وجيه البارودي

وجيه البارودي

وجيه بن عبد الحسيب بن أحمد البارودي (و.1906 _ت.1996)، وأمه السيدة بهيجة العلواني، طبيب وشاعر من أبرز شعراء الغزل والإصلاح الاجتماعي في سورية في العصر الحديث.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مولده

ولد في مدينة حماة. وكان الابن البكر لأبيه وأمه، وكان بيت الأسرة بيت ترف وغنى وجاه عريض، أُدخل الكتّاب أولاً ثم مدرسة «ترقّي الوطن الابتدائية»، وفي هذه الحقبة شاهد آثار المجاعة التي عصفت ببلاد الشام، وعاش أحداث الحرب العالمية الأولى التي انتهت وله من العمر اثنتا عشرة سنة بعد أن أوقفته وغيره عن متابعة الدراسة.

وقد قررت أسرة البارودي إرسال عدد من أبنائها الصغار إلى بيروت للالتحاق بالكلية السورية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية فيما بعد)، وكان وجيه مع عشرة من أبناء عمومته هم الذين شملهم قرار الأسرة للدراسة في لبنان، وكان انطلاقهم مع نهاية عام 1918م، ومكث في رحاب هذه الكلية أربعة عشر عاماً شملت الدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية حتى تخرج في عام 1932م طبيباً عاماً ممارساً.


شعره

وفي الجامعة الأمريكية هذه تكونت شخصية وجيه البارودي بأبرز ملامحها وسماتها، ولعل أهم ما أثر في حياته في أثنائها أنه فجع بوفاة أمه عام 1923م وهو لما يزل في السابعة عشرة من عمره، وخلفت وراءها أربع أخوات أصبحن بلا سند ولا معين بعد أن تزوج الأب ولما ينقضِ على رحيل أم وجيه سوى تسعة وأربعين يوماً وكان أن حرم وأخواته الدعم المالي والمعنوي والحنان، وقد صوّر ذلك من بعد بقوله:

خرجت أشق طريق الحياة بسيف اليقين ودرع الثبات

وحيداً أناضل.. لا والـد معين وأمي في الهالكـات

نهل وجيه من مكتبة الجامعة الكبيرة الحافلة بكنوز التراث وروائع الأدب العربي في الوطن والمهجر ما استطاع النهل، وتعرّف في المرحلة الثانوية الطالب الفلسطيني إبراهيم طوقان والطالب العراقي حافظ جميل، والطالب اللبناني عمر فروخ وكوَّنوا معاً في عام 1926م جمعية أسموها «دار الندوة» كانت تعقد جلساتها في مهاجع الجامعة، وفي ردهاتها وممراتها، وحدائقها وعلى شاطىء البحر الملاصق لها. وكانت مادة هذه اللقاءات جميعها هي سماع الشعر ونقده وكتابته وإبداعه منفردين ومشتركين. ومن الجدير بالذكر أن البارودي نظم أول مقطوعة شعرية وهو في العشرين من عمره، وكانت البداية موفقة من دون محاولات أولية أو قرزمات مبدئية.

زواجه

اقترن البارودي في عام 1931م وهو لما يزل طالباً بابنة خالته السيدة مسرة علواني وعاش معها خمسة وأربعين عاماً، وأنجب منها عشرة أولاد: سبعة ذكور، وثلاث إناث، وقضت زوجته نحبها عام 1976م ورثاها بقصيدتين من عيون شعره.

