نقاش:ولاية باتنة


عنوان الكتابسطور من جمر العيون

المؤلف :عــلي عبد الواحــد

الإهداء :

إلى كُل ذِي عَيْن ذرَفتْ عَبَـرات الرّحمة فبَللت الأحْداق والآمَاق، ثم انسَكبتْ على الخدود مُنْفلِـتةً مِن الجـُفُون التي تحاول إرجاعَها لِتـؤنس البُؤْبـؤ، لكن هيهات..... إلى كُل مَن ذاق مَرَارة الألم وتجرّع كأس الهُموم التي يأتي بها الليل الأسود بنَسْجِه، والبَحر الصارخُ بموْجِه، والشتاء البـارد بـهَرَجِه ....

                                        أرفع قـلمي ...


    مقدّمـة :

ما أجملَ أن نقــرأ وأن نكـتــــــب ! وما أجـملَ تلك اللحظات السِّحرية التـي تسـيل فيها الرّوح مِدادًا على الـورق، فترسُـم حُـروفا نـورانية تلامسُ لِحاف القلوب فتهْتز طرَبًا وتفِيضُ إحساسا . تلك الحُروف تـُحَاكي نور شمس الصـباح الــذي يُــعانق واحــة نخــيل، فتـستفــيقُ أطــيارها وتـرسل إلــى مـَسَامِــــع الطبـيعة أعــذب الألحان . الكـلمة أيـها الـناس رَسُـولٌ يدخل إلى الـذاتِ البشرية دون استـئذان، فيترُك فيها ســعادة ًمَالهَا نظير، أو يمـــلأها حَــسْرة ًوألمًا لــــذيذ يْن ! فمَـنْ منّا لا تكسِبُهُ وجدانيات ابـن الفارض وعُمر إبن أبي ربيعة أجنة يطير بها في عـــــالمِه، ولا تحْمِله كلمات جبران خليل جبران إلى أبعـد من الخيال، ولا يَهـيمُ في حُبّ بـنت المُستكفي إذا قرأ لابن زيدون، ولا يَصُول في صُروح المُلوك ومَقاصـير الجَواري إذا تصفـح ألـف ليلة وليلة .

ومَنْ مِنّـا لا تمــتلأ مُهْجَــــتهُ بسَيْــــل مـن العواطــــف إذا قـرأ " الــبُـــؤساء " لِهيــــجُو ولا تتحرّك أوتارُ فـــؤادِه إذا سَمِــع أشعــار الفحُول، فمِـــنْ لامِــية العـرَب للشـــنفرى ومُعـــلقات الجاهليين، إلى روائـع العَــدَويّة في الحُـــبّ الإلــهي، ومدائح إبن ثـابت والمتـنبي وطرائـــف أبـو نـواس ورُبـاعِــيات الـــخيّام ولـُزُومِيات إبـن المَعرّة، وحِكــم شوقـــي وحَمَاسـة الشـــابِّي وثـوريات مُفــدي زكريا وغـيرهم من نُحّـات الكـــــلام .

الكــلمة الحـلوة يا إخواني – أعزّكــم الله – حُزمة ُنور تتسـرّب إلى ظلــمة القـلوب، فـتنــيرها وتجعــــــلها لألاءَة ًفي أجــــسادكم، فــأدّوا للكـــلمة حَــقها عِـنـدكم تجعــل قلوبــــكم سُــــرَجًا تـمشـون بــها .



                                                          الكاتـب



    • مَعْـزُوفةُ الكِتاب **
 أسطورة رجـُل كلِفَ بامـرأة مِثاليةٍ نسَجَها مِن خُيوط أوْهَامه، وظـلّ يــبحث عَنها طِـوال أيامه فلم يجدْها، ولقد زارته ليلـة ًفي أحـلامه، فكانـت من أسْعدِ ليالـيه لكنها سُرعان مـارحَلتْ بمُــجرّد أن فتــح عينــيهِ نـُورالصـّـبح فأقام عليها الحِـداد طــول العـُــمْر، وظـل ّعــــازبا إلى أن جرّعَـــتهُ يــدُ الزمـن كـأس الحِمَــــــــام !! .

مَشيْتُ في رَوضةٍ بها الوُرُودُ تفـُوحْ عِطرًا يُـذيـقُ سُـلافـة َالحَـيـاةِ الرُّوحْ فعَنَّ لِي بُـلـبـل ٌبيْنَ الطيُور يَنـُــــوحْ

              ويَسْـكبُ الدّمْعَ فوْقَ زهْرَةِ الأقحُوانْ 

فقلتُ : دَعْ عـَنكَ هذا ياجَميلا ًطـَمُوحْ فمَا عَوائِـــــــدُ بُلـــــبُلٍ البُكـَا والنـُّوحْ

              فـقالَ : ذرْنِي وهَمِّي أيّها الإنســــانْ

ذرْنِي أداوي جراحِي بالدِّمَا والدّمُوعْ وأزرعُ بالأسَى والحُزن كل َّالرّبُـوعْ فمُؤنِسِي مَالهُ بَعْدَ اليَـوْم رُجـُـــــــوعْ فقلتُ : أيْن غـَــدَا ؟ هَذا الـــذي تبكــــيهْ...

             هيَّا أجـــبْـنِي يافـــــنـَنَ البَــــــــــانْ 
             وامْلأني غِـبطة ًبصوْتِك َالـــــرنـَّانْ

وبعْـدَ صمْْتٍ طويـــلٍ أجابَ بالقوْل صَـــهْ واسْمَعْ إلى مَا أقولُ عَنْ مُعلـِّـــلتِي

            عُصْفورتي بُرعُمٌ مِنْ أيْكةِ الرّمــــانْ 
            وبَسْمَة ٌمِنْ ثغور الزَّهْر والرّيحـَـــانْ 

جاءتـْنِي ليْلة ًفي مُبتسِم المَنــــــــامْ فبانَ لي وَجْهُها في ضيْعةِ الأحْـلامْ وزارَني طيْفـُها الجَميلُ في هَجْعَـــــتِي فأضرَمَ ألفـَحَ النيران ِفِي مُهجَــــــــتِي وأكـْسبَ قلبي سَمَاحَــــــــة ًوصَفـــــاءْ وأدْخلَ النورَ إلى ظلمَةِ وحْـــــــــدَتِي فجُلـْتُ بها فِي أغـوَار قلبي الفسِــــيحْ ثمّ الهُوَيْنى مَشيْنا في ريَاضِي الــــتي نسجتـُها من خيــــــــــــــالْ وصُغـتُ فـيها الجَمَـــــــــالْ مِــنْ ذرّات الغــــــمَامْ واللـّيْلـَــــكَ مِن ضَــــــــبابْ وفي فؤادي لهَا بنيتُ صَومَعة ً مِن آهـــــاتِ النـــــــــــايْ وعَذبِ لحْــن الرّبـــــــــــــابْ فعِندَما أجْـلستـُها عـلى عَــرْشِها ومَـدَّها الليْـلكُ الغــرامَ في كـــــأسِهِ تبــسّم الصّـبْحُ فطـارتْ عُصفورَتي نعمْ ، لقد طـــــــارتْ وَرَاءَ السّـــــــحَابْ فيَــالهُ مِنْ صُــبح ٍزارَنِي حَامِـــــلا ً هـَمًّا وحُـزنا ودَمْـعًا حَارقا فِي انسـِــكابْ وَيَالــهُ مِنْ لــيلٍ أسْــودٍ خـــــادع ٍ أذاقـنِي طـعْم حُبّ حَاكـَهُ مِن سَـــــــرَابْ .












    • الوَفـــاء **
       هَوَى الظلام الدّامس في ليلة من ليالي الشتاء الباردة على إحدى القرى الجزائرية،  فغطـّت ستائرُه السوداء كل المرئيات، ما عَدا تلك العِمارات التي بقيت تلوح بأضواء خافــتة، فتظهرمن بعيدٍ متلألئة كحبّات اللؤلؤ. نام سكانها في دفءٍ تحت الأغطية الناعمة نوما عـميقا، بعيداعن قرِّالشتاء وعواصفه التي تكاد تقتلع بيوت الفلاحين البُسطاء الذين يتخذون من جذوع الأشجار فحْمًا يستدفـئون به، ومن أغصانها اليـابسة كـانونا لِطهي بعض المأكولات الشعبية .
غطى الليل البَهيمُ كليا أكــــواخ الفلاحــين الذين يستسلمون للنــوم بعد عودتهم من المزرعة، وتناولهم وجبة العشاء، وأي وجبة ؟ قطـعة خبز شعيروكأس لبن إن وُجد، ثم يستيقظون باكرا ويتجهون إلى المـزرعة ليحصلوا في آخر الموسم  على بعــض القوتِ مُقابل أعمال شاقــة . 

