائق، والتحيز الظاهر فيما يصدره من أحكام. وقد أقر جيوفيو في صراحة وعدم مبالاة بأنه يمدح أشخاص قصته إذا كانوا هم أو أقاربهم قد سخوا عليه، وأنه كان يندد بهم إذا كان هؤلاء قد ضنوا عليه بالعطاء.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الشعراء

لقد كان البابا أعظم مفاخر ذلك العصر، وكان كل إنسان في روما - من البابا نفسه إلى مهرّجيه - يقرض الشعر، كما كان يقرضه كل إنسان في اليابان في عهد الساموراي Samurai، من الفلاح إلى الإمبراطور، وكان كل إنسان قريباً يصر على أن يقرأ آخر أبيات قالها إلى البابا السمح. وكان البابا يحب المهارة في الارتجال، وكان هو نفسه بارعاً في هذا؛ وكان الشعراء يتبعونه أينما ذهب بقوا فيهم وقصائدهم الطوال، وكان هو في العادة يجيزهم عليها بطريقة ما، وإن كان في بعض الأحيان يكتفي بأن يرد عليها بارتجال بعض النكت الشعرية اللاتينية. وقد أهدى له ألف كتاب، أجاز أنجيلو كويتشي على واحداً منها بأربعمائة دوقة (5.000؟ دولار)؛ لكنه حين أهدى إليه جيوفني أو جوريلي Giovanni Augurelli رسالة بالشعر عنوانها كريسوبيا Chrysopoeia - أي فن صنع الذهب باستخدام الكيمياء - أرسل إلى المؤلف كيسا خلوا من النقود. ولم يكن يجد متسعاً من الوقت يقرأ فيه جميع الكتب التي قبل أن تهدى إليه؛ وكان من هذه الكتب المهداة التي لم يقرأها طبعة من ديوان روتليوس ناماتيانوس Ruititius Namatianus - وهو شاعر روماني عاش في القرن الخامس الميلادي - كان يدعو إلى مقاومة المسيحية لأنها في رأيه سم مضعف للأعصاب، ويطالب بالعودة إلى عبادة الآلهة الوثنية القوية المتصفة بصفات الرجولة(47). أما أريستو - الذي ربما بدا لليو أنه يجد ما يكفيه من العناية في فيرارا - فلم يكافئه إلاّ بمرسوم بابوي يحرّم سرقة شعره. وبَرِم أريستو من هذا وابتأس لأنه كان يرجو أن ينال مكافأة تتناسب مع طول ملحمته.

ولما خسر ليو أريوستو قنع من فوره بشعراء أقل منه لألاء وأقصر نَفَساً؛ وكثيراً ما كان سخاؤه يضله فيؤدي به إلى مكافأة ذوي المواهب السطحية نفس المكافأة التي يمنحها العباقرة. من ذلك أن جيدو بستومو سلفستري Guido Postumo Sitvestri، أحد أشراف بيزارو، كان قد قاتل بعنف، وكتب بعنف، ضد الإسكندر ويوليوس لاستيلائهما على بيزارو وبولونيا. فلمّا ارتقى ليو عرش البابوية بعث إليه بقصيدة ظريفة يمتدحه فيها ويوازن بين سعادة إيطاليا في عهد البابا الجديد، وما كانت عليه من البؤس والاضطراب في العهود السابقة. وقدّر له البابا عمله وأجازه عليه بأن رد له ما صودر من ضياعه، واتخذ رفيقاً له في صيده. لكن جيدو مات بعد قليل من ذلك الوقت، ويقول بعض معاصريه إنه مات من كثرة ما كان يتناوله من الطعام على مائدة ليو(48). وأسرع أنطونيو تيبلديو Antonio Tebaldeo، الذي كان قد نال بعض الشهرة في قول العشر في نابلي، إلى روما عقب انتخاب ليو، ونال منه (كما تقول إحدى الروايات غير الموثوق بها) خمسمائة دوقة جزاء له على نكتة شعرية مشهية(49)، وسواء كانت هذه الرواية صادقة أو كاذبة فإن البابا عيّنه مشرفاً على جسر سورجا Sorga وجمع المكوس ممّن يعبروه حتى "يستطيع تيبلديو بهذا أن يعيش عيشة راضية"(50). ولكن يبدو أن المال الذي قد يعين على إنماء مواهب العلماء، قلّما يشحذ عبقرية الشعراء. فأخذ تيبلديو يكتب قصائد المدح، وأصبح يعتمد بعد موت ليو على صدقات بمبو، ولم يعاد يبارح فراش النوم وغن كان لا يشكو من شيء إلاّ من فقد شهيته لشرب الخمر" كما يقول صديق له. وطال حياته وهو مستريح مستلق على ظهره، وتوفي في الرابعة والسبعين من عمره. ونبغ فرانتشيسكو ماريا ملدسا Franseco Maria Molza من أهل مودينا بعض النبوغ في الشعر قبل إرتقاء ليو، ولكنه سمع بحب البابا للشعر وسخائه للشعراء، ترك أهله، وزوجته، وأبناءه، وهاجر إلى روما، حيث أنساه إياهم افتتانه بسيدة رومانية. وقال في روما قصيدة رعوية قصيرة بليغة اسمها حورية تبيرينا La ninfa Tiberina يمتدح بها فوستينا منتشيني faustina Mancini، وهجم عليه أحد المجرمين وأصابه بجرح بليغ. وغادر الرجل روما بعد وفاة ليو، وانضم إلى بولونيا إلى حاشية الكردنال إبوليتو ده ميديتشي، الذي كان في بلاطه، على حد قولهم، ثلاثمائة شاعر، وموسيقى وفكِه. وكانت قصائد ملدسو الإيطالية أظرف ما قيل من الشعر في ذلك الوقت لا تستثنى من ذلك قصائد أريستو نفسها. وكانت أغانيه تضارع أغاني بترارك في أسلوبها، وتفوقها في حرارتها، وذلك لأن ملدسو كان يتقلب على نيران الحب واحدة بعد واحدة، وكان على الدوام يحترق بها. ومات بداء الزهري في عام 1544.

وكان حكم ليو يزدان باثنين من كبار صغار الشعراء أحدهما ماركنطونيو فلامينو Marcantonio Flamino الذي يظهر ذلك العهد في أضواء سارة - يظهر عطف البابا الدائم على رجال الأدب، ويكشف عمّا كان يحبو به فلامينو ونافاجيرو Navagero وفرانكستورو Francastoro وكستجليوني من صداقة لا يحسد أحدهم عليها غيره؛ وإن كانوا الأربعة شعراء؛ كما يكشف عن الحياة النظيفة التي كان يحياها أولئك الرجال في عصر كانت فيها الإباحية الجنسية مماّ تتغاضى عنه كثرة الناس. وقد ولد فلامينو في سرافاليSerravalle من أعمال فينيتو Veneto، ووالده هو جيان أنطونيو فلامينو Gianatonia Flamino وهو أيضاً شاعر. ودرب الوالد ابنه على قرض الشعر وشجعه عليه، مخالفاً في ذلك ألفاً من السوابق، وبعثه وهو في السادسة عشرة من عمره ليهدي إلى ليو قصيدة قالها الشاب يدعو فيها إلى حرب صليبية على الأتراك. ولم يكن ليو ممن يرتاحون إلى الحروب الصليبية، ولكنه أظهر ارتياحه لشعر الشاب، وكفل له مواصلة التعلم في روما. وتولاّه كستجليوني بعنايته، وجاء به إلى أربينو (1515)؛ ثم بعث الوالد بابنه فيما بعد ليدرس الفلسفة في بولونيا. ثم استقر الشاعر أخيراً في فتيربو Viterbo في رعاية الكردنال الإنجليزي رجنلدبول Reginald Pole. وامتاز عن غيره بأن رفض منصبين عاليين، منصب أمين ليو مشتركاً في ذلك مع سودوليتو، ومنصب أمين لمجلس ترنت، وكان يحصل على تأييد وهبات جمة من كثير من الكرادلة رغم ارتيابهم في أنه يعطف على حركة الإصلاح البروتستانتي. وكان طوال تجواله كله يتوق للحياة الهادئة والهواء النظيف اللذين يجدهما في بيت أبيه الريفي بالقرب من إمولا. وكانت قصائده كلها تقريباً باللغة اللاتينية كما كانت كلها تقريباً قصائد قصارا في صور أغان،وأناشيد رعاة، ومراث، وترانيم، ورسائل للأصدقاء من طراز رسائل هوراس، ولكنه يعود فيها مرة بعد مرة إلى حبه لمرابضه الريفية القديمة:

سأبصرك الآن مرة أخرى، وسيبتهج ناظري لرؤية الأشجار التي غرستها يد أبي، وسيفيض قلبي فرحاً حين أتذوق قليلاً من النوم الهادئ في غرفتي الصغيرة. وكان يشكو من أنه سجين في ضوضاء روما وصخبها، ويحسد صديقاً له صوّره بأنه يختفي في ملجأ قروي يقرأ "كتب سقراط" و "لا يفكر مطلقاً في التكريم التافه الذي يمنحه إياه الجمهور الحقير"(52) وكان يحلم بالتجوال في الوديان الخضراء مع فلاحي فرجيل ورعاة ثيوفريطس ويتخذهم له رفاقاً.وأشد أشعاره تأثيراً هي الأبيات التي كتبها إلى أبيه وهو على فراش الموت:

"لقد عشت يا أبتاه عيشة طيبة سعيدة، لم تكن فيها بالفقير ولا بالغني، حصلت فيها على كفايتك من العلم ومن الفصاحة، وكنت على الدوام قوي الجسم، سليم العقل؛ بشوشاً تقياً لا يجاريك في تقواك أحد. حتى إذا أتممت الثمانين من عمرك انتقلت إلى شواطئ الآلهة المباركة. ارحل إليها يا أبتاه، وخذ بعد قليل ابنك معك إلى مقعدك الأعلى في السماء".

وكان ماركو جيرولامو فيدا Marco Girolamo Vida أطوع لأغراض ليو من غيره من الشعراء. وقد ولد ماركو هذا في كريمونا، وأتقن اللغة اللاتينية، وبرع فيها براعة أمكنته من أن يكتب بها كتابة ظريفة القصائد التعليمية في ن الشعر نفسه، أو في تربية دود القز، أو في لعبة الشطرنج. وقد سر ليو من هذا سروراً حمله على أن يرسل في طلب فيدا، ويثقله بالهبات، ويرجوه أن يتوج آداب ذلك العصر بملحمة لاتينية في حياة المسيح. وهكذا بدأ فيدا ملحمة الكرستيادة Christiad التي مات ليو السعيد قبل أن يراها. وحذا كلمنت الشابع حذو ليو في رعاية فيدا، وحباه بمنصب أسقف ليعيش منه، ولكن كلمنت أيضاً مات قبل أن تنشر الملحمة (1535). وكان فيدا راهباً قبل أن يبدأها، وأسقفاً حين فرغ منها، ولكنه لم يستطع أن يحاجز نفسه عن الإشارات المتصلة بالأساطير اليونانية والرومانية القديمة التي كانت تملأ الجو نفسه في أيام ليو، وإن بدت مضطربة سخيفة في نظر الذين أخذوا ينسون أساطير اليونان والرومان ويجعلون المسيحية نفسها أساطير أدبية. فنحن نرى فيدا في هذه الملحمة يقول عن الإله الأب إنه "أبو الآلهة مسخر السحاب"، وإنه "حاكم أوليس"؛ ولا ينفك يصف يسوع بأنه هيروس ويأتي بالفرغونات؛ وربات الانتقام، والقنطورات، والأفاعي الكثيرة الرءوس لتطالب بموت المسيح. لقد كان هذا الموضوع النبيل خليقاً ببحر من الشعر أكثر مواءمة له بدل أن يقلد الشاعر الإنياذة. وليست أجمل الأبيات في شعر فيدا هي التي يخاطب بها المسيح في الكرستيادة، بل هي التي يخاطب بها فرجيل في فن الشعر وهي أبيات تعز على الترجمة ولكننا سنحاول نقلها فيما يأتي:

أي مجد إيطاليا! يا أسطع الأضواء بين الشعراء! وإنّ لنعبدك بما نقدمه لك من الأكاليل والبخور والأضرحة؛ وإليك ننشد على الدوام ما أنت خليق به من التسابيح القدسية، ونستعيد ذكراك بالترانيم: مرحباً بك يا أعظم الشعراء قداسة! إن ثناءنا عليك لا يزيد قط من مجدك، وليس هذا المجد في حاجة إلى أصواتنا. ألا فأقبل وانظر إلى أبنائك، وصب روحك الدافئة في قلوبنا الطاهرة، أقبل يا أبتاه، وامزج نفسك بأرواحنا.

صحوة إيطاليا

كان من أسباب قوة الروح الوثنية في ذلك العصر وجود الفن القديم فيها ونجاته من الدمار؛ وكان بجيو، وبيندو، وبيوس الثاني قد نددوا بتدمير المباني الرومانية القديمة وقاوموا هذا التدمير، ولكنه ظل مع ذلك يجري في مجراه،وأكبر الظن أنه قد ازداد حين استطاعت روما بما تدفق فيها من المال أن تشيد عمائر جديدة أكبر من عمائرها القديمة وتستخدم فيها بقايا هذه العمائر في عمل الجير. واستخدم بولس الثاني جدار الكلوسيوم الحجري في بناء قصر سان ماركو؛ ودم سكستس الرابع معبد هرقول وحوّل أحد جسور نهر التيبر إلى قذائف للمدافع، وانتزعت المواد التي بنيت بها كنيسة سانتا ماريا مجيوري، وفسقيتان عامتان، وقصر للبابا في الكويرينال، انتزعت هذه كلها من معبد الشمس. بل إن الفنانين أنفسهم كانوا همجاً مخربين دون أن يشعروا، فهاهو ذا ميكل أنجيلو مثلاً يستخدم أحد العمد في معبد كاستروبلكس ليصنع منه قاعدة لتمثال ماركس أورليوس الفارس، وهاهو ذا رفائيل يأخذ جزءاً من عمود آخر في هاذ المعبد نفسه ليصنع منه تمثالاً ليونان (يونس)، واقتلعت المواد اللازمة لبناء معبد سستيني من تابوت هدريان، وأخذ الرخام الذي شيدت به كنيسة القديس بطرس كله تقريباً من المباني القديمة؛ وانتزعت إلى هذا الضريح الجديد نفسه أحجار القدمة ؛ والدرج، والقوصرة من هيكل أنطونيوس وفوستينا، وأقواس النصر التي أقيمت لفابيوس مكسيموس وأغسطس، وهيكل رميولوس بن مكسنتيوس. وهدم البناءون الجدد أو جردوا في أربع سنين بالضبط (من 1546-1549) هياكل كاستروبلكس، ويوليوس قيصر، وأغسطس(55). وكانت حجة أولئك الهدامين أنه قد بقى في البلاد بعد هذا الهدم كفايتها من الآثار الوثنية، وأن الخربات القديمة المهملة تشغل فراغاً عظيم القيمة، وتحول دون إعادة بناء المدينة بنظام حسن، وأن المواد التي يستولون عليها كانت في معظم الأحوال تستخدم في تشييد كنائس مسيحية لا تقل عن هذه الآثار القديمة جمالاً،وهي بطبيعة الحال أحب منها إلى الله. وكانت الأتربة التي تراكمت فوق هذه الآثار على مدى الأيام دون أن تستبين العين فعلها قد دفنت في الوقت عينه السوق الكبرى وغيرها من الأماكن التاريخية تحت طبقات متتالية من الثرى، والأنقاض، والنبات، حتى أصبحت السوق تحت مستوى ما يحيط بها من أرض المدينة بثلاث وأربعين قدماً؛ وقد ترك موضعها حتى أصبح نعظمه أرضاً للرعي سميت "حقل البقر" Campo Vaccino. ألا إن الزمان هو أكثر عوامل التخريب والتدمير.

