يهود

(تم التحويل من Jewish)
جزء من سلسلة عن
Star of David.svg        Lukhot Habrit.svg        Menora.svg
اليهودية
بوابة | تصنيف
اليهود· اليهودية · طوائف
الأورثوذوكس · المحافظون · الإصلاح
حريديم · حسيديم · الأرثوذكسية الحديثة
إعادة الإنشاء · التجديد
الرابينية · إنسانية · القراؤون · السامريون
الفلسفة اليهودية
مبادئ الإيمان · منيان · قباله
قوانين نوح · الله · اليوم الآخر · المسيح المنتظر
شعب الله المختار · هولوكوست · الاحتشام
Tzedakah · الأخلاق · Mussar
النصوص الدينية
توراة · تناخ · تلمود · مدراش · Tosefta
الأدب الحاخامي · Kuzari · مشنه توراه
Ḥumash · سيدور · Piyutim · زوهار
القانون الديني
تلمود · مشنه توراه · تور
Shulchan Aruch · Mishnah Berurah · Chazon Ish
كشروت · Rov · Chazakah · Hechsher · Chametz
المدن المقدسة
القدس · صفد · الخليل · طبرية
الشخصيات الهامة
ابراهيم · سارة · إسحاق · ربكا ·
يعقوب/إسرائيل · راحيل · لياه · الأسباط الإثنى عشر · موسى
دبره · روث · سليمان · داوود
هيلل · Shammai · ربي أكيڤا · يهوذا الأمير
Rav · سعاديا گاعون · ريف · رشي · Tosafists
ابن ميمون · نحمانيدس · يوسف كارو
دورة الحياة اليهودية
بريت · بار/بات ميتسڤاه · شيدوخ · الزواج · لاگ بعومر
Niddah · Naming · Pidyon haben · Bereavement
أدوار دينية
حاخام · ربه · Posek · حزان
كوهين/الكاهن · Mashgiah · Gabbai · Maggid
Mohel · ديان · روش يشيڤا
كهيلا والمؤسسات الدينية
Cheder · تلمود توراه · يشيڤا · كنيس
Mikvah · Gemach · Chevra Kadisha · Kollel
مباني دينية
الهيكل المقدس / تابوت العهد
كنيس · Mikvah · Sukkah
مقالات دينية
Tallit · تفيلين · كپاه · Sefer Torah
Tzitzit · مزوزه · منوره · Hanukiah · شوفار
4 Species · Kittel · Gartel · Yad
الصلوات والمناسك اليهودية
شما · Adon Olam · Amidah · Aleinu · Kol Nidre
Musaf · Kaddish · هلل · Ma Tovu · Selichot
بركت همزون · Tefilat HaDerech · Shehecheyanu
Tachanun · Kabbalat Shabbat · Havdalah
الملابس اليهودية
Shtreimel · Bekishe · Fedora · Yarmulke
Sheitel · Tichel
اليهودية والديانات الأخرى
المسيحية · الإسلام · "Judeo-Christian" · غيرهم
الديانات الابراهيمية · اليهودية-الوثنية · الشرك
مواضيع ذات صلة
معاداة السامية · نقد
حب السامية · الرق · يشيڤا · الصهيونية


اليهود (من العبرية יהודי، اسم نسبة ليهوذا، من أبناء يعقوب) هم أتباع الدين اليهودي، وبنو اسرائيل افترقوا بعد سبي بابل إلى يهود وإلى سامريين. والديانة مرت بتطورات كثيرة عبر التاريخ. ولاتظهر كلمة اليهودية (كدين) في أسفار العهد القديم، بل أول من فصل أسسها بشكل موضوعي هو ابن ميمون (القواعد الثلاثة عشر).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من هو اليهودي؟

اليهودي لغة هو كم من انتمى ليهوذا بن يعقوب (ومن ثم المملكة اليهودية)، واصطلاحا هو من يعتنق الديانة اليهودية، وأسس العقيدة اليهودية التي فصلها ابن ميمون هي الإيمان بإله واحد وعبادته وحده والإيمان بموسى.

يُعتبر الشخص يهودياً وإن لم يمارس الطقوس والشعائر اليهودية، وتنطبق التسمية أيضاً على اليهودي الذي لا يعترف بالعقائد اليهودية، لأنها أصلا قومية قبلية وليست بدين. أما اذا اختار اليهودي ديانة أخرى يعتنقها مثل المسيحية أو البوذية فهذا يخرجه عن ملّة اليهود .


تعداد اليهود

يوجد في العالم حوالي ثلاثة عشر مليون يهودياً. في اليهودية أربع طوائف أساسية – طائفة الأرثوذكس والمحافظين والإصلاحيين و"المجددين"، بالإضافة للقراء الرافضين للتلمود وللسامريين الذين يرفضون اسم اليهود بل يسمون أنفسهم بني إسرائيل أو المحافظين على العهد (شومريم وهم يرفضون اسفار العهد القديم ماعدا الخمسة الأولى). الكتب المقدسة التي يدرس منها اليهود هي ثلاثة كتب في ال"تناخ": التوراة والأنبياء والكتابات. توجد في التوراة 613 أمرا (حسب تفسير لاحق) ولكن هذه الأوامر ليست فريضة على كل فرد. ولكن اليهود يؤمنون أنهم منحدرون من إسحاق ويعقوب. ويمتنع المتدينون عن العمل يوم السبت- هذا سبب اسم اليوم. التقويم اليهودي هو قمري شمسي, حيث تتم إضافة شهر قصير في بعض السنوات للتوافق مع التقويم الشمسي. يحتفل اليهود بخمسة أعياد مهمة. رأس السنة يحتفلون به في شهر تشرين (الأول) ويدوم العيد يومين. يحدث يوم التكفير في اليوم العاشر في السنة، وفيه يصوم كل الناس من غروب الشمس حتى غروب الشمس في اليوم التالي. في الماضي كان يسافر اليهود إلى القدس لثلاثة أعياد كبيرة: ال"صُكوت" والفصح والأسابيع. في أيام ال"صكوت" الثمانية يبنى اليهود كوخاً صغيراً بجانب البيت, ومن الممكن أن يأكلوا ويشربوا ويناموا فيه. يأكل اليهود ال"مصة" خلال ثمانية أيام الفصح. الأسابيع تحدث بعد بداية الفصح بسبعة أسابيع, ويأكلون فيها مأكولات من الحليب. هناك أعياد أخرى مثل ال"بوريم" وال"حنوكة". ال"بوريم" مثل ال"هالوين" في أمريكا- كل الأطفال يلبسون الأزياء, وفوق هذا كله فيجب أن يشرب الكبار المشروبات الكحولية. ال"حنوكة" هي كعيد الميلاد- يتقبل الأطفال الهدايا.



تاريخ اليهود

في وسع كاتب مثل بُكَل Buckle أو مونتسكيو يريد أن يفسر تاريخ الأمة بالرجوع إلى موقع بلادها أن يجد ما يؤيد أقواله في فلسطين. إن بلاداً يبلغ طولها من دَاْن في الشمال إلى بير سبع في الجنوب نحو مائة وخمسين ميلاً ، ويتراوح عرضها من مساكن الفلسطينيين في الغرب ومساكن السوريين والآراميين والعمونيين ، والموآبيين والإدميين في الشرق خمسة وعشرين وثمانين ميلاً - إن بلاداً ضيقة الرقعة إلى هذا الحد لا يتوقع الإنسان أن يكون لها شأن في التاريخ أو أن تخلف وراءها أثراً أعظم مما خلفته بلاد بابل أو أشور أو فارس ، بل لعله أعظم مما خلفته مصر أو بلاد اليونان. ولكن كان من حسن حظ فلسطين أو من سوء حظها أن تقع بين عواصم النيل وعواصم دجلة و الفرات. وهذا الموقع قد جاء إلى بلاد اليهود بالتجارة كما جاءها بالحرب ؛ وكم من مرة ضيق على اليهود فلم يجدوا مخرجاً لهم من ضيقهم إلا بالإنضمام إلى أحد الطرفين في الصراع القائم بين الإمبراطوريات الكبرى ، أو بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون ؛ وكم من مرة إجتاح المصطرعون بلادهم ، وكان من وراء التوراة ، ومن وراء صراخ أصحاب المزامير والأنبياء وعويلهم وطلبهم الغوث من رب السماء ، كان من وراء هذا كله موقع اليهود الذي تتهدده الأخطار ، بين شقي الرحى ، من فوقهم دول أرض الجزيرة ومن تحتهم مصر.

ويحدثنا تاريخ الأرض المناخي مرة أخرى أن صرح الحضارة صرح مزعزع ، وأن عدويها الألدين - الهمجية والجدب- يترصدانها ليقضيا عليها. لقد كانت فلسطين في يوم من الأيام "أرضاً تفيض لبناً وعسلاً" كما تصفها كثير من الفقرات في أسفار موسى الخمسة ؛ وكان بوسفوس في القرن الأول بعد المسيح لا يزال يقول عن فلسطين وأهلها أن بها من "الأمطار ما يكفي حاجة الزراعة ، وأنها جميلة ، وأن بها كثيراً من الأشجار ، وأنها مملوءة بفاكهة الخريف البري منها والمنزرع ... ، وأن هذه الأشجار لا ترويها الأنهار رياً طبيعياً ، ولكنها تنال معظم ما تحتاج إليه من الرطوبة من ماء المطر الذي لا ينقطع عنها قط". وكانت أمطار الربيع التي تسقي الأرض تخزن في الأيام الخالية في صهاريج أو ترفع إلى سطح الأرض مرة أخرى من آبار كثيرة العدد ، وتوزع في أنحاء البلاد في شبكة من القنوات ؛ وكان ذلك هو الأساس المادي للحضارة اليهودية. وكانت الأرض التي تروى بهذه الطريقة تنتج الشعير و القمح و الذرة ، وتجود فيها الكروم ، وتثمر أشجارها الزيتون و التين و البلح وغيرها من الفواكه على منحدرات الجبال جميعها ؛ فإذا داهمتها الحروب وخربت حقولها التي أخصبتها الصناعة ، أو جاءها فاتح فأخرج منها إلى بلاد نائية الأسر التي كانت تعنى بهذه الحقول، زحفت الصحراء عليها فأفسدت في بضع سنين ما أصلحته الأيدي العاملة في أجيال. وليس لنا أن نحكم على جدب أرض فلسطين بما نشاهده فيها الآن من فياف مقفرة ، وواحات قليلة ضئيلة ، تواجه اليهود الذين عادوا الآن إلى تلك البلاد بعد ثمانية عشر قرناً من النفي والعذاب والتشريد.

والتاريخ في فلسطين أقدم مما كان يظنه الأسقف أسشر Ussher ، فقد كشفت بقايا نيندرتالية قرب بحر الجليل ، كما كشفت خمسة هياكل عظيمة نيندرتالية في كهف قرب حيفا. وليس ببعيد أن تكون الثقافة المُسْتِيرية التي ازدهرت في أوربا حوالي عام 000ر40 ق.م قد إمتدت إلى فلسطين. فقد كشفت في أريحا أرض حجرات ومواقد من مخلفات العصر الحجري الجديد، وهي ترجع بتاريخ هذا الإقليم إلى عصر برونزي متوسط (2000- 1600 ق.م) جمعت في مدن فلسطين وسوريا من الثروة ما أغرى مصر بفتحها. وكانت أريحا في إبان القرن العشرين قبل الميلاد مدينة مسورة يحكمها ملوك يعترفون بسيادة مصر عليها. وقد وجدت في قبور هؤلاء الملوك التي كشفتها بعثة جارستانج Garstang مئات من المزهريات والهدايا الجنازية وغيرها من الأدوات التي تدل على وجود حياة مستقرة في تلك المدينة وقت سيطرة الهكسوس على مصر ، وعلى وجود حضارة لا بأس بها في أيام حتشبسوت و تحتمس الثالث. ويبدو من هذا الكشف وأمثاله أن الأزمنة المختلفة التي تبدأ بها تواريخ الشعوب في ظننا إن دلت على شيء فإنما تدل على جهلنا ؛ وتدل ألواح تل العمارنة على أن الحياة في فلسطين وسوريا بالصورة التي تطالعنا في بداية تاريخ اليهود ترجع إلى قرب دخولهم في وادي النيل. ومن المرجح- وإن لم يكن من المؤكد- أن "الخبيرو" الذين تتحدث عنهم هذه الألواح كانوا عبرانيين.

ويعتقد اليهود أن شعب إبراهيم (أو أبراهام) جاءوا من أور في بلاد سومر وإستقروا في فلسطين (حوالي 2200 ق.م) أي قبل موسى بنحو ألف عام أو أكثر ؛ وأن إنتصارهم على الكنعانيين لم يكن إلا إستيلاء العبرانيين على الأرض التي وعدهم بها الله. والراجح أن أمرافَل الذي يقول عنه سفر التكوين (14 : 1) أنه "ملك شنعار في تلك الأيام" كان هو أمربال والد حمورابي الذي كان يجلس قبله على عرش بابل. ولم تصل إلينا من مصادر معاصرة إشارات مباشرة إلى خروج بني إسرائيل من مصر أو إلى هزيمة الكنعانيين. وكل ما وصلنا من إشارات غير مباشرة هو ما كتب على اللوحة التي أقامها منفتاح (حوالي 1225 ق.م) والتي وردت فيها هذه العبارة:


لقد غُلب الملوك وقالوا "سلاما!"

وخربت تحينو.

وهدئت أرض الحيثيين ،

وإنتهبت كنعان ، وحلت بها كل الشرور ،...

وخربت إسرائيل ، ولم يعد لأبنائها وجود؛

وأضحت فلسطين أرملة لمصر ،

وضمت كل البلاد. وهدئت ؛

وكل من كان ثائراً قيَّده الملك منفتاح


وليس في هذه الأقوال ما يدل على أن منفتاح هو فرعون الذي خرج بنو إسرائيل من مصر في عهده ؛ وكل ما تثبته أن الجيوش المصرية إجتاحت فلسطين مرة أخرى. ولسنا ندري متى دخل اليهود مصر ، وهل دخلوها أحراراً أو عبيداً. ولربما كان من حقنا أن نرجح أن من هاجروا منهم إلى مصر كانوا في بداية الأمر قليلي العدد ، وأن وجود الآلاف المؤلفة منهم في مصر أيام موسى كان نتيجة لكثرة تناسلهم ، وأن شأنهم في ذلك الوقت كان كشأنهم في جميع العصور ، فقد كان "عددهم يتضاعف وينمو كلما زاد إضطهادهم وتعذيبهم". وأن قصة "إستعباد" اليهود في مصر ، وتسخيرهم في أعمال البناء الضخمة ، وتمردهم ، وهربهم- أو هجرتهم- إلى آسية لتحمل في ثناياها أدلة كثيرة على صدقها ، وإن اختلط بها بطبيعة الحال كثير من الأقوال الغريبة وخوارق العادات كما يحدث عادة في جميع الكتابات التاريخية في الشرق القديم.


وحتى قصة موسى نفسها يجب ألا نتعجل فنرفضها من غير بحث وتحقيق ، وإن كان من العجيب حقا أنه لم يرد له ذكر على لسان عاموس أو إشعيا ، وهما اللذان سبقت خطبهما تأليف أسفار موسى الخمسة بنحو قرن من الزمان. ولما سار موسى باليهود إلى جبل سيناء ، لم يكن في سيره هذا إلا متبعاً نفس الطريق الذي كانت تسلكه البعثات المصرية التي تبحث عن الفيروز منذ ألف عام. وتبدو الآن قصة الأربعين عاماً التي تاهوا فيها في الصحراء ، والتي كان يظن من قبل أنها قصة غير معقولة ، تبدو الآن من الأمور التي يقبلها العقل ، لأنها تصف مسير قوم من البدو الذين كانوا طوال عهدهم قوماً رحلاً ، كما أن هزيمتهم للكنعانيين ليست إلا مثلاً آخر لإنقضاض جموع جياع على جماعة مستقرين آمنين. وقتل المهاجمون من الكنعانيين أكثر من إستطاعوا قتلهم منهم وسبوا من بقي من نسائهم ، وجرت دماء القتلى أنهاراً ، وكان هذا القتل كما تقول نصوص الكتاب المقدس "فريضة الشريعة التي أمر بها الرب موسى". و"زكاة للرب". ولما إستولوا على مدينتين من المدن قتلوا من أهلهما 000ر12 رجل. ولسنا نعرف في تاريخ الحروب مثل هذا الإسراف في القتل والاستمتاع به، ومثل هذه السهولة في تعداد القتلى إلا في تاريخ الآشوريين. ويقال لنا أن "الأرض إستراحت من الحروب أحياناً" ، فقد كان موسى من رجال السياسة المتصفين بالصبر والأناة ، أما يشوع فلم يكن إلا جندياً فظاً ؛ وقد حكم موسى حكماً سلمياً لم تسفك فيه دماء وذلك بما كان يفضي به من أحاديث جرت بينه وبين الإله ، أما يشوع فقد أقام حكمه على قانون الطبيعة الثاني ، وهو أن أكثر الناس قتلاً هو الذي يبقى حياً. وبهذه الطريقة الواقعية التي لا أثر فيها للعواطف إستولى اليهود على الأرض الموعودة.