تهبّ الريح بشدة، فلا تسمع سِوى القطط تمُوءُ وتحتمي بالجدران من البــرْْد، أو تسمع خريـر مياه الوادي الذي يُخـيّل لك في التوائـه وانسحــابه كالثعـبان يلاحــق فريسته . من حين لآخـر ينبعث نقـيق الضفادع الصارخة في وجـه الطبيعة، فتقـشعِرّ منه الأبـدان، هنالك على هــضبة صغــيرة ليست ببعــيدة عـن الـوادي يتـراءى لـنا كـوخ صغـير كعُـــشّ فـي أعــلى شـــــجرة الصنوبر، تتلاعب به أنامل الريح، فتذهب به يمينا وشِمالا، لكنه يبقى متشـبِّثا بغصنه، صامدا متحـــدِّيا هــول الشتاء وقســـــوة الطبيعة .

      جلست " صفية " مُتكئة على وسادة بالــية قرب الكانون الـــذي ابْيَضَّ جمْرُه بعدما كان أحمرًا يرسل الدّفء في أرجــاء الكــوخ الصغير، تنظر تارة إلى ذلك المنظر الكئيب، وتـارة إلى وجه إبنها البريء وطورا آخــر إلى زوجها العَــــليل الذي يُـرسل أناتٍ متـتالية تعـبّرعـن الحُزن والأسى، وتلعَـن يَدَ الدهرالتي صفعته بقوة، فأرْدتـه طريح الفــراش لمــدة شهر كامل، عمي الصديق – كما يلقبونه – في العقد الرابــع من عمــره، ذلـك الفلاح الذي ورث عن أبيه قطعة أرض مصدر قـُوتِه، كان ينهـض باكرا، ويتجه إلى العمل بها عندما تلوح الشمس بأول بســمة من ثغـرها المُنير، فيســقي الأرض بعــرق جـبينه حـتى غـروب الشمـس ليحصُـل في آخرالموسم على بعض المحاصيل التي يسُدّ بها رمَقه وعائلتَه المتكــونة من زوجـــته صفــية  اليــتيمة وابنه الوحيد "كمال" الذي أتمّ الشهر الرابع والثـلاثين منذ ثلاث ليــال .

إنـقـلب عمي الصــديق يمينا وشمالا فـوق حَصير مزروع بأشـواك الآلام، وإبــر الأســــقام . حاول النوم فـلم يجد إليه سبيلا، نظر إلى طفله وإلى صـفية نظرة تحـمل معنى الألم والشفقة . تمنى لو كان بوُسْعِهِ أن يحملهما ويطير بهما إلى عالم السِّحْر والجمال حيث الحدائق الغـَـــناء والعصافير تشدو وثغور الورود مبتسمة، والنسمات تنعــش النفوس بعيدا عـن رياح الشــــتاء الباردة المُتسرّبة من ثغور جدران الكوخ، تمنى لو رحــــل إلى قصــور الملوك والأباطــــرة وجلس هو وصفية وابنهما على أرائك مُريحة، وناموا تحت الأغطية الحريرية واستمتعوا بألذ المأكولات وأطيَب الأطعمة عِوَضا لخبز الشعير الذي يتحجَّرُ في الأمعاء، فترسل أصواتا مسموعة شاكية طالبة وجبة شهيــة تريحُها . تمـنى لـو كان يسـكــن عِـمارة مـن العمارات المقابلة، ينعم بالدّفء والراحة ويتجـول في سيارة خاصة مُرتديا أفخر الثـياب، و يستدعي الطبيب كلما تطلب الأمر ذلك . أبحر عمي الصديق في بحر عميق، ثم عـاد ليُقاسم عائلته الصـغيرة هُمومها، إنه الرّجُل الذي عُرف بالرزانة وسَدَاد الرأي، وحِكمته في الحــــياة التي عـلـمتهُ الكــثيرمن جَــرَّاء خــــوض التجارب الجَمّة . حاول النهوض فلـم يستطع . نظرت إليه صفية نظرة مميزة وذرفـت دمـعتين طالـمَا تجمّدتا في الأحداق، فانسكبتا على وجنتيها اللتان اشتدّت حُمرتـهُما مــن شـدة البرد، ثم مـدّت يدها إليه لتعصِّب جبينه، فأمسكها ووضعها على شعررأسه الذي طغى عليه الشيب، فـلمَسَت جبهته بلطف، فأحسَّـت بحرارة أشدّ من حَـرِّ الكانون . ناولته كوب الحليب الذي كان بجانبه، فشرب قليلا منه ثم ردّ لها البقية وقال : أعطيها لكمـال، عنــدئذ ضمّت إبنها إلى صـدرها وأعطته كوب الحليب، فشربه مُبتسما، ثم أدارت رأسـها إلى زوجــها، ونظــرت إلى وجهه الشاحب، ثم طفقت تذرف دُموع الإحساس بالفراق الأبدي وقالت بصوت خافت : لا، لاتترك وَحيدَك يتعـذب .

نظـرإليها وابتسم ابتسامة مُصطنعة وأرسل صوتا هادئا يقول :