وكان تدفق الفنانين والكتّاب الإنسانيين على روما سبباً في إبطاء سرعة التدمير،وفي إيجاد حركات تهدف إلى المحافظة على الآثار القديمة. وأخذ البابوات يجمعون آثار النحت الوثنية وقطعاً من الأبنية القديمة يضعونها في متحف الفاتيكان والكبتول؛ كما أخذ بجيو، وآل ميديتشي، وبجنيوس ليتوس، ورجال المصارف، والكرادلة يجمعون كل ما يستطيعون الحصول عليه من الآثار القديمة ذات القيمة ليكوّنوا منها لأنفسهم مجموعات خاصة. ومن أجل هذا اتخذت كثير من تحف النحت القديمة طريقها إلى قصور الأفراد وحدائقهم؛ وبقيت فيها حتى القرن التاسع عشر؛ ووجدت من ثم أسماء مثل فاون بربيني، وعرش لدوفيزي Ludovisi وهرقول فرنيزي.

واهتزت روما كلها من نشوة الفرح حين كشف المنقّبون (1506) بالقرب من حمامات تيتوس عن مجموعة من التماثيل جديدة كثيرة التعقيد. وأرسل يوليوس الثاني جوليانو دا سنجا ليو لفحصها، وذهب أيضاً ميكل أنجيلو لهذا الغرض، ولم يكد جوليانو يبصر التمثال حتى صاح من فوره: "هذا هو اللاكؤن الذي ذكره بلني" واشتراه يوليوس ليضعه في قصر بلفدير، ووظف لمن عثر عليه ولابنه معاشاً سنوياً طول حياتهما قدره 600 دوقة (7500؟ دولار)؛ ذلك أن روائع النحت القديمة قد أضحت في ذلك الوقت عظيمة القيمة. وشجعت هذه المكفآت المنقبين عن التحف الفنية؛ وحدث بعد عام من ذلك الوقت أن عثر واحد منهم على مجموعة أخرى هي هرقول مع الطفل تلفوسي، ولم يمض إلاّ قليل من الوقت حتى عثر على أدريانا النائمة، وأضحى الحرص على كشف التحف الفنية القديمة لا يقل قوة عن التحمس للكشف عن المخطوطات القديمة. وكانت هاتان العاطفتان صفتين قويتين من صفات ليو. ففي أيام ولايته كشف عمّا يسمّونه الأفطبنوس وعن تمثالي النيل والتيبر، وقد وضع هذان التمثالان في متحف الفاتيكان. وكان ليو يبتاع بالمال كلمّا استطاع من الجواهر، والحلي المنقوشة، وغيرها من روائع الفن المتفرقة التي كانت في وقت ما ملكاً لآل ميديتشي، ويضعها كلها في قصر الفاتيكان. وأخذ ياقوبو مدسوكي Jacopo Mazochi وفرانتشيسكو ألبرتيتي بفضل مناصرته ينقلان مدى أربعة أعوام كل ما يعثران عليه من نقوش على الآثار الرومانية، وواصلا بذلك ما قام به قبلهما الراهب جيوكندو وغيره من الرهبان. ثم نشرا هذه النقوش باسم النقوش القديمة في المدن الرومانية (1521)، وكان نشرها حادثاً هاماً في علم الآثار الرومانية القديمة.

وفي عام 1515 عين ليو رفائيل مشرفاً على الآثار القديمة؛ ووضع المصور الشاب بمعونة مدسوكي، وأندريا فلفيو، وفابيو كلفا، وكستجليوني. وغيرهم من الفنانين خطة أثرية واسعة؛ وفي عام 1518 وجه إلى ليو رسالة يستحلف فيها هذا الحبر الجليل أن يستعين بسلطان الكنيسة على حفظ جميع الآثار الرومانية القديمة. وقد تكون ألفاظ الرسالة هي ألفاظ كستجليوني، أما روحها القوية ففيها نغمة رفائيل:

"إنا حين نفكر في قداسة تلك الأرواح القديمة... وحين نبصر جثة هذه المدينة الجليلة، أم العالم وملكته، وقد تدنست هذا التدنيس الشائن... لا يسعنا إلاّ أن نتصور كم من الأحبار قد أجازوا تخريب المعابد، والتماثيل ، والعقود وغيرها من المباني القديمة. التي تنطق بمجد من شادوها!... ولست أتردد في القول إن روما الجديدة هذه بأجمعها التي نشاهدها أمامنا الآن، مهما بلغت من العظمة ومهما حوت من جمال وازدانت بالقصور،والكنائس، وغيرها من الصور الفخمة - لست أتردد في القول إن روما هذه قد أمسكها الجير الذي صنع من الرخام القديم"...

وتذكرنا هذه الرسالة بمقدار ما حدث من التدمير حتى في خلال السنوات العشر التي قضاها رفائيل في روما؛ وهي تلقي نظرة عامة على تاريخ العمارة، وتندد بالهمجية الفجة التي كان يتسم بها الطرزان الرومنسي والقوطي (واللذين يسميان فيها القوطي التيوتوني)، وتمجد الأنماط اليونانية - الرومانية، وتراها نماذج لكمال وحسن الذوق؛ وتقترح الرسالة أخيراً تكوين هيئة من الخبراء، وتقسيم روما إلى الأقسام الأربعة عشر التي حددها أغسطس في الزمن القديم، على أن يمسح كل قسم منها مسحاً دقيقاً وأن يسجل كل ما فيه من الآثار القديمة. غير أن موت رفائيل المبكر الذي أعقبه بعد قليل موت ليو قد أخر تنفيذ هذا المشروع الجليل زمناً طويلاً.

وظهر تأثير هذه المخلفات المكتشفة في كل فرع من فروع الفن والتفكير، وتأثر بها يرونلسكو،وألبرتي، وبرامنتي؛ ووصل هذا الأثر إلى الدرجة العليا حتى لم يكن الفن عند بلاديو Palladio إلاّ صورة أخرى من الأشكال القديمة تكاد تكون خاضعة لها كل الخضوع. وكان جبرتي ودوناتليو قد حاولا من قبل أن يتخذا الأشكال القديمة نماذج لهما، فلّما جاء ميكل أنجلو وصل في تقليد الفن القديم إلى درجة الكمال في تمثال بروتس، ولكنه بقي فيهما عداه هو ميكل أنجلو نفسه صاحب النفس القوية غير الخاضعة للفن القديم. وحول الأدب علوم الدين المسيحية إلى أساطير وثنية واستبدل أو ليس بالجنة، أما في التصوير فقد ظهر تأثير الفن القديم في صورة موضوعات وثنية وأجسام عارية وثنية لم تخل منها الموضوعات المسيحية نفسها. وحسبنا دليلاً على هذا أن رفائيل نفسه محبوب البابوات قد رسم صوراً لسيكي Psyhe ، وفينوس وكيوبد على جدران القصور؛ وكانت الرسوم القديمة والزخارف العربية تعلو العمد وتمتد على الطنف والأفاريز في ألف بناء من أبنية روما.

وظهر انتصار الفن القديم بأجلى مظاهره في كنيسة القديس بطرس الجديدة؛ وقد عين ليو فيها برامنتي: رئيساً للأعمال. واحتفظ به في هذا المنصب أطول وقت مستطاع؛ ولكن المهندس المعماري الطاعن في السن أقعده داء الرثية، ولذلك عهد إلى الراهب جيوكندو أن يساعده في عمل الرسوم التخطيطية؛ بيد أن جيوكندو نفسه كان يكبر برامنتي الذي كان في السبعين من عمره، بعشر سنين. وفي شهر يناير من عام 1514 عين ليو جوليانو دانسجليو، وهو أيضاً في سن السبعين، للإشراف على العمل؛ ولمّا حضرت برامنتي الوفاة حضر البابا أن يعهد بالمشروع إلى رجل في مقتبل العمر، وذكر له اسم رفائيل بالذات. وأرتأى ليو أن يحب المشكلة حلاً وسطاً؛ فعين في شهر أغسطس من عام 1514 الشاب روفائيل والشيخ الراهب جيوكندو مديرين مشتركين للمشروع؛ وقضى رفائيل بعض الوقت يعمل بهمة وحماسة في العمل الذي لم يكن يتفق مع مزاجه وهو عمل المهندس المعماري؛ وقال إنه لن يعيش بعد ذلك الوقت إلاّ في روما يغريه بهذا "حبه في بناء كنيسة القديس بطرس... أعظم بناء رآه الإنسان حتى ذلك الوقت"؛ ثم يقول بعد ذلك بتواضعه المعروف.

"ستبلغ تكاليف المشروع مليون دوقة ذهبية، وقد أمر البابا بتخصيص 60.000 للعمل، وهو لا يفكر في زيادتها؛ وقد ضم إليَّ راهباً تعوزه الخبرة تجاوز سن الثمانين، وهو يرى أن هذا الراهب لن يعيش طويلاً، ولهذا اعتزم قداسته أن يجعلني أفيد من علم هذا الصانع الممتاز حتى أبلغ أعظم درجة من الكفاية في فن المعمار، الذي يعلم الراهب من أسراره ما لا يعرفه سواه.... والبابا يستقبلنا ويستمع إلينا كل يوم، ويظل وقتاً طويلاً يحدثنا عن مشروع البناء.

وتوفي الراهب جيوكندو في أول شهر يوليو من عام 1515 وفي اليوم نفسه انسحب جوليان دلسنجلو من جماعة المصممين. وبذلك أصبح الرئيس الأعلى للعمل كله، فرآى أن يستبدل بتخطيط برامنتي لقاعدة الكنيسة تخطيطاً آخر على شكل صليب لاتيني غير متساوي الأذرع، ووضع تصميماً لسقف مقبب أثبت أنطونيو دلنسجلوا (ابن أخي جوليانو) أنه ثقيل لا تتحمله العمد التي يقوم عليها. وفي عام 1517 عين أنطونيو مهندساً معمارياً مشتركاً مع رفائيل، ولكن الخلاف نشأ بينهما في كل خطوة من خطوات العمل،وكثرت في الوقت عينه أعمال رفائيل في التصوير، ففقد اللذة في المشروع. وحدث أيضاً أن أعوز المال ليو، فحاول أن يجمع ما يستطيعه منه ببيع صكوك الغفران، وكانت نتيجة هذا أن اصطدم بدعاة الإصلاح الديني الألماني (1517). ولم يتقدم بناء كنيسة القديس بطرس إلاّ بعد أن عهد إلى ميكل أنجيلو بالعمل في عام 1546.


ميكل أنجلو وليو السادس

كان يوليوس الثاني قد ترك أموالاً لمنفذي وصيته ليستخدموها في إتمام القبر الذي صممه له ميكل أنجيلو أو بالأحرى لينفذوا صورة مصغرة من هذا التصميم.وأخذ الفنان يقوم بهذا الواجب خلال السنين الثلاث الأولى من بابوية ليو، وتلقى من منفذي الوصية في السنين 6100 دوقة (76.250؟ دولاراً). والراجح أن معظم الأجزاء الباقية من هذا الأثر حتى الآن قد أنشئت في ذلك الوقت هي وتمثال قيام المسيح في كنيسة سانتا ماريا وهي تمثال لشخص رياضي عار وسيم ستر فيما بعد حقواه بغطاء من البرونز ليتفق مع ذوق عصر من ستروه. ويصف ميكل أنجيلو في خطاب له كتبه في شهر مايو من عام 1518 كيف جاء سنيورلي Signorelli إلى مرسمه، واقترض منه جويليا (8000؟ دولار) لم يردها له أبداً، ثم يضيف إلى ذلك قوله: "ورآني أعمل في تمثال من الرخام يبلغ ارتفاعه أربع أذرع ويداه مشدودتان وراء ظهره"(57). وأكبر الظن أن هذا التمثال هو أحد التماثيل الأسرى وهي تماثيل يراد بها تصوير المدن أو الفنون التي أسرها البابا المحارب؛ وفي متحف اللوفر تمثال ينطبق عليه وصفها: فهو يمثل شخصاً مفتول العضلات عارياً إلاّ من قطعة من النسيج تستر حقويه، ويداه مربوطتان خلف ظهره برباط بلغ من شدته أن الحبال غائرة في لحمه. ويرى بالقرب منه أسير أجمل منه عار إلاّ من عصابة ضيقة حول الصدر؛ وهنا لم يغتال الفنان في إبراز العضلات، والجسم يجمع بين الصحة والجمال متناسبين ويظهر فيه الفن اليوناني بأكمل مظاهره. وفي المجمع العلمي بمدينة لفورنس تماثيل لأربعة من العبيد، كان يقصد بها فيما يظهر أن تكون عمداً في صورة نساء يستند عليها ما فوقها من بناء القبر. ويوجد هذا القبر الناقص الآن في كنيسة يوليوس في سان بيترو ببلدة فنكولي Vincoli، وهو يمثل عرشاً فخماً ضخماً، ذا عمد منحوتة نحتاً ظريفاً، وعليه صورة موسى- وهي صورة مخلوق ضخم فظيع غير متناسب الأجزاء ذي لحية وقرنين وجبهة تنم عن الغضب الشديد، يمسك بيده ألواح الشريعة. وإذا شئنا أن نصدق قصة بعيدة عن المعقول يرويها فاساري، فإن اليهود كانوا يشاهدون في كل سبت وهم يدخلون الكنيسة ليعبدوا هذا التمثال، لا على أنه من صنع البشر بل على أنه شيء إلهي"(58). ونرى ليحا عن يسار موسى وراشل عن يمينه، وهما تمثالان يسميهما ميكل: "الحياة العاملة المفكرة" أما ما بقى من الأشكال على القبر فقد نحتها مساعدوه في غير عناية: ومن هذه صورة للعذراء فوق صورة موسى، وعند قدميها صورة يوليوس الثاني نصف متكيء، وعلى رأسه التاج البابوي. والأثر كله عمل ناقص يمثل كدحاً غير متواصل في سنين متفرقة ما بين 1506 و 1545، وهو عمل مضطرب مرتبك، ضخم، غير متناسق وسخيف.

وبينما كان الفنان وأعوانه ينحتون هذه الأشكال، لاحت لليو - ولعل ذلك كان أثناء إقامته في فلورنس - فكرة إتمام كنيسة سان لورندسو في تلك المدينة. وكانت هذه الكنيسة أولاً ضريح آل ميديتشي، وتضم قبور كوزيمو، ولورندسو وكثيرين غيرهما من أفراد تلك الأسرة. وكان برونكسكو قد بنى الكنيسة، ولكنه لم يتم واجهتها. ولهذا طلب ليو إلى رفائيل، وجوليانو داسنجلو، وباكشيو دا نيولو Baccio d'Agnolo، وأندريا، وياقوبو سانسو فينو أن يعرضوا عليه. تصميماً يضعونه لإتمام واجهتها. لكن ميكل أنجيلو بعث إلى البابا بتصميم وضعه هو، ويظهر أنه وضعه من تلقاء نفسه، وقبله ليو لأنه رآه أحسن من كل ما عرض عليه.

ومن ثم فإنه لا يصلح أن يوجه اللوم إلى البابا، كما وجهه إليه الكثيرون لأنه إلهي ميكل عن عمله في قبر يوليوس. وبعث ليو بميكل إلى فلورنس ومنها ذهب إلى كرارا ليقطع من محاجرها أطناناً من الرخام. ولمّا عاد إلى فلورنس استأجر مساعدين لمعاونته في العمل، ثم تشاحت معهم، وردهم على أعقابهم، وقضى بعض الوقت يفكر ولا يعمل شيئاً فيما ألقي عليه م عمل لا يستريح له، هو عمل المهندس المعماري. وحدث أن استولى الكردنال جويليو ابن عم ليو على بعض الرخام الذي لم يكن ينتفع به ليستخدمه في الكنيسة؛ فغضب لذلك ميكل ولكنه ظل يتباطأ في العمل، حتى إذا كان عام 1520 أعفاه ليو أخيراً من العقد الذي وقعه، ولم يطلب حساباً عن المال الذي دفعه مقدماً للفنان. ولمّا أن طلب سيستيانو دل بيمبو إلى البابا أن يعهد إلى ميكل أنجيلو بعمل آخر، لم يستجب ليو لهذا اطلب. فقد كان يقر لميكل أنجيلو بتفوقه في الفن، ولكنه قال:" إنه رجل مزعج، كما ترى ذلك أنت بنفسك، ولا أرى سبيلاً إلى الاتفاق معه": ونقل سيستيانو هذا الحديث إلى صديقه، وأضاف إليه قوله:" لقد قلت لقداسته إن أساليبه المزعجة لم تسبب أذى لأي إنسان، وإن إخلاصك للعمل العظيم الذي وهبت نفسك له وحده الذي يجعلك تبدو مزعجاً لغيرك من الناس"(59).