اليهود في العالم

دول أو منطق يهود
الولايات المتحدة الأمريكية 5,671,000
إسرائيل 5,300,000
أوروبا 2,000,000
فرنسا 600,000
الاتحاد الروسي 400,000
المملكة المتحدة 267,000
ألمانيا 100,000
اسبانيا 60,000
تركيا 30,000
كندا 371,000
الأرجنتين 250,000
البرازيل 130,000
جنوب أفريقيا 106,000
أستراليا 100,000
آسيا بدون إسرائيل 50,000
ايران 11,000
المكسيك 40,000

الحياة الإجتماعية للحضارة اليهودية

كل ما نستطيع أن نقوله عن أصل اليهود من ناحية جنسهم هو ذلك القول الغامض ، وهو أنهم ساميون لا يتميزون تميزاً واضحاً ولا يختلفون إختلافاً كبيراً عن غيرهم من الساميين سكان آسيا الغربية ، وأنهم لم يوجدوا تاريخهم ، بل إن تاريخهم هو الذي أوجدهم ، وإنا لنراهم من بداية ظهورهم خليطاً من سلالات كثيرة - والحق أن وجود جنس "نقي" في الشرق الأوسط بين الآلاف من تياراته الجنسية التي تتلاطم فيه أمر يتطلب مستوى من الفضيلة لا يعقله العاقل. على أن اليهود كانوا أنقى أجناس الشرق الأدنى غير النقية ، لأنهم لم يتزوجوا بغيرهم من الأجناس إلا كارهين. ومن أجل هذا حافظوا على جنسهم ، وإستمسكوا به إستمساكاً عجيباً. فالأسرى العبرانيون الذين نرى صورهم في النقوش المصرية والآشورية يشبهون كل الشبه يهود هذه الأيام رغم تحامل الفنانين وتحيفهم. ففي هذه النقوش نرى الأنف الحيثي الطويل الأقنى ، والوجنتين البارزتين ، وشعر الرأس واللحية المتلوى ، وإن كنا لا نرى في الرسوم المصرية الهزلية الأجسام الضامرة القوية ، والأرواح الخبيثة العنيدة التي إمتاز بها الساميون من عهد أتباع موسى "صلب الرقاب" إلى بدو هذه الأيام وتجارها الذين لا يسبر لهم غور. وكانوا في أيام فتوحهم الأولى يرتدون جلابيب بسيطة ، وقبعات وطيئة أو قلانس شبيهة بالعمائم ، ويحتذون أخفافا سهلة الخلع.

ولما أن زادت ثروتهم ستبدلوا بالأخفاف أحذية من الجلد وإرتدوا فوق الجلابيب قفاطين ذات أهداب. أما نساؤهم- وهن من أجمل نساء الأمم القديمة - فكن يصبغن خدودهن ويكتحلن ويتحلين بكل ما يجدن من الحلي ، ويلبسن أحسن الأزياء وأحدثها في بابل ونينوى ودمشق وصور. وكانت اللغة العبرية أعظم اللغات الرنانة على ظهر الأرض ، ألفاظها مليئة بالأنغام الموسيقية القوية رغم ما فيها من حروف حلقية. وقد وصفها رينان بقوله: أنها "كنانة مليئة بالسهام ، وأبواق نحاسية تدوي في الهواء". ولم تكن تختلف كثيراً عن لغة الفينيقيين أو الموآبيين. وكان اليهود يكتبون بحروف هجائية وثيقة الصلة بالحروف الفينيقية(23)، ويعتقد بعض العلماء أنها أقدم ما عرف من الحروف أ. ولم يشغلوا أنفسهم بإضافة الحركات إلى الحروف ، بل تركوها للقارئ يستخرجها من معنى العبارة ، ولا تزال الحركات العبرية إلى اليوم مجرد علامات تزدان بها الحروف. ولم تتألف من الغزاة في يوم من الأيام أمة موحدة متماسكة ، بل ظلوا زمناً طويلاً يؤلفون إثنا عشر سبطا مستقلين إستقلالاً واسعا أو ضيقا ، ونظامهم وحكمهم لا يقومان على أساس الدولة ، بل على أساس الحكم الأبوي في الأسرة. فكان شيوخ العشائر يجتمعون في مجلس من الكبراء هو الحكم الفصل في شئون القبيلة ، وهو الذي يتعاون مع زعماء القبائل الأخرى إذا ألجأتهم إلى هذا التعاون الظروف القاهرة التي لا مفر من التعاون فيها. وكانت الأسرة هي الوحدة الإقتصادية التي يقوم عليها زرع الأرض ورعي قطعان الضأن. وكانت مكانتها هذه مصدر قوتها ونفاذ كلمتها، وسلطانها السياسي. وكان في الأسرة قسط من الشيوعية يخفف بعض الشيء من صرامة النظام الأبوي ، وهو الذي أوحى إلى الشعب بذكريات كان الأنبياء يرجعون إليها وهم محزونون حين غلبت على البلاد النزعة الفردية.

وذلك أنه حين دخلت الصناعة مدن اليهود وجعلت الفرد هو الوحدة الإقتصادية في الإنتاج ، ضعف سلطان الأسرة كما ضعف في هذه الأيام ، واضمحل النظام الفطري الذي كانت تقوم عليه الحياة اليهودية. ولم يكن"القضاة" وهم الذين كانت القبائل جمعاء تطيعهم في بعض الحالات ، موظفين عموميين ، بل كانوا زعماء عشائر أو رجال حرب- حتى إذا كانوا من الكهنة. "ولم يكن في إسرائيل ملوك في تلك الأيام ، بل كان كل إنسان يفعل ما يراه هو حقا". غير أن هذا النظام "الجفرسوني" غير المعقول- إن صح أنه كان قائماً بالفعل- قد إنهار أمام مطالب الحرب الملحة ، وكان خطر سيطرة الفلسطينيين على اليهود عاملاً هاماً في جمع الأسباط كلهم في وحدة شاملة مؤقتة ، وحملهم على تعيين ملك ذي سلطان دائم عليهم. وقد حذرهم النبي صمويل من بعض الأضرار التي تنجم عن خضوعهم لحكم رجل واحد فقال: "وقال هذا يكون قضاء الملك الذي يحكم عليكم يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفرسانه ، فيركضون أمام مراكبه ؛ ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه ، ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات ، ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيوتكم أجودها ويعطيها لعبيده ، ويعشر زرعكم وكرومكم ويعطي لخصيانه وعبيده. ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشياتكم الحسان وحميركم ويستعملها لشغله ، ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيداً.

فتصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي خترتموه لأنفسكم ، فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم. فأبى الشعب أن يسمعوا لصوت صمويل وقالوا لا بل يكون علينا ملك ، فنكون نحن وهو الذي قد يكون من الطالبين في العرش ، ويعفو عن لإإبنه العاق أبشالوم بعد أن قبض عليه في ثورة مسلحة، ويحزن أشد الحزن على موت ابنه هذا في واقعة حربية حارب فيها جيوش أبيه: "يا إبني أبشالوم ، يا إبني أبشالوم ، يا ليتني مت عوضاً عنك يا أبشالوم إبني ، يا إبني". لذلك وصف رجل حقيقي لا رجل خيالي ، إكتملت فيه عناصر الرجولة المختلفة ، ينطوي على جميع بقايا الهمجية ، وعلى كل مقومات الحضارة. ولما ورث سليمان العرش قتل جميع منافسيه في الملك ليستريح من متاعبهم ، ولكن عمله هذا لم يغضب يهوه الذي أحب الملك الشاب فوهبه حكمة لم يهبها أحداً من قبله ولا من بعده. ولعل سليمان خليق بما نال من شهرة ؛ ذلك أنه لم يكفه أن يستمتع في حياته بكل نعيم ولذة وأن يقوم بجميع ما يفرضه عليه الملك من واجبات ، بل إنه علم شعبه فضل القانون والنظام ، وما زال بهم حتى أقنعهم بنبذ الشقاق والحرب والإلتفات إلى الصناعة والسلم.

وكان عهد سليمان عهد سلام بحق ففي حكمه الطويل أفادت أورشليم ، التي إتخذها داود عاصمة له ، من هذا السلم الذي لم تألفه من قبل ، فزادت ثروتها وضاعفتها. وكانت المدينة قد أقيمت في بادئ الأمر حول بئر ، ثم حولت إلى حصن لأنها كانت على ربوة فوق السهل. أصبحت في أيام سليمان من أنشط الأسواق التجارية في الشرق الأدنى ، وإن لم تكن على الطرق التجارية الكبرى. وحافظ سليمان على ما أنشأه داود من صلات ودية مع حيرام ملك صور ، وشجع التجار الفينيقيين على أن يسيروا قوافلهم التجارية داخل أرض فلسطين ، وازدهرت في أيامه تجارة رابحة قوامها إستبدال مصنوعات صور وصيدا بغلات إسرائيل الزراعية. وأنشأ أسطولاً تجارياً في البحر الأحمر ، وأغرى حيرام على أن يستخدم هذا الطريق الجديد بدل طريق مصر في تجارته مع بلاد العرب وإفريقيا. والراجح أن جزيرة العرب هي التي إستخرج سليمان منها الذهب وحجارة أوفير الكريمة ، ومن بلاد العرب جاءت إليه ملكة "سبأ" تخطب وده ، ولعلها جاءت أيضا لتطلب معونته. وكان "وزن الذهب الذي أتى سليمان في سنة واحدة ستمائة وستاً وستين وزنة ذهباً" ، ومع أنه لا وجه للموازنة بين هذا القدر وبين موارد بابل أو نينوى أو صور فإنه جعل سليمان من أغنى ملوك زمانه. وإستخدم بعض هذه الثروة في ملاذه الشخصية ، وأخص ما إستخدمها في إشباع شهوته في جمع السراري - وإن كان المؤرخون ينقصون "زوجاته السبعمائة وسراريه الثلاثمائة إلى ستين وثمانين على التوالي". ولعله أراد ببعض هذه الزيجات أن يوطد صلاته بمصر وفينيقيا ، أو لعل الباعث له عليها هو نفس الباعث الذي حمل رمسيس الثاني على هذا العمل بعينه ، وهو رغبته في أن يترك وراءه طائفة من الأبناء لهم من القوة الجنسية العظيمة ما كان له هو. على أن سليمان قد إستخدم معظم موارده في تقوية دعائم حكومته وتجميل عاصمته. ومن أعماله فيها ترميم الحصن الذي أقيمت حوله. وقد أقام فيها كثيراً من الحصون ، ووضع حاميات في المواضع ذات الأهمية العسكرية في مملكته ، ليرهب بها الغازين والثائرين على السواء. وقسم بلاده إلى إثني عشر قسماً إدارياً، وتعمد أن تكون حدودها متفقة مع حدود منازل الأسباط الإثني عشر ، وكان يرجو من وراء هذا أن يضعف النزعة الإنفصالية بينهم ، وأن يؤلف منهم شعباً واحداً. ولكنه أفلس في هذا وأفلست بلاد اليهود معه. ومن الوسائل التي إستخدمها لتمويل حكومته أعداد البعثات لإستخراج المعادن الثمينة ، ولإستيراد مواد الترف والسلع القيمة النادرة ، ومن بينها "العاج والقردة والطواويس" - وهذه كان يمكن بيعها للأثرياء المحدَثين بأثمان غالية. وكان يفرض الإتاوات على جميع القوافل المارة بفلسطين. وقد فرض جزية الرؤوس على جميع رعاياه ، وطالب كل قسم من أقسام دولته ما عدا قسمه الخاص بقدر من المال ، أعاد للدولة إحتكارها القديم لتجارة الخيوط والخيل والمركبات. ويؤكد لنا يوسفوس أن سليمان جعل الفضة في أورشليم كحجارة الشوارع في كثرتها ، واعتزم أخيراً أن يزين المدينة بمعبد جديد ليهوه ، وبقصر جديد له هو نفسه. وفي وسعنا أن نستشف ما كان في الحياة اليهودية من ضطراب حين نذكر أن بلاد اليهود كلها حتى أورشليم نفسها لم يكن فيها قبل أيام سليمان هيكل كبير واحد على ما يظهر. وكان الأهلون يقربون القرابين ليهوه في هياكل محلية أو في هياكل ساذجة فوق التلال.


ثم جمع سليمان ذوي الثراء من أهل المدن وأعلن إليهم عزمه على تشييد هيكل وخصه بكميات كبيرة من الذهب والفضة والشبَّة والحديد والخشب والحجارة الكريمة من مخازنه الخاصة ، وأوحى إلى الناس في رفق أن الهيكل يرحب بتبرعات المواطنين. وإذا جاز لنا أن نصدق أقوال ناقل الرواية فإنهم تبرعوا له بخمسة آلاف وزنة من الذهب ، وبضعفيها من الفضة، وبكل ما يحتاج إليه من الحديد والشبَّة. ومن وجد عنده حجارة أعطاها لخزينة بيت الرب". وإختبر لتشييده مكان فوق ربوة ، وقامت جدران الهيكل كأنها إمتداد للمنحدرات الصخرية. وكان طرازه هو الطراز الذي أخذه الفينيقيون عن مصر ، وأضافوا إليه ما أخذوه عن الآشوريين والبابليين من ضروب التزيين. ولم يكن هذا الهيكل كنيسة بالمعنى الصحيح ، بل كان سياجاً مربعاً يضم عدة أجنحة. ولم يكن بناؤه الرئيسي كبير الحجم- فقد كان طوله حوالي مائة وأربعة وعشرين قدماً ، وعرضه حوالي خمسة وخمسين ، وإرتفاعه إثنتين وخمسين ، أي أنه كان في نصف طول البارثنون. وكان العبرانيون الذين أقبلوا من جميع أنحاء البلاد اليهودية ليعملوا في إقامة الهيكل ، وليتعبدوا بعدئذ فيه- كان هؤلاء العبرانيون يعتقدون أنه إحدى عجائب العالم. ومن حقهم علينا إلا نلومهم على هذا الإعتقاد ، لأنهم لم يروا هياكل طيبة وبابل ونينوى التي لا يعد هيكلهم إلى جانبها شيئاً مذكوراً.

وكان في صدر البناء الرئيسي "مدخل" كبير يبلغ رتفاعه مائة وثمانين قدماً ، مرصعاً بالذهب ، وكان الذهب فضلاً عن هذا يغشي كثيراً من أجزاء الهيكل- إذا جاز لنا أن نصدق المصدر الوحيد الذي نعتمد عليه في هذا الوصف: على سقف البناء الرئيسي ، والعُمُد ، والأبواب والجدران ، والثريات ، والمصابيح ، ومقصات الفتائل ، والملاعق ، والمباخر ؛ وكان فيه "مائة حوض من الذهب". وكانت الحجارة الكريمة ترصع أجزاء متفرقة منه ، كما كان ملكان مغطيان بصفائح الذهب يحرسان تابوت العهد. وشيدت الجدران من حجارة كبيرة مربعة ، أما السقف والأعمدة والأبواب فكانت من خشب الأرز والزيتون المنقوش. وجيء بمعظم مواد البناء من فينيقيا ، وكان يقوم بمعظم الأعمال الفنية صناع من صيدا وصور. أما الأعمال التي لا تحتاج إلى شيء من المهارة فقد حشد لها 000ر150 عامل سخروا فيها تسخيراً بلا شفقة ولا رحمة ، كما كانت العادة المألوفة في تلك الأيام. ومضت سبع سنين والعمل في تشييد البناء قائم على قدم وساق ، ليكون مقراً فخماً ليهوه مدى أربعة قرون. ثم واصل مهرة الصناع والفعلة العمل ثلاثة عشر عاماً أخرى ليشيدوا صرحاً أكبر من الهيكل يسكن فيه سليمان ونساؤه. وكان جناح واحد من أجنحته وهو " بيت وعمر لبنان " أربعة أضعاف مساحة الهيكل كله. وكانت جدران البناء الرئيسي في القصر مقامة من كتل من الحجارة الضخمة طول الواحدة منها خمسة عشر قدماً وكانت تزينه التماثيل المنحوتة ، والنقوش المحفورة ، والصور المرسومة على الطراز الآشوري. وكان القصر يحتوي على أبهاء يستقبل فيها الملك كبار زائريه ، وعلى أجنحة للملك نفسه ، ومساكن للمحظوظات من زوجاته ، ومستودع للسلاح كان هو العماد الأخير لحكومته. على أن هذا الصرح الضخم لم يبق منه حجر واحد ، بل إن موضعه نفسه لا يعرفه أحد على وجه التحقيق.