ما أمرّ طعم الحياة ! التي عكر صَفوَها الألم الذي يقطـع جسـمي إربـا إربـا، وما أبخـس هــذه اللحظات التي رأيتُ فيها دمعـــــة خالصة الشفافية، وكأنها تحاول أن تعـــود إلى مَضــجعِــها الهادىء، لكنها تنهــزم وتسقـط حارّة لافحة الوجنات، فتذيب الــروح وتصـــهر القـــلب، ثــم تضحي باردة تخمد النـيران الملتهبة، والتي تترامى ألسنتها إلى كامــل الجسد، آه ! ماأتـــعس مَن يرى نفسا بريئة تتكلم فيها السكينة، وتنطق عن لسانها مُـقل ٌمُبلـلة وجُــفون ذابلة، ويعـبِّر عن حالها مُحيّاها المُوحي بالكآبة، فـيبدو أصــفراكالزهرة الذابلة في عالم الزنبق والأقحوان، لكن مَهْمَا يكنْ ياصفية، فالفــرح والقرح ضِدّان متبارزان على مسرح الحياة، والحيــاة بستان فسيحُ الأركان واسع الجنبات، مَـلِيء بــورود الربيع وسِحْره ومُعكر بهوْل الشتاء وكدَره، فإذا ما جاء الربيع تفتحت أكمام الورود ضاحـكة مُــستبشرة وتطاولت سيـقانها وازدانت بأثـــواب شذية، وراقصت الطيور على إيـقاع الخرير، أما إذا ثارت الطبيعة تكــسرت سـيقان الزهـور المتباهية، وسقطت على الأرض طالبة النجدة، ورغـم ذلك فهي تنـثر بـذورها من جـــــــديد، ساخرة من زوابع الحياة حاملة لواء الأمل، فـليكن الأمل شعارك ياعزيـزتي، فالحياة بلا أمـل كالأشـــجار بلا براعم ولاثمار، والعيش بلا رجاء كالبحر بلا أنهـــار . ردّت صفية بصوت تنتابهُ الغصّاتُ قائلة : - أيّ أمل يا " خُـويَا " ، أي أمـل في هذه الحياة التي فجعَـتـني في والدي، فعــشتُ صِبَايا بـلا حــنان، يتيمة مثقلة بالأحزان، رمت بي الأيام في دهاليز لا مخرج لها، فأضحــيت تائهة لولا أن مَدَدْتني بيدك، فاهـتديتُ إلى هذا الكــوخ أين وجدت فيه رحمتك، فسَعِدتُ – والحق أقول - بأيــامي معك، وشعرت بأمان صدرك المُغـدق عليّ رغم الفـقر المُدقع الذي قاومناه يـــدا بيد، فآهٍ وآه على الأيام الحلوة حلاوة القبلة التي أرتشفها من خدّ كمال الصغير، وأظن يا سيدي أنه قد حان الوقت الذي سيضربني فيه الدهر ضربة قاسية . ماكادت صفية تكمـل حديــثها حــتى عاودتها الدموع وتساقطت من عينيها غزيرة، فمدّ يده إلى وجنتيها بصعوبة ومَسَحها وقــال : لا تبكِ، فالدموع لن ترجع المفقود، ولا تـقنطي من رحمة الخـالق الــذي سَـــوَّى كــل شــيء، واعلمي أن السعادة والحزن، الغِـنى والفقر، اللـقاء والفراق كلها كلمات سرمدية مكـتوبة على جـبين الحياة .....هكـذا انبعثت من حنجرة عمي الصديق تلك الكلمات بشـق النفس ممـــزوجة بالآهــات، ثم انقلب يسارا وأرسل أنة طويلة كانت نهاية للآلام، بداية لِرحلةٍ لا ينـــفع فـــــيها شقيق أو خليلة، لقـد لفظ أنـفاسه الأخيرة تاركـا وراءه جُرحـا عميقا وأمانة على عاتق الزمن، فهل يرعاها ؟ أم يرمي بها إلى الشارع ويكون مصيرصفية مصيرالوردة الجميلة التي يجرفها الوابل ؟ إقتربت صفية منه أكثرووضعت يدها على أنامله فأحسّـت بها جامدة، ثم أمعـنت النظرفي وجـهه فرأتـه كورقـة التين التي رمت بها رياح الخريف على أديم الأرض . نادتـــه باسمه، فلا مجيب ولا حياة للصديق، ذلك الزوج الحنون الذي وهَبَ حياته يكدّ من أجل لحـظات جميلة يقضيها عشية يخلو بزوجه وولده . لم تتمالك صفية نفســها وأرسـلت صــرخة مـدوية أيقـظت الفلاحـين من نومهم، فكان من تقـدم بأول خـطوة صوْبَـهاهــوالشـيخ " عــمر" ذو اللـحية البيضاء والعِـباءة البنية، الذي بدأ يُهدِّئها ويُعزيها ويكفكف دموعها الممتزجة بدمـاء خديــها المخدوشـتـين . - إهدئي يا بنيتي، فالموت حقيقة لا مناص منها، إنا لله وإنا إليه راجعون . أقبل بعدُ الجيران يتسابقون مُردِّدين : لقد رحل عمي الصديق، حقا مارأينا أطـيب قلبا منه ولا أصدق وأعفّ منه، رحماك ياربــاه، إنــا لله وإنا إليه راجعون . تقدم الشيخ عمرمن عمي الصديق وأغـمض عـينيه وقـرأ بعض الآيـات القــرآنية والأدعـية، ثم اتجه إلى بيته وأحضر رداءا أبيضا واراه به، وجلس بجانبه يدعو الله له المغفرة وحُســـن المآل، أما الجيران فقد انصرفوا إلى بيوتهم حاملين معهم هَمّ الأيِّم، بينما صفية جلست بجانب المـيت، وراحـت تـخمد النـيران المـتأججة في صـدرها بتـلك العَـبَرات المنسكبة من عـــينيها كالشلال، إلى أن لاح الفجر بأول نسمة من نسماته، وأرسل خيوطه النورانية على أطـراف الليل مُبَشرا بصباح جديد، قامت والدموع لا تزال تنهمر من عينيها وحملت قدحا من المــــاء تطهّرت به وأقامت الصلاة خاشعة لله، متضرعة إليه أن يـرحـم زوجــها ويغـفرله خــطاياه ، وكذلك بقيت عاكفة إلى أن إنصبَّ الصباح، فأقبل الفلاحون يُعَـزونها ويشاطرونها أحـزانها، فلا تكاد تسمع سوى آهاتهم النـاطقة بالحسرة والتأسّف والترحم . إتجهت صفية إلى بيت " سي عمور "، وطرقت بــاب منزله فخرجت الخادمة وقالت : - نعم، آه عمتي صفية، أهلا بك . - هل سي عمور إستيقظ من النوم ؟ - نعم، إنه يتناول فطور الصباح . في تلك اللحظات، إنبعث صوت جَهُوري يقول : مَن بالباب ؟ الخادمة : - إنها عمتي صفية زوج عمي الصديق . تقدم مِن الباب، فسبقتهُ كرشه التي تثاقـلت شحـومها علـيه، فأصبح لا يطيق المشي كثيرا . مسح شواربه الغليظة وقال : ماذا تفعــــلين هنا ؟ فأجابت : سي عمور زوجي توفي البارحة ( سمعتها الخادمة، فراحت تبكي ) ولقد جئتـك لتحمل نعْـــشهُ بسيارتك إلى ... ما كادت تكمـل كلامـها حـتى قاطـعها غاضـبا : أغـربي عن وجهي، هـيا اغربي، سيارتي لا تطيق حمل الجثث النتنة ، هيا ارحلي... حينئذ عادت صفية إلى كوخها كالعصفورالذي لم يظـفر بزاده، فعاد إلى عُـشه جـائعا متألما ، فوجدت الشيخ "عمر" غسل الميت ووضعه في صندوق أتى به من المسجد . صلى الجـــميع عليه ثم حملوه إلى مَثواه الأخير أين واروهُ بالثرى الناعم الذي وهــب حيــاته يســقيه بعـــرق جبينه، ولمـا عـادت صفية إلى الكــوخ وجـدت صغـيرها كمـال قد استيـقظ من النوم، وتلمّـس مضجع أبيه، فلم يجد سِوى بعض الأغطية البالية، ثم نظرإلى أرجاء الكوخ ، فلم يَـرَ سِــــوى الأثافي يتوسطها الرماد، أو قطعة الخبزالموضوعة في الصحن الفخاري الذي تراكمت علـيه طبقة مـن الغبار،فأجلسته في حجرها، وأخذت تداعبه وتمسح شعره، علهَا تـتناسى فجيعــتها، لكنه أدار إليها وجهه البريء وسألها : مّا ، أين بابا ؟ في تلك اللحظات، أحسّــت بسـيـف يختـرق قلبـها ويقطـع شرايـينها، فطأطـأت رأسـها وقـبّلت جبينه ثم ضمته إلى صدرها وقالت : إن أباك سافربعيدا يابني ليأتينا بالطعام واللـباس، تـُــرى ماذا يفعـــــل الآن ؟ بعد ذلك حطت طفلها على الحـصير ، وخـرجت من الكوخ لتكفكف شلال الدمـــــــــــــوع !!


 رحــل عمي الصديق إلــى الأبــــد ولم يتــــرك لصـفية الـتي لم تكــمل حَوْلها السابع والعشرين بعدُ، سِوى الصغــيركمال أو الصـمت الرهيب المُخيِّم على أركان الكوخ الحقــير، لقـد استلقى في مخدعه الهادىء ليستريح من هموم الدنيا وأتعابها، لكــــن طيفــه لم يغـــادر الكوخ ، فكان صـدى كلمات الـوداع يـرنّ فـي أذن صفـية فـي كـل لحــظة، وتلك الحِـكم التي 

استسسقاها من مَنهل الحياة تحرِّك خطاها إلى الأمام، وتبثّ في نفسها روح الأمل الــذي طــــالما ردده المرحوم، حتى وهو يصارع سكرات الموت . كانت تستيقظ من نومها كــل يوم عندما يمدّ الفجرراحته إلى الأفـق ويمسح فـتــيتات الظلام المتناثرة هنا وهناك، فلا تسمع سوى ديك القرية الذي يَصيحُ بأقصى ماتقدر عليه حنجرته ، فيوقظ ذوي النفوس الفاضلة والعقول المُضاءَة بالنور الإلهي، فتقوم لربها خاشعة داعية إيـــاهُ بالرحمة والرفق، أما ذوي النفوس الدنياوية فهي تتلذذ أكثر بالنوم في هـذا الثلث الأخير مــن الليل ، خاصة في أيام الشتاء التي يلسـع صقـيعها الأبدان، ويجمد الأطراف . كانت صفية من بين أولئك العابدين الذين لا يطمعون إلا في يَدِ الخالق البيضاء التي تبسط لهم الرزق الطيب ، وتمُدهم بـزاد التقوى والصبر ، وتغرس في قلوبهم بذور الرحمة والخلق الحميد . تطيل السجود داعية الله بغـدٍ منير، وعندما تتمّ صلاتها تنهض لتعـصرالحليب من أثداء العنزة الرابضة في حوش صغير يحيط بالكوخ، فلا تكاد تنزل قطرة منها حتى تأبى رؤوس الأصابع أن تنحـني، فتجـمد مستسـلمة لقساوة ذرّات الصقيع المتساقطة على كل المرئيات ، ثم تـقف وتلج باب الكوخ ، وتحمل بعض الأغـصان اليابسة وتضعها في الكانــون، وتُضــرم النار وتضع عليها إبريق الحليب، بعد ذلك تصنع خبز الشعير وتترقبه حتى ينضج، فتقسمه قطعا قطعا، وتضعه في صحن فخاري ثـم تغطيه، أما كمال فيفتح عينيه عندما تعانق أشعة الشمـس المُنفلتة من جدران الكوخ مُحياه البريء، ويغرد أول عصفور مُرحبا بالصباح ، فينظرإلى أمه ويعبِّر لها عـن تحيته بابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيه، فتجلسه في حجرها وتغسل وجهه بقليل من الماء الفاتر ثم تقدم له قليلا من الخبزالمفتت وكأس الحليب، فيتناول فطوره، ثم تعيده إلى فراشه وتغطــيه جيدا، وتجلس بجانبه مرتلة بعض الآيات، أو منشــدة بعض المدائح الدينية إلى أن تنطبق أجفانه من جديد، فتقوم وترتدي عباءة المرحوم التي نسجتها له من الوَبَر، وتلبس حذاءه ثم تلوي عـلى رأسها لحافا، وتلثم بجزء منه، فلا تكاد ترى من جسدها سوى عينيها الكبيرتين المتدفقتين بمـاء الـشباب، فتبدوان كأنــهما مرسومتان بريشة رســـام .