ترى ما هذا الإزعاج الذي اشتهر به ميكل أنجيلو. إنه أولاً وقبل كل شيء جهده العظيم، وهو تلك القوة العاصفة، المضنية التي كانت تعذب جسم ميكل أنجيلو، ولكنها أبقت عليه مدى تسع وثمانين سنة؛ وهي ثانياً قوة في الإرادة ظلت تسخّر هذا الجهد وتوجهه نحو هدف واحد - هو الفن - وتغفل كل ما عداه تقريباً. والجهد الذي توجهه إرادة جامعة موحدة يكاد يكون هو التعريف الصحيح للعبقرية. ولقد كان ذلك الجهد الذي يرى في الحجر الذي لا شكل له تحدياً له، ثم ينشب فيه مخالبه، ويدقه بمطرقته، ويحفره بمثقبه حتى ينكشف عن شيء ذي معنى، هو نفس القوة التي اكتسحت أمامها وهي غاضبة كل ما يحولها عن غرضها من سفاسف الحياة، فلا تفكر في الملبس، ولا النظافة، ولا المجاملات السطحية؛ ثم أخذت تتقدم نحو غايتها تقدماً إن لم يكن أعمى فقد كان على عينيه غماء، يسير فوق وعود حانثة،وصداقات خاسرة، وصحة منهوكة، وأخيراً فوق روع محطمة، تترك الجسم والعقل مهشمين، ولكنها تنجر العمل - تنجز أروع الصور، وأروع الآثار المنحوتة، وعدداً من أعظم المباني، التي تمت في ذلك الزمن. ولقد صدق ميكل أنجيلو حين قال: "إذا أعانني الله فسأخرج أجمل ما شهدته إيطاليا في حياتها كلها"(60).

وكان ميكل أنجيلو أقل الناس وسامة في عصر اشتهر بجمال الجسم وفخامة الثياب. كان متوسط الطول،عريض المنكبين،نحيل الجسم، كبير الرأس، مرتفع الجبهة، أذناه بارزتان إلى ما بعد وجنتيه، وصدغاه بارزان إلى ما بعد الأذنين، وجهه مستطيل قاتم، وأنفه أفطس، وعيناه صغيرتان حادتان،وشعر رأسه ولحيته أشمط - هكذا كان ميكل أنجيلو في مقتبل عمره. وكان يرتدي ملابس قديمة، ويتعلق بها حتى تصبح وكأنها جزء من جسمه، ويبدو أن كان يطيع نصف نصيحة أبيه: "أحرص على ألا تغتسل، حُكَّ جسمك ولكن لا تغتسل"(61). وكان، هو الرجل الغني، يعيش معيشة الفقراء، معيشة الاقتصاد، يأكل أي شيء تصل إليه يداه، ويكتفي أحياناً بكسرة من الخبز. ولمّا كان في بولونيا، كان هو والعمال الثلاثة الذين يشتغلون معه يسكنون في حجرة واحدة، وينامون على سرير واحد. ويقول عنه كنديفي: "وكان وهو في عنفوان الصبا ينام في ثياب النهار، لا يخلع منها شيئاً حتى حذاءيه الطويلين، اللذين كان يحتذيهما على الدوام لأنه كان لديه استعداد للإصابة بتقلص العضلات.... وكان في بعض فصول السنة يظل محتذياً هذين الحذاءين زمناً بلغ من طوله أنه إذا خلعهما انسلخ جلده مع جلد الحذاء"(62). ويقول فاساري في هذا: "إنه لم يكن يرغب في أن يخلع ثيابه، لا لسبب إلاّ لأنه لا يريد أن يضطر إلى لبسها مرة أخرى"(63).

وكان يفخر بكرم محتده المزعوم، ولكنه كان يفضل الفقراء على الأغنياء، والسذج على ذوي العقول الراجحة،وكدح العامل على ما يتيحه الثراء من فراغ وترف. وكان يخرج عن معظم مكسبه ليعول أقاربه العاجزين؛ وكان يحب العزلة، لا يطيق أن يتحدث بضع كلمات إلى ذوي العقول الخاملة؛ وكان أينما وجد يتابع أفكاره الخاصة. وكان قليل العناية بالنساء الحسان، واقتصد الكثير من المال بالتزام العفة... ولمّا أن أظهر أحد القساوسة أسفه لأن ميكل أنجيلو لم يتزوج ولم ينجب أبناء رد عليه ميكل أنجيلو بقوله: "إن الفن عندي أكثر من زوجة، وهو زوجة سببت لي ما يكفيني من المتاعب؛ أما أبنائي فهم الأعمال التي سأخلفها، وإذا لم تكن هذه الأعمال ذات قيمة كبيرة، فلا أقل من أنها ستبقى بعض الوقت"(64) ولم يكن يطيق وجود النساء في بيته، وكان يفضل عليهن الذكور في رفقته وفي فنه على السواء. وقد رسم النساء ولكنه رسمهن دائماً وهن أمهات ناضجات، ولم يرسمهن وهن فتيات فاتنات ساحرات. ومن الغريب أنه هو وليوناردو كانا فيما يلوح لا يحسان بجمال المرأة الجثماني، مع أن معظم الفنانين كانوا يرونه منبع الجمال. بل الجمال نفسه مجسداً. وليس لدينا ما نستدل منه على أنه كان لائطاً، ويبدو أن كل ما كان لديه من نشاط يمكن أن ينصرف إلى الاتصال الجنسي، كان يستنفذه عمله. ولمّا كان في كرارا كان يقضي اليوم كله راكباً جواده، يصدر التعليمات إلى قاطعي الحجارة ومعبدي الطريق، ويقضي المساء في مسكنه يدرس الخطط في ضوء الصباح، ويحسب النفقات، ويرتب أعمال الغد. وكانت تنتابه فترات يبدو فيها خاملاً، ثم تتملكه فجاءة حمى الإنتاج، فلا يبالي بأي شيء حتى انتهاب روما.

وقد حال انهماكه في العمل بينه وبين صداقة الناس، وإن كان له بعض الأصدقاء الأوفياء،"وقلّما كان صديق أو غير صديق يطعم على مائدته"(65). وكان يقنع بصحبة خادمه الأمين فرانتشيسكو ديجلي أمادوري Franecesco degli Amadore الذي ظل خمساً وعشرين سنة يعنى به، وظل كثيراً من السنين يشاركه فراشه. وقد اغتنى فرانتشيسكو من هبات ميكل، ولمّا مات (1555) تفطر قلب الفنان حزناً عليه. أما في معاملة غيره من الناس فقد كان حاد الطبع سليط اللسان، عنيفاً في نقده، سريعاً في غضبه، يرتاب في كل الناس. وكان يصف بروجيا بأنه أبله، وعبّر عن رأيه في صور فرانتشيا بأن قال لابن فرانتشيا الوسيم إن والده يرسمن الأشكال بالليل أحسن مما يرسمه منها بالنهار"(66). وكان فرانتشيا يغار من نجاح رفائيل وحب الناس إياه؛ ومع أن كلا الفنانين كان يحب صاحبه فإن مؤيديهما انقسموا إلى فئتين متشاحنتين، حتى بلغ من أمرهم أن بعث ياقوبو سانسو فينو برسالة إلى ميكل يسبه فيها سباً قاذعاً ويقول: "لعنة الله على ذلك اليوم الذي تنطق فيه بأي خبر عن أي إنسان على ظهر الأرض(67)". ولقد مرت به أيام قليلة ينطبق عليها هذا الوصف، منها أن ميكل شاهد صورة لألفنسو دوق فيرارا من عمل تيشيان فقال إنه لم يكن يظن أن الفن يمكن أن يصنع هذا الصنع العجيب، وإن تيشيان وحده هو الخليق بأن يسمى مصوراً(68). وكان مزاجه المرير،وطبيعته المكتئبة هما المأساة التي لازمته طول حياته؛ فكانت تمر به أوقات يشتد فيها اكتئابه حتى يشرف على الجنون، ، استحوذ عليه خوف الجحيم حتى ظن أن فنه من الخطايا، وأخذ يتبرع بالبائنات إلى الفقيرات من الفتيات ليسترضي بذلك ربه الغضوب(69). وسبب له إحساسه المرهف اضطراباً في الأعصاب جلب عليه شقاء لم يكد يفارقه يوماً واحداً. انظر إلى ما كتبه لوالده في عام 1508 لا بعد: "لقد مضت الآن خمسة عشر عاماً منذ استمتعت بساعة واحدة من الطمأنينة"(70). ولم يستمتع بعدئذ بكثير من هذه الساعات، وإن كان قد بقى من عمره ثمان وخمسون سنة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

رفائيل وليو العاشر 1513-1520

يرجع بعض السبب في إهمال ليو لميكل أنجيلو إلى أن البابا كان يحب الرجال والنساء ذوي الخلق المعتدل المتزن، كما يرجع بعضه الآخر إلى أنه لم يكن شديد الحب لفن العمارة أو إلى الضخامة في الفن بوجه عام، فقد كان يفضل الجوهرة النفيسة على الكنيسة الكبرى، ويفضل الزخارف الصغرى على الآثار الضخمة. وقد شغل كردسا Caradossa، وسانتي ده كولاسيا Santi de Cola Sabba، ومشيلي نارديني Michele Nardini وغيرهم من الصياغ بصنع الجواهر، والنقش عليها، والمدليات، والنقود، والآنية المقدسة. وترك وراءه بعد وفاته مجموعة من الحجارة النفيسة، والياقوت، والياقوت الأزرق (الصغير)، الزمرد، والماس، واللؤلؤ، وتيجان البابوات والأساقفة، وترك من الصور ما تبلغ قيمته 204.655 دوقة أي أكثر من 2.500.000 دولار. على أننا يجب أن نذكر أن الجزء الأكبر من هذه الثروة قد ورثها من أسلافه، وأنها كانت جزءاً من الكنوز البابوية التي لا يصيبها تخفيض قيمة العملة المتداولة.

وقد دعا نحو عشرين من المصورين إلى روما، ولكن رفائيل يكاد يكون هو المصور الوحيد الذي عني به حقاً. لقد جرب ليوناردو ثم طرده لأنه كان في رأيه مهذاراً مضيعاً لوقته، وجاء الراهب بارتولميو إلى روما في عام 1514 ورسم صورة للقديس بطرس وأخرى للقديس بولس. ولكن هواء روما وما فيها من حركة وما تثيره في النفس من اهتياج لم توافقه، فل يلبث أن عاد إلى الهدوء الذي اعتاده في دير فلورنس، وأحب ليو عمل سودوما، ولكنه لم يكد يجرؤ على أن يترك هذا المستهتر يجول حراً في قصر الفاتيكان؛ واستحوذ جوليو ده ميدتشي ابن عم ليو على سبستيانو دل بيمبو.

وكان رفائيل يتفق مع ليو في مزاجه وذوقه جميعاً، فقد كان كلاهما أبيقورياً ظريفاً أحال المسيحية لذة ومتعة، ونعم بالجنة على ظهر الأرض، ولكن كلاهما كان يكدح بقدر ما كان يعبث. وقد أثقل ليو الفنان السعيد بالواجبات: إتمام الحجرات، وتخطيط الرسوم المبدئية للأقمشة التي يزدان بها معبد سستيني، وزخارف شرفات الفاتيكان، وبناء كنيسة القديس بطرس، وحفظ التحف الفنية الرومانية القديمة. وقبل رفائيل هذه المهام كلها، وقبلها مسروراً بها راغباً فيها؛ ووجد فوق ذلك من وقته متسعاً لرسم نحو عشرين من الصور الدينية، وعدة مجموعات من المظلمات الوثنية، ونحو خمسين من صور العذراء وغيرها كانت كل واحدة منها بمفردها خليقة بأن تأتيه بالثروة الطائلة والصيت العريض. واستغل ليو وداعته ولين جانبه. فكان يطلب إليه أن ينظم له احتفالاته، وأن يرسم المناظر اللازمة لإحدى التمثيليات، وأن يصور له فيلاً كان يحبه(71). ولعل الإجهاد والحب هما اللذان قصّرا أجل رفائيل.

ولكنه كان في الوقت الذي نتحدث عنه في عنفوان القوة ونعيم الرخاء. وقد كتب في أول يولية سنة 1514 رسالة إلى عمه "العزيز سيمون... الذي أعزه كما أعز أبي"، وكان سيمون هذا قد لامه لإصراره على البقاء عزباً، وكانت رسالته إلى عمه هذا تنم عن ثقته بنفسه واغتباطه بهذه الثقة قال:

أما عن الزوجة، فلا بد أن أخبرك أني أحمد الله كل يوم على أني لم أتزوج بمن قدرت لي أن أتزوجها، أو بغيرها من النساء... ولقد كنت في هذه المسألة بالذات أعقل منك... ولست أشك في أنك سترى الآن أنني بحالي التي أنا عليها خير ممّا كنت أكونه لو تزوجت... إن لي مالاً في روما يبلغ 3000 دوقة، ودخلاً مؤكداً لا يقل عن خمسين دوقة أخرى. وقد وظف لي قداسة البابا مرتباً قدره 300 دوقة نظير إشرافي على إعادة بناء كنيسة القديس بطرس، ولن ينقطع عن هذا المرتب طول حياتي.... وهم يعطونني فوق هذا كل ما أطلبه نظير عملي.ولقد شرعت في زخرفة ردهة كبيرة لقداسة البابا سأتقاضى من أجلها 1200 كرون ذهبي. ومن هذا ترى حتماً يا عمي العزيز أنني أعمل ما يشرّف أسرتي و بلدي(72).

ولمّا بلغ الواحدة والثلاثين من عمره أدرك أنه دخل في دور الرجولة، فربى لحية سوداء أراد أن يستر بها شبابه؛ وعاش في رغد، بل قل في أبهة في قصر شاده برامنتي وابتاعه رفائيل بثلاثة آلاف دوقة، وارتدى من الثياب ما يرتديه شباب الأسر الشريفة؛ وكان إذا زار قصر الفاتيكان صحبته حاشية كحاشية الأمراء من تلاميذه وعملائه. وأنبه على هذا ميكل أنجيلو بأن قال له: "إنك تسير ومن خلفك حاشية كأنك قائد جيش"، فرد عليه رفائيل بقوله: "وأنت تسير وحدك كالجلاّد"(73). وكان لا يزال وقتئذ فتى طيب القلب، مبرءاً من الجسد، ولكنه شديد الحرص على أن يسمو على غيره من الناس، ولم يكن من التواضع بالقدر الذي كان عليه من قبل (وأنّى له أن يكون كذلك)، ولكنه كان على الدوام يقدّم العون لغيره، ويهدي أصدقاءه روائع فنه، ولقد بلغ من أمره أن كان معيناً ونصيراً للفنانين الأقل منه حظاً وموهبة. ولكن فكاهته كانت لاذعة في بعض الأحيان؛ مثال ذلك أن كردنالين زارا مرسمه في يوم من الأيام، فأخذا يتسليان بذكر عيوب في صوره - فقالا مثلاً إن وجوه الرسل مسرفة في الاحمرار - فرد عليهم بقوله: "لا تعجبوا من هذا، يا صاحبي العظمة، فلقد رسمتها بهذا الشكل عامداً، أليس من حقنا أن نظن أن أصحابها ستعلوهم حمرة الخجل في السماء حين يرون الكنيسة يحكمها رجال من أمثالكم؟"(74). على أنه مع ذلك كان يقبل ما يصحح له من أغلاط من غير أن يغضب، كما حدث في تصميم بناء كنيسة القديس بطرس. وكان في وسعه أن يثني على طائفة من الفنانين بتقليد روائع فنهم، دون أن يفقد مع ذلك استقلاله وما يمتاز له من موهبة الابتكار، ولم يكن في حاجة إلى الوحدة يرجع فيها إلى نفسه.

