هذه ليست قصة

ابراهيم العريس.jpg هذا الموضوع مبني على
مقالة لابراهيم العريس
بعنوان مقالة.

"هذه ليست قصة" Ceci n’est pas un conte هي قصة من تأليف الكاتب الموسوعي الفرنسي دني ديدرو في 1772.


بعدما كان من الصعب في أزمان سابقة الفصل بين العالم والفيلسوف والمفكر في المسائل الأخلاقية والأدبية، كان من مميزات عصر التنوير الأوروبي، سواء كان ذلك في فرنسا أو ألمانيا أو حتى في إيطاليا، أن صار من الصعوبة في مكان الفصل هذه المرة بين الفيلسوف والأديب وربما بشكل أكثر تحديداً بين الفيلسوف والروائي. صحيح ان كثراً من الفلاسفة جربوا حظهم في الرواية او الأدب في شكل عام قبل ذلك، لكن الأمر كان يعتبر مجرد نزوة يمارسها الفيلسوف في اوقات فراغه ربما على سبيل التسلية، أو لخدمة فكرة معينة أو إرضاء رفيقة أو عاهل أو صديق. ولكن لاحقاً، مع فلاسفة من طينة غوته أو فولتير أو جان - جاك روسّو، صارت الكتابة الأدبية جزءاً أساسياً من عمل الفيلسوف الذي بقدر ما يترك كتباً فكرية عميقة، يحرص على ان يترك للآتين من بعده آثاراً روائية، أو مسرحية لا تقل عن تلك أهمية. وفي هذا السياق هنا يمكننا ان نتوقف عند الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو لنتفحص، بعيداً من موسوعته الشهيرة التي كانت معلَماً من معالم الحياة الفكرية التي استبقت الثورة الفرنسية، بل مهدت لها، عدداً من أعمال أدبية خالصة.

ونعرف ان دني ديدرو كان واحداً من أبرز المفكرين التنويريين الذين عاشوا في فرنسا خلال القرن الثامن عشر وكان لهم دور فكري تنويري كبير في اندلاع الثورة الفرنسية، وخصوصاً في حركة الوعي التي سبقت اندلاع تلك الثورة، وكانت واحدة من الحركات الفكرية الأكثر اهمية في التاريخ. ارتبط اسم ديدرو، بخاصة، بذلك المشروع الفكري الكبير، الذي بالكاد كان ثمة سابق له في تاريخ الفكر: مشروع الموسوعة التي اشتغل عليها مع عدد كبير من زملائه الكتاب والعلماء والمفكرين خلال الجزء الأكبر من سنوات عمره، الى درجة ان كثراً اعتقدوا انه لم ينجز في حياته اي كتابات جادة اخرى. لكن هذا غير صحيح إذ ان ديدرو الذي عاش ما يقرب من ثلاثة ارباع القرن، كان دائماً غزير الإنتاج نهماً الى الكتابة، يبدو وكأنه يسابق الزمن. وكان من اولئك المفكرين والكتاب الذين يعرفون ان الكلمة يمكنها ان تلعب دوراً كبيراً، من ناحية في ايجاد مبرر للوجود الإنساني نفسه، وثانياً في ترقية المجتمع من خلال دفعه الى القراءة والمعرفة. بالنسبة الى ديدرو كانت المعرفة نفسها فعلاً ثورياً، او على الأقل: كان يمكنها ان تلعب الدور الأساس في اي فعل ثوري، وذلك بكل بساطة لأنها تخلق وتراكم عند متلقيها ذلك الوعي الذي من دونه لا يكون ثمة مجال لأيّ تغيير في الذهنيات وكان ديدرو يعرف أن أية ثورة لا تكتمل ولا تنجح إن لم تكن متضافرة مع الوعي التغييري.

ومن هنا كتب ديدرو، كما قلنا، كثيراً، ونوّع في كتاباته، بين نصوص المعرفة العلمية (حيث يحمل توقيعه عدد كبير من مقالات «الموسوعة» نفسها) والرواية والمسرحية والقصص القصيرة. ولئن كان قسم كبير من كتاباته تميّز بتركيزه على المعلومات والتحليل، فإن قسماً لا بأس به من تلك الكتابات تميّز ايضاً بقوته الاستفزازية وبرغبته في المشاكسة. ولعل من اللافت في هذا الصدد ان نذكر ان ديدرو، الذي بالكاد عمدت الرقابة ايام الملكية في القرن الثامن عشر في فرنسا، الى منع اي من كتبه، وجد الرقابة في منتصف القرن العشرين، وفي فرنسا الحرية والعقل والتنوير وبخاصة بعد ثورة ربيع باريس التي شكلت في تاريخ الشبيبة والفكر الإنساني احد اعمق التبدلات الذهنية، وجد الرقابة تمنع فيلماً حققه جاك ريفيت أوائل سنوات السبعين من القرن العشرين عن نصه الروائي الاستفزازي المعروف باسم «الراهبة». والطريف ان كثراً رأوا في ذلك المنع المتأخر انتصاراً لديدرو ويضعه في مصاف الكتاب المشاكسين والمتقدمين ابداً، بقدر ما رأوا فيه انتكاسة للحرية الفرنسية، لكن هذه بالطبع حكاية أخرى لا علاقة لها بموضوعنا هنا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

