هذه هي الحقيقة في السودان (هيكل 1951)

مقالة هذه هي الحقيقة في السودان، آخر ساعة، ديسمبر 1951.

هذه هي الحقيقة في السودان هي مقالة نشرها الصحفي المصري محمد حسنين هيكل في مجلة آخر ساعة في ديسمبر 1951، بعد زيارته إلى السودان.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

المقالة

في مساء 8 أكتوبر الماضي (1951م ) وقف صاحب المقام الرفيع رئيس وزراء مصر يعلن في مجلس النواب الغاء معاهدة سنة 1936 ومعها اتفاقيتي سنة 1899 الخاصتين بتنظيم الحكم الثنائي في السودان. وفي صباح يوم 9 اكتوبر وجدت نفسي في الطائرة المتجهة الى الخرطوم! وكان المفروض ان الحوادث سوف تتطور بسرعة في الجنوب، فقد كان هناك شبه اجماع على ان "رد الفعل" الذي سيحدث في الخرطوم، هو الذي سيحدد مستقبل السودان، وبحسم النزاع في مشكلته التي استعصت على الحل! وأمضيت اسبوعين في الخرطوم وما حولها.[1]

ثم عدت الى القاهرة، وفي ذهني صورة للموقف كما رأيته، وفي نفسي صراع مرير، وفي ضميري أزمة عنيفة! هل اكتب كل الذي رأيت؟

وكيف اكتبه؟

وهل الظرف الحالي هو أصلح الظروف لكتابته؟

وظللت يومين، وعقلي بالفكرة الحاضرة، بين صراع النفس وازمة الضمير، تكلم فاني اسمعك! ثم وجدت حلا للحيرة!

ذهبت الى الاستاذ الاول للصحافة، والاستاذ الاول للجيل كله: أحمد لطفي السيد باشا. وفي غرفة مكتبه الهادئة الشامخة، التي تنبض رفوفها بالفكر والعلم والمعرفة، جلسنا وفي يد كل منا فنجان من الشاي الساخن.

ويبدو ان الاستاذ الكبير احس أن في نفسي شيء فقد قال:

- ماذا وراءك؟

وانطلقت كأني كنت اتلقف السؤال وأقول:

- صورة للموقف في السودان، وصراع في نفسي، وأزمة في ضميري! وابتسم الفيلسوف الكبير، وتوقفت يده عن مداعبة حبات المسبحة المعلقة بين اصابعه لحظة وجيزة، ثم قال:

- تكلم.. فاني اسمعك.

ومضت ساعة كاملة، والاستاذ الكبير يسمع في صمت وسكون واخيراً توقفت عن الكلام وتطلعت الى ملامحه التي تحمل جلال العقل ووقار التجربة ثم استطردت:

- هذا هو الموقف كما رأيته بعيني في السودان، بقى صراع النفس وازمة الضمير، ان عقلي يقول في هدوء وبرود: "واجبك ان تذكر الحقائق كما رأيتها".

ويقول قلبي:

"ولكن الحقائق قد تصدم عواطف الناس هنا في الوطن".

ويرد عقلي في إصرار: "ليست مهمتك ان تتعلق عواطفهم.. انما مهمتك ان تذكر لهم الحقائق كما رأيتها". ويقول قلبي: "ولكن الظرف خطير، ان الدم الاحمر يجري في جوانبه".

ويشتد عقلي في بروده وهدوئه واصراره: "من اجل هذا الدم الاحمر الذي يجري في جوانب الموقف يجب ان تقول الحقيقة، ان هذا الدم لا يجب ان يجري على وهم.. من اجل هذا الدم الاحمر يجب ان تقول ما رأيته، ان الموقف حتى الآن ليس ميئوساً منه، والحقيقة وحدها تنقذ ما بقي، بل وقد تساعد على ان يعود ما ضاع". ومرة ثانية توقفت عن الكلام، وتطلعت الى الملامح التي تحمل جلال العقل ووقار التجربة.. وبدا الفيلسوف الكبير يتكلم:

- ان عقلك على حق.. وقلبك لم يخطئ .. وعلى اي حال فهناك طريق ثالث بينهما.. ان واجبك يقتضيك ان تتكلم، ولكن لا تتكلم الآن، انتظر شهراً واحدا تتكشف فيه الاحوال، ثم قل لوطنك ماذا رأيت بعينيك في السودان!