على أن أخلاقه لم تسم كما سمت آدابه؛ ولم يكن في مقدوره أن يصور النساء بتلك الصور الجذابة لو لم يكن قد افتتن بمحاسنهن، وقد كتب أغاني في الحب على ظهر رسومه؛ واتخذ له طائفة من العشيقات واحدة بعد واحدة؛ ولكن يبدو أنه ما من أحد - بما في ذلك البابا نفسه - يظن أن من كان مثالاً عظيماً لا يحق له أن يستمتع بمثل هذه المتع. وهاهو ذا فاساري، بعد أن وصف شذوذ رفائيل الجنسي لا يرى فيما يبدو أي تعارض في أن يقول بعد صفحتين من هذا الوصف إن "اللذين يحاكمونه في حياته الفاضلة سيثابون على ذلك في الجنة"(75). ولمّا أن سأل كستجليوني رفائيل أين يجد نماذج النساء الحسان اللاتي يصورهن، أجابه بأنه يخلقهن خلقاً في خياله بأن يجمع عناصر الجمال المختلفة التي تمتاز بها مختلف النساء(76)؛ ومن ثم كان في حاجة إلى أمثلة منهن متعددة. ومع هذا فإن في أخلاقه وفي أعماله طابعاً صحيحاً يرفع من قدر الحياة، ووحدة وطمأنينة وصفاء في سيرته وسط ما كان يحيط به من نزاع، وفرقة، وحسداً، ومثالب كانت تسود ذلك العصر. ولم يكن يعبأ بالشئون السياسية التي يحترق بلظاها ليو وإيطاليا كلها، ولعله كان يشعر بأن الخصومات التي تتكرر من حين إلى حين بين الأحزاب والدول الطامعة في السلطان، وفي الامتيازات، إن هي إلاّ الزبد الذي يعلو أمواج التاريخ، والذي لا بد أن يذهب جفاء، وأن ليس لشيء ما قيمة ونفع إلاّ الإخلاص للكمال، والجمال، والحق.

وترك رفائيل البحث عن الحقيقة لمن كانوا أكثر منه جرأة وحماسة، وقنع بخدمة الجمال دون غيره؛ فواصل في السنة الأولى من حكم ليو نقش! حجرة إليودورو Stanza d'Eliodoro. فقد شاءت الظروف أن يختار يوليوس منظر الالتقاء التاريخي بين أتلا Atilla وليو الأول (452). ليكون النقش الثاني من أهم النقوش الجدارية في حجرته، وليجعله رمزاً لطرد البرابرة من إيطاليا. وكان رفائيل في تصويره قد جعل ملامح ليو الأول هي بعينها ملامح يوليوس الثاني، ولكن حدث وقتئذ أن اعتلى عرش البابوية ليو العاشر. فما كان من رفائيل إلاّ أن عدل رسمه فجعل ليو هو ليو. وكان أكثر من هذه المجموعة الكبيرة نجاحاً صورة أصغر منها رسمها رفائيل في عقد فوق نافذة في هذه الحجرة من نفسها. وهنا اقترح البابا الجديد أن يكون موضوع الصورة نجاة بطرس من السجن على يدي أحد الملائكة؛ ولعله أراد بهذا أن يخلد ذكرى نجاته من ميلان. واستعان رفائيل بكل ما وهبه الفن من قدرة التأليف والتكوين ليبعث الوحدة والحياة في الصورة التي قسمتها النافذة إلى ثلاثة مناظر: منظر الحراس النائمين إلى اليسار، وملك يوقظ بطرس في أعلى النافذة، وملك إلى اليمين يقود الرسول الحائر الذي يداعب الناس أجفانه إلى الحرية. وإن ما يشع في حجرة السجن من تألق الملك يسطع على دروع الجند ويغشى أبصارهم؛ والهلال الذي ينعكس نوره على السحب فيجعلها ناصعة البياض، إن هذا وذاك ليجعلان هذه الصورة نموذجاً فنياً لدراسة الضوء.

وكان الفنان الشاب ظمئاً إلى تطبيق للفن جديد. وكان برامنتي قد أخذ صديقه في السر، دون إذن من ميكل أنجلو، ليشاهد المظلمات التي في قبة سستيني قبل تمامها. وتأثر رفائيل بمنظرها أشد التأثر، ولعله أحس، بما لا يزال يصحب كبرياءه من تواضع، بأنه ماثل في حضرة فنان أعظم منه عبقرية وإن كان أقل منه رقة ولطافة. وترك رفائيل هذه المؤثرات الجديدة تحركه في موضوعات المظلمات التي صورها على سقف حجرة هليدورس وفي أشكال هذه المظلمات: فقد مثل فيها الله يظهر إلى نوح؛ وإبراهيم يضحّي بولده، وحلم يعقوب، والأجمة المحترقة. ويظهر أيضاً في صورة النبي إشعيا التي رسمها لكنيسة القديس أوغسطين. وشرع في عام 1514 ينقش الحجرة التي عرفت باسم حجرة حريق المدينة Stanza dell' Incendio del Borgo، ويريد بالمدينة الجزء المحيط بالفاتيكان من روما. وتفصيل هذا أن إحدى قصص العصور الوسطى تروي أن البابا ليو الثالث أطفأ حريقاً كان ينذر بالتهام هذا الجزء من المدينة، ولم يكلفه هذا اكثر من أن يرسم أكثر من الصورة التمهيدية لهذا الرسم الجداري، ثم عهد إلى تلميذه جيان فرانتشيسكو بني Gianfransesco Penni بإتمامها وتلوينها. وهي مع هذا صورة قوية في تأليفها، ومن طراز رفائيل الممتاز الذي يروي فيه حادثات الأيام. وقد مزج رفائيل في هذه الصورة القصة الرومانية القديمة بالقصة المسيحية، فصور إلى اليمين إينياس وسيما مفتول العضلات يحمل أباه أنكبسيز Anchises الشيخ ذا العضلات القوية لينجيه من اللهب، وهناك أيضاً صورة أخرى متقنة الرسم إلى أبعد حد تمثل رجلاً عارياً يتعلق في أعلى جدار البناء المحترق، ويتأهب لإلقاء نفسه على الأرض؛ ويظهر في هذه الصور الثلاث العارية تأثير ميكل أنجيلو في رفائيل. لكن ثمة صوراً أكثر اتفاقاً مع نزعة رفائيل نفسه، منها صورة أم مرتاعة تطل من فوق الجدار لتسلم طفلها إلى رجل يقف فوق الأرض على أطراف أصابع قدميه. وترى بعين عمد فخمة جماعات من النساء يتلمسن معونة البابا، فيأمر من إحدى الشرفات النار أن تخمد. ولا يزال رفائيل في هذه الصورة في عنفوان مجده.

ورسم رفائيل الرسوم التمهيدية لبقية الصور التي في هذه الحجرة؛ ولعل تلاميذه قد ساعدوه حتى في هذه الصور الباقية نفسها. ومن الرسوم التمهيدية رَسَمَ بيرينول فاجا Perino del Vaga فوق النافذة صورة قسم ليو الثالث وهو يبرئ نفسه أمام شارلمان (800)؛ وصوَّر جويليو رومانو وهو تلميذ آخر أعظم من التلميذ السابق على الجدار المجاور لباب الحجرة واقعة أستيا التي رد فيها ليو الرابع (وهو يظهر في الصورة شديد الشبه بليو العاشر) الغزاة المسلمين (849). وجويليو رومانو هو الفنان الوحيد من أهل روما الذي علا نجمه في فن النهضة. وصوّر أولئك التلاميذ النابهون في أماكن أخرى صوراً لملوك أحسنوا إلى الكنيسة، وجعلوا هذه الصور مثالية لا واقعية. وفي الصورة الأخيرة صورة تتويج شارلمان يصبح ليو العاشر هو ليو الثالث بعينه، ويصوّر فرانسس الأول كأنه شارلمان يحقق (بالنيابة عن شارلمان) أمله في أن يكون إمبراطوراً. والحقيقة أن هذه الصور تمثل التقاء ليو بفرانسس في بولونيا في العام السابق (1516).

ورسم رفائيل رسوماً تخطيطية مبدئية للحجرة الرابعة وهي المعروفة بردهة قسطنطين Sala Constantino؛ وقد رسمت هذه الصور ولونت بعد وفاته برعاية البابا كلمنت السابع. وكان ليو في هذه الأثناء يستحثه على أن يبدأ بزخرفة الشرفات المكشوفة التي بناها برامنتي لكي تحيط بفناء القديس دماسوس St. Damasus بالفاتيكان. وكان رفائيل نفسه هو الذي أكمل تشييد هذه الشرفات؛ ثم صمم وقتئذ (1517-1519) لسقف واحدة منها اثنين وخمسين مظلماً تروي قصص الكتاب المقدس من خلق العالم إلى يوم الحساب. وقد عهد بالتصوير نفسه إلى جويليو رومانو، وجيان فرانتشيسكو بني، وبرينودل فاجا، وبليدورو كلدارا داكر فجيو Potidoro Caldara da Caravaggio، وغيرهم؛ بينما قام جيوفني دا يوديني Giovanni de Udine بزخرفة العمد المربوعة، والأجزاء الداخلية من العقود بصور رائعة ونقوش عربية الطراز في الجس وبالألوان. وقد استخدمت أحياناً في مظلمات الشرفات هذه موضوعات مما عولج في سقف سستيني، ولكنها أخف منها يداً،وأقل منها تصنعاً، وأكبر مرحاً؛ لا تهدف إلى الفخامة أو التعالي بل تصور حادثات لطيفة كصورة آدم وحواء وأبنائهما يستمتعون بفاكهة الجنة، وصورة إبراهيم يستقبل الملائكة الثلاثة، واسحق يعانق رفقة، ويعقوب وراحيل عند البئر، ويوسف وزوجة فرعون، والتقاط موسى، وداود وباثشيع، وعبادة الرعاة. ولا حاجة إلى القول بأن هذه الصور الصغيرة لا يمكن أن تضارع صور ميكل أنجيلو، فهذه في عالم غير عالم تلك ومن صنف غير صنفها - لأنها تمثل عالماً ذا رشاقة نسوية، لا عالماً ذا قوة عضلية؛ وهي شاهد على رفائيل المرح في الخمس السنين الأخيرة من حياته؛ على حين أن سقف سستيني إنما يمثل ميكل أنجيلو في عنفوان قوته.

ولعل ليو قد دبَّ في قلبه شيء من الغيرة من جمال هذا السقف، ومما أفاءه على حكم يوليوس من مجد، فلم يكد يعتلي العرش حتى فكر في تخليد عهده بنقش جدران معبد سستيني بصور الطنافس المزركشة. ولم يكن في إيطاليا من النساجين ممن يضارعون تساجي فلاندرز، وظن ليو أنه لم يكن في فلاندرز من المصورين من يضارعون رفائيل. ولهذا عهد إلى هذا الفنان (1515)، أن يرسم عشر صور تمهيدية تمثل مناظر من أعمال الرسل. وقد ابتاع روبنز (1630) ستاً من هذه الصور في بركسل لتشارلس الأول ملك إنجلترا، وهي الآن محفوظة في متحف فكتوريا وألبرت بلندن، وتعد من أعظم ما رسم من الصور في أي عصر من العصور. وقد أغدق عليها رفائيل كا ما لديه من علم في التأليف، والتشريح، والتأثير المسرحي؛ وقلّما يوجد في ميدان التصوير كله قطع نفوق صورة معجزة جر السمك، أو عهد المسيح إلى بطرس، أو موت أنانياس، أو بطرس يداوي الأعرج، أو بولس يعظ في أثينة - وإن كان شكل بولس الجميل في هذه الصورة الأخيرة مسروق من مظلمات مساتشيو في فلورنس.

وأرسلت الرسوم التمهيدية العشرة إلى بركسل، حيث أشرف برنارت فان أورلي Bernaert van Orley، الذي تتلمذ على رفائيل في روما، على نقل هذه الرسوم على الحرير والصوف. وتمت سبع من هذه الطنافس في فترة قصيرة لا تتجاوز ثلاث سنين، وتم صنع العشر كلها قبل عام 1520؛ وفي السادس والعشرين من ديسمبر عام 1519 علقت سبع منها على جدران سستيني ودعي لمشاهدتها الصفوة المختارة من أهل روما. وذهل الحاضرون من جمالها وروعتها، فقال باريس ده جراسيس Paris de Grassis في يومياته: "وذهل كل من في الكنيسة حين وقعت أعينهم على هذه الستر، وأجمعوا كلهم بلا استثناء على ا،ه ليس في العالم كله ما هو أجمل منها"(77). وقد أنفق على كل واحدة منها ألفا دوقة (25.000؟ دولار)، وكانت نفقاتها جميعاً من أسباب إقفار خزائن ليو وإغرائه على بيع صكوك الغفران والمناصب الكنسية . وما من شك في أن ليو قد أحس وقتئذ بأنه التقى هو ورفائيل مع يوليوس وميكل أنجيلو في معركة فنية في كنيسة واحدة وأنهما قد انتصرا في هذه المعركة.

وإن ما يتصف به رفائيل من خصب في الإنتاج وهو في سن السابعة والثلاثين أعظم من خصب ميكل أنجيلو في سن التاسعة والثمانين - نقول إن ما يتصف به من خصب في هذه السن ليجعل من الصعب علينا أن ننصفه حين نصف روائع أعماله الفنية وصفاً موجزاً شاملاً، وذلك لأن كل عمل من أعماله تقريباً كان آية خليقة بأن تخلد. لقد رسم صوراً في الفسيفساء، والخشب، والجواهر،وعلى المدليات، والفخار، والآنية البرنزية، والنقوش المحفورة البارزة، وصناديق العطور، وعلى التماثيل، والقصور. واضطراب ميكل أنجيلو حين سمع أن رفائيل صنع نموذجاً لتمثال يونس راكباً حوته، وأن المثال لفلورنسي لورندستو لتي Lorenzetto Lotti نحت من هذه النماذج تمثالاً رخامياً له. ولكن النتيجة أعادت إليه سكينته لأن رفائيل بعمله هذا قد خرج من ميدانه الخاص وهو ميدان التصوير الملون، ولم يكن في خروجه هذا حكيماً. لكنه كان أكثر توفيقاً في ميدان العمارة لأن صديقه برامنتي كان يرشده في هذا الميدان. ولمّا عهد إليه حوالي عام 1514 العمل في كنيسة القديس بطرس، طلب إلى صديقه فابيو كلفو Fabio Calvo أن يترجم له كتاب ڤتروڤيوس Vitrivius إلى اللغة الإيطالية، وشغف منذ ذلك الحين حباً بالطرز المعمارية الرومانية القديمة و وسر ليو من استمراره في العمل في شرفة برمنتي سروراً جعله يعينه مديراً لجميع المصالح المعمارية والفنية في الفاتيكان. وشاد رفائيل بعض القصور الممتازة في روما، واشترك في تخطيط فلا ماداما Villa Madama للكردنال جويليو ده ميديتشي. على أن هذا العمل يرجع معظم الفضل فيه إلى جويليو رومانو المهندس المعماري، والمصور، وإلى جيوفنيدا أوديني Giovanni da Udine الذي قام بزخرفته ولم يبق من آيات رفائيل المعمارية إلاّ قصر بندلفيني Palazzo Pandolfini الذي بنى بعد موته على أساس رسومه التخطيطية، ولا يزال هذا القصر معدوداً ن أجمل القصور في فلورنس. وسخر رفائيل بعدئذ مواهبه لخدمة صديقه المصرفي تشيجي Chigi وكان ذلك منه تضحية تعلّي من قدره.وقد شاد لهذا الصديق معبداً في كنيسة سانتا ماريادل بوبولو، وبنى لجياده اسطبلات (الاسطبلات الشجيانية Stalle Chigiani 1514) تليق لأن تكون قصوراً. وإذا شئنا أن نفهم رفائيل، وروما في عهد ليو، حق الفهم، وجب علينا أن نتريث قليلاً لنلقي نظرة على ذلك الرجل العظيم تشيجي.