ولما فرغ سليمان من إقامة ملكه شرع يستمتع به ، وأخذت عنايته بالدين تقل على مر الأيام ، كما أخذ يتردد على حريمه أكثر مما يتردد على الهيكل. ولشد ما يلومه كتاب أسفار التوراة على شهامته إذ أقام مذابح للآلهة الخارجية التي كانت تعبدها زوجاته الأجنبيات ، ولا تطاوعهم أنفسهم على أن يصفحوا عنه لعدله الفلسفي - أو لعلمه السياسي - بين مختلف الآلهة. وأعجب الشعب بحكمته ، ولكنه شعر بما في حُكمه من مركزية شديدة. وكان بناء الهيكل والقصر قد كلف الناس كثيراً من الذهب والدماء ، ولم يكن حبهم لهما أكثر من حب عمال مصر لأهرامها. هذا إلى أن الإنفاق على الهيكل والقصر كان يتطلب فرض ضرائب باهظة ، ولم نعهد قط أن حكومة من الحكومات إستطاعت أن تجعل الضرائب من الواجبات المحببة إلى الشعب. فلما مات سليمان كانت موارد إسرائيل قد نضبت ، ونشأت فيها طائفة من العمال الصعاليك لا يجدون عملاً دائماً يرتزقون منه ، فكان ما قاسوه من العذاب هو الذي حول دين يهوه الحربي إلى دين أنبيائهم الذي لا يكاد يفترق عن الإشتراكية في كثير أو قليل.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الثقافة الدينية في الحضارة اليهودية

كان بناء الهيكل أهم الحادثات الكبرى في ملحمة اليهود ، بعد نشر كتاب القانون ؛ ذلك أن هذا الهيكل لم يكن بيتاً ليهوه فحسب بل كان أيضاً مركزاً روحياً لليهود ، وعاصمة لملكهم ، ووسيلة لنقل تراثهم ، وذكرى لهم ، كأنه علم من نار يتراءى لهم طوال تجوالهم الطويل المدى على ظهر الأرض. ولقد كان له فوق ذلك شأن في رفع الدين اليهودي من جيل بدائي متعدد الآلهة إلى عقيدة راسخة غير متسامحة ، ولكنها مع ذلك إحدى العقائد المبدعة في تاريخ البشر. وكان اليهود في أول ظهورهم على مسرح التاريخ بدواً رحلاً يخافون شياطين الهواء ، ويعبدون الصخور والماشية والضأن وأرواح الكهوف والجبال. ولم يتخلوا قط عن عبادة العجل والكبش والحمل ؛ ذلك أن موسى لم يستطع منع قطيعه من عبادة العجل الذهبي لأن عبادة العجول كانت لا تزال حية في ذاكرتهم منذ كانوا في مصر ، وظلوا زمناً طويلاً يتخذون هذا الحيوان القوي آكل العشب رمزاً لإلههم. وإنا لنقرأ في سفر الخروج (الأصحاح 32 الآيات 25- 28) كيف أخذ اليهود يرقصون وهم عراة أمام العجل الذهبي ، وكيف أعدم موسى واللاويون ثلاثة آلاف منهم عقاباً لهم على عبادة هذا الوثن. وفي تاريخ اليهود الباكر شواهد كثيرة تدل على أنهم عبدوا الأفعى. ومن هذه الشواهد صورة الأفعى التي وجدت في أقدم آثارهم. ومنها الأفعى النحاسية التي صنعها موسى والتي عبدها اليهود في الهيكل إلى أيام حزقيا (حوالي 720 ق.م). وكانت الأفعى تبدو حيواناً مقدساً لليهود كما كانت تبدو لشعوب كثيرة عداهم ، وذلك لأنها رمز للذكورة المخصبة من جهة ، ولأنها من جهة أخرى تمثل الحكمة والدهاء والخلود- فضلاً عن أنها تستطيع أن تجعل طرفيها يلتقيان. وكان بعض اليهود يعظمون بعل ، الذي كان يرمز إليه بحجارة مخروطية قائمة كثيرة الشبه من لنجا إله الهندوس ، وذلك لأنه في رأيهم الجوهر الذكر في التناسل ، وزوج الأرض الذي يخصبها. وكما أن آثار عبادة الآلهة الكثيرة البدائية قد بقيت في عبادة الملائكة والقديسين ، وفي الأصنام الصغيرة المتنقلة التي كانوا يتخذونها آلهة لبيوتهم ، كذلك ظلت المعتقدات السحرية التي كانت منتشرة في العبادات القديمة ، باقية عند اليهود إلى عهود متأخرة رغم إحتجاج الأنبياء والكهنة. ويبدو أن الناس كانوا ينظرون إلى موسى وهارون على أنهما ساحران ، وأنهم كانوا يناصرون السحرة والعرافين. وكان إستطلاع المستقبل يحدث أحيانا برمي النرد (أريم وتميم) من صندوق (إفود)- وهي طريقة لا تزال تستخدم لمعرفة ما يريده الآلهة. ومما يذكر بالحمد لكهنة اليهود أنهم قاوموا هذه العادات ، ودعوا الناس ألا يعتمدوا إلا على قوة سحرية واحدة هي قوة القربان والصلوات والتبرعات. وما لبثت فكرة اتخاذ يهوه إله اليهود القومي الأوحد أن تبلورت وأكسبت الديانة اليهودية وحدة وبساطة كانتا سبباً في إنتشالها من فوضى الشرك التي كانت تسود أرض الجزيرة. ويبدو أن اليهود الفاتحين عمدوا إلى أحد آلهة كنعان من بين الآثار التي وجدت في كنعان (عام 1931م) قطع من الخزف من بقايا عصر البرونز (3000 ق.م) عليها إسم إله كنعاني يسمى ياه أو ياهو. فصاغوه في الصورة التي كانوا هم عليها ، وجعلوا منه إلهاً ، صارماً ، ذا نزعة حربية ، صعب المرا س، ثم جعلوا لهذه الصفات حدوداً تكاد تبعث الحب في القلوب. ذلك أن هذا الإله لا يطالب الناس بأن يعتقدوا أنه عالم بكل شيء ؛ وشاهد ذلك أنه يطلب من اليهود أن يميزوا بيوتهم بأن يرشوها بدماء الكباش المضحاة لئلا يهلك أبناءهم على غير علم منه مع من يهلكهم من أبناء المصريين. كذلك لا يرى أنه معصوم من الخطأ ، ويرى أن أشنع ما وقع فيه من الأخطاء هو خلق الإنسان ؛ ولذلك تراه يندم بعد فوات الفرصة على خلق آدم وعلى إرتضائه أن يكون شاؤل ملكاً. وتراه من حين إلى حين شرهاً ، غضوباً ، متعطشاً للدماء ، متقلب الأطوار ، نزقاً نكداً: "أتراءف على من أترأف ، وأرحم من أرحم". وهو يرضى عما إستخدمه يعقوب من ختل وخداع في الإنتقام من لابا ؛ وضميره لا يقل مرونة عن ضمير الأسقف الذي يندفع في تيار السياسة. وهو كثير الكلام ، يحب إلقاء الخطب الطوال ، وهو حي لا يسمح للناس أن يروا منه إلا ظهره. وقصارى القول أنه لم يكن للأمم القديمة إله آدمي في كل شيء كإله اليهود هذا. ويلوح أنه كان في بداية الأمر إلهاً للرعد يسكن الجبال ، ويعبده الناس للسبب الذي كان جوركي الشاب يؤمن من أجله بالله إذا أرعدت السماء. وحوّل كاتبو أسفار موسى الخمسة ، وهم الذين كانوا يتخذون الدين أداة للسياسة ، إله الرعد هذا إلى إله الحرب ، فأصبح يهوه في أيديهم القوية إلهاً للجيوش يدعو للفتح والإستعمار ، يحارب من أجل شعبه بنفس القوة التي كان يحارب بها آلهةُ الإلياذة. وفي ذلك يقول موسى: "الرب رجل حرب". ويردد داود صدى هذا القول نفسه فيقول: "الذي يعلّم يدي القتال". ويعِد يهوه أن "يطرد الحويين والكنعانيين والحيثيين" يطردهم: "قليلاً ، قليلاً" ، ويزعج جميع الشعوب الذين تأتي عليهم ، وأعطيك جميع أعدائك مدبرين" ، ويقول إن الأرض التي فتحها اليهود ملك له وحده. وهو لا يقطع معهم ولا مع أعدائهم عهداً سخيفاً ؛ ويعرف أن الأرض ، حتى الأرض الموعودة نفسها ، لا تنال إلا بحد السيف ولا يحتفظ بها إلا بالسيف ؛ وهو إله حرب لأنه لابد أن يكون إله حرب ؛ وتمر عدة قرون من الهزائم العسكرية والخضوع السياسي ، والتطور الأخلاقي ، حتى يستحيل هذا الإله إلى والد هلل وإلى المسيح. وهو فخور معجب بنفسه كالجندي ؛ يتقبل الثناء ويشتهيه ، ويحرص على أن يتباهى بقدرته على إغراق المصريين في البحر: "فيعرف المصريون أني أنا الرب حين أتمجد بفرعون ومركباته وفرسانه".

وهو يرتكب في سبيل إنتصار شعبه من ضروب الوحشية ما تشمئز منه نفوسنا إشمئزازاً لا يعادله إلا رضاء أخلاق ذلك العصر عنها ، ويأمر شعبه بأن يرتكبوا هم هذه الوحشية ؛ فهو يذبح أمماً بأكملها راضياً مسروراً من عمله رضاء جلفر Gulliver وهو يقاتل من أجل لليبت Lilliput. ولما بدأ اليهود يزنون مع بنات موآب قال لموسى: "خذ جميع رؤوس الشعب وعلقهم للرب مقابل الشمس" ، وتلك هي أخلاق أشوربانيبال وأشور. وهو يعرض رحمته على الذين يحبونه ويتبعون أوامره ، ولكنه يفعل ما تفعله جراثيم الأوبئة الفتاكة: "أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي" ؛ وهو إله جبار يفكر في إهلاك اليهود على بكرة أبيهم لأنهم عبدوا العجل الذهبي ؛ ويضطر موسى إلى أن يراجعه حتى يتملك عواطفه فيقول الرجل لربه: "إرجع عن حمو غضبك وإندم على الشر بشعبك" ، "فندم الرب على الشر الذي قال أنه يفعله وهكذا تصور التوراة إله إسرائيل. ثم يريد يهوه أن يفني اليهود أصلاً وفرعاً لأنهم عصوا موسى ، ولكن موسى يستثير فيه عواطفه الطيبة ، ويأمره أن يفكر فيما يقوله الناس عنه إذا سمعوا بفعلته، وهو يختبر قومه إختباراً قاسياً فيطلب إلى إبراهيم تضحية يالها من تضحية. ويعلم إبراهيم يهوه ، كما يعلمه موسى ، مبادئ الأخلاق السامية وينصحه إلا يهلك سدوم و عمورة ، إذا وجد فيهما من الرجال خمسون ، أو أربعون ، أو ثلاثون ، أو عشرون ، أو عشرة صالحون. ولا يزال يغري إلهه بالرحمة ، ويشرح له كيف يضطر الإنسان إلى أن يعيد تصوير أربابه لتتفق مع تطورات أخلاقه. وأن اللعنات التي يهدد بها يهوه شعبه المختار إذا ما عصاه لجديرة بأن تكون نماذج في القدح والسب ، ولعلها هي التي أوحت إلى الذين حرقوا الكفرة في محاكم التفتيش الأسبانية أو حكموا على إسبنوزا بالحرمان أن يفعلوا ما فعلوا: "ملعوناً تكون في المدينة وملعوناً تكون في الحقل ... ملعونة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك ... ملعوناً تكون في دخولك وملعوناً تكون في خروجك ، يرسل الرب عليك اللعن والإضطراب والزجر في كل ما تمتد إليه يدك لتعمله حتى تهلك وتفنى سريعاً من أجل سوء أفعالك إذ تركتني ؛ يلصق بك الرب الوباء حتى يبيدك عن الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها. يضربك الرب بالسل والحما والبرداء والإلتهاب والجفاف واللفح والذبول فتتبعك حتى تفنيك ...الخ يضربك الرب بقرحة مصر وبالبواسير والجرب والحكة حتى لا تستطيع الشفاء ، يضربك الرب بجنون وعمى وحيرة قلب ... أيضا كل مرض وكل ضربة لم تكتب في سفر الناموس هذا بسلطة الرب عليك حتى تهلك". ولم يكن يهوه الإله الوحيد الذي يعترف اليهود بوجوده ، أو يعترف هو نفسه بوجوده ، وشاهد ذلك أن كل ما يطلبه في الوصية الأولى من الوصايا العشر هو أن يكون مقامه فوق مقام سائر الأرباب: وهو يقر بأنه "إله غيور" ، ويأمر أتباعه بهدم مذابحهم ، وتكسير أصنامهم وإبادتهم. وقلما كان اليهود قبل إشعيا يفكرون في أن يهوه إله الأسباط جميعاً ، أو حتى إله العبرانيين جميعاً ، فقد كان للموآبيين إلههم شمش ، وكان نعومي يظن أن لا ضير من أن يظل راعوث على ولائه له. وكان بلزبوب إله عكرون ، و ملكرم إله عمون: ذلك أن النزعة الإنفصالية التي كانت تتملك نفوس أولئك القوم من الناحيتين الإقتصادية والسياسية قد أدت بطبيعة الحال إلى ما تستطيع أن تسميه إستقلالاً دينياً. ويقول موسى في أغنيته الشهيرة: "من مثلك بين الآلهة يا رب". ويقول سليمان" إلهنا أعظم من جميع الآلهة". ولم يكن جميع اليهود ، اللهم إلا أعظمهم علماً ، يعدون تموز إلهاً حقاً فحسب ، بل إن عبادته فضلاً عن هذا كانت في وقت من الأوقات منتشرة في بلاد اليهود حتى لقد شكا حزقيال من أن البكاء حزناً على تموز كان يسمع في الهيكل. لقد كان ما بين اليهود من فوارق وما كان لهم من إستقلال كافيين لأن تبقى لطوائفهم آلهتهم الخاصة حتى في زمن إرميا: "على عدد مدنك صارت إلهتكِ يا يهوذا" ، ثم يظهر النبي الحزين غضبه على بني وطنه لأنهم يعبدون بعلاً ومولك. فلما أن نشأت الوحدة السياسية في أيام داود وسليمان، وتركزت العبادة في الهيكل بأورشليم، أخذ الدين يردد أصداء التاريخ والسياس ، وأمسى يهوه إله اليهود الأوحد. ولم يخط اليهود نحو التوحيد خطوة غير هذه الخطوة ، وهي أن لليهود إلهاً واحداً يعلو على آلهة غيرهم من البشر ، حتى كان زمن الأنبياء.

على أن الديانة العبرانية حتى في هذه المرحلة اليهودية كانت أقرب إلى التوحيد من كل دين آخر قبل عصر الأنبياء إذا إستثنينا عبادة الشمس القصيرة الأجل في عهد إخناتون. لقد كانت اليهودية تسمو كثيراً على غيرها من أديان ذلك الوقت في عظمتها وسلطانها ، وفي وحدتها الفلسفية ، وفيما تنطوي عليه من حماسة أخلاقية ومن أثر في نفوس أهلها ، وكانت تضارع في عواطفها وشعريتها شرك البابليين واليونان إن لم تفقه من هاتين الناحيتين. وهذا الدين القاسي المكتئب لم يتخذ له شيئاً من الطقوس المنمقة والإحتفالات المرحة التي كانت شائعة في عبادة الآلهة المصرية والبابلية. وكان يغشي التفكير اليهودي بأجمعه شعور بضآلة شأن الإنسان أمام رب قادر يسيره طوع أمره. وبقيت عبادة يهوه قروناً كثيرة ديناً قوامه الخوف لا الحب ، والرهبة لا الرغبة ، رغم ما بذله سليمان من جهود لكي يجمل باللون والنغم عبادة هذا الإله الرهيب. ولسنا ندري ، إذا رجعنا بذاكرتنا إلى هذا الدين وأمثاله ، هل عادت هذه الأديان على الإنسانية بالسلوى بقدر ما عادت عليها بالفزع. إن الأديان التي تبعث في النفوس الأمل والدب لا تكون إلا متعة من متع الأمن والنظام ، ولم يكن الأمن والنظام من الصفات التي سادت طويلاً بلاد اليهود. أما الحاجة إلى قذف الرعب في قلوب الشعب ، أو الثائرين من الأجانب الخاضعين لسلطانه ، فقد جعلت معظم الأديان البدائية عبادات قوامها الخفاء والرعب. ولقد كان تابوت العهد المحتوي على ملفات السنن والذي لم يكن يسمح لأحد أن يمسه ، كان هذا التابوت رمزاً لطبيعة العقائد اليهودية. ولما مد عَزَّة الصالح يديه إلى التابوت ليمنعه أن يسقط على الأرض وأمسكه لحظة قصيرة "حمى غضب الرب على عزة وضربه الرب هناك لأجل أنه مد يده إلى التابوت فمات هناك أمام الله".


الخطيئة

وهي الفكرة الأساسية في الدين اليهودي. ولم ير العالم شعباً آخر أولع بالفضيلة ولع اليهود- إلا إذا إستثنينا طائفة المتطهرين الذين يخيل إلينا أنهم خرجوا من بين أسفار العهد القديم دون أن تمسهم الكثلكة الطويلة العهد بسوء. ولما كانت الطبيعة البشرية ضعيفة و"السنن" معقدة صعبة فلم يكن ثمة مفر من الوقوع في الخطيئة ، وكثيراً ما كانت الروح اليهودية تتلبد بالغيوم لما ينجم عن الخطيئة من سيئ العواقب ، كحبس المطر أو تدمير إسرائيل بقضها وقضيضها. ولم يكن في هذا الدين جحيم يخصص لعقاب المذنبين ، ولكن شيول أو "أرض الظلام" التي تحت الأرض لم تكن تقل هولاً عن هذا الجحيم. وكان يلقى فيها الموتى جميعهم الطيب منهم والخبيث ، لا يستثنى منهم إلا المقربون إلى الله مثل موسى و أخنوخ و إيليا. على أن اليهود قلما كانوا يشيرون إلى حياة أخرى بعد الموت ، ولم يرد في دينهم شيء عن الخلود ؛ وكان ثوابهم وعقابهم مقصورين على الحياة الدنيا. ولم تدر فكرة البعث في خلد اليهود إلا بعد أن فقدوا الرجاء في أن يكون لهم سلطان في هذه الأرض ، ولعلهم أخذوا هذه الفكرة عن الفرس ، أو لعلهم أخذوا شيئاً منها عن المصريين. ومن هذه الخاتمة الروحية ولدت المسيحية. وكان يمكن إتقاء الخطيئة ونتائجها بالصلاة والتضحية. وبدأت التضحية عند الساميين كما بدأت عند "الآريين" بالضحايا البشرية ، ثم حل الحيوان محل الإنسان فصار يضحي "بأولى ثمرات القطعان" وباكورة الطعام الذي تنتجه الحقول ؛ ثم إنتهى الأمر أخيراً بالإكتفاء بالتسبيح والثناء على الله. وكان الإعتقاد السائد في أول الأمر ألا يؤكل لحم حيوان إلا إذا ذبحه كاهن وباركه، وعُرِض وقتاً ما على الإله. وكانت عملية الختان نفسها من أعمال التضحية ، ولربما كانت فدية لتضحية أخرى أشد منها قسوة يكتفي فيها الإله بأخذ جزء من كل. وكان الحيض والولادة ، كالخطيئة ، يدنسان المرأة ، ويتطلبان تطهيراً ذا مراسم وتقاليد ، وتضحية وصلاة ، على يد الكهنة. وكانت المحرمات تحيط بالمؤمنين من كل جهاتهم ، كما كانت الخطيئة كامنة في كل شهوة من الشهوات ، وكان لا بد من الهبات للتكفير عن هذه الخطايا ، وقلما كانت هناك خطيئة لا يمكن التكفير عنها بهذه الوسيلة.