على مفترق الطرق

ومر شهر وأكثر من شهر وانا ساكت لا اتكلم، وفي هذه الفترة تطورت المسائل، وتكشفت الاحوال كما توقع الاستاذ الكبير!

اعلن الدكتور محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية المصرية، في هيئة الامم المتحدة، ان مصر مستعدة لعمل استفتاء في السودان.

ثم بدأت احزاب السودان السياسية كلها، ابتداء من حزب الأشقاء المتطرف في دعوته الى الاتحاد مع مصر، حتى حزب الأمة المتطرف في دعوته الى الانفصال عنها، تعلن واحداً بعد واحد انها تؤيد اجراء استفتاء في السودان وتعتبر ان هذا الاستفتاء هو الكلمة الفاصلة في مستقبله!

وكان آخر هذه الاحزاب، هو حزب الجبهة الوطنية، الذي يمثل اتجاهات السيد علي المرغني باشا، والذي اعلن منذ يومين اثنين انه هو ايضاً – في صف الاجماع الكامل – يؤيد اجراء الاستفتاء في السودان! واذن تكشفت الاحوال عن وقوف السودان كله صفا واحدا عند مفترق الطرق في انتظار الاستفتاء!

واذن – وبالتالي – جاء وقت الحقائق ان مصر يجب ان ترى كل شيء بلا اوهام، ولا اكاذيب، ولا ظلام. حتى اذا ماجاء يوم الاستفتاء كانت مصر قد اصلحت أخطاء الماضي، واستعدت للغد!!

1- هل السيد علي المرغني باشا والسيد عبد الرحمن المهدي باشا هما كل شيء في السودان كما نظن هنا في القاهرة؟

  • الواقع ان السيدين الزعيمين معا، لا يمثلان بأي حال من الاحوال اكثر من 15 في المائة من سكان السودان!

ولكي يسهل تصور الأمر، علينا ان نستعرض وضع سكان السودان: إن ادق التقديرات تقول ان عدد سكان السودان سبعة ملايين!

من هذه الملايين السبعة، ثلاثة من الجنوب، زنوج عراة على الفطرة لا يدينون بالاسلام ولا بأي دين غيره – ما عدا قلة قليلة استطاع المبشرون اقناعها بتعاليم المسيحية! واذن فملايين الجنوب الثلاثة – نصف سكان السودان تقريبا – لا يدينون بالولاء لاي من السيدين الزعيمين المسلمين!

تبقى أربعة ملايين هي سكان الشمال ان بينهما مليونين على الاقل من القبائل الفطرية المتنقلة التي لا تدين بالطاعة او الولاء الا للمطر وحده، باعث الحياة ومانح الرزق! يبقى اقل من مليونين يمكن لدعوة السيدين الزعيمين ان تصل الى اسماعهم، وهي تصل فعلا الى عدد كبير منهم!

يتحكم السيد علي المرغني باشا في منطقة مجرى النيل بوساطة نفوذه الشخصي. ويتحكم في جزء من شرقي السودان بوساطة نفوذ شقيقته الشريفة مريم التي تعد اقوى شخصية في شرقي السودان. اما السيد عبد الرحمن المهدي باشا فيتحكم في الغرب، ويتركز نفوذه في مديريتي كردفان ودارفور!.

2- هل السيد علي المرغني باشا يؤيد النفوذ المصري في السودان ، ويسير وراء سياسة مصر؟

  • في القاهرة كثيرون يعتقدون هذا، وهو في الحقيقة وهم وخيال!

ان صاحب السيادة له سياسة خاصة بهن وهي تكاد تكون استمراراً للحوادث التي احاطت بالثورة المهدية. ان المرغني باشا يكره المهدي باشا لأن المهدي الكبير – والد المهدي باشا – اخرج سيادته، وهو طفل، من السودان وارغم المغفور له والده على ترك السودان خشية بطش الثورة به.

ولما اعيد فتح السودان تحت قيادة كتشنر، اقترح سلاطين باشا – ضابط المخابرات النمسوي – ان يذهب المرغني باشا - وكان في ذلك الوقت غلاما صغيراً – في صحبة الجيش الفاتح بوظيفة ضابط اتصال سياسي. وظل المرغني باشا بعد الفتح الجديد، صاحب النفوذ الاول والصديق الصدوق لحكومة السودان، وكان المهدي باشا لاجئا يعيش في حمايته!