أجستينو تشيجي

يمثل أجستينو تشيجي طائفة من أهل روما: طائفة أغنياء التجار أو رجال المصارف، وأصلهم عادة من غير أهلها علا شأنهم على شأن نبلاء الرومان الأقدمين، ولم يكن يعلو عليهم في سخائهم على الفنانين والكتّاب إلاّ سخاء الكرادلة والبابوات. وكان مولده في سينا، وكأنما طَعِم الدهاء في الشئون المالية مع طعامه اليومي. وقبل أن يبلغ الثالثة والأربعين من عمره أصبح أكبر مقرضي المال الإيطاليين إلى الجمهوريات والمماليك مسيحية كانت أو غير مسيحية. وكان يمول التجارة المتبادلة بين أكثر من عشرة بلاد من بينها تركيا، وحصل بعقد من يوليوس الثاني على احتكار الشب والملح(78). وفي عام 1511 أتاح ليوليوس سباً جديداً من أسباب الحرب على فيرارا - ذلك أن الدوق ألفنسو قد جرؤ على أن يبيع الملح بثمن أقل مما يستطيع أجستينو أن يتقاضاه(79). وكان لشركته فروع في كل مدينة إيطالية كبيرة، كما كان لها فروع في القسطنطينية، والإسكندرية، والقاهرة، وليون في فرنسا، ولندن، وأمستردام، وكانت مائة سفينة وسفينة تمخر عباب اليم رافعة رايته، كما كان عشرون ألف رجل عمالاً مأجورين عنده. وكان بضعة ملوك وأمراء يبعثون إليه بالهدايا، وكان أحسن جواد عنده هدية من سلطان تركيا؛ ولمّا زار البندقية (وكان قد أقرضها 125.000 دوقة) وضع مقعده بجوار مقعد الدوج نفسه(80). ولمّا سأله ليو العاشر عن مقدار ثروته أجابه أن الرد على ذلك مستحيل، ولعل الباعث له على هذا الجواب هو التهرب من الضرائب، على أن دخله السنوي كان يقدر بنحو 70.000 دوقة (875.000؟ دولار). وكانت صحافه الفضية وجواهره تعدل ما عند نبلاء روما كلهم مجتمعين. وكان سريره محفوراً في العاج ومرصعاً بالذهب والحجارة الكريمة، وكانت أدوات حمامه من الفضة(81). وكان له اثنا عشر من القصور والبيوت الريفية ذات الحدائق، أجملها كلها بيت تشيجي الريفي القائم على الضفة الغربية لنهر التيبر. وكان الذي خططه هو بلدساري بروتشي، وزينه بالصور بروتشي ورفائيل، وسودوما، وجويلي رومانو، وسبستيانو دل بيمبو؛ وقد وصفه الرومان حين تم بأنه أفخم قصور روما بأجمعها.

وكان لموائد تشيجي من الشهرة ما يضارع شهرة موائد لوكلس Lucullus في أيام قيصر. ولمّا أتم رفائيل بناء أسطبلاته وقبل أن توضع فيها جياد أجمل من الرجال، استقبل فيها أجستينو البابا ليو وأربعة عشر من الكرادلة في عام 1518، وأقام لهم فيها مأدبة كان يتباهى بأنها كلفته ألفي دوقة (25.000؟ دولار).وقد سرقت في أثناء هذه الحفلة الممتازة صحاف فضية كبيرة، وأكبر الظن أن اللذين سرقوها خدم في حاشية بعض المدعوين. وأمر تشيجي ألاّ يجري أي تفتيش، وأظهر دهشته في لطف ومجاملة من قلة ما سرق(82). ولمّا انتهت المأدبة، ورفعت الطنفسة الحريرية، وطنافس الجدران، والأثاث الدقيق، ملأت الاسطبلات بمائة جواد.

وأقام المصرفي الثري بعد بضعة أشهر من ذلك الوقت حفلة عشاء أخرى، وأقامها هذه المرة في شرفة القصر الريفي المطلة على نهر التيبر، وكانت الصحاف الفضية، بعد الفراغ من كل صنف من الطعام، تلقى في النهر على مشهد من المدعوين، حتى يتأكدوا من أن أية صفحة منها لن تستعمل أكثر من مرة واحدة. ولمّا انتهت المأدبة استخرج خدم تشيجي الصحاف من النهر بشبكة كانت قد وضعت سراً في مجراه تحت نافذة الشرفة(83). وحدث في مأدبة عشاء أقيمت في قاعة القصر الريفي في 28 أغسطس 1519 أن قدم الطعام لكل مدعو وفيهم البابا ليو واثنا عشر كردنالاً - في صحاف من الفضة أو الذهب نقش عليها شعاره، وتاجه، ودرعه، وأطعم كل واحد منهم نوعاً خاصاً من السمك، واللحم، والخضر، والفاكهة، والمشهيات، والنبيذ المستورد حديثاً من بلده أو منطقته لهذا الغرض خاصة.

وحاول تشيجي أن يكفر عن هذا التظاهر الوضيع بالثراء، بمناصرته الأدب والفن مناصرة سخية كريمة - من ذلك أنه أدى إلى العالم كرنيليو بنينيو Corneiio Benigo من فيتيربو Viterbo نفقات طبع أشعار بندار، وأنه أنشأ في بيته مطبعة تلك المؤلفات؛ وكانت الحروف اليونانية التي عملت لتلك المطبعة تفوق في جمالها الحروف التي استخدمها ألدوس مانوتيوس في نشر قصائده قبل ذلك بعامين. وكان هذا أول نص يوناني طبع في روما (1515). وبعد عام من ذلك الوقت أصدرت المطبعة طبعة صحيحة من ثيوقريطس. وكان أجستينو نفسه واسع المعرفة، ولكنه كان يفخر بأن من أصدقائه بمبو، وجيوفيو، وأرتينو نفسه. وقد أغدق أرتينو هذا المال بسخاء، وكان يتباهى بإنفاق هذا المال. وكان أكثر ما يحبه بعد المال وعشيقته هو جميع أنواع الجمال التي يستطيع الفن أن يصورها. وكان ينافس ليو فيما يعهد به من الأعمال إلى الفنانين، وقد فاقه كثيراً في تفسيره الوثني للنهضة، وجمع في قصوره في المدينة وضواحيها مقادير من التحف الفنية تكفي لإنشاء متحف من المتاحف. ويبدو أنه كان يعتقد أن قصره ليس بيتاً فحسب، بل هو إلى ذلك معرض عام للفن يسمح للجماهير أن تدخله من حين إلى حين.

وحدث في ذلك القصر الذي أقيمت فيه مأدبة العشاء السالفة الذكر في 25 أغسطس سنة 1519، أن تزوج تشيجي بعشيقته الوفية التي ظل يعيش معها طوال الست السنين السابقة، وقام بمراسيم الزواج البابا ليو نفسه. لكنه توفي بعد ثمانية أشهر من ذلك الوقت بعد أيام قليلة من موت رفائيل.

وقسم الجزء الأكبر من ثروته التي قدرت بثمانمائة ألف دوقة (10.000.000 دولار) بين أبنائه. وعاش لورندسو أكبر هؤلاء البناء عيشة البذخ والفساد، وحكم عليه بالجنون في عام 1553. أما بيت تشيجي الريفي الواقع على ضفة التيبر فقد بيع إلى الكردنال ألسندرو فرنيزي الثاني بثمن زهيد حوالي عام 1580؛ وأطلق عليه من ذلك الحين اسم الفارنيزينا Farensina.


رفائيل (خاتمة المطاف)

وكان رفائيل قد قبل أن يقوم للمصرفي المرح الظريف بأعمال فنية منذ عام1510، وفي عام 1514 رسم له صوراً جصية ملونة في كنيسة سانتا ماريا دلا باتشي Santa Maria della Pace. وكان المكان الذي خصص لهذه الصور ضيقاً غير منتظم؛ ولكن رفائيل جعله يبدو صالحاً للرسم بأن وزع عليه صوراً لأربع عرافات - تومائية، وفارسية، وفريجية، وتيبورتية، وهن متنبئات وثنيات سلبتهن قواهن في هذا الرسم الملائكة المحيطة بهن. وصورهن رشيقة لأن رفائيل كان يصعب عليه أن يصور شيئاً خالياً من الرشاقة. ويظن فاساري أنهن أجمل ما أنتجه الفنان الشاب؛ والصور جميعها ما عدا صورة العرافة التيبورتية محاكاة ضعيفة لعرافات أنجيلو. أما صورة هذه الكاهنة الأخيرة الهزيلة الجسم التي أوهنها الكبر، وروعها المستقبل البشع الذي تتنبأ به، فهي صورة ذات قوة مبتكرة مسرحية. وتقول قصة لا يمكن الرجوع بها إلى ما قبل القرن السابع عشر، إن شيئاً من سوء التفاهم حدث بين رفائيل والقائم على أموال تشيجي خاصاً بالأجر الذي يتقاضاه الفنان عن هذه الصور. وكان رفائيل قد أخذ منه خمسمائة دوقة، ولكنه طلب المزيد من الأجر بعد أن أتمها؛ وظن خازن أموال تشيجي أن الخمسمائة من الدوقات التي أخذها رفائيل هي كل ما يحق له أن يأخذه. وعرض رفائيل أن يعين الخازن فناناً خبيراً ليقدر قيمة الرسوم؛ فاختار الخازن ميكل أنجيلو لهذا الغرض ووافق رفائيل على هذا الاختيار. وحكم ميكل أنجيلو، رغم ما يزعم الناس وجوده بينه وبين رفائيل من غيرة، أن كل رأس في الصورة يساوي مائة دوقة. ولمّا جاء الخازن المذهول بهذا الحكم إلى تشيجي أمره المصرفي بأن يؤدي إلى رفائيل أربعمائة دوقة أخرى وحذره قائلاً: "واستعمل معه الرفق حتى يرضى بهذا القدر، لأنه إن اضطرني إلى أداء اجر الأثواب التي تلبسها العرافات أفلست لا محالة"(84).

وكان من واجب تشيجي أن يصطنع الحذر، لأن رفائيل كان في ذلك العام نفسه يرسم مظلماً أنيقاً في قصر تشيجي الريفي - وهو مظلم غلاطية. وقد أخذ قصته من جيوسترا Giostra تأليف بولتيان، ومضمون القصة إن بوليفيموس Polyphemus السيكلوب Cyclops الأعور يحاول إغراء الحورية غلاطية بأغانيه ومزماره، ولكنها تبتعد عنه في ازدراء - كأنها تقول: من هي التي ترضى أن تتزوج فناناً؟ - ثم تسلم الزمام إلى دلفينين يجذبان سفينتها الصدفية الشكل إلى البحر. وتقف إلى جانب غلاطية حورية ممتلئة الجسم مرحة يمسك بها تريتون قوي، وفي السحب عدد من آلهة الحب (كيوبد) يطلقون سهاماً كثيرة يؤيدون بها الحب القائم بينهما. وتتجلى النهضة الوثنية في هذه الصورة بأجلى مظاهرها، ويغتبط رفائيل إذ يصور النساء كما يجب أن يكن حسب ما يصورهن خياله الساطع.

وفي عام 1516 نقش حمام الكردنال بببينا مظلمات تمجد فينوس وانتصار الحب. وفي عام 1517 نقش سقف القاعدة الوسطى في قصر تشيجي الريفي وزواياه بصور أكثر من الصور السابقة تبذلاًّ. فقد هداه خياله المرح في هذه المرة إلى قصة استمدها من كتاب التناسخ لأبوليوس Apuleius. وخلاصة هذه القصة أن سيكي Psyche ابنة أحد الملوك تستثير بجمالها حسد فينوس، فتأمر هذه الإلهة الحقود ابنها كيوبد أن يوحي إلى سيكي بأن تحب أحقر رجل في الوجود. ويهبط كيوبد إلى الأرض ليؤدي رسالته، ولكنه لا يكاد يمس سيكي حتى يهيم بها حباً. ويزورها في ظلمة الليل، ويأمرها أن تكبت في نفسها غريزة حب الاستطلاع فلا تسأله من هو. غير أنها لا يسعها إلاّ أن تنهض من فراشها ذات ليلة، وتضيء مصباحاً، فتتبين أنها تنام مع أجمل الأرباب كلهم.ولكنها في اضطرابها تسقط منها نقطة من الزيت على كتف إله الحب، فيستيقظ من نومه ويؤنبها لفرط تشوفها، ويتركها وهو غاضب غير عالم أنه إذا حرمت المرأة من غريزة حب الاستطلاع في مثل هذه الأحوال أدى هذا إلى فساد أخلاق المجتمع. وتخرج سيكي هائمة على وجهها في الأرض محزونة يائسة وتضع فينوس كيوبد في السجن لأنه عصى أمه، وتشكو إلى جوبتر من ضعف النظام السماوي، فيرسل جوبتر عطارد ليأتيه بسيكي وتصبح بعدئذ أمة مغواة عند فينوس. ويهر بكيوبد من سجنه ويرجو جوبتر أن يهبه سيكي. ويقع الإله في حيرة إذ يجد نفسه وسط مطالب متعارضة، فيدعو أرباب أولمبس للنظر في هذا الأمر. وينحاز هو إلى كيوبد مدفوعاً إلى هذا بما جبل عليه من التأثر بمفاتن الذكور؛ أما الآلهة الآخرون ذو القلوب الرقيقة فيطلبون إطلاق سراح سيكي، ورفعها إلى مقام الإلهات، وإعطائها لكيوبد؛ ويحتفلون في المنظر الأخير بزواج كيوبد وسيكي ويقيمون لهذه المناسبة وليمة يطعمون فيها طعام الآلهة. ويؤكد رواة القصة أنها كلها رموز واستعارات، وأن سيكي تمثل النفس البشرية، التي تدخل الجنة بعد أن يطهرها العذاب؛ لكن رفائيل وتشيجي لم يريا في هذه القصة أية رموز دينية، وإنما هي فرصة أتيحت لهما ليتأملا كمال الأجسام البشرية في الذكور والإناث على السواء. لكننا نرى مع ذلك نزعة رفائيل الشهوانية رقةً وظرفاً يفلان سلاح المتزمتين؛ ويبدو أن ليو المتسامح الدمث المرح لم يجد في هذه الرسوم ما يأخذه على الرجلين. وليس رفائيل في هذه الصور إلاّ الأشكال والتأليف؛ أما في عدا هذا فإن جويليو رومانو وفرانتشيسكو بني هما اللذان صورا المناظر الملونة بعد أن خططها رفائيل، ثم أضاف إليها جيوفني دا أوديني أكاليل جذابة مغرية مثقلة بالأزهار والثمار. وهكذا نرى أن مدرسة رفائيل الفنية قد أصبحت منطقة انتقال لا يكاد يوجد أدنى شك في أن ثمارها النهائية ستكون صورة ما من وصر الجمال.

ولم تمتزج الوثنية والمسيحية امتزاجاً ممتعاً كامتزاجهما في صور رفائيل. فهذا الفتى ذو النزعة الدنيوية الذي كان يعيش كما يعيش الأمراء، ويحب كثيراً من النساء حباً عابراً مؤقتاً، والذي كان يعبث على السقف (إذا جاز هذا التعبير) بالذكور العراة والنساء العاريات، نقول إن هذا الفتى نفسه رسم في تلك السنين (1513-1520) عدداً من أكثر الصور جاذبية في التاريخ كله. وكان رغم شهوانيته الظاهرة المكشوفة يعود دائماً إلى العذراء موضوعه الحبيب، فقد رسم لها خمسين صورة، يساعده فيها أحياناً أحد تلاميذه كما في صورة مادنا دل أمباناتا Madonna dell' Impannata (العذراء المؤفخرة) ؛ ولكنه كان في معظم الأحيان يعمل في هذا الطراز من الصور بيده هو، وفي قلبه مسحة من تقى أمبريا Umbria القديم. وفي هذه السنة التي نتحدث عنها (1515) رسم عذراء سستيني لدير سان سستو San Sisto القائم في بياتشندسا ، وهي في الواقع مجموعة من الأشكال في شكل هرم كامل يحتوي على صورة الشهيد القديس سكستس الطاعن في السن، والقديسة بربارا المتحاشمة المفرطة قليلاً في الجمال وفي فخامة الملبس؛ وثوب العذراء الأخضر اللون فوق مسة من الاحمرار، تهفهفه ريح السماء، وصورة المسيح الطفل الذي يبدو إنساناً يحق في سذاجته وشعره الأشعث؛ ووجه العذراء الوردي الساذج تعلوه مسحة من الحزن والدهشة (كأن لافرنرينا التي ربما كانت نموذج هذه الصورة قد أدركت أنها غير أهل لهذا الوضع)، والسجف التي يزيحها المكان وراء العذراء لتيسر بينهما إلى الجنة: هذه هي أحب الصور إلى العالم المسيحي كله، وأحب ما رسمته يد رفائيل إلى العالم أجمع. ولا تكاد تقل عن هذه ظرفاً ورقةً رغم التزامها الشكل التقليدي صورة الأسرة المقدسة تحت شجرة البلوط (المحفوظة في برادو Prado)، وهي التي تسمى أيضاً لابيرلا La Perla (عذراء اللؤلؤة). وفي صورة عذراء سيديا أو سجيولا Seggiola (الموجودة في بتي) نرى النزعة الدينية أقل منها في الصورة السابقة والنزعة البشرية أكثر ظهوراً. فالعذراء أم إيطالية صغيرة السن مرحة ذات عواطف هادئة تضم طفلها السمين ويبدو على محياها الحب الممتزج بغريزة المِلكية والرعاية، وهو يلتصق في وجل بجسمها، كأنه قد سمع بإحدى الأساطير التي تروي قصة قتل الأطفال البريئين، إن صورة للعذراء تغفر له كثيراً من صور فرنارين.

