نموذج الأوز الطائر

(تم التحويل من Flying Geese Paradigm)

نموذج الأوز الطائر «Flying Geese Paradigm» تقوم تجربة التنمية الصناعية في دول جنوب شرق آسيا بصفة عامة ودولة ماليزيا بصفة خاصة على ما يعرف بنظرية سرب الأوز الطائر والتي سبق أن وضع تصوراً لها العالم الإقتصادي الياباني أكاماتسو كانامه في عام 1937م ثم ذاع صيتها على يد «بروس كمنگز» في 1984 كنظرية بديلة شكلت إختراقاً لنماذج التنمية الصناعية التي طرحها الغربيون.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أسراب الإوز

تمثل النظرية التنمية الإقتصادية في دول شرق آسيا بأسراب الأوز الطائرة، حيث تأتي في مقدمة السرب اليابان بإعتبارها القائدة ويليها السرب الأول الذي يضم كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورا ثم السرب الثاني ويشمل ماليزيا وتايلاند واندونيسيا، أما السرب الثالث فيضم كمبوديا وفيتنام.. وتفصل بين كل سرب والذي يليه مسافة تحددها سرعة السرب ومقدار علو طيرانه وهو ما يعكس مرحلة ونمط التطور الإقتصادي في كل دولة.[1]


مفهوم النظرية

ترى النظرية أن الدول الناهضة «السرب اللاحق» تميل الى الصناعات الأقل تقدماً مقارنة بالدول التي تفوقها في التطور الإقتصادي «السرب اللاحق»، فاليابان تاريخياً كانت تستورد النسيج من بريطانيا ثم تحولت الى منتجع ومصدر للنسيج وإستطاعت أن تطور صناعات جديدة تعتمد على كثافة رأس المال والتقنية العالية مثل صناعة السيارات والإلكترونيات. وفي مرحلة تالية تحولت صناعة النسيج إلى السرب الأول بالإستفادة من تقنية اليابان ومحاكاة نمطها. وبدورها طورت دول السرب الأول من إقتصادها وصارت تنتج سلعاً كثيفة رأس المال وعالية التقنية، وانتقلت صناعة النسيج إلى دول السرب الثاني التي تدرجت في تطوها التاريخي من إقتصاديات تعتمد على العمالة غير الماهرة إلى صناعات تعتمد على العمالة الماهرة والتقنية المتطورة وكثافة رأس المال. ويتضح من عملية التطور التدريجي أن دول جنوب شرق آسيا إستفادت من فكرة تقسيم العمل فيما بينها من خلال قيام روابط صناعية مشتركة بين الدول الآسيوية الناهضة واليابان، وحيث لعبت الإستثمارات اليابانية دوراً كبيراً في إيجاد هذه الروابط الأمر الذي ساعد على وجود تبادل تجاري كبير وتدفقات مالية ضخمة ومنتظمة من اليابان إلى دول شرق آسيا إلى جانب إنتقال التقنية اليابانية وأساليب الإدارة، إضافة الى توظيف المزايا التجارية النسبية في كل بلد من أجل النمو الإقتصادي.

تجربة ماليزيا

تعتبر ماليزيا من الدول الآسيوية ذات التجربة الرائدة في التصنيع والتي جعلت من اليابان قدوة لها، حيث أخذ الماليزون القيم الصناعية وكيفية إعداد الخطط، كما أن ماليزيا طورت صناعتها من الإعتماد على كثافة العمل إلى الإعتماد على كثافة رأس المال وتحديداً في مجال الصناعات التكنلوجية، وقد مرت تجربة التصنيع في ماليزيا بعدة مراحل يمكن تلخيصها في الآتي:

  • أولاً: مرحلة صناعات إحلال الواردات: حيث أنه في مطلع الستينيات وبعد الإستقلال بسنوات قليلة تم تطبيق سياسة إحلال الواردات وعلى أساسها قامت صناعات صغيرة الحجم وأُخرى لإنتاج السلع التي تحل محل السلع المستوردة، كصناعة الأغذية ومواد البناء والتبغ والطباعة والبلاستيك والكيميائيات، وتم إصدار قانون تشجيع الإستثمار في 1968م لجذب الإستثمارات الأجنبية في كل تلك المجالات.
  • ثانياً: مرحلة الصناعات التصديرية بدأت في مطلع السبعينيات حيث شجعت الحكومة دخول الإستثمارات الأجنبية في مجال الإلكترونيات وصناعة النسيج من خلال توفير العمالة الرخيصة والحوافز الضريبية المغرية، وإصدار تراخيص المنتجات الأجنبية، وإنشاء مناطق التجارة الحُرة، وعملت الحكومة على إستضافة الشركات متعددة الجنسيات لتشغيل خطوط الإنتاج الماليزية، وسمحت للشركات الأجنبية التي تنتج سلعاً للتصدير وسمحت للشركات الأجنبية التي تنتج سلعاً للتصدير بالملكية التامة دون إشتراط المساهمة المحلية.. وفي هذه المرحلة حدث تحول جذري من سياسة إحلال الواردات إلى سياسة التصنيع الموجه إلى التصدير والصناعات كثيفة العمالة، كالصناعات الإلكترونية والنسيج، كما كان هناك تركيز على الصناعات المعتمدة على الموارد الطبيعية الماليزية كزيت النخيل والأخشاب والمطاط، وفي 1971م صدر قانون منطقة التجارة الحُرة بهدف إتاحة المزيد من الحوافز الخاصة بالصناعات الموجهة نحو التصدير.
  • ثالثاً: مرحلة التصنيع الثقيل والصناعات المعتمدة على الموارد الماليزية.. وبدأت هذه الفترة في مطلع الثمانينيات حيث شجعت الحكومة على قيام الصناعات المعتمدة على الموارد الطبيعية ثم التصنيع الثقيل وتصنيع السيارات الماليزية الوطنية مثل «بريتون»، تم التوسع في صناعات الأسمنت والحديد والصلب والتركيز على صناعة الإلكترونيات والنسيج التي صارت تساهم بثلثي القيمة المضافة للقطاع الصناعي وتستوعب 40% من العمالة، وقد قررت الحكومة أن تمنح الصناعات الوطنية الحماية الكاملة وتدخل الدولة في مشروعات كثيرة تغطي كافة الأنشطة الإقتصادية الحيوية.
  • رابعاً: مرحلة تشجيع الصناعات عالية التقنية وذات القيمة المضافة وبدأت هذه الفترة في التسعينيات، وحيث قامت الدولة بتشجيع الصناعات ذات التقنية العالية وكثيفة رأس المال والتي تتضمن مهارات القيمة المضافة العالية من أجل الزيادة التنافسية للمنتجات الماليزية وتوسيع دائرة سوقها المحلية.