ولم يكن أحد غير الكهنة يستطيع أن يقرب القرابين بالطريقة الصحيحة أو يفسر الطقوس أو الأسرار الدينية تفسيراً آمنا من الخطأ. وكان هؤلاء طبقة مغلقة لا يستطيع أحد أن ينتمي إليها إلا أبناء ليفي. ولم يكن من حقهم أن يرثوا مالاً ، ولكنهم كانوا معفيين من الضرائب وفرضة الرؤوس وسائر الإتاوات على إختلاف أنواعها. وكانوا يأخذون العشور على نتاج الضأن ، وينتفعون بما يبقى في الهيكل من القرابين التي لم تستنفذها الآلهة. ونمت ثروة الكهنة بعد نفي اليهود بنمو المجتمع اليهودي الجديد ؛ وإذا كانت هذه الثروة المقدسة قد أحسن القيام عليها ، فقد جعلت كهنة الهيكل الثاني في دمشق ، كما كان أمثالها في طيبة وبابل ، أقوى من الملوك أنفسهم. على أن نمو سلطان الكهنة وإنتشار التربية الدينية لم يكفيا لتحرير عقول العبرانيين من الخرافات والأوهام ومن عبادة الأوثان ، بل ظلت قلل التلال ، والحراجُ مأوى للآلهة الأجنبية ومشهداً للطقوس الخفية ، وظلت أقلية كبيرة من الشعب تسجد للحجارة المقدسة ، أو تعبد بعل وعشتروت ، أو تتنبأ بالغيب على الطريقة البابلية ، أو تقيم الأنصاب وتحرق لها البخور ، أو تركع أمام الحية النحاسية أو العجل الذهبي ، أو تملأ الهيكل بضجيج الحفلات الوثنية ، أو ترغم أطفالها على أن "يجوزوا في النار" من قبيل التضحية ؛ بل إن بعض الملوك أنفسهم مثل سليمان وأهاب كانوا "يتملقون" الآلهة الأجانب. وقام رجال صالحون كإيليا وإليشع ينادون بإبطال هذه العادات، وإن لم يصبحوا بعد كهنة ، وحاولوا أن يهدوا الناس إلى طريق الحق بإستقامتهم وحثهم على الإقتداء بهم. ونشأ من هذه الأحوال والبدايات ، ومن إنتشار الفاقة وإستغلال الأهلين في إسرائيل ، عظماء الرجال في الديانة اليهودية ؛ نشأت طائفة الأنبياء المتحمسين ، الذين طهروا الدين اليهودي ، ورفعوا مقامه ، وهيأوه للغلبة على أديان العالم الغربي.


لما كان الفقر ينشأ من الغنى ، ولما كان الفقراء لا يعرفون أنهم فقراء إلا حين يبصرون الأغنياء بعيونهم ، فإن حرب الطبقات لم يندلع لهيبها في إسرائيل إلا بعد أن رأى الناس بأعينهم ثروة سليمان الطائلة. لقد تعجل سليمان ، كما تعجل بطرس الأكبر و لينين ، حينما أراد أن يحول البلاد من دولة زراعية إلى أخرى صناعية. وقد تطلبت هذه المشروعات الضخمة كثيراً من الكدح ، وفرضت على الشعب أبهظ الضرائب ؛ ولما أن تمت بعد عشرين عاماً من العمل المتواصل ، وُجدت في أورشليم طبقة من العمال المتعطلين كانوا من عوامل الشقاق السياسي والفساد الإجتماعي في فلسطين ، كما كان أمثالهم في روما فيما بعد. وكانت الأحياء القذرة تزداد شيئاً فشيئاً كلما نمت ثروة الأفراد وزاد ترف الحاشية ، وأصبح إستغلال الشعب والربا عادة مألوفة بين أصحاب الضياع الكبرى والتجار والمرابين الذين أحاطوا بالهيكل حتى قال عاموس أن المُلاّك "باعوا البارَّ بالفضة والبائس لأجل نعلين". وكانت الثغرة الآخذة في الإتساع بين ذوي الحاجة وذوي اليسار ، وكان النزاع الشديد بين المدن والريف وهو النزاع الذي يصحب على الدوام قيام المدنيات الصناعية ، من العوامل التي أدت إلى إنقسام فلسطين بعد موت سليمان إلى مملكتين متعاديتين مملكة إفرايم الشمالية وعاصمتها السامرة ، ومملكة يهوذا الجنوبية وعاصمتها أورشليم. وأخذ الضعف من ذلك الحين يدب بين اليهود لما سرى في قلوبهم من أحقاد ، وما قام بينهم من نزاع كانت تشتعل بينهم بسببه نيران الحرب العوان. ولم يمض على موت سليمان إلا زمن قليل حتى إستولى شيشنق ملك مصر على أورشليم ، وحتى سلّمت له ما جمعه سليمان من ذهب بالضرائب التي فرضها على الشعب في أثناء حكمه الطويل. وكان هذا الجو المشحون بعوامل التفكك السياسي ، والحرب الإقتصادية ، والإنحلال الديني ، هو الذي ظهر فيه الأنبياء. ولم يكن أولئك الذين أطلق عليهم هذا اللفظ العبري (نبي) أول الأمر من طبقة عاموس وإشعيا الجديرة بإحترامنا ؛ بل كان بعضهم من المتنبئين الذين يستطيعون قراءة قلوب الناس وماضيهم ويخبرونهم بمستقبلهم حسبما يتقاضون منهم من أجور. ومنهم متعصبون متهوسون يستثيرون مشاعرهم بالأصوات الموسيقية الغريبة ، أو المشروبات القوية ، أو الرقص الشبيه برقص الدراويش ، وينطقون في أثناء غيبوبتهم بعبارات يراها أصحابهم وحياً أوحي إليهم: أي بثتها فيهم روح غير روحهم. وقد سخر إرميا سخرية لاذعة من "كل رجل مجنون ومتنبئ". وكان منهم من هو ناسك نكد كإيليا ؛ ومنهم كثيرون يعيشون في مدارس أو أديرة مجاورة للهياكل ، ولكن معظمهم كانت لهم أملاك خاصة وزوجات. ومن هذا الحشد الكبير من النساك خرج أنبياء بني إسرائيل وأصبحوا على مر الزمن نقدة لعصرهم وشعبهم ثابتين على نقدهم ، عارفين بالتبعة الملقاة عليهم ؛ وسياسيين ممتازين يسوسون بلادهم في الخفاء "أشد الناس معارضة للكهنة" / و"ألدهم عداء للسامية". وكانوا مزيجاً من العرافين والإشتراكيين. ونخطئ أشد الخطأ إذا عددناهم أنبياء بالمعنى المألوف لهذا اللفظ ؛ لقد كانت نبوءاتهم ، إن صح أن نسميها نبوءات ، مزيجاً من الوعد والوعيد ، أو عبارات دالة على التقى والصلاح ، يحشرونها في أقوالهم حشراً ، أو إشارات إلى حوادث بعد وقوعها. ولم يكن الأنبياء أنفسهم يدعون أنهم يعلمون من الغيب ما يستطيعون أن ينطقوا به ؛ بل كانوا أشبه الناس بالمعارضين البلغاء في إحدى الحكومات الدستورية الحديثة. وكانوا من بعض نواحيهم تلستويين ثائرين على الإستغلال الصناعي والخداع الكهنوتي ؛ خرجوا من أحضان الريف الساذج يصبون اللعنات على ثراء الحواضر الفاسدة. وقد قال عاموس عن نفسه أنه لم يكن نبياً وإنما كان راعياً ريفياً ساذجاً. فلما أن ترك قطيعه ليشهد بيت إيل ، هاله ما شاهده فيه من تعقد الحياة تعقداً غير طبيعي ، ومن الفروق الواسعة بين الثروات ، ومن منافسة مريرة قاتلة ، وقسوة في إستغلال الناس. فلما رأى هذا "وقف بالباب" وأخذ يصب غضبه على ذوي الثراء المنغمسين في الترف الذين لا يرعون في الناس عهداً ولا ذمة. "من أجل أنكم تدوسون المسكين، وتأخذون منه هدية قمح، بنيتم بيوتاً من حجارة منحوتة ولا تسكنون فيها، وغرستم كروماً شهية ولا تشربون خمرها... ويل للمستريحين في صهيون ،... أنتم... المضطجعون على أسرّة من العاج والمتمددون على فرشهم والآكلون خرافاً من الغنم، وعجولاً من وسط الصيرة، الهذرون مع صوت الرباب ، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود ، الشاربون من كؤوس الخمر ، والذين يدهّنون بأفضل الأدهان... "كرهت أعيادكم... إني إذا قد مّتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي ... أبعد عني ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع، وليجر الحق كالمياه ، والبر كنهر دائم". تلك نغمة جديدة في آداب العالم. نعم إن عاموس يثلم حد مثاليته بما ينطق به إلهه من وعيد كالتيار الجارف لا يستطيع القارئ لكثرته وشدته أن يحاجز نفسه عن العطف في بعض اللحظات على شاربي الخمر ومستمعي الموسيقى. ولكنا هنا نرى الضمير الإجتماعي لأول مرة في آداب آسية يتخذ صورة محددة واضحة ويفيض على الدين بما يرفعه من دين حفلات وملق إلى دعوة للنبل وحث على مكارم الأخلاق ، وما من شك في أن إنجيل المسيح يبدأ في الحقيقة بظهور عاموس . ويبدو أن نبوءة من أشد نبوآته إيلاماً تحققت وهو لا يزال حيا: "هكذا قال الرب. كما ينزع الراعي من فم الأسد كراعين أو قطعة أذن ، هكذا ينتزع بنو إسرائيل الجالسون في السامرة في زاوية السرير وعلى دمقس الفراش ... فتبيد بيوت العاج وتضمحل البيوت العظيمة" . وقام نبي آخر حوالي ذلك الوقت نفسه يهدد السامرة بالخراب في عبارة من تلك العبارات الواضحة المأثورة التي صاغها المترجمون في عهد الملك جيمس من كنوز التوراة ليرددها الناس في حديثهم كل يوم. قال هوشع: "إن عجل السامرة يصير كسراء ، إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة".


وفي عام 733 هددت إفرايم وحليفتها سوريا ، مملكة يهوذا الناشئة ، فاستغاثت هذه بأشور. فأغاثتها وإستولت على دمشق ، وأخضعت سوريا وصور وفلسطين وأرغمتها على دفع الجزية ، وعرفت ما يبذله اليهود من جهود للحصول على معونة مصر ، فغزت البلاد مرة أخرى وإستولت على السامرة ، ودخلت في مفاوضات سياسية مع ملك يهوذا ، وعجزت عن الإستيلاء على أورشليم ، ثم عادت جيوشها إلى نينوى مثقلة بالغنائم ومعها 000ر200 من أسرى اليهود ليكونوا عبيداً للآشوريين.

وفي أثناء حصار أورشليم أصبح النبي إشعيا من أعظم شخصيات التاريخ العبري. وكان إشعيا أوسع أفقا من عاموس ، ولذلك كانت آراء أولهما أبقى أثراً في السياسة من آراء الثاني. ولم يكن يشك في أن يهوذا الصغيرة لا تستطيع الوقوف في وجه أشور الجبارة ذات السلطان الواسع ولو أعانتها مصر البعيدة - تلك القصبة المرضوضة التي تدمي يد من يحاول أن يمسكها ليدفع بها عن نفسه - فأخذ يتوسل إلى الملك أهاب ثم إلى الملك حزقيا أن يظلا على الحياد في الحرب القائمة بين أشور وإفرايم. ذلك أنه لم يكن يشك- كما لم يكن عاموس وهوشع يشكان- في أن السامرة لابد ساقطة ، وأن المملكة الشمالية مقبلة على آخر أيامها. فلما أن حاصر الآشوريون أورشليم أشار إشعيا على حزقيا ألا يسلم المدينة. وبدا أن إنسحاب جيوش سنحريب المفاجئ مبرر قوي لهذه النصيحة. ومن أجل ذلك علا شأنه زمناً ما لدى الملك والشعب على السواء. وكان ينصح على الدوام بأن يعامل الناس بالعدل ، وأن يترك أمرهم بعد ذلك إلى يهوه، فيستخدم أشور أداة له يؤدبهم بها ، ولكنه سيهلكها هي نفسها في آخر الأمر. وكان من أقواله أن يهوه سيقضي على جميع الأمم المعروفة له ، وهو يقول في بعض فصول سفره (من الأصحاح السادس عشر إلى الثالث والعشرين) أن موآب وسوريا وأثيوبيا ومصر سيكون مصيرها الدمار و"كلها يولول". وهذا الدعاء بالخراب وهذه اللعنات المتكررة تفسد ما في سفر إشعيا من جمال، كما تفسد كل ما في التوراة كلها من نبوءات، ولولاها لكانت من أجمل ما كتب في الأدب. على أن تشهيره هذا إنما ينصب على ما يجب أن ينصب عليه- على الإستغلال الإقتصادي والشراهة ، فهو إذا تحدث عنهما سما في حديثه إلى أرقى ما وصل إليه الأدب في أسفار العهد القديم ، في فقرات تعد من أروع ما كتب من النثر في أدب العالم كله: "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم ، وأنتم قد أكلتم الكرم. سلبُ البائس في بيوتكم. ما لكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين؟ ... ويل للذين يصلون بيتاً ببيت ، ويقرنون حقلاً بحقل حتى لم يبق موضع ، فصرتم تسكنون وحدكم في وسط الأرض! ... ويل للذين يقضون أقضية البطل، وللكتبة الذين يسجلون زورا ليصدوا الضعفاء عن الحكم ، ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الأرامل غنيمتهم ، وينهبوا الأيتام.