فلما بدأت حكومة السودان تقوي المهدي باشا لتحقق التوازن بينه وبين المرغني باشا، غضب سيادته واعتكف في قصره.

وعدنا نحن الى السودان في سنة 1936 كان الانجليز يحاولون تقوية المهدي باشا، وكان المرغني باشا معتكفا معتزلا، وافترضنا افتراضا، دون ان يقول صاحب السيادة كلمة صريحة، انه على استعداد لمعاداة حكومة السودان والانجليز وراءها من اجل مصر، ولست أريد ان أقول ان صاحب السيادة لا يستطيع ان يعصى امراً للانجليز، وانما الذي لا شك فيه ان سيادته لم يكن يستطيع مراعاة لنفوذه، ولصالح الطائفة الختمية التي يرأسها، ان يغفل من حسابه قوة الأمر الواقع في السودان، ومصر ليست لها قوة الامر الواقع في السودان مع الاسف!!

ولقد لجأ صاحب السيادة الى الصمت المطبق ليتفادى به اغضاب الانجليز او اغضاب المصريين، وارضاء الانجليز او ارضاء المصريين ايضاً.

وفي المرات القليلة التي اضطر فيها سيادته الى الكلام، لم ينبس بأكثر من بضع كلمات في إشارة واضحة، وكانت القاهرة الساذجة الطيبة تجري بها مع هواها، أما لندن فكانت تبتسم لها ابتسامة المطمئن الى قوة الامر الواقع!!

3- هل يسعى السيد عبد الرحمن المهدي باشا الى تاج السودان، وهل يحلم سيادته بأن يصبح صاحب الجلالة عبد الرحمن المهدي؟

  • استطيع ان اقول على مسؤوليتي: ان قصة "تاج السودان" حكاية اخترعتها الدعاية البريطانية، لكي تبذر بذور الشك وتزيد في سوء التفاهم بين المهدي باشا وبين مصر.

والانجليز انفسهم يعلمون ان وضع تاج السودان على رأس المهدي، معناه ثورة أهلية تقوم بها الطائفة الختمية، ومعناها ان تصبح المذابح هي نظام الحياة اليومي في السودان!

ولكن الانجليز تركوا مستر ماكنتوش احد مفتشيهم يلقى "بالحكاية" في اجتماع عام في الخرطوم. ولم يكذبها المهدي باشا، ولعله وجد فيها اطراء وزيادة نفوذ، اكثر مما وجد فيها املاً قابلا للتحقيق! ولكن مصر ابتلعت الطعم، واندفعت ضد المهدي باشا، واندفع المهدي باشا ضدها! ووقفت السياسة الانجليزية – صاحبة الفكرة واول من يدرك استحالة تنفيذها- تنفرج على المعركة وتبتسم! بل واستطيع ان اقول – وعلى مسؤوليتي ايضاً – ان المهدي باشا لا مانع عنده من قبول التاج المصري.. تاجا للسودان.

وربما يستطيع فؤاد سراج الدين باشا ان يؤيدني فيما أقول.

لقد أبدى المهدي باشا منذ عدة شهود انه لا يمانع في التاج المصري مؤقتاً، على شرط ان يستفتى السودان لتقرير مصيره بعد عامين.

وكانت مصر وقتها ترفض اساسا فكرة الاستفتاء!

ولقد أتيح لي في الخرطوم اخيراً، ان أطلع على بعض محاضر محادثات المهدي باشا – سراج الدين باشا، وهي المحادثات التي بدأت بينهما في جنيڤ، ثم استكملت في القاهرة، وناب فيها السيد الشنقيطي رئيس الجمعية التشريعية في السودان عن المهدي باشا والمحضر الاول، الذي يضم تفصيلات ما حدث بين الرجلين في جنيف، طريف بديع.

لقد بدأ اللقاء بعتاب من المهدي باشا، على مصر لموقفها من الحركة الاستقلالية في السودان عامة، ومن سيادته خاصة ثم شكا صاحب السيادة من الدعاية المصرية والصحافة المصرية.

وكان سيادته يقصد بالدعاية المصرية، جهود احزاب الوحدة مع مصر وجهود بعض الموظفين المصريين في السودان. وقد تغافل سراج الدين باشا عن شكوى الدعاية، وبدأ يرد على شكوى الصحافة وقال معاليه: "انه ليس للسيد المهدي باشا ان يشكو مما تنشره الصحف المصرية ضده"

وقال معاليه:

- لو رأيت سيادتك ما تنشره الصحف المصرية عني وعن النحاس باشا من هجوم لوجدت ان ما نشر ضدك لا يكاد يذكر!