 تضع المقلاع على كتفها وتتجه نحو الحقل بخطى متثاقلة حتى تصـل فتنتف بعـض الأعشاب المنتشرة في الأحواض، ثم تروِّيها بميــاه الوادي فيرتشفها الثرى وتمتصها النباتات التي سئمتْ صفعات الصقيع، وقـرّالشتاء، وسرعان ما ينزلق الشق الأول من النهار، وتتوسط السماءَ الشمسُ المختفية وراء نقاب السحب المتراكضة، فلا يكاد أديم الأرض يرى سوى غمزاتها السحرية التي ترسلها في تستر، ثم تعود وتختفي وراء السحب السوداء . تحمل صفية المقـلاع وتتبع مسـلكها المعتاد حتى تصل إلى الكوخ ، فيستقبلها طفلها الذي تجده قد استيقظ من النوم وخرج ينتظرها، فتهرول نحوه وتحمله وتحتضـنه إلى صـدرها كما 

تحتضن السّنونوة ُنسائم الربيع، ثم ترمي به في السماء وتدغدع إبطه، فيزداد اغتباطا، ثم تطبع على خده قبلا مفعمة بالحنان، كما تطبعها النحلة على وجنات الورود وتمتصّ رحيقها ، فتنتج عسلا طيبا فيه شفاء للناس، ثم تدخل الكـــــوخ وتحمل الجَرّة الفخارية ، وتــذهب إلــى الينبوع الرقراق الصافي الذي يتفجرمن صلب الجبل المتعالي، فتسـتسقي منه ثم تعود وتتجه إلى ركن من أركان الكوخ لطهي وجـبة الغداء، بينما كمال يبقى يراقب حركات أمه حركــة بحركة، وبين آونة وأخرى يساعدها ويمُدها ببعض الأواني، أما هي فتضع بعض حبات البطاطس واللفت في الكانون فإذا استحالت بشرتها سوداء اللون، تنزعها وتقسم كل حبة إلى نصفين وتأخذ بيضتين مسلوقتين وقطعتين من الخبزوتضع الأكلة في صحن فخاري صنعته بيدها، حينئذ يتقدم كمال ويجـلس في حجر أمه، فتطعمه مما هو موضوع في الصحن حتى يشبع، فتناوله قليلا من عصير الليمون، ثم تمسح فاهُ بقطعة حريرية إحتفظت بها من يوم زفافها ، وتأكل هي ماتبقى في الصحن بعدما تفتح شهيتها بقبلات ترتشفها من الوجه الطفولي الجميل، بعد ذلك تستـلقي على فراشها لتستريح من أتعاب الصباح، وسـرعان ما تغفو بينما يبقى كمال يُحرك بعصاه جَمَرات الكانون حتى يسأم منها، فينـام محاذيا لها محتميا بها مـن البرد، وبعدما تمرّ بعض الساعات تستفيق الأم من غفوتها، فتغسل وجهها بماء بارد، وتتجه إلى مربض العنزة، فتقدم لها العَلف، وتملأ قدحا بحليبها الذي تمخضه وتستخلص منه اللبن والسّمن، فأما اللبن فتشربه، وأما السـمن فتطعـم به وحـيدها الـذي غـلب بياض بشرته بـياض السَّمْن . وعندما ينقضّ الليل الطويل على الكوخ المقفر قفر الرّمْس المَنسي، ويغطي ببُردته السوداء فسَيْفِساءَ النهار، يَفِرّ الفلاحون إلى مضاجعهم هَرعِـين من قساوته ، لينعموا ببعض الدفء، بينما تكون صفية جالسة قرب الكانون تنتظر الصلاة، فإذا دخل وقتها تنهض وتؤديها مطيلة ًالسجود . ثم تتكىء على وسادتها، وبجانبها البرعم الصغير الذي يستمع إلى ماترويه أمه من الأساطير العجيبة، حيث تحلق به في آفاق بعيدة نسجها الخيال، فتدخل به قــصور السلاطين المبــــثوثة بالزرابي الحـــريرية، والمزدانة بالــــدّرر والـلآلىء، أين يتربّــع العبيد والجواري، ثم تذهب به إلى صَرْح ملك العفاريت، وتحكي له عن الغيلان المخيفة والطيور العظيمة، فينتابه الهلع ويقترب أكثر من أمه التي لا تزال ترْوي وتروي حتى تنطبق أجفانه الناعمة، ويسافر في موكب الأحلام الطفولية الساذجة فتغطيه جيدا ، وتنام بعدما تردِّدُ بعــض الأدعية والآيات، آملة في صباح يحمل مع أخيلته الخيروالبركة، حالمة بموسم الجَني والحصـــاد .

    حـشـد الشتاء جيوشه، وسافـربعيدا بينما أقبل الربيع بلمساته السِّحــــرية ليكـــسو الثرى بحـــلته الجميلة، بعدما نال منه قــرُّ الشتاء مَناله .

جاء الربيع، جاء الربيع، هكذا غردت طيور السّنونـُو مغتبطة سارحة ًفي الأفق الطلق . تحلق بعيدا ثم تحط فتحمل الطين والقش لتبني أوكارها . يامرحبا بك ياربيع، هكذا استقبلت مملكة الطبيعة ومضات الفصل البهي ، فلاح النسيم بأشذى نسماته، وعزف الخريرأروع سنفونياته فتراقصت الطيور، وابتسمت ثغور الزهور الــــبرية المُخضلة، وتطاولت سيقانها لتلثم تمَوّجات النسيم ، بينما طلعت الشمس، وتوسطــــت السماءَ الصافية صفاء ترائِبِ الغِـيد، وأرسلت أشعتها على صمت الطبيعة، فصَحَا النبت والشجر من غفوته، وتساقط الندى على وجنات الورود لينعـش بعِطره أديم الأرض . نهضت صفية باكرًا كعادتها وأقامت صلاتها، ثم تلت بعض الآيات من عــروس القـرآن التي كانت مــولعة بـــها في الأيام الخالية، أيام الطفولة، حيث كانت تختلف إلى المدرسة القرآنية ، شأنها شأن جل أبناء الفـلاحين الفــقراء الذيــن لم يكونوا في غـنى عن الــدراسة في المدارس الأكاديمية، لكن الفـقرحال بينهم وبيـن ذلك، ثم جلست تستمتع بالنظرإلى ابنها النائم، حتى دنا الصباح، فاستيقظ كمال فناولته فطوره، فأكل حتى اكتفى ثم حملته وخرجت به ليستقبلا مـــعا أول شعاع أرسلته الشمس ليُحيِّي الكائنات . أشارت الأم قائلة : أنظر يا بني إلى تلك الزهــور الرقيقة التي تستبشربقدوم الربيع المختال،غدًا سوف ترعى جَدْيَك في تلك الهضبة الخضراء. هَمَس في أذنها قائلا : ما الربيع يا ماما ؟ - إنه ذلك الرجل المُعتدل القد الذي يرتدي بذلة جميلة، يأتي كل عام ويزور الورى ضاحـــكا مبتهجا، فيســـقي الأرض بالرذاذ الخافــت، فتــتطاول الأزهار، وتــلوح بعَبيرها الفواح الذي يلامس الأرواح فتزداد طيبا وصفاءا . - وهل سيزورنا نحن أيضا ؟ إبتسمت الأم ونظرت إليه مشفقة عــلى بــراءة الطفولة ، وقالت : نعم، ياصــغيري، سيزورنا نحن أيضا لـيزين محيط كوخنا بأساور خضراء . - وهل أبي سيكون هنا ؟ لم تطق صفية الإجابة، فقد تلعثم لسانها وارتعشت أناملها وجفّ حلقها، وأحسّـت بمـرارة فـيه كأنما أحدٌ ناولها ماء الحنظل، لكنها تفطنت ورسمت على شفتيها بسمة مزيفة، وتلفظت بعــد جهد جهيد بلا ياحبيبي، إن أباك لن يكون هنا إلا بعد أربـــعة أعــوام أو خمـسة، ثم حملـــته وولجت باب الكوخ لتكــفكـف ماخانتْ به العـيــنُ من دُموع .

        ذهبت صفية إلى الحقل بعدما صبّت دمعـها على الجَمْرة المُتقدة في صدرها، وجلست إلى جذع شجرة مُزهرة، تتأمل بهاء أثواب الربيع . وضعت يدها على خدها فأحسّت بخشونة غير معهودة، فـنظرت إلى يدها التي كانـت ناعمة مثل الحرير، فوجدتها قد تورّمـت وانفلـقت 