وماذا تفعلون في يوم العقاب حين تأتي التهلكة من بعيد؟ إلى من تهربون للمعونة؟ وأين تتركون مجدكم؟". وهو يزدري أشد الإزدراء من يتظاهرون في العالم بالتقوى وهم يبتزون أموال الفقراء: "لماذا لي كثرة ذبائحكم؟ يقول الرب أتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات... رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها نفسي. صارت عليَّ ثقلاً. مللت حملها. فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم ، وإن كثرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دماً. غتسلوا تنقوا. إعزلوا شر أفعالكم من أمام عيني ، كفوا عن فعل الشر. تعلموا فعل الخير. إطلبوا الحق. إنصفوا المظلوم. إقضوا لليتيم. حاموا عن الأرملة". وهو ممتلئ القلب حقداً ، ولكنه غير يائس من شعبه ؛ وكما أن عاموس قد ختم مواعظه بنبوءة ، يحاول اليهود الآن تحقيقها وهي عودتهم إلى بلادهم ، كذلك يختتم إشعيا مواعظه بترديد أمل اليهود في ظهور من يقضي على ما بينهم من إنقسام سياسي ، وخضوع للأجنبي ، وما هم فيه من بؤس وشقاء ، ومن يعيد إلى الأرض الإخاء والسلام:

"ها! العذراء تحبل وتلد إبناً وتدعو إسمه عمانوئيل ... لأنه يولد لنا ولد ونُعطى إبناً ، وتكون الرياسة على كتفه ، ويدعى إسمه عجيباً مشيراً ، إلهاً قديراً ، أباً أبدياً ، رئيس السلام ... ويخرج قضيب من جذع يسى ... ويحل عليه روح الرب ، روح الحكمة والفهم ، روح المشورة والقوة ، روح المعرفة ومخافة الرب ... يقضي بالعدل للمساكين ، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض ، ويضرب الأرض بقضيب فمه ، ويميت المنافق بنفخة شفتيه ، ويكون البر منطقة مثنيه ، والأمانة منطقة حقويه ، ويسكن الذئب مع الخروف ، ويربض النمر مع الجدي ، والعجل والشبل والمسمن معاً ، وصبي صغير يسوقها... فيطبعون سيوفهم سككا ، ورماحهم مناجل ، لا ترفع أمة على أمة سيفاً ، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد". ذلك إلهام جد عجيب ؛ ولكنه إلهام لن يعبر عن مزاج اليهود حتى تمر بهم أجيال كثيرة. وكان كهنة الهيكل ينصتون بعطف مكظوم إلى هذه الدعوة النافعة التي تحث الناس على التقى والصلا ح؛ وكانت شيع من اليهود تتطلع إلى هؤلاء الأنبياء تتلقى عنهم هذه الدعوة الملهمة ؛ ولعل هذا الأقوال التي تدعوهم إلى نبذ الشهوات الجسمية كان لها بعض الأثر في تقوية ما أوجدته الصحراء في اليهود من نزعة إلى التزمت في الدين. غير أن حياة القصور والخيام ، والأسواق والحقول ، ظلت في أغلب الأحيان تجري على سننها القديم ؛ فكانت الحرب تقضي على من تصطفي من كل جيل ، وظل الإسترقاق مصير الغريب ، وظل التاجر يطفف الكيل ويغش في الميزان ، ثم يحاول التكفير عن ذنبه بالتضحية والصلاة. وترك الأنبياء أعمق آثارهم في يهودية ما بعد التقى ، ثم في العالم كله عن طريق اليهودية والمسيحية. وفي أسفار عاموس وإشعيا نرى بداية المسيحية والإشتراكية والمعين الذي فاضت منه الدعوات إلى إقامة عالم مطهر من الشرور لا يطوف به طائف الفقر أو الحرب فيكدر ما فيه من أخوة وسلام. وهذه الأسفار هي منشأ العقيدة اليهودية الأولى التي تقول بمجيء مسيح يقبض على زمام الحكم ، ويعيد إلى اليهود سلطانهم الدنيوي ، ويجعل الصعاليك المملقين الحاكمين بأمرهم في العالم كله. وكان إشعيا وعاموس هما اللذين بدآ في عصر الحروب يمجدان فضائل البساطة والرحمة والتعاون بين الناس والإخاء ، وهي الفضائل التي جعلها عيسى أساساً جوهرياً لدينه. وكانا أول من اضطلع بذلك العبء الثقيل عبء تحويل رب الجنود إلى إله حب وهما اللذان جندا يهوه وإستعاناه على نشر المبادئ الإنسانية ، كما جند المسيح متطرفو الإشتراكيين في القرن التاسع عشر ليستعيناه على نشر المبادئ الإشتراكية. وهما اللذين بثا في عقول الألمان - بعد أن طبعت التوراة في أوربا - الإيمان بمسيحية جديدة وأوقدا شعلة الإصلاح الديني ، وكانت فضائلهم القوية غير المتسامحة هي التي أخرجت طائفة المتطهرين المسيحيين. وكانت فلسفتهم الأخلاقية تقوم على نظرية أجدر من غيرها بالتسجيل - وهي أن الطيب سوف يوفق وينجح ، وأن الخبيث سوف يصرع ؛ وقد تكون هذه نظرية مخادعة ، ولكن ما فيها من خداع- إن كان فيها خداع- هو خداع العقل النبيل. ولئن كان هؤلاء الأنبياء لا يتصورون الحرية أو يفكرون فيها ، فإنهم كانوا يحبون العدالة ويدعون إلى القضاء على ما كان يضعه الأسباط من قيود على الأخلاق الطيبة. ولقد أقاموا أمام البائسين في العالم أملاً في التآخي ، كان تراثاً غالياً ، ظلوا يتوارثونه على مدى الأجيال.



. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أهل الكتاب

لم يكن في وسع اليهود بعد عودتهم أن يقيموا لهم دولة حربية ؛ ذلك أنهم لم يكن لهم من العدد ومن الثروة ما يمكنهم من إقامة هذه الدولة. ولما كانوا في حاجة إلى نوع من الإدارة يعترفون فيه بسيادة الفرس عليهم ويهيئ لهم هذا الوقت نفسه سبيل الوحدة القومية والنظام ، فقد شرع الكهنة في وضع قواعد حكم ديني يقوم حكم يوشيا على المأثور من أقوال الكهنة وتقاليدهم ، وعلى أوامر الله. وفي عام 444 ق.م دعا عزرا ، وهو كاهن عالم ، اليهود إلى إجتماع عام خطير ، وشرع يقرأ عليهم من مطلع النهار إلى منتصفه "سفر شريعة موسى". وظل هو وزملاؤه اللاويون سبعة أيام كاملة يقرؤون عليهم ما تحتويه ملفات هذا السفر. ولما فرغوا من قراءتها أقسم الكهنة والزعماء والشعب على أن يطيعوا هذه الشرائع ويتخذوها دستوراً لهم يتبعونه ومبادئ خلقية يسيرون على هديها ويطيعونها إلى أبد الآبدين. وظلت هذه الشرائع من تلك الأيام النكدة إلى يومنا هذا المحور الذي تدور عليه حياة اليهود ، ولا يزال تَقيُّدهم بها طوال تجوالهم ومحنهم من أهم الظواهر في تاريخ العالم. تُرى ماذا كان "كتاب شريعة موسى" هذا؟ لم يكن هذا الكتاب هو بعينه "كتاب العهد" الذي قرأه يوشيا من قبل ، لأن هذا العهد قد جاء فيه بصريح العبارة أنه قُرئ على اليهود مرتين كاملتين في يوم واحد ، على حين أن قراءة الكتاب الآخر قد إحتاجت إلى أسبوع كامل. وكل ما في وسعنا أن نفعله هو أن نحزر أن الكتاب الكبير كان يحتوي على جزء هام من أسفار العهد القديم الخمسة التي يسميها اليهود "توراة" ويسميها غيرهم البنتاتوش أو الأسفار الخمسة. كيف كتبت هذه الأسفار؟ ومتى كتبت؟ وأين كتبت؟ ذلك سؤال بريء لا ضير منه ولكنه سؤال كتب فيه خمسون ألف مجلد، ويجب أن نفرغ منه هنا في فقرة واحدة نتركه بعدها من غير جواب. إن العلماء مجمعون على أن أقدم ما كتب من أسفار التوراة هما القصتان المتشابهتان المنفصلة كلتاهما عن الأخرى في سفر التكوين ، تتحدث إحداهما عن الخالق بإسم "يهوه" على حين تتحدث الأخرى عنه بإسم إلوهيم. ويعتقد هؤلاء العلماء أن القصص الخاصة بيهوه كتبت في يهوذا ، وأن القصص الخاصة بإلوهيم كتبت في إفرايم ، وأن هذه وتلك قد إمتزجتا في قصة واحدة بعد سقوط السامرة. وفي هذه الشرائع عنصر ثالث يعرف بالتثنية أكبر الظن أن كاتبه أو كتابه غير كتاب الأسفار السالفة الذكر. وثمة عنصر رابع يتألف من فصول أضافها الكهنة فيما بعد. والرأي الغالب أن هذه الفصول تكون الجزء الأكبر من "سفر الشريعة" الذي أذاعه عزرا ، ويبدو أن هذه الأجزاء الأربعة قد إتخذت صورتها الحاضرة حوالي عام 300 ق.م(143). وكانت أساطير الجزيرة هي المعين الغزير الذي أخذت منه قصص الخلق والغواية والطوفان التي يرجع عهدها في تلك البلاد إلى ثلاثة آلاف سنة أو نحوها قبل الميلاد. ولقد رأينا صوراً قديمة من هذه القصص فيما مر بنا من صفحات من هذا الكتاب ، ولعل اليهود قد أخذوا بعضها من الأدب البابلي في أثناء أسرهم. ولكن أرجح من هذا أنهم أخذوها قبل ذلك العهد بزمن طويل من مصادر سامية وسومرية قديمة كانت منتشرة في جميع بلاد الشرق الأدنى. وتقول القصص الفارسية وقصص التلمود الخاصة بالخلق أن الله خلق في بادئ الأمر إنساناً مكوناً من ذكر وأنثى متصلين من الخلف كالتوأمين السياميين ، ثم رأى فيما بعد أن يفصل أحدهما عن الآخر. وتحضرنا في هذه المناسبة جملة غريبة وردت في سفر التكوين (الآية الثانية من الأصحاح الخامس): "يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله ذكراً وأنثى ، خلقة وباركه ودعا إسمه آدم" ؛ ومعنى هذا أن إبنا الأول كان ذكراً وأنثى معا - ويبدو أن أحد من رجال الدين إذا إستثنينا أرسطو فانيز لم يفطن إلى هذه العبارة. أما قصة الجنة فتظهر في جميع القصص الشعبية في العالم كله- في مصر ، والهند ، والتبت ، وبابل ، وبلاد الفرس ، واليونان وبولينيزيا والمكسيك وأبعدها عن المقصود منها ، ذلك أن أهميتها ليست فيما تقصه من قصص ، بل فيما تعرضه من أحكام. ومع ذلك فليس من العقل في شيء ألا يستمتع الإنسان ببساطتها التي تخلب اللب وبقصصها الواضحة وأحداثها السريعة. وكانت الأسفار التي تليت على الشعب بأمر يوشيا وعزرا هي التي صيغت منها القوانين "الموسوية" التي قامت عليها الحياة اليهودية كلها فيما بعد. ويقول سارتن Sarton ، وهو المعروف بشدة حرصه فيما يكتب ، معلقاً على هذه الشرائع: " إن أهميتها في تاريخ الأنظمة والقوانين تفوق كل تقدير". لقد كانت أكبر محاولة في التاريخ لإتخاذ الدين قاعدة لسياسة الأمم وأداة لتنظيم كل صغيرة وكبيرة في الحياة كلها. وفي ذلك يقول رينان Renan: "لقد صارت تلك الشريعة أضيق رداء شد على جسم الحياة الإنسانية" ، فقد جعلت الطعام ، والدواء ، والشئون الصحية الفردية ، وشئون الحيض والولادة ، والشئون الصحية العامة ، والإنحراف الجنسي والشهوات البهيمية ، كل هذه جعلتها من موضوعات الفروض والهداية الإلهية. وفيها نشهد مرة أخري كيف أخذ الطبيب يفترق افتراقاً بطيئاً عن الكاهن - ليصبح فيما بعد ألد أعدائه. فترى سفر اللاويين يحرص أشد الحرص على وضع القوانين الخاصة لعلاج الأمراض التناسلية ، ويعنى بها أشد العناي ة، فينص على عزل المصابين وما يتطلبه علاجهم من تطهير وتبخير بل وحرق المنزل الذي فشا فيه المرض عن آخره إذا دعت الحال. وكان اليهود الأقدمون هم الذين وضعوا قواعد الوقاية من المرض ، ولكن يلوح أنهم لم يكونوا يعرفون من الجراحة غير عملية الختان ، ولم تكن هذه السنة الدينية - الشائعة بين المصريين الأقدمين ، وبين الساميين المحدثين - مجرد تضحية لله وفريضة يفرضها الولاء للجنس ، بل كانت فوق هذا وقاية صحية من الأقذار التي تتعرض لها الأعضاء التناسلية. ولعل ما في الشريعة من قواعد خاصة بالنظافة هو الذي أبقى على اليهود خلال تجوالهم الطويل وتشتتهم ومحنتهم. أما ما بقي من شريعة موسى فيدور كله حول الوصايا العشر (سفر الخروج الآيات 1- 17 من الأصحاح العشرين) التي قدر لها أن يرددها نصف سكان العالم. وتضع الوصية الأولى أساس المجتمع الديني الجديد ، وهو المجتمع الذي لا يقوم على أي شريعة مدنية بل على فكرة الله وهو الملك القدوس الذي لا تدركه الأبصار ، والذي أنزل كل قانون ، وفرض كل عقوبة ، والذي سُمّي شعبُه بعدئذ شعب إسرائيل أي المدافعين عن الله. لقد قامت الدولة العبرية ولكن الهيكل ظل باقياً ، وشرع كهنة يهوذا يحاولون كما يحاول بابوات روما أن يعيدوا ما عجز الكهنة عن إنقاذه. ومن ثم كان وضوح الوصية الأولى وما فيها من تكرار ونصها على أن الكفر وذكر الله بما لا يليق يعاقب عليهما بالإعدام ولو كان الكافر أقرب أقرباء الإنسان. ذلك أن الكهنة الذين وضعوا القانون كانوا يعتقدون كما يعتقد رجال محاكم التفتيش الأتقياء أن الوحدة الدينية شرط أساسي لقيام النظام والتضامن الإجتماعيين. وكان هذا التعصب الديني منضماً إلى الكبرياء الجنسي هو الذي أبقى على اليهود وأوقعهم في كثير من المشاكل. وسمَت الوصية الثانية بفكرة الله بقدر ما حطّت من شأن الفن ، إذ حرّمت أن تصور له أية صورة منحوتة. وقد إفترضت هذه الوصية وجود مستوى عقلي راق لدى اليهود ، لأنها نبذت كل الخرافات كما نبذت فكرة تجسد الإله ، وحاولت أن تصور الله منزهاً عن جميع الأشكال والصور بالرغم من الصورة البشرية المحضة التي ترسمها ليهوه أسفار موسى الخمسة. وهي تخص الدين بكل ما تنطوي عليه قلوب العبرانيين من إخلاص وولاء ، ولا تترك فيهما- في الأيام القديمة- مكاناً للعلم والفن. وحتى علم الفلك نفسه قد أهمل أمره لكيلا يزداد عدد الآلهة الزائفين أو تعبد النجوم وتتخذ آلهة من دون الله. وكان في هيكل سليمان قبل ذلك العهد عدد من الصور والتماثيل يكاد يجل عن الحصر ؛ أما الهيكل الجديد فلم يكن فيه شيء منها. ذلك أن التماثيل والصور القديمة قد نقلت من قبل إلى بابل ، ويبدو أنها لم تعد مع ما أعيد من آنية الفضة والذهب. ومن أجل هذا لا نجد نحتاً ولا تصويراً ولا نقشاً بعد الأسر البابلي ، كما لا نجد إلا القليل منها قبل الأسر إذا إستثنينا عهد سليمان الذي يكاد أن يكون عهداً أجنبياً عن العبرانيين. وكل ما كان الكهنة يجيزونه من الفنون فنا العمارة والموسيقى ؛ وكانت الأغاني والمراسم التي تقام في الهيكل هي التي تخفف من أكدار حياة الشعب وشقائه ، فكانت فرقة موسيقية معها مختلف الآلات تنضم إلى جوقة المغنين في ترتيل المزامير ، فتبدو "صوتاً واحداً لتسبيح الرب وحمده" وتمجيد الهيكل: "وداود وكل بيت إسرائيل يلعبون أمام الرب بكل أنواع الآلات من خشب السرو بالعيدان ، وبالرباب ، وبالدفوف ، وبالجنوك ، وبالصنوج". وتنطق الوصية الثالثة بما كان يستمسك به اليهودي من تقى وتدين. فهو لا يحرم عليه أن ينطق باسم الله عبثاً فحسب ، بل يحرم عليه أن ينطق بإسم الله تحريماً مطلقاً ، فإذا ورد إسم يهوه في صلاته وجب عليه أن يستبدل به إسم أدنيه- الرب. ولن نجد لهذه التقوى نظيراً إلا بين الهندوس. وقدست الوصية الرابعة يوم الراحة الأسبوعي- السبت - وصار هذا التقديس سنة من أرسخ السنن البشرية. وهذه التسمية- ولعل هذه العادة نفسها- قد جاءتهم من البابليين. فقد كان هؤلاء يطلقون على الأيام "الحُرُم" أيام الصوم والدعاء إسم شيتو. وكان لديهم فضلاً عن هذه العطلة الأسبوعية أعياد أخري عظيمة منها مواسم كنعانية قديمة للزرع والحصاد ، ومنها أعياد دورية للقمر والشمس: فكان مزوت في بادئ الأمر عيد بداية حصاد الشعير ، و شباؤوث الذي سمي فيما بعد بنتكست عيد ختام حصاد القمح ؛ و سكوث عيد الكروم ، وبساتش أو عيد الفصح عيد بداية نتاج قطعان الضأن ؛ وكان رش- ها- شناه عيد رأس السنة. ولم تعدل هذه الأعياد لتخلد بها حوادث هامة في تاريخ اليهود إلا بعد ذلك الوقت. وكانوا في أول يوم من أيام عيد الفصح اليهودي يذبحون حملاً أو جدياً ويأكلونه ويرشون دمه على الأبواب إشارة على أن هذا الدم هو نصيب الإله ، ثم ربط الكهنة فيما بعد هذه العادة بعادة قتل يهوه لأبناء المصريين البكر. وكان الحمل في أول الأمر طوطماً لإحدى القبائل الكنعانية. وكان عيد الفصح عند الكنعانيين عيد تقريب حمل لأحد الآلهة المحليين وأصبح هذا الطوطم فيما بعد حمل بسكال في الدين المسيحي ، وقيل أنه هو نفسه تخليد ذكرى موت المسيح. ونحن حين نقرأ الآن "في الأصحاح الثاني عشر من سفر الخروج" قصة هذا العيد ، ثم نرى اليهود في هذه الأيام يحتفلون به على النحو الذي كانوا يحتفلون به قديماً ، ندرك قدم هذه العبادة وقوة استمساك هذا الشعب بطقوسه القديمة. والوصية الخامسة تقدس الأسرة وتضعها من حيث بناء المجتمع في منزلة لا تفوقها إلا منزلة الهيكل. وظلت المثل العليا التي طبع بها نظام الأسرة باقية في أوربا طوال تاريخها المتوسط والحديث حتى جاء الإنقلاب الصناعي وأدى إلى انحلالها. لقد كانت الأسرة العبرانية الأبوية نظاماً إقتصادياً وسياسياً ضخماً يتألف من أكبر رجل متزوج فيها ، ومن أزواجه ، وأبنائه غير المتزوجين ، وأبنائه المتزوجين وأزواجهم وأبنائهم ، ومن عبيدهم إن كان لهم عبيد. وكان الأساس الإقتصادي الذي تقوم عليه هذه الجماعة هو قدرتها على زراعة الأرض ؛ أما قيمتها السياسية فتنحصر في أنها كانت تهيئ للبلد نظاماً إجتماعياً بلغ من القوة حداً تكاد الدولة أن تصبح معه لا ضرورة لها إلا في زمن الحرب. وكان للأب على أفراد أسرته سلطاناً لا يكاد يُحد؛ فكانت الأرض ملكاً له ، ولم يكن في وسع أبنائه أن يبقوا على قيد الحياة إلا إذا أطاعوا أمره ؛ فقد كان هو الدولة ، وكان في وسعه إن كان فقيراً أن يبيع إبنته قبل أن تبلغ الحلم لتكون جارية ؛ كما كان له الحق المطلق في أن يزوجها بمن يشاء وإن كان في بعض الأحيان ينزل عن بعض حقه فيطلب إليها أن ترضى بهذا الزواج. وكانت الفكرة الشائعة أن الأولاد من نتاج الخصية اليمنى ، وأن البنات من نتاج الخصية اليسرى، وكانت هذه في إعتقادهم أصغر وأضعف من اليمنى. وكان الزواج في أول الأمر يستتبع إنتقال الزوج إلى دار زوجته ، فقد كان عليه أن "يترك أباه وأمه وينضم إلى زوجته في عشيرتها" ؛ لكن هذه العادة أخذت تزول شيئاً فشيئاً بعد تأسيس الملكية. وكانت أوامر يهوه إلى الزوجة هي: "ستكون رغبتك لزوجك ، وسيكون له الحكم عليك". ومع أن المرأة كانت من الوجهة الرسمية خاضعة للزوج ، فإنها كانت في الواقع ذات كرامة وذات سلطان كبير ؛ وقد إشتهرت في تاريخ اليهود أسماء سيدات مثل سارة ، وراحيل ، ومريم ، وإستر ؛ وكانت دبورة إحدى قضاة إسرائيل. وكانت النبية خلدة هي التي إستشارها يوشيا في أمر الكتاب الذي وجده الكهنة في الهيكل. وكانت الأم الولود تضمن لنفسها الطمأنينة والكرامة، ذلك بأن هذه الأمة الصغيرة كانت تتوق إلى زيادة عددها، لأنها تشعر كما تشعر اليوم في فلسطين بما يتهددها من الخطر وسط الأقوام المحيطين بها. ومن أجل هذا كانت ُتعلي من شأن الأمومة ، وترى العزوبة خطيئة وجريمة ، وتجعل الزواج إجبارياً بعد سن العشرين ، لا تستثني من ذلك الكهنة أنفسهم ، وتزدري العذارى اللاتي في سن الزواج ، والنساء العاقرات ، وتنظر إلى الإجهاض وقتل الأطفال وغيرهما من وسائل تحديد النسل على أنها من أعمال الكفرة البغيضة التي تؤذي خياشيم الرب: "فلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها وقالت ليعقوب هب لي بنين وإلا فأنا أموت"(. وكانت الزوجة الكاملة هي التي لا تنقطع عن الكد في بيتها وحوله ، ولا تفكر إلا في زوجها وأطفالها. وفي الأصحاح الأخير من سفر الأمثال وصف للمرأة المثالية كما يراها الرجل: "إمرأة فاضلة من يجدها لأن ثمنها يفوق اللآلئ ، بها يثق قلب زوجها قلا يحتاج إلى غنيمة ، تصنع له خيراً لا شراً كل أيام حياتها ، تطلب صوفاً وكتاناً ، وتشتغل بيدين راضيتين ، هي كسفن التاجر تجلب طعامها من بعيد ، وتقوم إذ الليل بعد ، وتعطي أكلاً لأهل بيتها وفريضة لفتياتها ، تتأمل حقلاً فتأخذه وبثمر يديها تغرس كرماً ؛ تنطق حقويها بالقوة وتشدد ذراعيها ، تشعر أن تجارتها جيدة ، سراجها لا ينطفئ في الليل ، تمد يديها إلى المغزل وتمسك كفاها بالفلكة ، تبسط كفيها للفقير وتمد يديها إلى المسكين. لا تخشى على بيتها من الثلج لأن كل أهل بيتها لابسون حللاً ، تعمل لنفسها موشيات ، لبسها البز وأرجوان ، زوجها معروف في الأبواب حين يجلس بين مشايخ الأرض ، تصنع قمصاناً وتبيعها ، وتعرض مناطق على الكنعاني ، العز والبهاء لباسها ، وتضحك على الزمن الآتي ، تفتح فمها بالحكمة وفي لسانها سنة المعروف ، تراقب طرق أهل بيتها ولا تأكل خبز الكسل ، يقوم أولادها ويطربونها ، ويقوم زوجها أيضاً فيمدحها ، بنات كثيرات عملن فضلاً ، أما أنتِ ففقتِ عليهن جميعاً ، الحسن غش والجمال باطل ؛ أما المرأة المتقية الرب فهي تمدح ، أعطوها من ثمر يديها ، ولتمدحها أعمالها في الأبواب". والوصية السادسة مبدأ مثالي صعب المنال. ذلك أننا لا نرى في كتاب ما نراه في أسفار العهد القديم من حديث عن التقتيل والتدمير ، ففصوله كلها ما بين وصف لمذابح وتناسل لتعويض آثارها. لقد كان النزاع بين الأسباط ، والإنقسامات الحزبية ، وعادة الأخذ بالثأر المتوارثة ، كل هذه كانت لا تبقي على فترات السلم المنقطعة المملة إلا قليلاً. ولم يكن أنبياء إسرائيل من دعاة السلم رغم ما جاء في بعض أقوالهم من تمجيد للمحاريث ومناجل التشذيب. وكان الكهنة أنفسهم- إذا جاز لنا أن نحكم عليهم من خطبهم التي يُنطقون بها يهوه- مولعين بالحروب ولعهم بالمواعظ. ولقد قتل ثمانية من ملوك إسرائيل التسعة عشر. وكانت العادة المتبعة أن تدمر المدن التي يستولون عليها في حروبهم ، وأن تقطع بحد السيف رقاب جميع الذكور من سكانها ، وأن تتلف الأرض حتى لا تصلح للزرع إلا بعد زمن طويل ، شأنهم في هذا شأن الناس في تلك الأيام. ولعل أعداد القتلى الواردة في أقوالهم كان يبالغ فيها كثيراً. فليس من المعقول مثلا أن "يقتل بنو إسرائيل من الآراميين مائة ألف رجل في يوم واحد" بغير آلات الحرب الحديثة. وكان إعتقادهم أنهم شعب الله المختار سبباً في إزدياد الكبرياء الطبيعي في أمة تشعر بما لها من مواهب متفوقة ، كما كان سبباً في تقوية ما لديهم من نزعة إلى إعتزال غيرهم من الشعوب من الوجهتين العقلية والروحية ، وفي حرمانهم من أن ينظروا إلى الأمور نظرة أممية كان أبناؤهم جديرين بأن يصلوا إليها. لكنهم مع ذلك بلغوا درجة عظيمة من الفضائل المتصلة بصفاتهم هم أنفسهم ، وكان منشأ عنفهم هو ما كانوا يتصفون به من حيوية عارمة جامحة ؛ وكانت عزلتهم ناشئة من تقواهم ، كما كان ميلهم إلى الخصام والتذمر ناشئاً من حساسيتهم القوية التي أمكنتهم من إنتاج أعظم آداب الشرق الأدنى ؛ وكان كبرياؤهم العنصري أقوى سند لشجاعتهم في خلال قرون التعذيب الطوال. ذلك أن الناس يكونون كما تضطرهم الظروف أن يكونوا. والوصية السابعة تعترف بأن الزواج هو الأساس الذي تقوم عليه الأسرة ، كما تعترف الخامسة بأن الأسرة هي أساس المجتمع ، وهي تضفي على الزواج كل ما يستطيع الدين أن يضفي عليه من عون. ولا تذكر شيئاً عن العلاقات الجنسية قبل الزواج ، ولكن ثمة أنظمة أخري تحتم على الفتاة أن تثبت أنها عذراء في يوم زواجها وإلا رجمت حتى تموت. ولكن الزنا كان رغم هذا منتشراً بين اليهود ، ويلوح أن اللواط لم ينقطع بعد تدمير سدوم وعمورة. ولما كان القانون فيما يلوح لم يحرم الإتصال بالعاهرات الأجنبيات ، فإن السوريات ، والموآبيات والمَدْينيات وغيرهن من "النساء العازبات" إنتشرن في الطرق العامة ، حيث كن يعشن في مواخير وخيام ، ويجمعن بين الدعارة وبيع مختلف السلع الصغيرة. ولما كان سليمان لا يتشدد كثيراً في هذه الأمور ، فإنه قد تساهل في تطبيق القانون الذي كان يحرم على تلك النساء السكنى في أورشليم ؛ وسرعان ما تضاعف عددهن حتى كان الهيكل نفسه في أيام المكابيين ماخوراً للزنا والفجور كما وصفه مصلح غضوب. ويلوح أن الحب كان له عندهم نصيب ، فقد "خدم يعقوب براحيل سبع سنين ، وكانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها" ، ولكن الحب لم يكن له إلا شأن قليل في إختيار الأزواج. وكان هذا الزواج قبل نفي بني إسرائيل من الأمور المدنية المحضة ، يعقده أبوا الزوجين أو يعقده الخطيب وأبو العروس. وفي أسفار العهد القديم شواهد على زواج السبايا ؛ ويجيز يهوه الزواج من سبايا الحروب ، ولما نقص عدد النساء أوصى الكبار "بني بنيامين قائلين إمضوا وإكمنوا في الكروم ، وأنظروا فإذا خرجت بنات شيلوه ليدرن في الرقص فأخرجوا أنتم من الكروم وإخطفوا لأنفسكم كل واحد امرأته من بنات شيلوه وذهبوا إلى أرض بنيامين". ولكن هذه الخطة كانت من الخطط النادرة ، أما السنة المألوفة فكانت سنة الزواج بطريق الشراء ، فقد ابتاع يعقوب ليئة وراحيل بعمله. وإشترى بوعز راعوثَ اللطيفة شراء سافراً. وكان ممن أشد ما ندم عليه النبي هوشع أنه إبتاع زوجته بخمسين شاقلاً. وكان الاسم الذي يطلقه العبرانيون على الزوجة وهو "بولة" يعني "المملوكة". وكان والد الزوجة يعطيها في مقابل ما يتقاضاه ثمناً لها بائنة - وهو نظام يفيد أعظم فائدة في تضييق الثغرة الفاصلة بين نضج الأبناء الجنسي ونضجهم الإقتصادي في حضارة المدن ، وهي ثغرة مفككة للمجتمع. وإذا كان الرجل ثرياً أبيح له أن يتزوج بأكثر من واحدة ؛ وإذا كانت الزوجة عاقراً ، مثل سارة ، أشارت على زوجها بأن يتخذ له خليلة. وكان الهدف الذي ترمي إليه هذه السنن هو تكثير النسل. وكان طبيعياً لديهم أن تقدم راحيل وليئة خادماتهما إلى يعقوب بعد أن ولدتا له كل ما تستطيعان أن تلدا من الأبناء ، لكي يلدن له هن أيضاً أبناء. ولم يكن يسمح للمرأة بأن تظل عقيماً ؛ ومن أجل ذلك فإن الأخ إذا مات أخوه كان يحتم عليه أن يتزوج أرملته مهما كان عدد زوجاته ؛ فإذا لم يكن للميت أخ فرض هذا الواجب على أقرب الأحياء من أسرته. ولما كانت الملكية الفردية أساس النظام الإقتصادي اليهودي فقد كان لكل من الرجل والمرأة معيار خلقي خاص. فللرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة ، أما المرأة فكانت تختص برجل واحد. وكان معنى الزنى عندهم إتصال رجل بامرأة إبتاعها رجل آخر بماله ؛ ومن أجل ذلك كان إتصاله بها إعتداء على قانون الملكية تعاقب عليه المرأة والرجل بالإعدام. وكان الفسق محرماً على المرأة غير المتزوجة ، أما الرجل غير المتزوج فقد كان عمله هذا ذنباً يغتفر له. وكان الطلاق مباحاً للرجل، ولكنه كان قبل أيام التلمود من أشق الأمور على المرأة. ويلوح أن الزوج لم يسرف في إساءة استعمال ماله من ميزة على المرأة في هذه الناحية ، فهو يصور لنا على أنه في الجملة إنسان مخلص لزوجته وأبنائه ، غيور عليهم ، وكثيرا ما كان الزواج يثمر حبَّاً وإن لم يكن الحب هو الذي يقرر الزواج. "وأخذ إسحق رفقة فصارت له زوجة وأحبها، فتعزى إسحق بعد موت أمه". ولعل الحياة في الأسرة لم تصل في أي شعب آخر- إذا إستثنينا شعوب الشرق الأدنى- إلى ذلك المستوى الراقي الذي وصلت إليه عند اليهود. والوصية العاشرة تقدس الملكية الفردية ، وكانت هي والدين والأسرة الأسس الثلاثة التي قام عليها المجتمع العبري. وتكاد الملكية كلها تنحصر في ملكية الأرض ، ذلك أن اليهود قبل أيام سليمان قلما كان لديهم شيء من الصناعات غير صناعتي الخزف والحديد. وحتى الزراعة نفسها لم ترق رقياً كبيراً ، وكانت الكثرة العظمى من الشعب منصرفة إلى تربية الضأن والماشية ، وزراعة الكروم والزيتون والتين. وكانت أغلب معيشتهم في الخيام لا في البيوت المبنية ، حتى لا يجدوا صعوبة في إنتجاع مراعي جديدة. ولما نمت ثروتهم وزاد ما ينتجونه على حاجتهم بدءوا يتجرون ، وأخذت السلع اليهودية تروج في دمشق وصور وصيدا وحول الهيكل نفسه بفضل ما إتصف به التجار اليهود من مهارة وصبر على المشاق. وظلوا إلى ما قبل أيام الأسر لا يستخدمون نقوداً ، وكان الذهب والفضة أساس التبادل عندهم وكانا يوزنان في كل عملية تجارية. وقامت بينهم مصارف كثيرة العدد لتمويل التجارة والمشروعات الإقتصادية. ولم يكن غريبا أن يتخذ هؤلاء "المقرضون" ساحات الهيكل موضعاً لعملهم ، فقد كانت هذه عادة شائعة في الشرق الأدنى ، ولا تزال باقية في كثير من أقطاره إلى هذا اليوم. وكان يهوه يطل من عليائه مغتبطا بسلطان رجال المال المتزائد ، ومن أقواله في هذا المعنى: " فتقرض أمماً كثيرة وأنت لا تقترض". وهي فلسفة كريمة جمعت لليهود ثروة طائلة ، وإن لم يبد في هذا القرن أنها من وحي الدين. وكان اليهود يتخذون أسرى الحروب والمذنبين عبيداً لهم ، وشأنهم في هذا شأن غيرهم من أمم الشرق الأدنى: ويستخدمون مئات الآلاف منهم في قطع الأخشاب ونقل مواد البناء للمنشآت العامة كهيكل سليمان وقصره. ولكن السيد لم يكن له على عبيده حق الحياة والموت ، كما كان من حق العبد أن يمتلك المال ويبتاع به حريته. وكان يباح بيع الرجال المدينين ليكونوا خدماً أرقّاء إذا عجزوا عن أداء ديونهم ، وكان في وسعهم أن يبيعوا أبناءهم بدلا منهم. وقد بقيت هذه العادة إلى أيام المسيح ، غير أن الصدقات السخية وما كان يقوم به الكهنة والأنبياء من حملات عنيفة على إستغلال هؤلاء الأرقاء قد خففت في بلاد اليهود من آثار هذه النظم التي كانت منتشرة في بلاد الشرق الأدنى. وكان من القواعد الواردة في شريعة موسى: "ألا يغبن أحدكم أخاه" ، كما أنها كانت تطلب إليهم أن يطلقوا سراح الأرقاء من العبرانيين وأن يلغوا ما عليهم من الديون كل سبع سنين . ولما تبين أن هذا الأمر أكثر مما يطيقه سادة هؤلاء الأرقاء جاء القانون بسنة العيد الخمسيني ، فكان كل العبيد والمدينين يعتقون كل خمسين سنة: "وتقدسون السنة الخمسين وتنادون بالعتق في الأرض لجميع سكانها. تكون لهم يوبيلاً وترجعون كل إلى مالكه وتعودون كلّ إلى عشيرته. وليس لدينا ما يدل على أن هذه الوصية الجميلة قد أطيعت، وسواء كان ذلك أو لم يكن فإننا يجب أن نقر بالفضل للكهنة الذين لم يتركوا درساً في الإحسان إلا علموه: "إن كان فيك فقير أحد من أخوتك.. فلا تقس قلبك ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير، بل افتح يدك له، واقرضه مقدار ما يحتاج إليه"، "لا تأخذ منه ربا ولا مرابحة". ويجب أن تشمل عطلة السبت كل العاملين ، بل يجب أن تشمل الحيوانات نفسها فتترك ما عساه أن يكون على الأرض من النبات المقطوع والفاكهة الساقطة من الأشجار في الحقول والبساتين يجمعها الفقراء لأنفسهم. ومع أن اليهود هم الذين كانوا مقصودين بهذه الصدقات فإن الفقير الذي عند الأبواب يجب أن يعامل هو الآخر معاملة طيبة رحيمة ، وأن يؤوى الغريب ويطعم ويعامل معاملة كريمة. وكان اليهود يؤمرون في كل حين بأن يذكروا أنهم هم أيضاً كانوا في وقت من الأوقات لا مأوى لهم بل أنهم كانوا عبيداً أرقاء في أرض غير أرضهم. وكانت الوصية التاسعة تطلب أن يكون الشهود شرفاء أمناء إلى أقصى حد ، وبذلك جعلت الدين عماداً للشريعة اليهودية بقضها وقضيضها. لقد كان الشاهد يقسم اليمين في حفل ديني، ولم يكن يكتفي بأن يضع المقسم يده على عورة من يقسم له كما كانت العادة قديماً ، بل كان يطلب إليه الآن أن يشهد الله نفسه على صدقه ، وأن يُحَكّمه في أمره. وكان القانون ينص على أن يعاقب شاهد الزور بنفس العقاب الذي كان يراد توقيعه على المتهم بالاستناد إلى شهادته. لقد كانت شريعة إسرائيل كلها هي الشريعة الدينية وحدها ، وكان الكهنة هم القضاة والهياكل هي المحاكم، وكان يحكم بالإعدام على من لا يخضعون لأحكام الكهنة. وكانت هناك حالات خاصة يترك الحكم فيها لله ، وذلك بأن يشرب المتهم ماء ساماً إذا كانت جريمته مشكوكاً فيها. ولم تكن لديهم أداة لتنفيذ القانون سوى الأداة الدينية وحدها؛ فكان تنفيذه يترك إلى ضمير المتهم وإلى سلطان الرأي العام ، وكانت بعض الجرائم الصغرى يكفر عنها بالإعتراف والفداء. وكانت جرائم القتل وخطف الآدميين ؛ وعبادة الأوثان ، والزنا ، وضرب أحد الوالدين أو سبهما ، وسرقة العبيد ، أو "مضاجعة بهيمة" يحكم فيها بالإعدام بأمر يهوه ، وأما قتل الخادم فلا يعاقب عليه بالإعدام ؛ كذلك كان الإعدام عقاباً على السحر: "لا تدع ساحرة تعيش". وكان يرضى يهوه أن يقوم الأفراد أنفسهم في تنفيذ القانون في حالة القتل: "ولي الدم يقتل القاتل ، حين يصادفه يقتله". على أنهم كانوا يفردون بعض المدن يستطيع المجرم أن يفر إليها ، فإذا فعل كان على ولي الدم أن يؤجل ثأره. وفي وسعنا أن نقول بوجه عام أن المبدأ الذي كان يقوم عليه العقاب هو قانون القصاص: "وإن حصلت أذية تُعطى نفساً بنفس ، وعيناً بعين ، وسناً بسن ، ويداً بيد ، ورجلاً برجل ، وكيَّاً بكي ، وجرحاً بجرح ، ورضَّاً برض. وما من شك في أن هذه المبادئ كانت ُمثلاً ُعليا لم تتحقق كلها على الوجه الأكمل ، وإذا شئنا أن نقول كلمة عامة عن قانون اليهود الجنائي ، قلنا إن هذا الجزء من القانون لا يفضل قانون حمورابي ، وإن كان قد كُتب بعده بألف وخمسمائة سنة على الأقل. أما من حيث تنظيم القضاء نفسه فإن فيه رجوعاً كثيراً إلى الوراء ، لأنه يعود بهذا التنظيم إلى السيطرة الكهنوتية البدائية. ويتضح لنا من الوصية العاشرة كيف كانوا ينظرون إلى المرأة على أنها جزء من متاع الرجل: "لا تشته امرأة قريبك ، ولا عبده ولا أمته، ولا ثوره ولا حماره ، ولا شيئاً مما لقريبك". ولكنها مع هذا كانت تحوي مبادئ قيمة عظيمة ، لو تقيد الناس بها لنجا العالم من نصف ما فيه من قلق وإضطراب. ومن أعجب الأمور أن أفضل الوصايا كلها لم تكن بين هذه الوصايا العشر ، وإن كانت جزءاً من "الشريعة" الموسوية. ونقصد بذلك ما ورد في الآية الثامنة عشرة من الأصحاح التاسع عشر من سفر اللاويين تائهاً بين "طائفة من القوانين المتكررة المختلفة الأنواع" ولا يزيد نصها على هذه العبارة: "تحب قريبك كنفسك" . وقصارى القول أن الوصايا العشر شريعة سامية ، فيها من العيوب ما لا يزيد على عيوب العصر الذي وضعت فيه ، ولكن فيها من الفضائل ما لا يوجد في غيرها من الشرائع. ومن واجبنا أن نذكر على الدوام أنها كانت قانوناً لا أكثر ، بل أن نذكر فوق هذا أنها كانت: "طوبى كهنوتية" ، ولم تكن وصفاً صادقاً للحياة اليهودية. وكانت ككل القوانين تعظم في عين أصحابها حين يخرقونها، ويمتدحونها كلما إعتدوا عليها ، ولكن أثرها في سلوك أصحابها لم يكن يقل عن أثر معظم الشرائع القضائية أو الأخلاقية. وكان من أهم آثارها أنها جعلت لليهود في خلال تجوالهم الذي بدأ عقب وضعها بزمن قليل ، والذي دام ألفي عام ، "وطنا يحملونه معهم" كما سماه هين Heine فيما بعد ، ودولة روحية لا تراها العين ولا تلمسها اليد ، وضمت شملهم رغم تشتتهم وأبقت لهم كبرياءهم رغم هزائمهم ، وأوصلتهم خلال القرون الطوال إلى وقتنا هذا وهم شعب قوي يبدو لنا أنه لن يبيد أبداً.