وقال سراج الدين باشا في ختام المقابلة:

- سوف أزور السودان يوماً، وأنزل ضيفا عليك في قصرك!

4- اهو مبلغ قوة العناصر المناهضة لمصر في السودان؟

  • من سوء الحظ ان العناصر المناهضة لمصر بالغة القوة في السودان حكومة السودان تعمل ضدها.

وملايين الجنوب الثلاثة من الزنوج العراة، يعترفون بالمفتش الانجليزي الهاً ابيض، وقلائل منهم من اتيحت لهم فرصة رؤية أحد المصريين ولقد كان من تأثير سياستنا في السودان ان اضطر المهدي باشا الى الوقوف في الصف الآخر.. الذي يقف في مواجهتنا.

ووراء المهدي باشا يقف حزب الامة، ويتكدس مئات الالوف من قبائل كردفان ودارفور وغيرهما. والمرغني باشا يجاملنا بالعواطف، ولكن "الامر الواقع" يحكم اعماله ووراء المرغني باشا مجاملتنا بالعواطف، ومجاراة "الامر الواقع" مئات الالوف من سكان مدن مجرى النهر وشرقي السودان!

5- ما هو مدى نفوذ أحزاب الوحدة المؤيدة لمصر؟

  • ان الاحوال في السودان، بحكم الظروف، لا تسمح للاحزاب السياسية ايا كان نوعها واتجاهها بان يكون لها نفوذ كبير ان النفوذ في السودان – بحكم الحياة القبلية وبحكم نسبة التعليم، وغير ذلك من الظروف – يتركز في أيدي فريقين من زعماء القبائل، وزعماء الطوائف الدينية!

ولا يمكن ان تصل اي دعوة سياسية او غير سياسية الى الجماهير الا عن هذين الطرفين!

والمجال الوحيد للاحزاب السياسية في اتصالها المباشر بالجماهير، هو في المدن القليلة المتناثرة على مجرى النهر، التي بلغ سكانها من الوعي حداً يسمح لهم بان يستمعوا الى احد غير زعماء القبائل وزعماء الطوائف الدينية!

ثم يبقى الكلام عن قوة أحزاب الوحدة مع مصر بصفة خاصة!

وانا أعفي نفسي من الكلام عن مدى قوة هذه الاحزاب، وأكتفي بان انقل رأيا قاله لي الاستاذ ابراهيم المفتي سكرتير حزب الاشقاء – اكبر الاحزاب الاتحادية – وهو في نفس الوقت عضو في وفد السودان الثلاثي الذي يقف مع صلاح الدين باشا في الامم المتحدة في باريس.

كنت قد التقيت بالاستاذ المفتي ليلة الخميس 19 اكتوبر (1951م ) في حديقة فندق "الجراند اوتيل" بالخرطوم، ودار الحديث في هذا الموضوع بالذات.. موضوع قوة أحزاب الوحدة مع مصر.

وقال لي الاستاذ المفتي، ومن حقه على ان اقول اني لم استأذنه في النشر، ما يأتي:

"ليس في احزاب الوحدة كلها الا حزب الاشقاء، والاحزاب الباقية جميعاً احزاب وهمية.. ان حزب وحدة وادي النيل مكون من اثنين فقط احدهما رئيسه الاستاذ الدرديري اسماعيل!

وحزب الاحرار الاتحاديين الذي يرأسه الاستاذ الطيب محمد خير، كان مكونا من خمسة اعتزل اثنان منهم كل نشاط سياسي، فلم يبقى في الحزب الا ثلاثة!

وحزب الاتحاديين لا يستطيع رئيسه الاستاذ حماد توفيق ان يدعي ان عدد انصاره يزيد على 24، ولقد انشق منهم اخيراً 9، وبقي 15 كل اعضاء الحزب، والحزب من سوء الحظ- وهو رأي الاستاذ المفتي – يتعاون مع حكومة السودان!

وحزب الجبهة الوطنية مكون من 15 عضواً كلهم من كبار الموظفين السابقين، ولم يستطيعوا فيما بينهم ان ينتخبوا لهم رئيساً فاكتفوا باختيار سكرتير هو الاستاذ الدرديري عثمان.