كما تنفلق الأرض الجدباء إذا ما انساب عليها السـيل، فأطلقت تنــــهيدة طويلة وقالـت : آه، آه ! عليك يا الصديق، لماذا تركتني أتعـذب ؟ في تلك اللحظات مَرّ بها رجـل يـحمل في يـده عـصا غليظة، ويرتدي حلة بدوية، بدَا لها كأحد الرعاة فلم تعِرْهُ اهتماما. بادرها بالتحية، فردّت عليه، فانبعث من تحت لثامها صوت نسوي رقيق كأنه لحن موسيقار، فتوقــف الرجل وعـاد إلـــيها مبتسما وجلس بجانبها، فنظرت إليه نظرة يتطاير منها الشرر، فمدّ يده إليها متلطفا وقـــــال : عليكِ كنت أبحث ياريم الفـلا . فـلما سمعت كلامه وعرفت مَـرَامَه ، وقفت وصفعــته صفــعة قوية إحمرَّمنها خده وصرخت في وجهه : أغرب عن وجهي أيها الوغـد الحقير . حينئذ ثارت ثائـرة الرجل ومدَّ يده إليها ونزع عباءتها، ثم أمسكها من شعـرها الأثــيث، ودفعها إلى جـــذع الشجرة، فسقطت، أما هو فبدأ يتمطى ويردد : أين المفـرّ ياحلوة العــيون من مُدلل هائم ؟ وراح يقهقه ويتهاوى عليها بجناحيه شيئا فشيئا، وإذا بها تحمل حفنة تراب وتلقيها في عينيه ، فبدأ يصرخ وينوح قائلا : لقد أعمتْ بصري، لقد أعْمَتْ بصري ياناس ، عندئذ إستندت صفية إلى جذع الشجرة ووقفت، بينما كانت الدنيا مظلمة في عين الرجل، وحملت المقلاع وضربته ضربة واحدة بين حاجبيه فسقط جثة هامدة . وقفت إذذاك على رأسه المتقاطر دمًـــــا تردد : أيحق لك أن تدوس بقدمك النتنة شرفي أيها الجبان ؟ إذهب ضحية شهواتك ، أيحـق لـك أن تفــك الرباط الطاهر بيني وبين الصديق ؟ إذهب إلى الجحيـــــم . بعد ذلك إتجهت مباشرة إلى كوخها، وجلست ساكنة حتى استيـقظ كمـال فنـاولته الطـعام ، ثـم جعلت من جسـمه دُمـية ًتلعب بها وعقـلها ســارحٌ في فضاء رحـــب، بـين تـأنـــيب الضــمير وطمأنـينة النفس لأداء الـواجب، حـتى ودّعت الشــمس الكائنات وسطعَ النجم القطبي، وبــان البدر ليُنـيردروب الساهرين، فأغمضت عينيها وراحت تسبح في بحر الكوابيس.


          إستيسقظ سكان القرية على أزيـز سـيارات البـوليس ومعهـم سـي عمور، تــبدو أشباح الكآبة مرسومة على مُحياه، فخرجت صفية ونزلت عند إحدى جاراتها لتستفسر عـن الأمر .

- مالذي حدث ياكــلثوم ؟ - آه ! يا أختي، إن سي عمور بات يبحث عن إبنه سعيد الذي لم يعُدْ إلى المنزل، فوجده بعدما يئس منه تحت شجرة اللـوز جثة هامدة، تأكل منها الديدان والحشرات وقشاعم الغربان . - وكيف كان ذلك ؟ - لا أدري ، رجال البوليس مازالوا يبحثون عن القاتل وظروف القتل، لقد رأيت أحدهم يحمل حقيبة في يد وفي يده الأخرى قلمًا، ترى ماذا سيفعـل ؟. - وأين الجثــــــة ؟ - لاتزال في المكان بأمر من البوليس، ماقــاله زوجـي هـو أن المقـتول ضُرب عـلى مـستوى جبينه بوسيلة حادة . في تلك اللحظات إقشـعرّ بدنُ صـفية، واصفرَّ وجهها وارتعدت ركبتاها، فلـم تسـتطع النـطق، وأشارت لجارتها برأسها شاكــــرة إياها وانصرفـت .

النفس : أحسنتِ يا صفية ، كيف يتجرأ فتى مثل سعيد أن يُدنس عِرضك وهو الذي سقط مــن رحم أمه فوجد نفسه مَلويا بالقطن والحرير ثم نما وترعرع مُدللا يأمر ولا يأمر، ينعم بأشهى المأكولات وتلعب أنامله بكؤوس فضية مملوءة بأغلى النبيذ، تسقيه به فتيات همّهُـن الـــــوحيد هو الدينار، كيف يتجرأ فتى لم يحمل قط هَمّا بين ضلوعه أن يضع بصمة سوداء على ثـــوب أبيض طاهر، أنتِ يا صفية لست مثل فتياته اللواتي يتمايلن أمامه مَكسُوات بالعار، لا يجـــدن ريح الجنة كما قال عنهن خير أنام الله – عليه الصلاة والسلام – . الضمير : أنت يا صفية إمرأة كـتب الفــقر بمخــارزه على أحداقـك معـاني الفضيلة، وعــلمك الصبر والخلق النبيلة، أتدرين مامعنى أنك أزهقتِ روحا ؟ عظيم، عظيم جدا ، لماذا لم تفِـرِّي وتتركيه لحاله لمّا وضعت التراب في عينيه؟ لماذا عكرت يديك الزكيتـين بدمائه، ربما كـانت ممزوجة بالكحول ، لماذا ؟ أليس الصَّفحُ من شِـيم عـباد الرحمن ؟ النفس : قري في كوخك، ولا تخبري أحدا عن سرك، فإن علم أحدٌ، حتما سيعلم البـوليس أنك القاتلة وستزجين وراء القضبان، أما كمـال سـوف تنقضّ عليه مخــالب التشرد، ثم إنك أبية، لقد سحقت جرثومة لا تستحق العيش وسط الفقراء . الضمير : البوليس وسي عمور وكل الناس لا يعلمون أنك قاتلة ، لكنك تعرفين ذلك ، آه ! كم هي صعبة المحمل يا صفية ، لقد أثقلت كاهلي هذه الكلمة . حتى وإن لم يعلم البوليس ذلك، فإن هناك من رآك وكتبها في سجل أعمالك ، إنه الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخـفي الصدور، أما كمـال فحاشى أن تنقـضّ عليه مخالب التشرد، هل رأيت يوما شجرة التــفاح إذا أزهرت وأينعت ثمارها تحولت إلى أشـواك تـلدغ أصابع جـانيها ؟ هــل رأيــت منهلا صافيا رقراقا يتفجر من كبد جبل شامخ تحَوّل ماؤه اللجيني إلى سُم ناقع ؟ ماذا دهاك ؟ أليس لابــنك رزق في هذا الوجود ؟ لا تقلقي ، فإن ربنا يرأف بذوي الأحــداق المـبللة بدمـوع الألم والهم، هيا قومي واعترفي لرجال البوليس بخطيئتك، وكفري اليوم عـن ذنبك قبل غـد، هيا قومي ... نهضت صفية وحركت رجليها بصعوبة ، كـأن أذيـالها شـدت بجـدران الكوخ، واتجــهت إلى مركز البوليس بعدما ارتشفت عُدّتها من القبلات من كامل جسد ابنها . مشت وغــيمة ســوداء تعبث بأجفانها وتحيل لها تلـك الروضــة الغــناء التي رسمها الربيع بريشـته مـن حـولها إلــى مزرعة أشواك تخز قدميها كل لحظة، إلى أن وصــلت إلى المـركز فأدخلها الحاجــب . دقـت الـــباب . - نعم ، تفضل . دخلت مطأطئة رأسها حياءً . دعاها الضــابط للجــلوس فجلســت وكأنــما حُــط على كتفــيها جــبل عظيم . - ما خطبك ياسيدتي . - سكتت هنيهة، ثم رفعت رأسها شيئا فشيئا، وإذا بدمعة سقطت من عينها كالجُمانة، فمسحتها وقالت : باختصارياسيدي أنا الـتي قـتلت سعــيد إبن ســي عمور، وهاأنـذا جئت أطـلب جـزاء خطيئتي . نظر إليها الضابط نظـرة مميزة وقــــال : ألكِ كل هذه الجرأة ؟ - نعم سيدي ، إن حياتنا كلها هـفوات، وخير الناس من يتوب عن هفوته ، لقد فكرت مليّا بـين أن أمحي خطيئتي هذه مهما كانت قساوة العـقوبة، ثـم أنام بـعدها قريرة العين، أو أكـتمها فـي نفسي، وأبقى مجرمة أمام ضمـيري أبد الدهر، والحـمد لله ها قد جئت لأعلمكم بذلك معــترفة بفعلتي أمام الله وأمام القانون .

  خـيّم الصمت على القاعة الفسيـحة وساد الهدوء أرجاءها كأنها خاوية على عـروشها. في بطن القاعة تراصف عدد كـبير من الـناس جالـسين على كـراسي خشبية، منهم مـن هو ببـدلة حضرية رابطا عنقه برباط مـن أجْـوَد القـماش، ومنــهم من يرتــدي حلة بدوية، هـنالك عـلى الجدران التي سكب سوادُها على القاعة وحشة أشدّ من وحشة القفر، منقوشـة ٌبعـض الآيــات الكريمة التي تحث على العدل والإنصاف بين الناس، أما في صــدر المـجلس بان القاضي ذو عينين حادتين بدأ الشيب يخالط شعره الأسود ليجُرَّ به إلى باب الهَرَم، لكنه ما زاده إلا وقارا، من خلفه مرسوم ميزان القسط على الحائط ،وعلى يمينه مستشارومحلف وكذلك على يساره.