والصور التي رسمها رفائيل للمسيح قليلة إذا قورنت بغيرها من الصور. ذلك أن روحه المرحة كانت تأبى أن تفكر في تصوير العذاب والألم، أو لعله كان يدرك كما يدرك ليوناردو استحالة تصوير الموضوعات الإلهية. وكان من هذه الصور القليلة صورة المسيح يحمل الصليب التي رسمها في عام 1517 لدير سانتا ماريا دلو إسبازيو Maria dello Spasino في مدينة بالرم، والتي سميت من أجل ذلك لو اسبازيمو دي تشيتشيليا La Spasimo di Cicilia وأكبر الظن أن بتي كان يساعده في رسمها. ويقول فاساري إنه كان لهذه الصورة تاريخ مليء بالمغامرات: فقد هبت عاصفة على السفينة التي كانت تحملها إلى صقلية فحطمتها؛ وطفت الصورة الموضوعة في قفص على سطح الماء ووصلت سالمة إلى جنوي، لأن "الرياح والأمواج الثائرة نفسها قد أكبرت وأجلت هذه الصورة الرائعة". كما يقول فاساري. ونقلت الصورة سفينة أخرى وأقيمت في بالرم حيث "أضحت أوسع شهرة من جبال فلكان"(86). وفي القرن السابع عشر أمر بها فليب الرابع ملك أسبانيا فنقلت سراً إلى مدريد. وليس المسيح في هذه الصورة إلاّ رجلاً مغلوباً منهوك القوى لا يلوح عليه أنه يحمل رسالة ارتضاها وقام بأدائها. لكن رفائيل وفق أكثر من هذا في الإيحاء بالألوهية في صورة أخرى هي صورة رؤيا حزقيال وإن كان يستعير آلهة الأجل في هذه الصورة من صورة خلق آدم لميكل أنجيلو.

ومن الصور التي رسمت في هذه الفترة أيضاً صورة القديسة تشيتشيليا التي لا تكاد تقل شهرة عن صورة عذراء سستيني. وكان سبب رسمها أن سيدة من بولونيا أعلنت في خريف عام 1513 أنها سمعت أصواتاً سماوية تأمرها بأن تقيم معبداً للقديسة تشيتشليا في كنيسة سان جيوفني دل منتي San Giovanni del Monte. وتعهد أحد أقاربها بأن يبني المعبد، وطلب إلى عمه الكردنال لورندسو بتشي Lorenzo Pucci أن يطلب إلى رفائيل صورة قياسية للمذبح نظير ألف اسكودي Scudi ذهبي. وأناب رفائيل عنه جيوفني دا أوديني في رسم الآلات الموسيقية، وأتم هو الصورة في عام 1516 وأرسلها إلى بولونيا مع رسالة رقيقة إلى فرانتشيا كما أشرنا إلى ذلك من قبل. ولا حاجة بنا إلى أن نعتقد أن فرانتشيا قد ذهل بجمال هذه الصورة ذهولاً أحس معه بما فيها من روعة، وشعر بأن ما ينبعث من نغمات من آلاتها الموسيقية يكاد يكون نغمات سماوية، وأدرك جمال صورة القديس بولس في "حلم اليقظة"، والقديس يوحنا في نشوة لا تكاد تقل عن نشوة البنات، وتشيتشليا الجميلة، ومجدلين الأجمل منها - والتي خلع عليها هنا طهراً ساحراً- والأضواء الحية والظلال الملقاة على الأثواب وعلى قدمي مجدلين.

وفي هذه الفترة أيضاً رسمت صورة أخرى رائعة منها صورة بلدساري كستجليوني (متحف اللوفر) وهي إحدى الصور التي عمل فيها رفائيل بذمة وضمير حي، وهي قوة الإغراء، ولا تزيد عليها في قيمتها من صور رفائيل إلاّ صورة يوليوس الثاني. وفيها تقع عين الإنسان أولاً على غطاء الرأس الزًّغبي، ثم يستلفته بعدئذ ثوب الفراء، واللحية الكثة، فيخيل إليه أن الجرل أحد شعراء المسلمين أو فلاسفتهم، أو حاخام إسرائيل صوّره رمبرانت Rembrandt؛ ويشاهد بعد ذلك العينين الرقيقتين، والفم، واليدين المقبوضتين، وكلها تكشف عن وزير إزبلا الثاكل ذي العقل الرحيم، والعاطفة الجائشة، وقد انتقل إلى بلاط ليو. وخليق بالإنسان أن يطيل التأمل في هذه الصورة قبل أن يقرأ كتاب "حامل الرسائل The Courier". وتظهر صورة ببينا Bibbiena الكردنال في آخر سني حياته وقد ملّ رؤية صور فينوس وارتضى المسيحية.

ولسنا نستطيع الجزم بأن صورة لادنا فيلاتا La donna Velata من صنع رفائيل، ولكنا نكاد نجزم بأنها هي التي يقول فاساري إنها صورة عشيقة رفائيل؛ فملامحها هي الملامح التي استعان بها على رسم صورة مجدلين وصورة تشيتشيليا نفسها في صورة القديسة تشيتشيليا التي سبق الكلام عليها، ولعلها أيضاً الملامح التي نشاهدها في عذراء سستيني - وهي هنا سمراء متحاشمة، يتدلى من رأسها قناع طويل، وحول جيدها عقد من الجواهر، وتلتف على جسمها أثواب فضفاضة تستهوي العين. وأكبر الظن أن صورة لافرنرينا La Fornarina المحفوظة في المعرض البرغيزي Borghese هي أيضاً من صنع رفائيل، ولكنها لا تمثل عشيقته في وضوح كما كان يظن الخبراء الأقدمون. ومعنى كلمة فرترينا الخبازة أو زوجة الخباز أو ابنته، ولكن هذا الاسم وأمثاله كحداد أو نجار لا يعني حتماً أن صاحبه ينتسب إلى هذه المهنة. وليست هذه السيدة فانتة ساحرة إلى حد كبير، ذلك أن المرء لا يجد فيها النظرة المتواضعة التي تجعل من هذه الإيحاءات غير المتواضعة أكثر فتنةً وسحراً . ويبدو أن من غير المعقول أن تكون صورة السيدة ذات القناع المتواضعة هي صورة لنفس هذه السيدة التي توزع المتع السريعة في جرأة على طالبها؛ ولكنا لسنا بحاجة إلى البحث في هذا فقد كان لرفائيل أكثر من عشيقة.

بيد أنه كان أكثر وفاءاً لعشيقته مما ينتظره الإنسان من الفنانين الذين يتأثرون بالجمال أكثر مما يتأثرون بالعقل. وشاهد ذلك أنه لما حثه الكردنال ببينا على أن يتزوج ماريا ببينا ابنة أخيه لم يقبل رفائيل إلحاحه إلاّ وهو كاره (1514) مع أنه كان مديناً للكردنال بأعمال درت عليه المال الكثير، ثم أخذ يتملص من إتمام الزواج شهراً بعد شهر وسنة بعد سنة، وتقول الرواية المأثورة إن ماريا أثر فيها هذا الإرجاء فماتت حزينة كسيرة القلب(87). ويشير فاساري إلى أن رفائيل كان يرجئ هذا الزواج أملاً منه بأنه سيصبح كردنالاً؛ والزوج عقبة كبرى في سبيل هذا المنصب السامي؛ أما العشيقة فإنها من العقبات التي يمكن التغلب عليها. ويبدو أن الفنان كان يجعل عشقته قريبة منه يسهل عليه الوصول إليها حينما كان يقوم بعمله. ولمّا أن وجد تشيجي أن المسافة بين قصره الريفي الذي كان رفائيل يصور فيه تاريخ سيكي ومسكن عشقته تضيع على الفنان كثيراً من وقته، جاء المصرفي بالسيدة وأسكنها في شقة من هذا القصر؛ ويقول فاساري إن "ذلك هو السبب في إتمام العمل"(88). ولسنا نعرف هل هذه هي السيدة التي انغمس معها رفائيل في "الدعارة الطليقة غير المألوفة" هي التي يعزو إليها فاساري سبب موته(89).

وكانت آخر صورة له إحدى تفسيراته السامية لقصة الإنجيل. ذلك أن الكردنال جويليو ده ميدشتشي كلّف رفائيل وسبستيانو دل بيمبو في عام 1517 أن ينقشوا ستار مذبح لكنيسة نربونة التي عينه فرانسيس الأول أسقفاً لها، وكان سبستيانو يحس من زمن بعيد أن موهبته الفنية لا تقل عن موهبة رفائيل إن لم تسم عليها، وإن لم يكن مثله معترفاً له بهذه الموهبة. وهاهي ذي الفرصة قد لاحت له لإثبات موهبته. واختار لموضوعه "ارتفاع المجذوم الأبرص" واستعان بميكل انجيلو في رسم الصورة الأولية. واستثارت المنافسة رفائيل فسما إلى فوزه النهائي، واختار لموضوعه رواية منى لحادث جبل تابور:

"وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين وتغيرت هيئته قدامهم، وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه.... ولمّا جاءوا إلى الجمع تقدم إليه رجل جاثياً له وقائلاً يا سيد ارحم ابني فإنه يصرع ويتألمن شديداً، ويقع كثيراً في النار وكثيراً في الماء، وأحضرته إلى تلاميذك فلم يقدروا أن يشفوه(90)".

وأخذ رفائيل هذين المنظرين كليهما ووحدهما، وتعسف كثيراً في وحدة الزمان والمكان. فالمسيح يظهر فوق قلة الجبل يسبح في الهواء. وقد تبدل وجهه من فرط النشوة، وظهرت ثيابه بيضاء ناصعة لسقوط الضوء عليها من السماء. وعلى أحد جانبيه موسى وعلى الجانب الآخر إيليا، ومن تحتهم الرسل الأربعة المحببون يرقدون فوق هضبة. وعند سفح الجبل يظهر أب يائس يدفع إلى الأمام ابنه المسلوب العقل، وتركع الأم هي وامرأة أخرى، وكلتاهما رائعة الجمال، إلى جان بالغلام وتطلبان إلى الرسل التسعة المجتمعين إلى اليسار علاجاً للغلام. ويفزع أحد أولئك الرسل وهو منكب على كتاب يقرؤه، ويشير رسول آخر إلى المسيح الذي بدلته النشوة، ويقول إنه هو وحده الذي يستطيع أن يعالج الغلام. وقد اعتاد النقاد أن يثنوا على الجزء الأعلى من الصورة ويصفوا المجموعة السفلى منها بالخشونة والعنف؛ وهذه المجموعة هي التي رسمها جويليو رمانو؛ ولكن الحقيقة أن مقدمتها السفلى تحتوي صورتين من أجمل الصور هما صورة القارئ الفزع، والمرأة الرائعة ذات الكتف العارية والأكواب المتلألئة الساطعة.

وبدأ رفائيل العمل في صورة تجلّي المسيح عام 1517 ولكنه توفي قبل الفراغ منها. ولسنا نعرف ما في قصة فاساري من الصدق لأنه كتبها بعد ثلاثين عاماً من وقوع الحادث.وإلى القارئ هذه القصة:

"لقد أطلق رفائيل العنان لملذاته الخفية إلى أقصى حد؛ وحدث بعد ليلة حمراء صاخبة أنه عاد إلى بيته وقد انتابته حمى شديدة، واعتقد الأطباء أن قد أصابه برد شديد. ولم يعرف هو بسبب اضطرابه، فحجمه الأطباء خطأ منهم وقلة دراية ، وبذلك اضعفوا حسمه وهو في أشد الحاجة إلى ما يعيد إليه قوته، فما كان منه إلاّ أن كتب وصيته، بعد أن أخرج عشيقته من بيته، كما يفعل المسيحي الصادق، وترك لها من المال ما تستطيع به أن تعيش عيشة شريفة، ثم قسم ما عنده بين تلاميذه جويليو رومانو الذي كان يؤثره بحبه على الدوام، وجيوفني فرانتشيسكو بني من أهل فلورنس، وقس من أربينو، وأحد أقاربه.... وبعد أن اعترف وتاب وأناب اختتم حياته في مثل اليوم الذي ولد فيه يوم الجمعة الحزينة، ولمّا يتجاوز السابعة والثلاثين من عمره (6 أبريل سنة 1520)(91)".

ورفض القس الذي جاء ليتلقى اعترافه أن يدخل حجرة المريض قبل أن تخرج عشيقة رفائيل من بيته؛ ولعل سبب ذلك الرفض هو شعور القس بأن استمرار وجودها في البيت قد يوحي بأن رفائيل تعوزه الندامة التي لا بد منها قبل أن تغفر له ذنوبه.ولهاذ منعت حتى من الاشتراك في تشييع الجنازة، فانتابها الحزن والكمد حتى كادت تصاب بالجنون لولا أن أقنعها الكردنال ببينا بأن تترهب. وسار على جميع الفنانين في روما في جنازة الشاب الراحل حتى ووري الثرى، وحزن ليو على فقدان مصوره المحبوب؛ وأخرج أمين سر البابا وشاعره، وهوبمبو Bembo الذي تنقصه البلاغة الممتازة في اللغتين اللاتينية والإيطالية، أخرج بمبو هذا كل ما أوتي من فصاحة وكتب قبرية لرفائيل في البنثيرون لم يزد فيها على أن قال:

llle Hec est Raphael

"إن الذي هنا هو رفائيل"

وكفاه هذا. وبعد فقد كان رفائيل بإجماع معاصريه أعظم المصورين في عصره. نعم إنه لم يخرج شيئاً يضارع في سموه سقف سستيني، ولكن ميكل أنجيلو لم يخرج قط شيئاً يضارع في جماله الكلي صور العذراء الخمسين التي أخرجها رفائيل.ولقد كان ميكل أنجيلو أعظم الفنانين لأنه كان عظيماً في ميادين ثلاثة، وكان أعمق من سائر الفنانين في تفكيره وفي فنه.ولمّا أن قال عن رفائيل: "إنه مثل لما تستطيع الدراسة العميقة أن تثمره"(92) كان يعني في أكبر الظن أن رفائيل قد نال بفضل المحاكاة كل الصفات الممتازة التي يتصف بها كثيرون من المصورين، وإنه صاغها بفضل ما وهب من الجد والمثابرة حتى أصبحت طرازاً بلغ ذروة الكمال. على أن ميكل أنجيلو لم يشعر أن رفائيل قد أوتي تلك القوة العاصفة المبدعة التي تطرح المحاكاة وتشق لنفسها طريقاً خاصاً بها، تجتازه بقوة تكاد تصل إلى حد العنف، وتصلبه إلى ما تريد. ويبدو أن رفائيل قد بلغ من السعادة حداً يمنعه أ، يكون عبقرياً بالمعنى التقليدي لهذا اللفظ؛ وهو المعنى الذي يجعل العبقرية تشرف على الجنون.ولقد تخلص رفائيل من صراعه الداخلي حتى لم تعد تظهر عليه إلاّ قلة من أعراض الروح أو القوة الشيطانية التي تحرك أعظم النفوس، فتدفعها إلى الإبداع والمآسي؛ ولهذا كان عمل رفائيل ثمرة الحذق الكامل المصقول لا الشعور العميق أو العقيدة.وقد كّيف نفسه لحاجات يوليوس وأهوائه في أول الأمر، ثم لحاجات ليو وأهوائه من بعده، ومن بعدهما لتشيجي، ولأنه ظل على الدوام الشب الذي لا يعرف الختل والخداع، والذي يتقلب وهو مغتبط بين صور العذارى والعشيقات؛ وكانت هذه هي وسيلته المرحة للتوفيق بين الوثنية والمسيحية.