وخلاصة الامر أن الفترة من 1980 ـ 2000م شهدت توسعاً في إستثمارات القطاع الصناعي في ماليزيا، حيث تم إنشاء أكثر من خمسة عشر ألف مشروع صناعي بإجمالي رأس مال وصل الى ثلاثمائة مليار دولار شكلت المشروعات الأجنبية فيها حوالي 54% بينما كانت المشروعات المحلية 64% وأدت هذه المشروعات الى إيجاد مليون وظيفة الى جانب نقل التقنية الحديثة وتطوير مهارات العمالة وإيجاد قنوات تسويقية جديدة. وتستضيف ماليزيا حالياً أكثر من ثمانية آلاف شركة أجنبية وتطرح سياسة الصداقة مع رجال الأعمال والمستثمرين والتي يقصد بها تسهيل الإجراءات المكتبية والإدارية والحوافز الإستثمارية، إضافة إلى توفير بيئة جاذبة للعمل التجاري والإستثماري من خلال الإستقرار السياسي والخدمة المدنية المنضبطة. وتمتاز ماليزيا بتبني خطة عامة للتطوير مدتها عشر سنوات تقوم على التركيز على صناعات معينة تتميز بالتقنية العالية وكثافة رأس المال والتي تنتج سلعاً وسيطة لتقليل المستورد منها والإهتمام بقطاع تقنية المعلومات والبتروكيماويات والصيدلة والخدمات المساعدة والبحوث والتطوير والتصميم الفني للمنتجات والتسويق.

أسباب نجاح التجربة الصناعية في ماليزيا

أولاً: الإتجاه شرقاً حيث أعلنت ماليزيا سياسة النظر شرقاً منذ عام 1981م وامتد العمل بهذه السياسة حتى 1991م وهذا الشعار ـ الإتجاه شرقاً ـ يتضمن إشارة ذات دلالة في الإنتماء إلى أسراب الأوز الطائرة وتشجيع الماليزيين على الإقتداء والعمل بمنهجيات التجربة اليابانية في كل أخلاقيات العمل والإعتماد على الذات والسياسات المالية والنقدية الحكيمة والمتوازنة.. وكان لسياسة النظر شرقاً جانبان مهمان هما الأخذ بالقيم الشرقية والتحديث الصناعي بحلول 2020م ولم تكن عملية الأخذ بالتجربة اليابانية تقليداً محضاً بل إختياراً وإنتقاءً لما يناسب ماليزيا ووضع ذلك في إطاره الصحيح خاصة أن ماليزيا بلد متعدد الأعراق ومتعدد الأديان.

ثانياً: إنتهجت ماليزيا ما يسمى بطريقة «التصنيع العنقودي» التي تقوم على وجود علاقات ترابط في شكل عنقود بين الوحدات الإنتاجية والنشاطات المتصلة بها.

ثالثاً: ساهمت كثير من المؤسسات والهيئات في إنجاح عملية التنمية الصناعية ومنها الهيئة الماليزية التنمية الصناعية MIDA MALAYSIAN والهيئة الإنتاجية القومية وهيئة تنمية التجارة الخارجية الماليزية «MATRADE» وبهذه المناسبة فقد إتفق مجلس الصمغ العربي السوداني مع مؤسسة ماتريد الماليزية على ترويج الصمغ العربي في دول شرق آسيا مما سيعطي لسوق الصمغ دفعة وقفزة نوعية ويخرجه من قوقعة الإعتماد على السوق والمنافذ الأوروبية والأمريكية التقليدية والتي ظل حبيساً لها خلال قرون عديدة. ونخلص من تجربة ماليزيا إلى أنها أعطت القطاع الخاص دوره في الحياة الإقتصادية وعملت على توفير الأُطر المؤسسية للمشاركة الشعبية وصنع القرار الإقتصادي وأن اليابان قد مثلت دور رأس قاطرة النمو لكل من ماليزيا وكوريا وبقية دول جنوب شرق آسيا حيث شكل التعاون فيما بينها أساساً للنهضة التنموية.

المصادر