نادى القاضي شابا في مقتبل العمر باسمه، فتقدم إليه مُكبَّـلا بالأغلال وامتثل أمــامه وعـــلى وجهه ضبابة من الكبرياء، يبدو هادئا بارد الطرف، كأنما صُـبّت عـلى رأســـه عُـصارة مـن سحاب " يناير" أطفأت النار التي في قلبه . القاضي : أيـن دفاعــــــك ؟ الشاب : ليس لي دفاع يا سيدي، وليس بحوزتي الدراهم الكافية لذلك ، ولهذا سأتولى الدفاع عن نفسي بنفسي، ومستعد لتحمل عـقوبتي . القاضي : كم عـــمرك ؟ الشاب : خمس وعــشرون ربيعا . القاضي : لماذا قـتلت أختك يافـتى ؟ أهي مُومَسٌ حـــــقا كما صرَّحْت ؟ الشاب : سيدي القاضي، إن الله سبحانه وتعالى خلقنا وخلق مَعَـنا نعمة الماء، فإذا نــزل عـلى الأرض إهتزت وأنبتت فومها وعدسها وقثاءها وشجرها موزا ولوزا وصفصافا، فإذا ودّع الصفصاف أترابه ، وعلا وازداد شموخا في السماء حتى كادت أفنانه تلامس السحاب وأرسل ظلالا وارفة تــقي الأبدان من بطــش الصيف، بان في جـــذعه فرع ٌ أعوج يتمايل كالأعرج أو كذنـب الكبش ، هل أبْـتِره أم أتركه ؟ إلتفت القاضي إلى مستشاريه وتبادلوا الهمس ثم نظر إلى الفتى نظرة حادة بعدما فهم قصْدَهُ وأطلق : لكن القانون سوف يقطع زهرة شـبابك بسـيفه الحاد، ولـقـد رجّح ذنبك كفة القسطاس إلى عـشر سنوات نافـذة . نظر الحضورإلى وجه الشاب نظرة حسرة وأسف عليه، فالتفت إليهم وأومأ لهم بلحاظ حزينة تحمل معنى الألم والصـبر، ثم انصـرف ومعه رجل من رجـال البـوليـس يقــوده إلى الغــرفة المظلمة، ونظرت إليه صفية متأسّفة على لحمه الذي سوف تسافر عليه حشرات شريدة وراء القضبان، فأطلقت تنهيدة طويلة، كأنما لمـحت أمـامها وردة جـميلة تقـتـلعها ريـاح الأيـام مــن جذورها شيئا فشيئا وهي تصرخ مستغيثة، لكن لا مجيب، وماكادت تطرد تلك الأنـفاس كــلها من صدرها الحنون حتى ناداها القاضي، فوقفت أمامه جامدة كالتمـثال . القاضي : عرِّفـينا بنفسك . صفــية : صفية بنت السابع والعشرين، أقــطن بكـُـدية سيدي محـمـد، أم لـطفل عــمره ثلاث سنوات، رحل عنه أبوه إلى دار القرار منذ شهرين . - لماذا قـــتلتِ سعـــيد ؟ - سيدي القاضي، بينما آنَ لي أن أستريح من كـدّ الحقل تحت ظل شجرة، رأيت لـيـثا هَصُورًا يزأر ويتقدم إليّ ولعاب العار يسـيل من فاهُ، يريـد أن ينـهش لـحمي الطـاهر بأنـيابه، فـرفعت المِقلاع وضربتـُـــهُ ضربة أرْدَتـــــه قــتيلا . في تلك اللحظات هجم عليها سي عمور، ونـيران الغـيظ تتطايرمن عيــنيه، وهــويـــقول : أنا شريف وابني أشرف، كيف تتجرئين على قــول هذا أيتها اللعــينة ؟ حاول ضرْبها بعـُكازته، فأمسكه أحد رجال البوليس وأجلسه في مكانه، عندئذ دق القـــــاضي مكـتبه بمطرقـته وأطلق : رُفـعت الجـــــلسة .


        فــي الجلسة الموالية حكم القاضي على صفية بسِتّ سنوات سجنا نافذة، ثم نقلت إلى غرفة لا تكاد أشعة الشمس تنفلت من حيطانها، ولقد نسجت العناكب في زواياها نِوالا واتخذت من ظلمتها أنيسا، بعيدا عـن أنامل البشر التي تعبث بكل شيء وتهدم بيوتها أينما كانت .

رمتْ صفية وسادتها على الأرض، فانبعثت آهات ٌمتتالية لصُرْصُور يسكن المكان منذ أمَدٍ بعيد ثم فـرّ هاربا مُتمتما باحثا عن مكان آخر يجد فيه الدفء والأمان، ويعزف أشجى ألحانه بنايهِ الحزين . نظرت صفية يمينا وشمالا فقابلتها الجدران، ونظرت خلفها فلم ترَ سِوى القضبان، بابها مُحكم الإقفال، فجلست وراحت تهز كيانها عواطف شتى، بين شدة الألم الذي يخزها في كل لحظة في هذا المكان الذي لا أنيس فيه ولا جليس، وبين القلق الشديد على صغيرها الذي تركته وحيدا، عصفورا لم يكسُو الريش بَعْـدُ جناحيه، فلا هو يستطيع التحليق في الأفق البعيد، ولا هو يقوى على قطع المسافات بحثا عن بذور الرحمة، أحسّت بصدى صرخة سعيد الأخيرة يرن في أذنها، ولم تكد تشعـر حتى تغرغرت عيناها بالدموع التي سقطت جمـرات حارة لافحة الوجنات، فما زادت نار فؤادها سوى تأججا، عند ذلك تفطنت وأخرجت من جيبها المصحف الصغير الذي ماكان يفارقها، وذهبت مذهبَها في التلاوة، فأحست بالسكينة الربانية تنزل عليها شيئا فشيئا كما ينزل ماء السماء على الأرض فتنبت من الطيبات ماشاء الله، إلى أن سمعت وقع النعال، فإذا بالسجَّان يلقي إليها وجبتها، وماذا عــن وجبة سجين ؟ فنظرت إليه نظرة عبوس، ثم تلت وتلتْ حتى غفت وغفا معها جرحها المُوجع إلى صباح جديد . ولما جاء الصباح إستقبله الأنام مغتبطين كما يستقبل الثرى قطرات الندى المتساقطة من خدود الورود، بينما أوصدت الزنزانة أبوابها في وجهه، وقالت : هيهات، هيهات أن تــزور المساجين، فلتكن الحياة عليهم قاتمة الظلام إلى أن يرث الله الأرض وأهلها . فتحت صفية عينيها على قرع نعال أشدّ إزعاجا من نعيق الغربان، فرُمِيَت إليها قطعة خبـز أشد صلابة من الحديد وماء، وبساط إتخذت منه اليتيمة وطاءا فصَلتْ به بينها وبين التراب، من كل الزوايا تنبعـث حشرجة الحشرات، قامت وصلت داعية رب الأرض والسماء اللطف بعصفورها التائه في مُومَهٍ بلقع . إنبعث إليها صوت رهيب شبيه بفحيح الأفاعي، فذعرت وما باليد حيلة، غير أنها حملت كتابها وراحت تتلو وتتلو حتى انقضى من عمرها سِوى ليـل ونهار....

  عــاد الفلاحون إلى أكواخهم بعدما بدأت الشمس تغادر الوجود متمايلة حنينا إلى خدرها، 

فتسابقت السحب إليها مودعة إياها إلى لقاء جديد، في إشراقة جديدة، بدورها رقت وأرسلت أشعتها لتقبـِّلها، فخالطت بياض السحب، فبانت كالعِهن أو كقطع قطنية سُكبت عليها عُصارة الحنـــــاء . عاد الفلاحون ليسترجعوا ما سلبه منهم كدّ الحقول من قواهم بين ذويهم، حيث بشاشة الخليلات، وبراءة الأبناء الصغار وسذاجتهم التي تفضي على الأكواخ البسيطة سِحْرا خاصا، وتزينها بزخرف أبهى من زخرف القصورالجوفاء، فترى كل الثغورعليها مَسْحة ملائكية جميلة، تبشر بدنوِّ موسم طال انتظاره، لحصد ما تزينت به الأرض من خيرات، وجني ما تحلت به الأشجار من ثمرات . كان محمد من بين أولئك الفلاحين الفارِّين إلى بيوتهم من مشاق الحقول، وكله شوق لرؤية الصغـيرة " رحمة " بنت الثــلاث سنوات، وكأنها شمــعة تصــارع قــتمة الظلام، وزوجــته " كلثوم " التي استقبلته بصدرها الرحب، ونظرتها المتميزة النابعة من القلب والتي مسحت بها أشباح الحياء عن مُحياه، ثم قدمت له الماء فغسل، ورشته بماء الورد، وأعدّت له مُتكئا، فأحس بارتياح كبير وابتسم وقال: أين رحمة ؟ فنهضت الأم، وأتته بها في لمح البصر، فجعل يقبلها بين عينيها ويدغدغها، ويلعب بها ضاحكا مبتهجا، بينما حطت الأم وجبة العشاء، فبدأ يأكل ويطعم ابنته، أما كلثوم بقيت جامدة الطرف لم تمد يدها إلى الصحن، فانتبه إليها محمد وسألها عن سبب امتناعها عن الأكل، فأطلقت زفرة من خلفها ألف حسرة وقالت : كيف يطيب لي الطعام ؟ وجارتي صفية زجت وراء القضبان، وتركت وحيدها كمال، ترى كيف حاله ؟ وهل هو حي أم كان التراب مآله ؟عندئذ نهض محمد وصارت الدنيا مظلمة في عينيه وقال : كيف العمل إذن ؟ - ماتراه ياسيدي . - هيا قومي، قومي يارقيقة القلب، واذهبي إلى الكوخ وائتي به عسانا نتخذه ولدا لنا وأخا لرحمة، وإن كانت الفاقة قد أثقلت كواهلنا، فلا بأس مادام رزقه على الله، ومن يدري، ربما يحمل إلينا البركة والقوت الوفير، بتدبير من العلي القدير، فكل شيء عليه هين يسير، هيا قومي قبل أن يهوى علينا الدّيجور العظيم، فلا تجدين له أثرا . فلما سمعت كلثوم تلك الكلمات إستطار قلبها حُبورا، وقالت : حمدا لك يارباه، ما أطيب قلبك يامحمد !! ثم نهضت صوْبَ فراش رحمة، فرفعت الغطاء، فإذا هو طلأ صغير نائم، ذو وجه ملائكي بريء، يعكس نور القنديل المعلق في ركن البيت، فلما رآه الزوج كادت الدموع تفــر من عينيه من شدة الفرح، ونظر إلى زوجته نظـرة كلها إجلال وتقدير وقال : ما أحنّ قلبك يا أم رحمة ! رعاك الله، حفظك الله ، لو كان بوسعي الآن لزينتك من رأسك إلى رجليك بأغلى اللآلىء، وأنفس الجواهر، جزاءا على جميلك هذا، فابتسمت وانصرفت تشكر الله على سلامة الصغير كمــال .