افتتح أول عيادة طبية له في مدينة حماة عام 1932م طبيباً ممارساً عاماً واستمر على رأس عمله من دون توقف ثلاثة وستين عاماً، كان فيها الطبيب العَالِم والإنسان بكل ما تحمله الكلمات من معان حتى كُنِّي بأبي الفقراء واشتهر بذلك في أنحاء محافظة حماة جميعها، ولقد افتخر بذلك وتحدث بشعره غير مرة عن حبه للفقراء وعداوته للمال، ومن ذلك قوله:

وبيني وبين المال قامت عداوة فأصبحت أرضى باليسير من اليسر

وأنشأت بين الطب والفقر إلفةً مشيت بها في ظل ألوية النصــر

ويقول في قصيدة أخرى:

في خدمة المحموم والمحروم والمتسول فيما فعلت سعادتي.. لا في غنى المتمول

مما دفع وزير الصحة في سورية إلى تقديم درع الوزارة هدية له في حفل تكريم عام أقيم في قاعة المتنبي في فندق ميريديان دمشق عام 1991م. كما أقامت له قبل ذلك مدينة حماة حفلاً تكريمياً في صالة نقابة المعلمين عام 1975م بمناسبة بلوغه السبعين من عمره، وتحدث فيه نخبة من أدباء العربية وناقديها وشعرائها وكان حفلاً مشهوداً قل نظيره.

أصيب وجيه البارودي بشيء من وقر في سمعه وهو لما يزل في الأربعينات من عمره، ولما قارب التسعين تهتكت شبكيتا عينيه وصارت الرؤية لديه ضئيلة جداً، ولهذا توقف عن مزاولة عمله في عيادته على الرغم منه، وفي عام 1995م قضى فريضة الحج وكان لها أثر واضح في شعره قبل قضائها وبعده. ومن رائع ما قال قبل رحيله بأيام:

أصلي لا أمل، وفي صلاتي دعاء يمحق الذنب الرَّديّا

يمهد لي صراطاً مستقيمـاً وينفخ في العمى فأرى جليّاً

ولا موتاً أخاف لأن ربـي سيلقاني بجنتـه حفيّــاً

وفي فجر يوم الأحد الثاني والعشرين من رمضان الموافق الحادي عشر من شباط فاضت روحه إلى بارئها، وشيّع إلى مثواه الأخير في حماة في موكب حاشد ومهيب.

كان البارودي ذا شخصية انفعالية جعلته حاداً في حبّه وكرهه، في مدحه وذمه، في قربه وبعده، ولم يكن عنده أنصاف حلول، وكانت هيجاناته لا تُعد ولا تحصى في كل مجال، وكان معجباً بنفسه وقدرته وإمكاناته، حتى إن مظاهر النرجسية تبدو ماثلة في كثير من تصرفاته وأحاديثه وأشعاره، ولكنه كان بعيداً عن البغضاء والحقد والعداوة، ويتصف بحيوية دائمة وإقبال على الحياة والدعوة إليها والتمسك بها، كان حقاً إنساناً بكل ما تحمل الكلمة من معان، محباً للعمل والعلم، محباً للطبيعة ومجاليها، ومحباً للجمال الإنساني حتى يمكن أن يُقال إن الحب هو مفتاح شخصيته منذ فُطر على الحياة حتى تخطيه التسعين من عمره. يضاف إلى ذلك جميعه مرحه ونوادره وطرائفه التي كان يتلقفها الناس ويتناقلونها في حياته وبعد مماته.

كان وجيه البارودي شاعراً ذاتياً وجدانياً، صور حياته ومجتمعه تصويراً نادر المثال، وطبع ديوانه الشعري الأول بعنوان«بيني وبين الغواني» عام 1950م في طرابلس في لبنان، وأملاه من ذاكرته لأن زوجه (أم أسامة) أحرقت مخطوطة الديوان برمتها. ولولا ذاكرة وجيه البارودي التي أمدته بغالبية الديوان لضاع الشعر الذي صاغه طوال أربعة وعشرين عاماً، وفي عام 1971م أعاد طباعة الديوان الأول، وطبع الديوان الثاني الذي حمل عنوان «كذا أنا»، ويضم الشعر الذي صاغه البارودي في واحد وعشرين عاماً. وفي عام 1995م أصدر ديوانه الثالث «سيد العشاق» الذي يضم شعره الذي أبدعه في واحد وعشرين عاماً أيضاً تنتهي في 31/12/1992م. وأما شعره الأخير الذي اختار له عنوان «حصاد التسعين» فهو ما يزال مخطوطاً.