اما حزب مؤتمر السودان "فهو حزب منشق من حزب الاشقاء، ورئيسه الاستاذ نور الدين، وقد فقد شعبيته التي كان يتمتع بها في حزب الاشقاء وليس وراءه اليوم الا بعض الشبان الشيوعيين وانصار السلام".

والى هنا تنتهي معلومات "الاستاذ المفتي" عن قوة الاحزاب الاتحادية في السودان.. باستثناء حزب الاشقاء بالطبع!

6- ما هو مدى قوة حزب الاشقاء، وما هو مدى قدرته على العمل السياسي في السودان؟

  • لقد كان حزب الاشقاء حزباً قوياً ينبض بالنشاط والامل. ويبشر بمستقبل كبير في الحياة السياسية في السودان وكان هذا الحزب يستمد قوته من عدة عوامل!

انه يضم مجموعات كبيرة من الشباب المتعلم في السودان.

انه يرتكز على البقية الباقية من الذكريات الطيبة لمصر في السودان ان المرغني باشا يؤيده في كل ما يتصور سيادته انه يقاوم به نفوذ المهدي باشا في سياسة السودان!

ان رئيسه الاستاذ إسماعيل الأزهري يتمتع بسمعة طيبة واحترام معقول.. كان الحزب هكذا في الماضي.. اما في الحاضر، فقد اختلفت الاحوالّ دب الخلاف والشقاق بين زعماء الحزب، وبدأوا يكونون احزابا داخل الحزب ثم جاءت كارثة أموال مصر، ويشق على نفسي كثيراً ان اخوض في تفصيلاتها، ولهذا سأمر عليها سريعاً دون توقف!

حدث ان احتاجت أحزاب الوحدة مع مصر الى مبالغ من المال لتنفقها في اهدافها السياسية، وهي في نفس الوقت اهداف مصر وكان رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت محمود فهمي النقراشي باشا ورفض دولته – يرحمه الله – هذا الطلب لاحزاب الوحدة، وبنى الرفض على سببين:

السبب الاول ان المال يفسد الحركات الوطنية اذا ما تسلل اليها!

والسبب الثاني ان حكومة السودان بايحاء من الانجليز، قد تحاول استغلال الامر وتتهم حكومة مصر بانها تسعى الى احداث قلاقل في السودان مستغلة في ذلك قوة الذهب! ومضت وزارة النقراشي باشا وتلتها وزارة صدقي باشا وتتغير اتجاه مصر فقد كان رئيس الوزراء الجديد – غفر الله له – يؤمن بقوة المال وتأثيره، وبدأت الاموال المصرية تتجه الى السودان!

وتحقق كل ما تصوره النقراشي بادئ الامر، تحقق بحذافيره، كانما دانت حجب العيب قد إنزاحت أمام عيني الرجل فاستطاع ان يرى المستقل بوضوح!

أفسد المال أعضاء حزب الاشقاء على انفسهم.

وجاء وقت استحال عليهم فيه ان يستمروا معا، وانشق حزب الاشقاء الى فريقين يتبادلان العداوة ويتراشقان بالاتهام هذا يتهم ذاك بانه اختلس كذا وكذا وهذا يتهم ذاك بانه ادخل في ذمته مبالغ طائلة. وهذا يسأل ذاك: من اين جاء "فلان" – واعفوني من ذكر الاسماء – بعشرة الآلاف جنيه التي دفعها ليحصل على مشروع زراعي في ارض الجزيرة.

وهكذا وهكذا.. وباقي السودان يتفرج ويتألم.. او يتفرج ويشمت ثم تحقق الشطر الثاني من نبوءة النقراشي باشا، وتحقق اخيراً منذ شهر واحد لقد فتش البوليس احد كبار اعضاء حزب مؤتمر السودان، وكان في طريقه الى القاهرة وعثر في جيبه على خطاب بتوقيع زعماء حزب مؤتمر السودان.

يطلبون فيه مبالغ جديدة من مصر وملأت حكومة السودان ارجاء السودان عويلا وصراخا ضد مصر التي تستعين بقوة المال على تحقيق أغراضها، وتفسد بذلك ذمم شباب الساسة في السودان! وهكذا اصبح حزب الاشقاء حزبين، لو صدق الناس فيهما ما يقوله احدهما عن الآخر لكانت النتيجة ان الاشقاء جميعاً. دعوني اسكت عند هذا الحد ولا ادخل في تفصيلات التهم التي يتبادلها الفريقان!