وإذا فهمنا من لفظ الفنان معناه التطبيقي الآلي كان رفائيل أبرع الفنانين لا يعلو عليه واحد منهم. ذلك أن أحداً لم يضارعه قط في ترتيب عناصر الصورة، ولا في انسجام أجزائها، أو الانسياب الهادئ لخطوطها. وكانت حياته كلها مكرسة لإتقان الشكل،ولهذا كان ينزع إلى البقاء على ظاهر الأشياء، فنحن لا نراه يسبر غور ما في الحياة أو العقيدة من أسرار خفية أو متناقضات. وكان دهاء ليو، وإحساس ميكل أنجيلو بمآسي الحياة عديمي المعنى بالنسبة له، وكان حسبه بهجة الحياة ومتعتها، وخلق الجمال وتملكه، ووفاء الصديق والحبيب. وكان رسكن Ruskin صادقاً حين قال إنه كانت تظهر من حين إلى حين في النحت القوطي، وفي التصوير بإيطاليا وفلاندرز "قبل عصر رفائيل" بساطة، وإخلاص وسمو في الإيمان والأمل، يتعمقان النفس أكثر مما تتعمقها صور العذراء وفينوس الجميلة التي أبدعها رفائيل. ومع هذا فإن صورتي يوليوس الثاني وعذراء اللؤلؤة لا يمكن وصفهما بأنهما من الصور السطحية غير ذات العمق الكبير. ذلك أنهما تصلان إلى لب مطامع الذكور وحنان الأثاث، فصورة يوليوس أعظم وأعمق من صورة موناليزا.

وليوناردو يبعث في نفوسنا الحيرة، وميكل أنجيلو يبعث فيها الخوف، أما رفائيل فيبسط علينا السلام، وهو لا يلقى أسئلة، ولا يثير شكوكاً، ولا يستثير مخاوف، بل يعرض علينا جمال الحياة كأنه شراب الآلهة. وهو لا يقر بوجود صراع بين العقل والشعور، أو بين الجسم والروح؛ بل كل شيء فيه توافق وتناسق بين الأضداد، تتألف منه موسيقى فيثاغورية. وفنه يسمو بكل ما يمسه فيجعل منه مثلاً أعلى، أو حتى حرباً؛ وإذ كان هو سعيداً محظوظاً فقد كان يشع على كل ما حوله كل ما أوتي من نعمة وصفاء نفس. ومكانه في سلم العبقريات التعسفي بل أعظم عظماء العباقرة مباشرة، ولكنه في زمرتهم: دانتي، وجيته،وكيتس؛ وبيتهوفن، وباخ، وموزار؛ وميكل أنجيلو، وليوناردو، ورفائيل.


ليو السياسي

وكان من دواعي الأسف أن ليو اضطر وهو بين كل هذا الفن والأدب أن يخوض بحر السياسة الخضم. ولكن عذره في هذا أنه رئيس دولة، وأنه يعيش، وأنه الدول التي وراء الألب كان على رأسها جميعاً زعماء ذوو مطامع، ولها جيوش جرارة، وقواد أشداء؛ ولم يكن يستبعد أن يتفق لويس الثاني عشر ملك فرنسا، وفرديناند الكاثوليكي، في أي وقت من الأوقات على اقتسام إيطاليا كما اتفقا من قبل على اقتسام مملكة نابلي. وأراد ليو أن يواجه هذا التهديد، وأن يقوى في الوقت ذاته البابوية ويعلّي شأن أسرته، فعمل على أن يضم فلورنس (التي كان يحكمها وقتئذ على يد جوليانو أخيه ولورندسو ابن أخيه) وميلان، وبياتشندسا، وبارما، ومودينا، وفيرارا، وأربينو في اتحاد قوي جديد يحكمه أفراد من آل ميدشيتشي الموالين له؛ وأن يجمع هذه الولايات وبين ولايات الكنيسة الموجودةوقتئذ، لتكون حاجزاً يصد المغيرين من الشمال، وأن يحصل بزواج أحد أعضاء أسرته إن استطاع على عرش نابلي بعد خلوه من شاغله؛ فإذا تم له بهذه الطريقة توحيد إيطاليا وتقويتها، أمكنه أ، يقود لأوربا في حرب صليبية أخرى ضد الأتراك الذين لا يفتئون يهددونها بالغزو. ورحّب مكيفلي، وهو الرجل الذي لم يكن يميل إلى المسيحية ولا إلى البابوات، بهذه الخطة، أو أنه في القليل رحب بما يتصل منها بتوحيد إيطاليا وحمايتها، وكانت هذه هي الفكرة الأساسية في كتاب الأمير.

وسعى ليو لتحقيق هذه الأغراض بما كان تحت تصرفه من الموارد العسكرية المحدودة، فلجأ إلى جميع الأساليب السياسية والدبلوماسية التي كان يلجأ إليها أمراء زمانه. نعم إنه لم يكن من اليسير على رئيس الكنيسة أن يكذب، ويحنث بالوعد، ويسرق ويقتل؛ ولكن الملوك كلهم كانوا مجمعين على أن هذه الأساليب لا غنى عنها لحفظ كيان الدولة؛ واندفع ليو، وهو الميديتشي أولاً والبابا بعدئذ، في هذ الخطة بالقدر الذي تسمح له به بدانته، وناسوره، وصيده، وسخاؤه وأمواله. وندد به كل الملوك لأنه لم يسلك مسلك القديسين، وقال في ذلك جوتشيارديني: "إن ليو قد خيب الآمال المعقودة عليه وقت تتويجه، فقد بدا أنه ذو بصيرة نفاذة، ولكنه أقل صلاحاً مما كان يتصوره جميع الناس(93). وظل أعداؤه وقتاً طويلاً يظنون أن دهاءه المكيفلي إنما يرجع إلى نفوذ جويليو ابن عمه (الذي أصبح فيما بعد كلمنت السابع) أو إلى الكردنال ببينا، لكن تطور الحوادث فيما بعد أوضح أنهم لا بد لهم أن يحسبوا حساب ليو نفسه، وأن ليو هذا ليس أسداً بل ثعلباً، وأنه لين زلق، ماكر لا يسبر غوره، نهاز زائغ، يخاف في بعض الأحيان ويتردد في أغلبها؛ ولكنه إذا جد الجد قادر على اتخاذ القرار الحاسم، ماض في عزيمته، عنيد في خططه السياسية.

وسنرجئ الحديث عن علاقاته بالدول الواقعة شمال جبال الألب إلى فصل آخر من هذا الكتاب، ونقصر بحثنا هنا على الشئون الإيطالية، فنتحدث عنها بإيجاز لأن فنون عهد ليو أبقى على الزمن من سياسته. لقد كان يمتاز كثيراً عن أسلافه، لأن فلورنس التي قاومت من قبل الإسكندر ويوليوس كانت وقتئذ جزءاً من دولته، ولأنه أفاء على أهلها كثيراً من نعمه. ولمّا أن زار المدينة التي حكمها أسلافه أقامت له أكثر من عشر أقواس فنية ترحيباً به. ومن هذه القاعدة ومن روما نفسها استخدم رجاله الدبلوماسيين ومن يدينون له بالفضل، كما استخدم جنوده، في توسيع رقعة دولته؛ فاستولى أولاً على مودينا في عام 1514، ولمّا أن تأهب فرانسس الأول في عام 1515 لغزو إيطاليا والاستيلاء على ميلان، حشد ليو لمقاومته جيشاً وعقد حلفاً إيطالياً، وأمر دوق أربينو، بوصفه تابعاً للكرسي البابوي وقائداً في خدمة الكنيسة، أن ينضم إليه في بولونيا على رأس أكبر قوة يستطيع حشدها. ولكن الدوق رفض المجيء رفضاً صريحاً، وإن كان ليو قد حباه من وقت قصير بما يلزمه من المال لأداء رواتب جنوده. وظن البابا، وله بعض الحق في أن يظن، أنه قد تفاهم في السر مع فرنسا(94)؛ فلم يكد يتخلص من مشاكله الخارجية، حتى استدعى فرانتشيسكو إلى روما؛ فلم يسع الدوق إلاّ أن يفر إلى مانتوا. فحرمه ليو من حظيرة الدين وأصم أذنيه عن سماع تضرع إلزبتا جندساجا وإزبلا دستا وتوسلاتهما، وكانت أولاهما عمة الأمير الطائش وثانيتهما أم زوجته. واستولت جنود البابا على أربينو دون أن تلقى مقاومة، وأعلن خلع فرانتشيسكو، كما نودي بلورندسو ابن أخي ليو دوقاً على أربينو (1516). لكن أهل المدينة ثاروا بعد عام من ذلك الوقت وطردوا لورندسو، وحشد فرانتشيسكو جيشاً استعاد به دوقيته؛ ولاقى ليو أشد الصعاب في جمع المال والجنود لاستعادتها لنفسه؛ ونجح في لذك بعد حرب دامت ثمانية أشهر، ولكن نفقات الحرب أفقرت خزانة البابوية، واحفظت قلوب الإيطاليات على ليو وأسرته الطامعة المغتصبة.

وانتهز فرانسس الأول هذه الفرصة لكسب صداقة البابا، وعرض أن يتزوج لورندسو دوق أربينو الذي عاد إلى عرشه نم مادلين ده لافور دوفرني Madeleine de La Four d'Auvergne الت كان له دخل كبير لا يقل عن عشرة آلاف كرون (125.000؟ دولار) في العام. ووافق ليو على هذا العرض، وسافر لورندسو إلى فرنسا (1518)، كأنه صدى صوت بورجيا، وعاد بمدلين وبائنتها. وماتت مادلين بعد عام من ذلك الوقت أثناء وضعها بنتاً هي كترينا Caterina التي صارت فيما بعد كاترين ده مدتشي ملكة فرنسا؛ ثم مات لورندسو بعد ذلك بقليل، ويقال إن سبب موته مرض سري أصيب به وهو في فرنسا(95). وحينئذ أعلن ليو أن أربينو ولاية بابوية وأرسل مندوباً من قبله ليحكمها.

وكان لابد له أثناء هذه الارتباكات أن يعاني الأمرين من مسألتين تقضان مضجعه وتشهدان بضعفه السياسي وكره الشعب إياه كرهاً مطرد النماء. أما أولاهما فهي أ، قائداً من قواده هو جيان باولو بجليوني حاكم بروجيا برضاء البابا كان قد انضم هو وبروجيا نفسها إلى فرانتشيسكو ماريا؛ فما كان من ليو إلاّ أن خدع جيان بالو فأغراه بالمجيء إلى روما بعد أ، أمنه على نفسه في المجيء والعودة، فلمّا جاء أمر به فقتل (1520). وكان بجليوني هذا قد اشترك في مؤامرة تهدف إلى اغتيال البابا يتزعمها ألفنسو بتروتشي وغيره من الكرادلة (1517). وكان أولئك الكرادلة قد أثقلوا على كرمه بمطالب لا يستطيع مع سخائه العظيم أن يجيبهم إليها؛ كما أ، بروتشي كان فوق ذلك غاضباً مغتاظاً لأن أخاه أبعد عن حكم سينا، ولأن البابا قد غض النظر عن هذا العمل فلم يتدخل لمصلحته. ولهذا فكر أولاً في قتل ليو بيده، ولكنه أشير عليه بدلاً من هذا أن يرشو طبيب ليو ليدس السم للبابا وهو يعالجه من ناسوره. وكشفت المؤامرة، وقتل الطبيب وبتروتشي، وسجن عدد من الكرادلة الذين اشتركوا فيها، وعزلوا من مناصبهم، ثم أطلق سراح بعضهم بعد أن أدوا غرامات باهظة.

وكانت حاجة ليو إلى إيطاليا تنغص عليه وقتئذ حكمه الذي كان من قبل موفقاً سعيداً. ذلك أن عطاياه للأقارب والأصدقاء، والفنانين، والكتاب، والموسيقيين، ونفقات بلاطه الذي لم يكن له من قبل مثيل، ومطالب كنيسة القديس بطرس الجديدة التي لا حد لها، ونفقات حب أربينو والاستعداد إلى حرب صليبية، كل هذا كان يقود خزينة البابا إلى هاوية الإفلاس. ولم يكن إيراده العادي البالغ 420.000 دوقة (2.250.000 دولار) في العام والذي يستمده من الأجور، والمرتب الأول لموظفي الكنيسة، والعشور، لم يكن هذا الإيراد العادي يكفي هذه النفقات. على أن هذا الإيراد نفسه كان يصعب دائماً تحصيله من أوربا التي لم تكن راضية عن انسياب هذه الأموال الكنسية إلى روما. وأراد ليو أن يملأ خزانته بالمال فأنشأ في عام 1353 مناصب جديدة يبيعها لطالبيها وبلغ مجموع المال الذي جمع ممن عينوا في هذه المناصب 889.000 دوقة (11.112.500؟ دولار). على أننا يجب ألاّ نغالي في استنكار هذا العمل؛ ذلك أن معظم هذه المناصب لا يؤدي من يشغلها عملاً، وإن تطلبت شيئاً قليلاً منه فقد كان من المستطاع أن يعهد به إلى من ينوبون عن أصحابها؛ وكانت الأموال التي يقدمها شاغلوها في واقع الأمر قروضاً للبابوية، وكان متوسط راتبها البالغ عشرة في المائة كل عام من المال الأصلي المدفوع عنها بمثابة فائدة لهذه القروض. فكان ليو في الحقيقة يبيع ما نسميه في أيامنا هذه سندات حكومية(96)، وكان من حقه بلا ريب أن يقول إنه يؤدي عنها فوائد أكثر مما تؤديه أية حكومة 'ن أوراقها المالية في هذه الأيام. على أنه لم يبع هذه المناصب الاسمية وحدها، بل باع أيضاً أعلى المناصب الكنسية كوظيفة رئيس التشريفات البابوية(97). وفي شهر يولية من عام 1517 رشح واحداً وثلاثين كردنالاً جديداً، كثيرون منهم ذوو كفايات عظيمة، ولكن الكثرة الغالبة منهم قد اختير أفرادها لقدرتهم على أداء ثمن ما يستمتعون به فيها من الجاه والسلطان. ولنضرب لذلك مثلاً الكردنال بندستي - الطبيب، والعالم، والمؤلف - الذي أدى ثمناً لمنصبه 30.000 دوقة. وبلغ مجموع دخل ليو في هذه المرة بجرّة قلم نصف مليون دوقة(98). وروعت لذل ك إيطاليا نفسها وهي التي فسدت عقليتها في هذه الناحية فلم تعد تفرق بين ما هو خير منها وما هو شر؛ وكانت قصة هذا العمل بعد أن وصلت إلى ألمانيا مما زاد من حدة غضب لوثر وثورته. (أكتوبر 1517). وكان من جراء هذا أنه لما فتح السلطان سليم بلاد مصر في تلك السنة الحاسمة في التاريخ وضمها إلى أملاك الأتراك العثمانيين، ونادى البابا بحرب صليبية، لم يلب أحد نداءه. ودفع البابا تهوره الأعمى إلى أن يبعث بعماله في جميع أنحاء اللابد المسيحية يعرضون صكوك غفران واسعة المدى إلى درجة غير عادية على من يتوبون، ويعترفون، ويتبرعون بنفقات الحرب الصليبية.

وكان في بعض الأحيان يقترض المال من مصارف روما بفائدة تبلغ أربعين في المائة. وكان أصحاب هذه المصارف يتقاضون منه هذا السعر المرتفع لأن إهماله في إدارة الشئون المالية البابوية لابد أن يؤدي في رأيهم إلى الإفلاس. ورهن البابا ضماناً لبعض هذه القروض صحافه الفضية، وطنافس جردان قصره، وجواهر. وقلّما كان يفكر في مراعاة الاقتصاد في الإنفاق، فإذا ما اقتصد كان ذلك بالشح على مجمعه العلمي اليوناني، وجامعة روما، فلم يكد يحل عام 1517 حتى أغلق المجمع لحاجته إلى المال. ومع هذا فقد واصل البابا خيراته بلا حساب، فكان يرسل الأموال الطائلة إلى الأديرة، والمستشفيات، والمعاهد الخيرية في جميع أنحاء العالم المسيحي، ويغدق المال وألقاب الشرف على آل ميديتشي، ويولم الولائم الفخمة إلى أضيافه يقدم لهم فيها الأطعمة الشهية النادرة على حين أنه هو نفسه كان يراعي جانب الاعتدال في طعامه وشرابه(99). وقد بلغ مجموع ما أنفقه خلال جلوسه على كرسي البابوية 4.500.000 دوقة (56.250.000؟ دولار)، ومات وعليه فوق ذلك دين يبلغ 400.000 دوقة. وقد هجاه أهل روما بقصيدة تفصح عن رأيهم فيه فقالوا: "لقد التهم ليو ثلاث بابويات: أموال يوليوس الثاني، وإيراد ليو، ودخل من خلفه من البابوات(100)". ولما مات عانت روما أزمة من شر ما حدث في التاريخ كله من أزمات.