     مرّت ثلاثة أعوام على صفية في السِّجن، ذاقت فيها مرارة الأيام، وكابدت جَمّا مـن الهموم والآلام، إلى أن دخلت السجن معها عجوز شمطاء، لا تكاد ترى في رأسها شعرة سوداء، وعلى خدها الأجعد شامة كبيرة، فسلمت عليها وبقيت تسليها وتحكي لها عـن رحلتها في الحياة وتجاربها ودواهيها، فتعجبت صفية غاية العجب من تلك العجوز التي كانت أكثر حكاياتها خزعبلات طواها الدهر في لفائف العدم، وما كان يحيِّرها هو غــبطة العجوز وابتساماتها العريضة، وتلك القهقهة التي لا تزيدها وجهها سوى بشاعة، وهي غـير مبالية بنوازل الدهر، فكانت صفية تضحك تارة وتبكي تارة حنينا إلى وجه ابنها، فلما أتمّت عاميـن رفقة العجوز جاءها الملك الكريم ليسقيها كأس المُنون ويرحل بها إلى جوار خالقها فكانت نهايتها، كما قالت الأقدار، وسطر العزيز الغفار، فجلست العجوز عند رأسها تندبها وترثيها قائلة :

غزالُ الفــلا فجَعْـتـنِي فـيهِ يادهْــــرُ *** سألـــتـك بالله فِـــــداهُ أيـا قـــــــــبْرُ جَــــــميلٌ بأقــداح المُــنون مَـــددْتهُ *** وأعْرَضتَ عمَّنْ مَلهُ اليَوْمُ والشـهْرُ ينامُ الصـَّــــباح فـــوق شهْدِ شِـفاهِهِ *** فـــإنْ لاحَ بابــتسامةٍ يــبزغ ُالفــجرُ يُضِيءُ دُجًى ظلماء مِن بَطن خِدرهِ *** وإنْ بانَ يستحِـــيلُ مِن حُـسنِهِ البَدْرُ إلهي سَئِمْتُ صَبَّ دَمْع مَحَا جَفـــنِي *** فمَا عـَـــمَلِي رَبِّي وقـدْ نفِـذ الصَّـبْرُ

إلى أن جاء السجانون وحملوها إلى لحْدها لتستريح بجوار مُصوِّرها، هذا ماكان من أمرها .

       أما ماكان من أمر كمال، فقد نمَا وترعـــرع مع " رحمة " في أحضان كلثوم التي غمرتهما بعطفها وحُنوِّها، فكان الإثنان ينادينها ماما، وينادي أحدهما للآخر أخي، وكانا يأكلان معا، ويلعبان معا، ولا يكاد أحدهما يفارق الآخر كأنما سُكبت روحاهما في قالب واحد، وأصبحا كالجسد الواحد، وكانا يخرجان معا في آخر النهار ليستقبلا محمد العائد مـن الحقل، فيحمل كمال بيمناه ويحتضنه إليه، وكذلك يفعـل لرحمة بيسراه، ويقبلهما بشفاه مِلؤها الرقة والعطف إلى أن يصل إلى كوخه فيجد كلثوم كعادتها تنتظره بالإبتسامة الوضاءة، فيُحيّيها ويدخل الجميع ويجلسون في انتظار وجبة العشاء، وبعدما يتناولونها يُصلون وينامون حتى الصباح، الذي يجيء ليطرد خيالات الدجى عن وُكنات اليَمَام وأفاحيص القطا وأكواخ الفلاحين، ويقـبِّل نورُه ثغور الكائنات، فينهض محمد ويتجه كعادته إلى الحقل بعدما يتناول فطور الصباح، أما الأم فتتفرغ لشؤون البيت من طحن وعجن وطهي وغيرها، بينما يخلو الولدان لبعضهما البعض، فتارة تراهما يتسابقان أو يطعمان الجَدْي الرابض، وتارة يتداعبان بسذاجة طفولية بريئة تتبعها ضحكات تنير الكوخ المُقـفر .

وهكذا استمرت حياة تلك العائلة البسيطة إلى أن بلغ الولدان السادسة من العمر، فالتحقا بالمدرسة، فكانا يتجهان إليها مع كل صباح قبل أن تغادر الطيور أوكارها للوصول إليها في الوقت المُحدد، في البداية كان يرافقهما محمد، ولما تعوَّدا الذهاب وحدهما، كانت كلثوم تصل بهما إلى منتصف الطريق، بعدما تملأ محفظتيهما ببعض المأكولات عُدة لهما، ثم تعود إلى الكوخ . وأجمل مشهد يمكن أن تراه هو منظر الطفلين البريئين، وهما متجهين إلى المدرسة يدًا بيد، جنبا إلى جنب خاصة في أيام الشتاء، ترى " رحمة " تحتمي بكمال وكأنها تشير له وتقول : البرْد يا أخي، فيرُد عليها : لا تخافي ياأختاه، أنا معك، وهو يضمّها إلى جنبه، ويظهر قوّته متحديا تلك الأهوال، متصديا لها كما تتصدى زهور العبّاد لحرارة الشمس الحارقة والتي لا تزيدها سوى تفتحا وفوْحًا وحُبورا . وفي المساء يعود الطفلان وعيونهما مكتحلة بالفرح والغبطة لدخولهما هذا العالم الفسيح الغريب، فلقد أصبحت أناملهما تخط على الورق بعض العـبارات والجُمل البسيطة، وترسم الطيور والأشجار والجبال وكل مانطقت به الطبيعة من حولهما، وكانا يجلسان للمذاكرة في كل مساء عملا بتوجيهات المعلمة، لا حبا في المذاكرة نفسها، بل شوقا إلى تلك الكلمات التي دوّناها في الصباح، وإلى تلك الصور المرسومة على صفحات الكتاب الذي أعطته إياهما المعلمة، وكثيرا ماكان النعاس يمد راحته ويمسح جفونهما بلطف وهُما على تلك الحال، فيذهبان في نوم عميق حالميْن بالجلوس على الكرسي المدرسي، والتأمل في تلك الأضواء التي لم يعهدوها، ولم يروا لها مثـــيلا في الأيام الســـابقة، بعد ذلك تنهــض كلثوم فتغــطيهما وترتب كراريسها، ثم تتجه إلى مضجعها لتـنال قـسطا من الراحة على أمل لقاء الصباح . وعلى تلك الحال تربّى كمال في وسط العـش الدافئ الذي عوّضه ما فقده من حنان، وهو يكبر شيئا فشيئا مع رحمة، وكأنهما زهرتان في أوائل أيام الربيع، حتى بلغا السادسة عشـر من العمر، فبدأت ملا مح الرجولة ترتسم على مُحيا الفتى، ولقد ألهمه الله بنور العلم، وحبَّبَهُ إلى نفسه، فانكبّ على الإطلاع حتى فاق أترابه كلهم، حيث أتقـن الرسم والخط ومال إلى الشعر والكلام الرقيق واللفظ الأنيق، وكثيرا ما كان يكتب بعض المقاطع، ويغنيها على مسامع رحمة، فتبتهج أيّما ابتهاج، ولقد كانت له نظرة عميقة إلى الحياة رغم حداثة سنه، فما كان أبدا ينظر إلى سطوح الأمور، بل إلى نواتها، ولا إلى وردة الحياة فقط، بل إلى أشواكها أيضا، فكان يبدو لزملائه إنسانا غريبا ولقبوه بالفهيم، بالإضافة إلى ذلك، فإنه عرف تقنيات الحرث والزرع والحصاد، وأنواع الحبوب، ومواسم زرعها، ومختلف الأشجارومواقيت غرسها، بعدما كان يتجه إلى الحقل في وقت فراغه ويساعـد محمد في أعماله الشاقة . أما رحمة فقد اعتدل قدّها، وامتلأ جسمها وتورَّدت وجنتاها، وازدادت روحها خفة وحلاوة، بوجه وسيم، وصوت رخيم وفكر سليم، فقد إنقطعت عن الدراسة بعد سنوات معدودة، وتفرغـت لمشاغل البيت رفقة أمّها، كما تعلمت فنون الطبخ، وألوان الأطباق من خلال الكتب التي كانت تقرأها، فكانت أمها تثني عليها كلما قدمت أطباقها البسيطة الشهية، وما كان يزيد الفتاة البريئة سعادة وغـبطة هو أن ترى كمال يتلذذ بما قدمته له من مأكولات، فيشكرها على ذلك ويمدح إياها . ولقد كان الولدان يخرجان يوم الجمعة للتنزه خاصة في أيام الربيع عندما ترتدي الطبيعة أجمل حلة لها، فيذهبان إلى ينبوع ينفث من صلبه بماء نقي صافي، ويجلسان بقربه يتفرجان على تلك المناظر الخلابة، والطيور تناغي وتنشد قصائد السعادة المرفرفة على روحيهما الطاهرتين، وكثيرا ماكان كمال يقطف باقة زهور، ويقدمها لرحمة، فتمسكها شاكرة إياه، لتضعها في المساء في مزهريتها التي صنعتها لها أمها من الفخار، وكان الولدان يقصدان قبل الرواح الكوخ الذي وُلد فيه كمال، ويودعان أسراب الحَمَام التي اتخذت منه أوكارا، ثم يعودان إلى الكوخ بعودة الشمس إلى مخــدعها والطيور إلى وكناتها، والأنعام إلى مرابضها، وكلهما شوق لسماع قصص الألى، التي يرويها محمد إذا ماالليل جن، وغشي الظلام الكون وساد السكون والهدوء .