إن شعر البارودي بأجمعه معاناة حقيقية، وتجربة حية ولو عَمّاها شاعرنا بالرموز. يتجلى فيها الصدق بمعناه الفلسفي والأخلاقي والفني معاً، فسلوك «وجيه» في حياته وطريقة معاشه وتصرفاته وعلاقاته لا يختلف عما تناوله في شعره، ومن هنا نجد صدقاً في التجربة وصدقاً في التعبير فنياً عن هذه التجربة، ولهذا قال:

شعري حياتي من أراد تعرفاً بي فهو عني الترجمان الأفضل

حاول البارودي أن يغشى غمار الميدان السياسي ليحقق فيه ريادة وسيادة منذ تخرجه في الجامعة حتى منتصف الخمسينات، لكنه أخفق، بيد أنه تفوق في ثلاثة ميادين هي: الطب والشعر والحب، وفي ذلك يقول:

حكيم خبرتي تسعون عاماً ومدرستي التجارب والعلوم

ويقول:

أنا نبيُّ الهوى، والشعر معجزتي وكل محترق بالعشق يؤمن بي

وكان للإصلاح الاجتماعي شأن كبير في شعر البارودي، وهو فيه الثائر المتمرد الذي لم تنته ثورته على التخلف والجهل والكبت والتزمت والفساد والعادات والتقاليد حتى ودَّع الحياة، ولم يكن في ذلك كله إباحياً وإنما كان داعياً إلى السير في طريق العيش السامي والدفاع عن حقوق الرجل والمرأة ، يقول في إحدى قصائده:

ولقد برانا الله في بلد تحجر أهله في متحف العهد القديم

الكبت والعادات والنُظم العتيقة والتخلف داءُ مجتمع سقيم

وأما الغزل والحب والعشق فهي أبرز محور في دواوين البارودي، ومع اطلاعه الواسع على الشعر العربي قديمه وحديثه فقد جدد في الموضوع والمعاني والأفكار، إذ تفوح من شعره نكهة العصر، وتتجلى سمة الواقع وحياة مجتمع مدينة حماة السورية بكل جزئياتها ودقائقها، فضلاً عما يلحظ في ثنايا هذا الشعر من خبرة بالنساء وعوالمهن الداخلية، وتصوير للوجد والشوق والوصال والجفوة التي استمرت معه على مدى سبعين عاماً مما أكسبه لقب «سيد العشاق» وفي ذلك قوله:

يا أيها الحيران في دنيا الهوى هيا استمع لتجاربي ونوادري

أنا سيد العشاق من قبل الشَّبا بِ ومن نعومة أنملي وأظافري

وكان للشاعر موقفه العنيف المناوىء للشعر الحديث الذي كان يدعوه «الشعر المنفلت» ويرى فيه مؤامرة على القرآن الكريم واللغة العربية اللذين هما فضيلة الأمة العربية ومصدر عزتها وكرامتها.

ولعل أهم صفة أسلوبية عند الشاعر أن ألفاظه عربية سليمة، وأصيلة فصيحة، ولديه قدرة عجيبة على تأليفها بمهارة وذوق وإحساس مرهف، فإذا العبارات سهلة، والمعاني واضحة، والأسلوب غاية في الأناقة. ثم إن أثر المهنة والثقافة ظاهر في ألفاظه وصوره وقارىء شعره يستدل بسهولة على أنه طبيب وعالم ومثقف كبير، وشعره بعيد عن الجفاف العلمي وبرودة المصطلحات لأن الشاعر عرف كيف يضعها في أماكنها وأما صوره فالقليل منها تقليدي، والأكثر مبتكر يستقيه من علمه وعمله اليومي كقوله:

سأغتنم الدقائق والثواني سأسهر لن أضيع الوقت قتلا

فرُبَّ دقيقة لقحت بحب أتتني من صميم الغيب حُبلى


المصادر