وبهذا الشكل ايضاً فقد الاشقاء جزءاً من نفوذهم، وأخشى ان اقول ان الجزء الذي فقدوه اكبر من الجزء الذي تبقى لهم!.

7- اين كانت مصر إذن طوال هذا الوقت ولماذا لم تبادر الى عمل شيء لمواجهة الموقف؟

  • لقد كان الظرف في السودان اكبر بكثير من جميع الموظفين المصريين الذين ارسلناهم لمواجهته هناك.

ان لمصر في السودان اربع بعثات كبيرة قوة الجيش، وادارة التعليم، وتفتيش السري، ومكتب الخبير الاقتصادي!

ومن سوء الحظ ان معظم الموظفين المصريين الكبار، تورطوا في الخصومات المحلية في السودان، لقد بدأوا، دون ضرورة او داع، يتحيزون لفريق دون فريق، ويبدون الرضا على ناحية والغضب على الناحية الاخرى، وكان بعضهم يقوم بهذه الادوار في سذاجة وبلاهة منقطعة النظير!

ولقد نسوا جميعاً – او معظمهم – انهم يمثلون مصر، وان مصر أكبر بكثير من هذه الخلافات المحلية في السودان، وانه لا يليق بمصر ان تعادى حتى اشد المتطرفين للدعوة الى الانفصال، انهم جميعاً ابناؤها، وهي اكبر منهم دون استثناء!

وبينما استطاع الانجليز الاقوياء ان يحتفظوا بحيادهم الكامل في الخلافات المحلية في السودان، رحنا – نحن الضعفاء – نثير العداوات والضغائن والاحقاد ضد وجودنا دون مبرر او سبب وكانت النتيجة ان التقارير التي تصل الى القاهرة عن الوضع في السودان، تجيء كلها ملونة بلون العواطف التي تسيطر على الموظفين المصريين هناك وثمة إشاعات كثيرة تقول ان بعض الموظفين المصريين كانت لهم أكثر من "العواطف" اسباب "لتلوين" الموقف بالوان معينة، ولكني أعفي نفسي من الجري وراء الاشاعات، مكتفيا بان اؤكد ان الصورة التي تراها القاهرة من خلال ما يرسله موظفوها في السودان، ليست هي الصورة الحقيقية للموقف فيه.

وامتد فشل الموظفين المصريين في السودان الى ما هو أبعد من هذا.

لقد مضوا يتشاحنون فيما بينهم، أيهم له مكان الصدارة وحق الاولوية، وشهدت بعض الحفلات العامة في السودان، موظفين مصريين كبارا يغضبون ويحتجون لان موظفين مصريين آخرين قدموا عليهم في أماكن الشرف!!

8- ولكن مصر صنعت الكثير من اجل رفاهة السودان، فلماذا لم يثمر هذا كله؟

  • لقد قامت مصر باعمال ممتازة كثيرة في السودان.. اقولها وانا اشعر بالفخر كمصري، ولكن الأسف لا يترك لي وقتاً طويلا للفرحة!

ان الذي زرعته جهود مصر كلها في السودان، حصدته تصرفات بعض ممثليها فيه!

لقد قام التعليم المصري بخدمات ممتازة في السودان. ولكن، واسمعوا هذه الشكوى، وقد رددها على سمعي وزير معارف السودان، رددها والغيظ يملأ نفسه ويصخب في جوانحه.. قال لي:

- نحن نقدر كل التقدير ما تقوم به مصر لتعليم ابنائنا سواء في الخرطوم، او في البعثات في القاهرة، ولقد كنت أود لو ان ادارة التعليم المصري، استأذنتني بوصفي وزير معارف السودان، في الطلاب الذين تبعث بهم الى القاهرة انني لا استطيع ان اسمي ما تصنعه هذه الادارة الا بانه "خطف".

لماذا لا تقول لي، هل تتصور انني ساعترض لو انها اخذت زيدا او عمراً من الناس!

والرجل محق في شكواه وان اختلفنا معه في وجهة نظره ان مصر لا تعترف بوزارة السودان، ومن ثم لا ترى ان وزارة المعارف ووزيرها – كغيرها من الوزارات وغيره من الوزراء – اشياء واشخاص لها وجود حقيقي! ولقد كنا نستطيع ان لا نعترف بوزارة السودان كما نريد، ولكننا كنا نستطيع في نفس الوقت ان نسمو على المشاحنات وعلى الضغائن.