أدب التوراة وفلسفتها

ليس العهد القديم شريعة فحسب ، بل هو فوق ذلك تاريخ ، وشعر ، وفلسفة من الطراز الأول. وإذا ما أنقصنا من قيمة الكتاب ما فيه من أساطير بدائية ، ومن أغلاط مبعثها صلاح الكاتبين وتقواهم ، وأقررنا أن ما فيه من أسفار تاريخية لا تبلغ من الدقة أو من القدم ما كان أجدادنا السابقون يفترضونه فيها ، إذا ما فعلنا هذا كله فإنا لا نجد في الكتاب طائفة من أقدم الكتابات التاريخية فحسب ، بل نجد فيه كذلك طائفة من أجمل تلك الكتابات. ولربما كانت أسفار القضاة وصموئيل والملوك قد وضعت على عجل ، كما يعتقد بعض العلماء ، وفي أثناء السبي أو بعده بقليل ليجمع فيها واضعوها التقاليد القومية لشعب مشتت كسير ، ويحتفظوا بها على مدى القرون ؛ ولكن قصة شاؤل و داود و سليمان تفوق في جمال مبناها وأسلوبها غيرها من الكتابات التاريخية في الشرق الأدنى القديم. بل إن سفر التكوين نفسه- إذا استثنينا منه ما فيه من سلاسل الأنساب، وقرأناه ونحن ندرك الهدف الذي ترمي إليه الأقاصيص- إن هذا السفر نفسه لهو قصة ممتعة عظيمة، قُصَّت علينا من غير حواش ولا زينة في بساطة ووضوح وقوة. ولسنا نجد فيها تاريخاً فحسب، بل نجد فيها نوعاً من فلسفة التاريخ. ذلك أنها أول ما دوّن من الجهود التي بذلها الإنسان ليؤلف من الحوادث الماضية التي لا عداد لها وحدة متناسقة بالبحث عما يسري فيها من وحدة في الغرض ، ومن مغزى ، ومن تتابع العلة والمعلول على نحو ما ، ومن إيضاح لحاضر الأشياء ومستقبلها. ولقد بقيت فكرة التاريخ - كما تصورها الأنبياء والكهنة واضعو أسفار موسى الخمسة - ألف عام بعد اليونان والرومان ، وأصبحت آراء عالمية يعتنقها المفكرون الأوربيون من بوثيوس Boethius إلى بوسويه Bossuet. والقصص الغرامية الساحرة الواردة في التوراة وسط بين التاريخ والشعر. وليس في المنثور من الكتابة ما هو أدنى إلى الكمال من قصة راعوث ؛ ولا تقل عنها كثيراً قصة إسحق ورفقة ، ويعقوب وراحيل ، ويوسف وبنيامين ، وشمشون ودليلة ، وإستر ، ويهوديت ودانيال. ويبدأ الأدب الشعري "بنشيد موسى" (سفر الخروج الفصل الخامس عشر) و "نشيد دبورة" (القضاة الفصل الخامس عشر) ويبلغ ذروته في المزامير. وكانت ترانيم "التوبة" البابلية هي التي مهدت السبيل إلى هذه الأناشيد ، ولعل أناشيد اليهود قد أخذت منها مادتها كما أخذت عنها صورتها. ويخيل إلينا أن قصيدة إخناتون في الشمس كانت ذات أثر في المزمور الخامس والخمسين بعد المائة. وأكبر الظن أن المزامير ليست كلها من وضع داود وحده بل من وضع طائفة من الشعراء كتبوها بعد الأسر اليهودي بزمن طويل ، ويغلب أن يكون ذلك في القرن الثالث قبل المسيح. على أن هذا البحث التاريخي كله لا يعنينا كما لا يعنينا إشتقاق إسم شكسبير أو المصادر التي إستمد منها مسرحياته ؛ إنما الذي يعنينا هو أن المزامير تحتل المكان الأول في شعر العالم الغنائي. ولم يكن يقصد بها أن يطالعها الإنسان في جلسة واحدة ، أو أن يطالعها مطالعة الناقد المدقق ؛ بل إن أجمل ما فيها أنها تصف لحظات من نشوة التقى والهيام الروحي والإيمان القوي المحرك للعواطف. ولكنها يفسدها علينا ما فيها من لعنات مريرة ، و "تأوهات" وشكايات مملة ، وملق لا ينتهي ليهوه الذي يصب الدخان صباً من خياشيمه والنار من فمه (المزمور الثامن) ، ويتوعد الأشرار بالحرق في نار الجحيم (المزمور التاسع). يتقبل الملق ويهدد "بقطع جميع الشفاه الملقة" (المزمور الثاني عشر). والمزامير مليئة بالحماسة الحربية البعيدة كل البعد عن الروح المسيحية ، ولكنها مع ذلك تسري فيها روح الحجيج المجاهدين. على أن من المزامير ما يفيض رحمة وحناناً وما يعد مثلا في الخضوع والتذلل: "إننا تراب نحن ... الإنسان مثل العشب أيامه ، كزهر الحقل كذلك يزهر ، لأن ريحاً تعبر عليه فلا يكون ولا يعرفه موضعه بعد" (المزموران 39 ، 103). ونحس في هذه الأناشيد بأوزان الشعر الشرقي القديم ونكاد نسمع فيها أصوات المرنمين وهم يردون على المنشدين. وليس في الشعر كله ما يفوقه في تشبيهاته وتصويره ، وليس ثمة ما يضارعه في قوة تعبيراته ووضوحها. ولهذه القصائد في نفوسنا من الأثر ما يفوق أثر أية أغنية من أغاني الحب ، فهي تحرك أقسى العواطف وأكثر النفوس شكاً ، لأنها تعبر في صورة عاطفية قوية عما في العقل الناضج من شوق إلى نوع من الكمال يهب له كل جهوده. وتقابلنا في أماكن متفرقة من الترجمة الإنجليزية التي صدرت في عهد الملك جيمس عبارات بليغة جرت على لسان جميع الناطقين باللغة الإنجليزية كقولهم: Out of the Mouths of babes (من أفواه الأطفال والرُّضَّع في المزمور الثامن) ، The apple of the eye (حدقة العين في المزمور السابع عشر)، Trust not in princes (لا تتكلوا على الرؤساء- المزمور السادس والأربعون بعد المائة). وفي الأصل العبراني تشبيهات وإستعارات لم تفقها تشبيهات واستعارات في أية لغة من اللغات. انظر إلى قوله في المزمور التاسع عشر ، إن الشمس المشرقة: "مثل العروس الخارج من حجلته يبتهج مثل الجبار للسباق". ولا يسعنا إلا أن نتصور ما لهذه الأناشيد من جلال وجمال في لغتها الأصلية الطنانة الرنانة. وإذا ما وضعنا إلى جانب هذه المزامير "نشيد سليمان" لاح لنا ما في الحياة اليهودية من عنصر شهواني دنيوي ، لعل ُكتَّاب العهد القديم- وهم الذين يكادون كلهم أن يكونوا من الأنبياء والكهنة- قد أخفوه عنا ، كما يكشف سفر الجامعة عن تشكك لا نتبينه فيما عنى الكتاب بإختياره ونشره من أدب اليهود الأقدمين. وفي هذه الكتابات الغرامية العجيبة مجال واسع للحدس والتخمين. فقد تكون مجموعة من الأغاني البابلية الأصل ، تشيد بذكر إشتار و تموز ، وقد تكون من وضع جماعة من شعراء الغزل العبرانيين تأثروا بالروح الهيلينية التي دخلت إلى بلاد اليهود مع الإسكندر الأكبر (لأن في هذه الأغاني ألفاظاً مأخوذة من اللغة اليونانية)، أو قد تكون زهرة يهودية ترعرعت في الإسكندرية وقطفتها نفس محررة من ضفاف النيل (وذلك لأن العاشقَين يخاطب أحدهما الآخر بقوله أخي أو أختي كما يفعل المصريون الأقدمون). ومهما يكن أصلها فإن وجودها في التوراة سر خفي ولكنه سر ساحر جميل. ولسنا ندري كيف غفل- أو تغافل- رجال الدين عما في هذه الأغاني من عواطف شهوانية فأجازوا وضعها بين أقوال إشعيا والخطباء:


صرة المر حبيبي لي ، بين ثديي يبيت

طاقة فاغبة حبيبي لي في كروم عين جدي

ها أنت جميلة يا حبيبتي ، ها أنت جميلة ، عيناك حمامتان

ها أنت جميل يا حبيبي وحلو وسريرنا أخضر ...

أنا نرجس شارون سوسنة الأودية ...

أسندوني بأقراص الزبيب ، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة جداً.

أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول إلا تيقظنّ

ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء ...

حبيبي لي وأنا له الراعي له بين السوسن

إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال. إرجع وأشبه يا حبيبي الظبي


أو غُفر الأيائل على الجبال المشعبة ...

تعال يا حبيبي لنخرج إلى الحقل ولنبت في القرى

لنبكرنّ إلى الكروم لننظر هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعال؟ هل

نوّر الرمان؟ هنالك أعطيك حبي.