النص

موضوعنا هنا يتعلق بواحد من بين أعمال ديدرو، لم يعرف على نطاق واسع يضمه كتاب عنوانه «هذه ليست حكاية». وهذا الكتاب كان قد نشر للمرة الأولى في العام 1773، مع بعض التعديلات التي أُلغيت لاحقاً، على النص الأصلي الذي كتبه ديدرو، وهي تعديلات قيل أحياناً أن الرقابة هي التي فرضتها ولكن قيل في أحيان أخرى ان الكاتب نفسه هو الذي طلبها من ناشره. وهنا سيكون مفيداً ان نذكر ان هذا النص الذي جاء على شكل حوارات، كان من آخر الأعمال الأدبية التي كتبها ديدرو، الذي كان يقول انه يجد في الكتابة الأدبية راحة نفسية له، من الصعب عليه ايجادها في الكتابات العلمية. ومع هذا من يقرأ «هذه ليست حكاية» سيجد انها ليست من النصوص التي تريح كاتبها او قارئها. ذلك ان هذا النص يدخل في صلب الاهتمامات الأخلاقية والفكرية التي طالما شغلت بال ديدرو، ما سهّل في بعض الأحيان اعتباره كتاباً أخلاقياً - أو حتى أخلاقياً مضاداً بشكل ما - بقدر ما هو كتاب أدبي أو حتى روائيّ.


ثلاث "قصص أخلاقية"

في شكله الخارجي الأدبي الصرف، يحتوي «هذه ليست حكاية» على حكايتي حب مختلفتين تتتابعان في الكتاب من دون ان يكون ثمة رابط حقيقي بينهما. تتحدث الحكاية الأولى عن الشاب تايني المغرم بامرأة حسناء وسيدة من سيدات المجتمع تدعى ريمير. وهو من اجلها، على رغم فقره وأصوله المتواضعة، مستعد لبذل كل جهوده للحصول على المكانة والمال. وهكذا يتوجه الى مناطق المستعمرات الفرنسية حيث الثراء السريع، ويمضي هناك سنوات يجمع خلالها ثروة لا بأس بها، ثم ما إن يعود حتى يتوجه الى فاتنته ليقتسم ثروته معها معتقداً انه في الوقت نفسه يقاسمها عواطفها وقلبها وحياتها، من دون ان يعرف ان هذه الفاتنة عاشت كل حريتها وعلاقاتها كما يحلو لها خلال غيابه، وأنها لا تزال مستعدة لفعل هذا في كل لحظة. وهكذا بعد فترة سعادة يقضيها مع المرأة، يحركه نهمها الى المال من جديد فيتوجه الى كندا حيث يكلف بمهمة لا تخلو من الخطورة، صحيح ان تايني هذا لم تعد تساوره اي اوهام عن الحب او عن هذه المرأة التي كانت تجسد الحب بالنسبة إليه، لكنه مع هذا يواصل بحثه عن الثروة لمجرد ألا يغضبها. وينتهي به الأمر لأن يموت خلال مهمته الكندية.

في الحكاية الثانية لدينا فتاة حسناء تدعى «مدموازيل لاشو» تحب فتى نبيهاً ومجتهداً يدعى غارديل... إن حبها له كبير، وهي في سبيل هذا الحب تجابه العالم كله غير مبالية. إن الكل ينصحها بتركه، اما هي فلا تصغي إلا الى دقات قلبها، فتساعد حبيبها وتعطيه كل حياتها وما لديها، مضحّية بكل شيء من اجله. لكن غارديل، الطموح والجاحد، سرعان ما يمل من حكايته معها، ويبدأ في صدّها غير مصغٍ لأصدقائه الذين يدافعون عن حب الفتاة له، كل ما في الأمر انه يقول لهم: إذا كان في حقيقة فؤاده لا يحبها، فإن ليس ثمة اي ترياق لذلك، وتموت الفتاة البائسة حسرة، فيما ينجح هو في حياته ويصبح أستاذاً للطب في جامعة تولوز.

كما أشرنا، تُروى لنا هاتان الحكايتان من خلال حوار يدور بين الكاتب وصديقه. وإذ يجد هذا الصديق أعذاراً للسيدة الجاحدة في الحكاية الأولى ولگارديل في الحكاية الثانية، يوجه الكاتب الملامة الى صديقه معتبراً اياه منافحاً عن «الغادر والجاحد والمخادع». وهذا ما يجعل من هذا العمل نصاً اخلاقياً، لكنه في الوقت نفسه يبدو - على شاكلة الأدب والأخلاق في ذلك العصر - متأرجحاً بين البعد الأخلاقي والبعد العاطفي. ودني ديدرو (1713- 1784) كان في معظم كتاباته مهتماً ايضاً بالجانب الأخلاقي، ولكن كطارح للسؤال اكثر منه كعاثر على اليقين. وتشهد بهذا طبعاً، أعماله الأدبية ومنها، إلى ما ذكرنا: «هل هو طيب؟ هل هو شرير؟» و «ابن أخي رامو» و «دراسة حول حياة سنكا»... الخ.

الهامش

ببليوگرافيا

اقرأ نصاً ذا علاقة في

هذه ليست قصة


القصص الثلاث

  • Christiane Frémont, Stanford French Review, (ISSN 0016-1128), 1988, vol. 12, n° 2–3, p. 245-264.
  • Michel Delon, introductory note in the edition of Les Œuvres de Diderot found in the bibliothèque de la Pléiade
  • Valérie André, Féeries, 3, Politique du conte, 2006, [En ligne], mis en ligne le 4 mai 2007. URL : http://feeries.revues.org/document149.html. Consulté le 02 juillet 2008.

Ceci n'est pas un conte