وشكوى وزير المعارف في السودان نموذج صغير، ولست أريد ان أعدد نماذج كثيرة، وانما يهمني ان أخلص من ذلك بان موظفي مصر، هم، في كثير من الاحيان، العامل الاول في إحباط سياسة مصر!!

9- هل وصل هذا كله الى القاهرة... واذن كيف سكتت عليه؟

  • لقد لاحظت ان بين الخرطوم والقاهرة ستاراً حديديا مخيفا ولقد كان أول ماراعني في السودان – ولقد زرته أكثر من مرة في السنتين الاخيرتين – هو قلة ما تعرفه الخرطوم عن نوايا القاهرة، وقلة ما تعرف القاهرة عن نوايا الخرطوم.ثمة حاجز ضخم كبير يقوم كالسد الهائل ليحجب كلتا العاصمتين عن الاخرى ولقد تبين لي ان السبب هو ما يلي.. ان مصر تعتمد في اخبارها عن السودان، وفي تقديرها للموقف فيه على ثلاثة عناصر.. اولها – تقارير احزاب الوحدة مع مصر وثانيها – تقارير الموظفين المصريين في السودان وثالثهما – اخبار مراسلي الصحف المصرية في الخرطوم.

واحزاب الوحدة مع مصر – وحالها كما وصفت – صاحبة مصلحة في تلوين الاخبار لمصر كما يروق لها.

والموظفون المصريون في السودان – وحالهم كما وصفت ايضاً – اصحاب عواطف ، ولا اقول مصلحة، في تلوين الاخبار كما يروق لهم ، يبقى مراسلو الصحف المصرية في الخرطوم والكارثة فيهم أدهى وأمر اقول هذا وانا اعلم ان عددا كبيراً من صحف الخرطوم سيبدأ غدا – بعد قراءة هذا المقال – حملات ثائرة ضدي.. ولكني اقوله وامري الى الله، لاني اعتقد ان مصلحة مصر تقضي ان يقال هذا الكلام!

ان اهتمام الصحف المصرية باخبار الخرطوم، اهتمام طارئ لم يشتد ساعده الا منذ سنة 1945.

وحين بدأت صحف القاهرة في هذا العام والاعوام التي تليه، في اختيار مراسلين لها في الخرطوم، لم تجد بداً من ان تلجأ الى حزب الاشقاء او غيره من احزاب الوحدة فيختاروا لها من يتولون مراسلتها.

والنتيجة ان معظم مراسلي صحف القاهرة اصبحوا من اعضاء لجان الاحزاب التي شاء رؤساؤها مكافأتهم على حساب معلومات الرأي العام في القاهرة والنتيجة ايضا ان معظم ما تنشره صحف القاهرة من انباء السودان "ملون" باتجاهات خاصة وأهواء معينة!

10- هل ضاع الامل في السودان.. او ما هي الفرصة أمامنا؟

  • اني اعتقد اننا نستطيع ان نجمع السودان كله حول التاج المصري ان التاج المصري في اعتقاد كثير من العقلاء – بل وغير العقلاء – في السودان هو الحل الوحيد لمشكلة الحكم هناك وليس في السودان من يكره مصر اطلاقاً، وانما في السودان – كما في مصر – كثيرون يكرهون تصرفات مصر!

وليس هناك من يجادل في مدى حاجة مصر الى السودان، بقدر حاجة السودان الى مصر!

ولكن علينا ان نواجه الامر بحقائقه مهما كانت مؤلمة ان كل سياستنا في السودان، حتى الآن، فشل كامل ويجب ان نغير اتجاهاتها على ضوء الحقائق وعلينا قبل هذا كله، ان ندرك اننا نستطيع ان نكسب الخرطوم.. هناك في الخرطوم!

أما الاماني الكسيحة، والاوهام المشلولة العاجزة في المكاتب الوثيرة الانيقة في القاهرة، فانها لا تستطيع – لسوء الحظ – ان تقطع المسافة الشاسعة الى عاصمة الجنوب!!

محمد حسنين هيكل

آخــر ســاعة/

كانون الاول (ديسمبر) - 1951

المصادر

  1. ^ "كأنك تقرأ اليوم !". فيسبوك. 2021-02-20. Retrieved 2021-02-27.