هذا هو صوت الشباب أما الأمثال فصوت الشيوخ. إن الناس يتطلبون كل شيء من الحب والحياة ؛ وهم ينالون ما يتطلبون إلا قليلاً ، ولكنهم يظنون أنهم لم ينالوا شيئا ؛ وتلك هي المراحل الثلاث التي يتنقل فيها الإنسان المتشائم. وهكذا ترى هذا السليمان الأسطوري يحذر الشباب من شر المرأة. "لأنها طرحت كثيرين جرحى ، وكل قتلاها أقوياء ... أما الزاني بإمرأة فعديم العقل ... ثلاثة عجيبة فوقي وأربعة لا أعرفها: طريق نسر في السموات ، وطريق حية على صخر ، وطريق سفينة في قلب البحر ، وطريق رجل بفتاة". وهو يتفق مع القديس بولص في أن أفضل للإنسان أن يتزوج من أن يحترق! "افرح بإلإمرأة شبابك ، الظبية المحبوبة ، والوعلة الزهية ، ليروك ثدياها في كل وقت ، وبمحبتها إسكر دائماً ... أكلة من البقول حيث تكون المحبة خير من ثور معلوف ومعه بغضة". بحقك هل هذه ألفاظ من كانت له سبعمائة زوجة؟ ويلي الكسلُ الدنسَ في البعد عن الحكمة: "إذهب إلى النملة أيها الكسلان ... إلى متى تنام أيها الكسلان؟". "أرأيت رجلاً مجتهداً في عمله؟- أمام الملوك يقف". ولكن هذا الفيلسوف لا يطيق الإسراف في الطمع: "المستعجل إلى الغنى لا يبرأ"، و"راحة الجهّال تبيدهم" والعمل هو الحكمة ، أما الكلام فحمق وسخف: "في كل تعب منفعة ، وكلام الشفتين إنما هو إلى الفقر" ... "الجاهل يظهر كل عبطه ، والحكيم يسكنه أخيراً" ، "ذو المعرفة يبقى كلامه وذو الفهم وقور الروح ، بل الأحمق إذا سكت يحسب حكيماً ومن ضمّ شفتيه فهيماً". ومن النصائح التي لا ينفك ذلك الحكيم يرددها حكمة تكاد تنطبق ألفاظها على وصف سقراط للفضيلة والحكمة ، تفوح بعطر مدارس الإسكندرية حيث كان علم اللاهوت العبري يمتزج بالفلسفة اليونانية لتخرج لنا من مزيجهما العقلية الأوربية: "الفطنة ينبوع حياة لصاحبها ، وتأديب الحمقى حماقة ... طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم ، لأن تجارتها خير من تجارة الفضة ، وربحها خير من الذهب الخالص ، هي أثمن من اللآلئ وكل جواهرك لا تساويها ، في يمينها طول أيامك وفي يسارها الغنى والمجد ، طرقها طرق نعم ، وكل مسالكها سلام". وسِفر أيوب أسهل من سِفر الأمثال ؛ ولعل ذلك السِفر قد كتب في أيام السبي ، ولعله يصف بطريق القياس الأَسْر البابلي ويقول فيه كارليل وهو من أشد الناس تحمسا له: "وأنا أقول عنه أنه من أعظم ما خط بالقلم ... فهو كتاب نبيل ؛ وهو كتاب الناس أجمعين! وهو أول وأقدم شرح لتلك المشكلة التي لا آخر لها - مشكلة مصير الإنسان وتصرف الله معه على ظهر هذه الأرض ... واعتقادي أن لا شيء في التوراة أو في غير التورات يضارعه في قيمته الأدبية"(230أ) وقد قامت هذه المشكلة بسبب إهتمام العبرانيين بأمور هذه الدنيا. ذلك أنه لما كانت الجنة لا وجود لها في الديانة اليهودية القديمة ، فقد كان من الواجب المحتم أن تنال الفضيلة ثوابها في هذا العالم ، وإلا لم يكن لها ثواب على الإطلاق. ولكنهم كثيراً ما كان يبدو لهم أن الأشرار ينجحون ويفوزون ، وأن أشد الآلام قد إختص بها خيار الناس ، فَلِمَ إذن كما يقول كاتب المزامير: "هؤلاء هم الأشرار يكثرون ثروة"؟ ولِمَ يخفي الله نفسه ولا يعاقب الأشرار ويثيب الأخيار؟ ، وها هو ذا مؤلف سفر أيوب يسأل هذه الأسئلة وهو أكثر ممن سبقه عزماً وثباتاً ولعله يعرض بطله أمام الناس رمزاً لعقيدته. ولقد كان بنو إسرائيل كلهم يعبدون يهوه (في فترات متقطعة) كما كان يعبده أيوب ، وكانت بابل تجحده وتكفر به ؛ ومع ذلك فقد إزدهرت بابل ، وتمرغ بنو إسرائيل في الوحل ، ولبسوا الخيش حين أسروا وشردوا. فماذا يقول الإنسان في هذا الإله؟ وجاء في مقدمة لهذا السفر ، لعل كاتباً أريباً قد دسها فيه ليمحو منه تلك الوصمة ، أن الشيطان قال ليهوه أن أيوب إنسان "كامل مستقيم" لأنه رجل محظوظ ، فهل يستمسك بتقواه إذا أصابه الضر؟ فيسمح يهوه للشيطان بأن يصب ألوانا من المصائب على رأس أيوب. ويظل البطل وقتاً ما صابراً "صبر أيوب" ولكن صبره هذا يفارقه في آخر الأمر ، ويفكر في الإنتحار ، ويلوم ربه أشد اللوم لأنه نبذه وتخلى عنه. ويصر صوفَر- وقد خرج ليستمتع بآلام صديقه- على أن الله عادل وأنه سيثيب الإنسان الصالح في هذه الدنيا نفسه ا؛ ولكن أيوب يقطع عليه حديثه محتداً: "إنكم أنتم شعب ومعكم تموت الحكمة ، غير أنه لي فهم مثلكم ، لست أنا دونك م، ومن ليس عنه مثل هذه!... خيام المُخَرّبين مستريحة والذين يغيظون الله مطمئنون؛ الذين يأتون بإلههم في يدهم ... هذا كله رأته عيني، سمعته أذني وفطنت به ... أما أنتم فملفقو كذب أطباء بطالون كلكم. ليتكم تصمتون صمتاً ، يكون ذلك لكم حكمة". ثم يفكر في قصر الحياة وطول الموت فيقول: "الإنسان مولود المرأة قليل الأيام وشبعان تعباً ، يخرج كالزهر ثم ينحسم ، ويبرح كالظل ولا يقف ... لأن للشجرة رجاء أن قطعت تخلف ولا تعدم حراً عيبها ... أما الرجل فيموت ويبلى ؛ الإنسان يسلم الروح فأين هو؟ قد تنفد المياه من البحر ، والنهر ينشف ويجف ، والإنسان يضطجع ولا يقوم..أن مات رجل أفيحيا؟". ويظل الجدل قائماً بشدة ، ويزداد شك أيوب بربه ، حتى يدعوه خصيمه ، ويتمنى أن يهلك خصمه هذا نفسه بكتاب يكتبه- على نمط فسلفة ليبنتز Leibnitz وأقواله في العدالة الإلهية. وتوحي العبارة التي جاءت في ختام هذا الفصل"تمت أقوال أيوب"- بأن هذا كان في الأصل ختام حديث يمثل كما يمثل سفر الجامعة آراء أقلية جاحدة بين اليهود. ولكن فيلسوفاً آخر- إليهو- يبدأ الكلام من هذه النقطة ويشرح في مائة وخمس وستين آية عدالة الله في خلقه. وأخيراً يُسمع صوت من بين السحاب يتحدث حديثاً هو أجل ما في التوراة كلها. فأجاب الرب أيوب من العاصفة وقال: "من هذا الذي يظلم القضاء بكلام بلا معرفة. إشدد الآن حقويك كرجل فإني أسألك فتعلمني. أين كنت حين أسستُ الأرض. أخبر إن كان عندك فهم من وضع قياسها ، لأنك تعلم؟ أو من مد عليها مطماراً؟ على أي شيء قرت قواعدها؟ أو من وضع حجر زاويتها ، عندما ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بنى الله؟ ومن حجز البحر بمصاريع حين إندفق فخرج من الرحم ، إذ جعلت السحاب لباسه والضباب قماطه وضرمتُ عليه حدى ، وأقمت له مغاليق ومصاريع وقلت إلى هنا تأتي ولا تتعد وهنا تتخم كبرياء لججك؟ هل في أيامك أمرت الصبح؟ هل عرفت الفجر موضعه؟ ... هل إنتهيت إلى ينابيع البحر أو في مقصورة القمر تمشيت؟ هل انكشفت لك أبواب الموت أو عاينت أبواب ظل الموت؟ هل أدركت عرض الأرض؟ أخبر إن عرفته كله؟ ... أدخلت إلى خزائن الثلج أم أبصرت مخازن البرد؟ ... هل تربط أنت عقد الثريا أو تفك ُربُط الجبار؟ هل عرفت سنن السموات أو جعلت تسلطها على الأرض؟... من وضع في الضحاء حكمة أو من أظهر في الشهب فطنة؟ "هل يخاصم القديرَ موبخهُ ، أم المحاج الله يجاوبه؟ أسألك فتعلمني". ويذل أيوب نفسه لهول ما يرى ؛ ويرضى يهوه بهذا فيعفو عنه ، ويقبل تضحيته ، ويتوعد أصدقاء أيوب لما نطقوا به من حجج واهية ، ويهب أيوب نفسه أربعة عشر ألفاً من الغنم ، وستة آلاف من الإبل ، وألف فدان من الثيران ، وألف أتان ، وسبعة بنين ، وثلاث بنات ، وعاش بعد هذا مائة وأربعين سنة. وتلك خاتمة عرجاء ولكنها خاتمة سعيدة ؛ لأن أيوب يحصل على كل شيء إلا جواب أسئلته ؛ فالمشكلة تظل باقية ؛ وسوف تكون لها آثار بعيدة في تفكير اليهود فيما بعد. ففي أيام دانيال (حوالي 167 ق.م) سكت اليهود عن هذه المشكلة وعدوها من المشاكل التي شرحها بعبارات تدركها العقول في هذه الحياة الدنيوية ، ولا يستطاع الإجابة عنها- كما يقول دانيال وأخنوخ و(كانت Kant) إلا إذا آمن الإنسان بحياة بعد الممات ، ترفع فيها كل المظالم وتصحح كل الأخطاء، يعاقب فيها المسيء ، ويثاب المحسن أجزل الثواب. وكانت هذه إحدى الأفكار المختلفة التي سرت في المسيحية ، وكانت من اكبر أسباب إنتصارها على غيرها من الأديان المعاصرة لها. ويجيب سفر الجامعة عن هذه المسألة جواباً متشائماً ، فيقول إن الهناءة والشقاء في هذا العالم لا شأن لها بالفضيلة والرذيلة: "قد رأيت الكل في أيام بُطْلى ، قد يكون بارٌّ يبيد في برّه، وقد يكون شرير يطول في شره ... ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجرى تحت الشمس: فهو ذا دموع المظلومين ولا مقر لهم، ومن يد ظالميهم قهر ... إن رأيت ظلم الفقير ونزع الحق والعدل في البلاد فلا ترتع من الأمر ... لأن فوق العالي عالياً". وليست الفضيلة والرذيلة هما اللتين تقوم عليهما سعادة الإنسان وشقاؤه ، وإنما تقوم السعادة والشقاء على المصادفة العمياء: "فعدت ورأيت تحت الشمس أن السعي ليس للخفيف ، ولا الحرب للأقوياء ، ولا الخبز للحكماء ، ولا الغني للفهماء ، ولا النعمة لذوي المعرفة ، لأن الوقت والفُرَصْ يلاقيانهم كافة". وحتى الثروة نفسها لا بقاء لها ولا تسعد صاحبها طويلا: "من يحب الفضة لا يشبع من الفضة، ومن يحب الثروة لا يشبع من دخل. هذا أيضا باطل ... نوم المشتغل حلو إن أكل قليلاً أو كثيراً. ووفر الغني لا يربحه حتى ينام". ويذكر الكاتب أهله فيجمع مبادئ مالتس Maltus في سطر واحد: "إذا كثرت الخيرات كثر الذين يأكلونها". كذلك لا يخفف من آلامه ما يقال له عن ماض ذهبي أو مستقبل هنيء ، فهو يرى أن الأمور جميعها كانت في ماضيها كما هي في حاضرها وكما ستكون في مستقبلها على الدوام: "لا تقل لماذا كانت الأيام الأولى خيراً من هذه؟ لأنه ليس عن حكمة تسأل عن هذا". ومن واجب الإنسان أن يعنى بإختيار مؤرخيه: "ما كان فهو ما يكون ، والذي صُنع فهو الذي يُصنع فليس تحت الشمس جديد. إن وجد شيء يقال له أنظر: هذا جديد ، فهو منذ زمان كان في الدهور التي قبلنا". وهو يظن أن الرقي وهم باطل فالمدنيات القديمة قد نسيت وستنسى أيضاً المدنيات القائمة. وهو يرى أن الحياة بوجه عام عمل محزن ، وأن لا ضير من التخلص منها، فهي حركة دائرية لا غاية لها ولا هدف ولا نتيجة باقية ، تنتهي حيث تبدأ ؛ وهي صراع عقيم باطل ليس فيه شيء محقق إلا الهزيمة: "باطل الأباطيل قال الجامعة ؛ باطل الأباطيل الكل باطل. ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس ، دور يمضي ودور يجيء ، والأرض قائمة إلى الأبد ، والشمس تشرق ، والشمس تغرب ، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق. الريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال ، تذهب دائرة دورانا ، وإلى مداراتها ترجع الريح. كل الأنهار تجري إلى البحر ، والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار ، إلى هناك تذهب راجعة ... فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد بعد ، الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس ... الصيت خير من الدهن الطيب ، ويوم الممات خير من يوم الولادة". وهو يقضي بعض الوقت يبحث عن حل للغز الحياة في الإنغماس في الملذات. "فمدحت الفرح لأنه ليس للإنسان خير تحت الشمس إلا أن يأكل ويشرب ويفرح". ولكن "هذا أيضا باطل" . والصعوبة التي تواجهنا في مسراتنا هي المرأة ، ويلوح أن الواعظ قد لاقى منها شراً لم يستطع نسيانه. "رجلاً واحداً بين ألف وجدت ، أما إمرأة فبين كل أولئك لم أجد ... فوجدت أمرّ من الموت المرأة التي هي شباك ، وقلبها أشراك ويداها قيود ، الصالح قُدّام الله ينجو منها". وهو يختم إستطراده في دنيا الفلسفة الغامضة بالعودة إلى نصيحة سليمان وفلتير، وهي النصيحة التي لم يعمل بها كلاهما: "ألتذ عيشاً مع المرأة التي أحببتها كل أيام حياة باطلك التي أعطاك إياها تحت الشمس". وحتى الحكمة نفسها مسألة مشكوك فيها ؛ فهو يكيل لها المدح جزافاً ، ولكنه يظن أن العلم إذا لم يكن بالقدر القليل كان بالغ الخطورة، فهو يقول في غير حذر: "لعمل كتب كثيرة لا نهاية ، والدرس الكثير تعب للجسد". وفي رأيه أنه قد يكون من الحكمة أن يسعى الإنسان للحكمة لو أن الله قد جعلها تثمر مالاً أكثر مما تثمره فعلاً: "الحكمة صالحة مثل الميراث بل أفضل لناظري الشمس". فإذا لم يصحبها المال كانت شريكاً يقضي على طلابها.(إن الحكمة شبيهة بيهوه الذي قال لموسى: "لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش"). والحكيم يموت آخر الأمر كما يموت الأبله وكلاهما ينتهي إلى جيفة نتنة. "ووجهت قلبي للسؤال والتفتيش بالحكمة عن كل ما عمل تحت الشمس. هو عناء رديء جعلها الله لبني البشر ليعنوا فيه. رأيت كل الأعمال التي عملت تحت الشمس فإذا الكل باطل وقبض الريح ... أنا ناجيت قلبي قائلاً هأنذا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم ؛ وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة؛ ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل ، فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح ، لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم ، والذي يزيد علماً يزيد حزناً". ولو أنه كان من مبادئ هذا الدين أن الرجل العادل يستطيع أن يتطلع إلى شيء من السعادة بعد الموت لكان في مقدوره أن يتحمل سهام مصائب الدهر وقلبه عامر بالأمل والشجاعة ؛ ولكن كاتب سفر الجامعة "يحس" بأن هذا أيضاً وهم باطل ، فالإنسان حيوان يموت كما يموت غيره من الحيوانات: "لأن ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة ، وحادثة واحدة لهم ، موت هذا كموت ذاك ، ونسمة واحدة للكل ، فليس للإنسان مزية على البهيمة لأن كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكان واحد. كان كلاهما من التراب وإلى التراب يعود كلاهما ... فرأيت أنه لا شيء خير من أن يفرح الإنسان بأعماله لأن ذلك نصيبه ، لأنه من يأتي به ليرى ما سيكون بعده؟... كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك لأنه ليس من عمل ولا إختراع ولا معرفة ولا حكمة في الهاوية التي أنت ذاهب إليها". إلا ما أغرب هذا تعليقاً على الحكمة التي يسبّح بحمدها سفر الأمثال! ولا شك في أن هذه الأقوال إنما تعبر عن الحضارة التي بلغت آخر مراحلها ، فلقد نضب معين شباب إسرائيل في الكفاح المرير الذي قام بينها وبين الإمبراطوريات المحيطة بها ، والتي لم ينقذها منها يهوه الذي كانت تعتمد على معونته ، فلما تأزمت أمورها وإفتقرت وتشتت رفعت إلى السماء في آدابها هذا الصوت وهو أشد الأصوات مرارة لتعبر به عن أعمق الشكوك التي طافت في يوم من الأيام بالنفس البشرية. نعم إن أورشليم قد أعيد بناؤها ، ولكنها لم تعد لتكون حصنا لإله لا يقهر ، بل عادت لتكون مدينة تخضع للفرس حيناً ولليونان حيناً آخر. فقد وقف الإسكندر الشاب على أبوابها في عام 334 ق.م ، وطلب إلى تلك العاصمة أن تستسلم له. وأبى الكاهن الأكبر في أول الأمر أن يجيبه إلى ما طلب ، ولكنه صدع بالأمر في صباح اليوم الثاني على أثر حلم رآه في نومه ، فأمر الكهنة أن يرتدوا من ملابسهم أعظمها روعة وأشدها وقعاً في النفوس ، كما أمر الأهلين أن يلبسوا ثياباً بيضاً لا شية فيها ، ثم سار على رأس الشعب إلى خارج أبواب المدينة في هدوء وسلام ليعرضوا الصلح على الغازين. وإنحنى الإسكندر تعظيماً للكاهن الأكبر وأظهر له إعجابه ببني إسرائيل وبإلههم وتقبل منهم أورشليم. على أن هذا لم يكن آخر حياة اليهود، بل كان هو الفصل الأول من هذه المسرحية العجيبة التي تمتد فصولها المختلفة طوال أربعين قرناً من الزمان ، والتي تدور حوادث فصلها الثاني حول المسيح ، وحوادث الفصل الثالث حول أحاسوروس. واليوم يمثل من هذه المسرحية فصل آخر ولكنه ليس آخر فصولها. لقد خربت أورشليم وأعيد بناؤها ، ثم خربت وأعيد بناؤها من جديد.


روابط خارجية

مراجع

  • الملل والنحل للشهرستاني
  • إفحام اليهود للسموأل المغربي
  • موسوعة الأديان والمذاهب المعاصرة - رابطة العالم الإسلامي
  • هداية الحيارى لابن القيم
  • الفِصَل في الملل والنحل لابن حزم
  • كتب العهد القديم والتلمود وكتابات ابن عزرا وابن ميمون وتفسيرات شلومو يتسحقز
  • ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

مواضيع متعلقة