وكانت آخر سنة في حياته سنة اشتعلت فيها نار الحرب. ذلك أنه قد بدا له، بعد أن استرد أربينو وبروجيا، أن لابد له من السيطرة على فيرارا ونهر البو لضمان سلامة الولايات البابوية، وتمكينها من صد فرنسا عند ميلان. وكان الدوق ألفنسو قد خلق هو نفسه سبب الحرب بإرساله الجنود والسلاح إلى فرانتشيسكو ماريا ليستخدمها ضد البابا، وحارب ألفنسو بشجاعته المألوفة مع أنه كان مريضاً منهوك القوى بعد أن ظل جيلاً كاملاً يناصب البابا العداء حتى أنجاه موت ليو من سوء المصير.

وانتاب المرض البابا أيضاً في أغسطس عام 1521؛ وكان بعض سببه الآلام الناشئة من ناسوره، وبعضه الآخر متاعب الحرب وما تسببه من قلق واضطراب بال. وشفي من مرضه، ولكنه عاوده في شهر أكتوبر من ذلك العام نفسه. واسترد صحته في نوفمبر بالقدر الذي أمكن معه نقله إلى قصره الريفي في مجليانا؛ وفيه ترامت إليه الأنباء أن الجيش البابوي - الإمبراطوري قد استولى على ميلان من الفرنسيين. وعاد في الخامس والعشرين من ذلك الشهر إلى روما واستقبل فيها ذلك الاستقبال الرائع الصاخب الذي لا يستقبل به إلاّ الغزاة الفاتحون. وأجهد نفسه في السير على قدميه في ذلك اليوم، وتصبب عرقه حتى ابتلت منه ملابسه، فلمّا كان صباح اليوم التالي لزم الفراش مصاباً بالحمى، وسرعان ما زادت حالته سوءاً وأدرك أن منيته قد اقتربت. وفي أول يوم من ديسمبر جائته الأنباء بأن الجيوش البابوية استولت على بياتشندسا وبارما فعلا وجهه البشر؛ وكان قد أعلن في يوم من الأيام أنه يسره أن يضحي بحياته ثمناً لضم هذين المدينتين إلى ولايات الكنيسة. ومات في منتصف ليلة 1-2 من ديسمبر سنة 1521 قبل أن يتم السنة الخامسة والأربعين من العمر بعشرة أيام. ونقل كثيرون من الخدم، وبعض أفراد آل ميدتشي من الفاتيكان كل ما يستطيعون الاستيلاء عليه من الكنوز. وظن جيوتشيارديني، وجيوفيو، وكستجليوني أنه مات مسموماً؛ وأن ذلك ربما كان بتحريض ألفنسو أو فرانتشيسكو ماريا، ولكن يلوح أنه مات بحمى الملاريا كما مات بها الإسكندر السادس(101).

وابتهج ألفنسو حين بلغه النبأ، وضرب مدلاة جديدة كتب عليها "من أنياب الأسد". وعاد فرانتشيسكو ماريا إلى أربينو وجلس مرة أخرى على عرشه. واستولى رجال المال على ما استطاعوا الاستيلاء عليه. وكان مصرف بيتي قد أقرض ليو 200.000 دوقة، ومصرف جدي Gaddi قد أقرضه 32.000، ومصرف ريكاسولي Ricasoli 10.000؛ وفوق هذا فإن الكردنال بتشي أقرضه 150.000 والكردنال سلفياتي 80.000(102) وكان من حق البابوات أن يستولوا قبل غيرهم على كل ما أنقذ من أملاك البابا؛ ولكن ليو مات وهو شر من المفلس.واشترك غير هؤلاء في التشنيع على البابا واتهامه بسوء الإدارة المالية، ولكن روما كلها تقريباً حزنت عليه، وكانت تعده أكرم من رأته من المحسنين في تاريخها كله. وأدرك الفنانون، والشعراء، والعلماء، أن يوم سعدهم قد مضى، وإن لم يكونوا قد فكروا بعد في مدى خسارتهم، وفي ذلك يقول باولو جيوفيو: "إن المعارف، والفن، ورفاهية الشعب بأكمله، ومباهج الحياة، - وملاك القول إن كل ما هو خير - قد ووري التراب مع ليو"(103).

وبعد فقد كان ليو رجلاً صالحاً قضت عليه فضائله. وقد أثنى إزرمس على رحمته وإنسانيته، وشهامته، وعلمه الغزير، ومناصرته الفنون، ووصف عهد ليو بأنه عهد الذهب(104). ولكن ليو كان قد اعتاد التصرف في الذهب حتى فقد عنده قيمته. فقد نشأ في القصور، فتعلم الترف كما تعلم الفن، ولم يشتغل قط ليكس بالمال، وإن كان قد واجه الأخطار بجنان ثابت، ولمّا وضعت موارد البابوية تحت إشرافه انزلقت من بين أصابعه لقلة عنايته بشأنها، بينما كان ينعم بالسعادة التي ينعم بها من يتلقاها أو يعد العدة لحرب لا تبقي ولا تذر.وسار ليو على الخطة التي سلكها الإسكندر ويوليوس، وورث ما قاما به من جلائل الأعمال؛ ورفع الولايات البابوية إلى درجة من القوة لم تشهدها من قبل، ولكنه خسر ألمانيا بتبذيره وتشدده في جمع المال. وكان في وسعه أن يشاهد جمال وعاء من أوعية الزهر، ولكنه لا يستطيع رؤية الإصلاح الديني البروتستنتي يتشكل وراء الألب، وأصم أذنه عن سماع مئات النذر التي كانت ترسل إليه، بل ظل يطلب المزيد من الذهب من أمة ثائرة عليه، فكان بذلك سبب مجد الكنيسة ونكبتها معاً.

وكان أكرم أنصار العلم والأدب، ولكنه لم يكن أكثرهم استنارة، ولم يزدهر قط أدب عظيم في أيامه رغم سخائه على الأدباء. فقد كان أريستو ومكيفلي فوق مداركه وإن كان في وسعه أن يقدر بمبو Bembo وبولتيان. ولم يكن تذوقه للفن سامياً أكيداً كما كان تذوق يوليوس له؛ ولم يكن هو الذي ندين له بكنيسة القديس بطرس أو بمدرسة أثينة. وكان مسرفاً في حبه جمال الشكل مقلاً في إدراك المعاني التي يكشف عنها الفن العظيم الذي يغشى الشكل الجميل. وقد أنهك رفائيل بكثرة العمل، وكان سبباً في انهيار صحة ليوناردو، ولم يستطع كما استطاع يوليوس، أن يجد سبيله إلى عبقرية ميكل انجيلو بعد أن يجتاز إليها مزاج هذا الفنان الحاد. وكان مفرطاً في حب النعيم إفراطاً يحول بينه وبين العظمة. ويؤسفنا أن يكون هذا هو حكمنا عليه لأنه كان خليقاً بحبنا.

وسُمي العصر الذي كان يعيش فيه باسمه، ولعله كان خليقاً بأن يسمى به؛ ذلك بأنه وإن طبع بطابع العصر ولم يطبع العصر نفسه بطابعه، كان هو الذي جاء من فلورنس إلى روما بما خلفه آل ميديتشي من الثروة وحسن الذوق، وما شاهده في بيت أبيه من مناصرة للعلم والأدب والفن خليقة بالملوك والمراء؛ وبفضل هذه الثروة والرعاية البابوية وجد الحافز القوي الذي رفع الدب والفن إلى ما بلغاه من جمال الأسلوب والشكل. وكان هو مثلاً احتذاه غيره من الرجال، فأخذوا يبحثون عن المواهب ويمدونها بالعون، ويضربون بدورهم لأوربا الشمالية مثلاً في تقدير القيم العالية ومستوى رفيعاً تجعله نصب عينيها. وقد عمل أكثر مما عمله غيره من البابوات لحماية بقايا الآداب الرومانية القديمة، وشجع الكتاب على محاكاتها.وقد ارتضى متع الحياة الوثنية، ولكنه بقي في مسلكه الخاص عفيفاً في عصر أطلق لشهواته العنان. وساعد بفضل تأييده للكتاب الإنسانيين في روما على غرس بذور الآداب والأشكال القديمة في فرنسا، وأصبحت روما برعايته قلب الثقافة الأوربية النابض، يهرع إليها الفنانون ليصوروا، أو يحفروا، أو يشيدوا؛ والعلماء ليدرسوا؛ والشعراء لينشدوا؛ والفكهون ليتلألأوا؛ وفي ذلك يقول إزرمس: "عليّ قبل أن أنساك يا روما أن أغرق في نهر النسيان ألا ما أعظم ما فيك من حرية ثمينة، وما حوته خزائنك من كتب قيمة، وما أغزر ما في صدور علمائك من معارف، وما فيك من صلات اجتماعية نافعة! وهل يستطيع الإنسان أن يجد في غيرك من المدائن مثل ما يجده فيك من مجتمع أدبي راق، أو تعدد في المواهب مجتمعة كلها في مكان واحد؟"(105). وأنى يستطيع الإنسان أن يجد مرة أخرى وفي مدينة واحدة وفي عقد من السنين،مثل هذا الحشد العظيم من الأعلام: كستجليوني الظريف، وبمبو المهذب، ولسكارس العالم، والراهب جيوكندو، ورفائيل؛ وآل سانسو فيتي، وسنجلي، وسبستيانو وميكل أنجلو.


رده على الاصلاح البروتستانتي

كان رد فعل ليو العاشر على الإصلاح البروتستانتي أول الأمر دهشة متألمة. ولا عجب، فبابوات فترة الإصلاح البروتستنتي، ربما باستثناء واحد، كانوا رجالاً طيبين، على قدر ما يتاح لرجال دولة أن يكونوا، لا مجردين من حب الذات أو خالين من الخطايا، بل في جوهرهم مهذبين رحماء أذكياء، مقتنعين في إخلاص بأن الكنيسة مؤسسة ليست رائعة في إنجازاتها فحسب، ولكنها ما زالت ضرورة لا غنى عنها لصحة الإنسان الأوربي الخليقة وسلامه النفسي. وإذا سلمنا بأن خدام الكنيسة البشريين قد سقطوا في رذائل خطيرة، أفلا نجد عيوباً كهذه أو شراً منها في كل إدارة علمانية؟ وإذا كنا نحجم عن الإطاحة بالحكومة المدنية عقاباً لها على جشع أمرائها واختلاسات موظفيها، فهل يكون إحجامنا أقل من هدم كنيسة ظلت ألف سنة الأم التي غذت الحضارة الأوربية بالدين والتعليم والأدب والفلسفة والفن؟. وأي ضير في أن تبدو بعض العقائد التي رؤى عنها معوان على النهوض بالفضيلة والنظام عسيرة الهضم على المؤرخ أو الفيلسوف- وهل التعاليم التي يقترحها البروتستنت أكثر منطقاً أو أسهل تصديقاً إلى الحد الذي يبرر أن تقلب أوربا رأساً على عقب بسبب هذا الخلاف؟. إن التعاليم الدينية على أية حال لا يحددها منطق القلة بل حاجات الكثرة، إنها إطار للعقيدة يمكن في نطاقه تنشئة الإنسان العادي الميال بطبيعته إلى ارتكاب عشرات الأفعال غير الاجتماعية، ليكون مخلوقاً يملك من الدربة وضبط النفس ما يكفي لجعل المجتمع والحضارة أمراً ممكناً. ولو أن هذا الإطار حطم، لكان لزاماً بناء إطار آخر، ربما بعد قرون من الفوضى الخلقية والمادية. أليس دعاة الإصلاح البروتستنتي متفقين مع الكنيسة على أه لا جدوى من الدستور الخلقي ما لم يعززه الإيمان الديني؟ أما الطبقات المفكرة فهل تراها حققت أي مزيد من الحرية أو السعادة تحت إمرة الأمراء البروتستنت عنها تحت إمرة البابوات الكاثوليك ؟ ألم يزدهر الفن تحت زعامة الكنيسة، وألا يذوي تحت خصومة المصلحين البروتستنت الذين أرادوا أن ينتزعوا من الناس تلك العصور التي تغذي ما في حياتهم من شعر وأمل؟ وأي مبررات قاهرة تدعو في رأي العقول الناضجة إلى تفتيت العالم المسيحي إلى مذاهب لا تحصى، متنابذة، مبطل بعضها للبعض، عاجزة بمفردها أمام غرائز البشر؟.

البابا ليو العاشر يمتطي الفيل هانو

إننا لا نستطيع أن نعرف هل كانت هذه مشاعر البابوات المعاصرين لحركة الإصلاح البروتستنتي، لأن القادة النشطين قلّما يذيعون على الناس فلسفاتهم. ولكن لنا أن نتصور الموقف النفسي للبابا ليو العاشر (1513-21) على هذا النحو، إذ وجد البابوية تهتز تحت قدميه بمجرد أن دعي للاستمتاع بها. كان رجلاً يشبه الكثيرين منا-مذنب بالخطيئة وبالإهمال الإجرامي، ولكنه في جملته جدير بالصفح عنه. كان عادة ألطف الناس وأكثرهم عطفاً، عليه رزق نصف شعراء روما، ومع ذلك فقد لاحق مهرطقي بريشة حتى الموت، وحاول أن يؤمن بأن الأفكار الممزقة للكنيسة يمكن أن تنتزع من البشر بحرق أصحابها. وقد أظهر من الحلم مع لوثر قصارى ما ننتظر من بابا ومن عضو في أسرة مديتشثي، ولنتصور أن الوضع انعكس، وكيف كان البابا مارتن يمحق المتمرد ليو محقاً! لقد حسب ليو حركة الإصلاح البروتستنتي نزاعاً غير مهذب بين رهبان أجلاف. ومع ذلك ففي بواكير عام 1517، وفي بدايته رياسته البابوية، ألقى جيانفرانشسكو پيكو دلا ميراندولا (ابن أخي پيكو الأشهر منه) أمام البابا والكرادلة خطاباً يسترعي الاهتمام "يرسم فيه بأحلك الألوان ذلك الفساد الذي تسلل إلى الكنيسة" ويتنبأ بأنه "لو أن ليو... أبى إبراء الجراح، فإنه يخشى أن الله نفسه لن يستعمل بعد اليوم علاجاً بطيئاً، بل سيبتر ويبيد الأعضاء المريضة بالنار والسيف"=. ولكن ليو انصرف على الرغم من هذا الإنذار إلى الاحتفاظ بتوازن للقوى بين فرنسا والإمبراطورية حماية للولايات البابوية. يقول مؤرخ كاثوليكي: "لم يفكر قط في إصلاح على النطاق الواسع الذي أصبح ضرورياً... وظلت الإدارة البابوية في روما دنيوية شأنها في أي وقت مضى(2)".


انظر أيضاً

الهامش

  1. ^ Vaughn, p. 5

المصادر

  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.
  • Luther Martin. Luther's Correspondence and Other Contemporary Letters, 2 vols., tr.and ed. by Preserved Smith, Charles Michael Jacobs, The Lutheran Publication Society, Philadelphia, Pa. 1913, 1918. vol.I (1507-1521) and vol.2 (1521-1530) from Google Books. Reprint of Vol.1, Wipf & Stock Publishers (March 2006). ISBN 1-59752-601-0
  • Ludwig von Pastor, History of the Popes from the Close of the Middle Ages; Drawn from the Secret Archives of the Vatican and other original sources, 40 vols. St. Louis, B.Herder 1898
  • Vaughan, Herbert M. The Medici Popes. New York: G.P. Putnam’s Sons, 1908.
  • Zophy, Jonathan W. A Short History of Renaissance and Reformation Europe Dances over Fire and Water. 1996. 3rd ed. Upper Saddle River, New Jersey: Prentice Hall, 2003.

وصلات خارجية

Wikiquote-logo.svg اقرأ اقتباسات ذات علاقة بليو العاشر، في معرفة الاقتباس.
Wikisource
Wikisource has original works written by or about:
ليو العاشر
وُلِد: 11 ديسمبر 1475 توفي: 1 ديسمبر 1521
ألقاب الكنيسة الكاثوليكية
سبقه
يوليوس الثاني
البابا
1513 - 1521
تبعه
أدريان السادس