      فــي إحدى أواخر أيام الربيع، والشمس قد مالت إلى مضجعها، بعدما ودعت أشعتها الكائنات وارتشفت من ثغور الرياحين قبلات الوداع . أطبق الليل جفونه السوداء على القرية، وبعد ساعة أو ساعتين تزين الأفق بثوب قشيب أزرق، منثور عليه قطع جُــمان، توسطهن البدر الذي بدأ يشد الرحال، فلم يبقَ من عمره سِوى ساعات قِلال، وتموت اختيالاته بين النجوم، ثم يَحْيَ من جديد ويصبح هلالا خافت النور ينير مسالك الساهريـن ويحلق بهم إلى عالم الخيال، يصغي إلى أنات المتألمين ويدغدغ جُنوبا تحمل الأحزان والأهوال، ثم يغمض بلطف عيون الظب والغزال، وينسج ابتسامات الصباح .

خرج كمال من الكوخ، ونظـر إلى تلك اللوحة الجميلة المرسومة على صفحة الكون، ودون أن يشعر، خطَا أول خطوة وراح يمشي، ويُحدق إلى ذلك الجمال الساحر ويتجول بين الزهور البرية المتناثرة على أطراف الوادي، والتي تبدو للرائي كأنها تغازل القمر، فيرسل لها نورَه أنيسَ مقامها ونديم جلستها . سار الفتى يطارد أشباح الليل، وكلما وصل إلى روضة جرّه الفضول للتفسح في روضة أخرى، وكلما جلس على ربوة، قاده الشوق للجلوس على أخرى، والتأمل في بهاء الكون الهادئ الذي لا يتذوقه سِوى الساهرون، إلتفت كمال يمينا فلم يجد سوى تلك الزهور البرية التي سَلبَ حُسْنها عقله وجعلته تائها، إلتفتَ شِمالا فلم يرى سوى ذلك الماء الرقراق الذي ينساب فتداعبه النسمات الحاملة عِبق الزهور . نظر حوله فإذا الوحشة والصمت، ونظر أمامه فإذا غابة كثيفة الأشجار تحوم فوقها خفافيش خيّلت له ظلالها أشباحا سوف تنقضّ على روحه . لم يتمالك الفتى نفسه وراح يضرب رأسه ضربات متتالية، عله يصحُو من غفوته، أو يستفيق من حُلمه، لكنه اصطدم بالحقيقة، فلا هي غفوة ولا حلم، ولقد دبّ في ضلوعه ذعرٌ شديد، فحاول العودة لكن الكوخ اختفى عن أنظاره، والطريق الذي سلكه مَحَته أنامل الدجى، فازداد خوفه، وأراد أن يصيح بأعلى صوت لكنه أيقن أن الذئاب سوف تستيقظ من أوْجرَتها، وتنهش لحمه نهشا، وبعد لحظات إسترجع سكينته بعدما نال منه الفزع منالهُ، ثم آوى إلى جذع شجرة مُورقة وأسند إليه ظهره، وسرعان مارأى نفسه على شاطئ بحر يعُجّ بالمصطافين، مستلقـيا على الرمال مُداعـبا خيوط الشمس التي تلثم أمواج البحر الساكنة، ولقد لمحتْ عيناه طيفا بعيدا يتقدم إليه شيئا فشيئا، فراح يُحملق فيه إلـى أن وصل إليه، فإذا هو هودج ٌمزركش على ظهر جمل . توقف أمامه فنزلت منه فـتاة لا تتعدى عشرون ربيعا، ناصعة البياض، ناعمة الجيد، قصيرة الطرف، يتدلى على ظهرها شعـر إسترقت خصلاته من خيوط الشمس، وتحت حاجبيها عينان ناعستان خطفتا من البحرزرقته، وجفون سوداء منتصبة كأنها رماح ترمي بها في صدور الناظرين، وتحت ظلال تلك الجفون وجنتان ورديتان يبكي شوقا لرؤيتهما الصخر الجُلمد . نظرت إلى كمال نظرة مميّزة توّجَتها بابتسامة شفافة، فارتعدت يداه وطار عقله، ورفرفت روحه فوق رأسها، وأحسّ كأنما دبّتْ في عـروقه نشوة الصّهباء . حاول الإقـتراب منها فلم يستطع من شدة الصدمة، فتحرّك حبْوًا، فرجعت خطوتين إلى الخلف . أسرع قليلا ليلحق بها، لكنها انصرفت وامتـــطت هـــوْدجها وتركت له ورقة بيضاء مطوية بطريقة جيدة، فحملها وبقي يراقب ذاك الجَمَل الذي تحوّل إلى طائر عظيم حلق بعيدا، ولما اختفى عن الأنظار، فتح الفتى الورقة فوجد مكــتوب عليها " أنا لغيرك، أنا لغيرك، أنا السعادة، الوداع " فبدأ ينوح ويندب حظه ويبكي دموعا غزيرة، وينادي بأعلى صوت : " حرام ، حرام ..." إلى أن أحسّ بأشعة الشمس قد سمحت لها أفنان الشجرة بالمـــرور إليه لتـُــعَـزيه، وتمسح دموعه وسمع الطـــيور تنشد : " مرحبا بالصباح الجديد " عندئذ نهض ونفض حبيبات الثرى التي حملها إليه النسيم، ومسح عينيه جيدا، فلا بحر أمامه، ولا رمال، ولا تلك الفتاة التي سمّتْ نفسها السعـــــادة !! أيقن الفتى أنه كان في حلم. حاول النوم ثانية علَّ عقله يطير إلى أحلام ألذ، لكنه لم يستطع، فتحرك صوب الكوخ بعدما أنار له شعاع الشمس الطريق، ماعجز عنه ضوء القمر . مشى ونفسه كلها حنين إلى تلك الظبية التي رآها بالليل، وقلبه شوق وأمل لرؤيتها ولو في الحلم مرة ثانية، حتى بقي بينه وبين قريته أمتارٌ معدودة . شاهد جمعا غـفيرا من الناس يتزاحمون، فرَاعَهُ منظرهم في بادئ الأمر، لكنه تذكر نفس المشاهد التي كان يراها في الأسواق رفقة محمد، والناس ملتفــين حول ساحر يعـمي بصائـرهم، ويرسم لهم في الفضاء أشياء غريبة، تذهل العقول، فظن أنه أحد المُشعوذين أو الدراويش وفـد إلى القرية، ليحتال بخدعه على سكانها، فيضعوا الدنانير في طربوشه . إقترب منهم مُحاولا التأكد مما يجري وسأل أحد الحاضرين، فأجابه بالسكوت، فتوغـل بين الصفوف واخترق الحشد إلى أن وصل إلى نواته، فإذا بغيوم الحزن تعبث بالوجوه وآلام الدماء تمزق الضلوع، والآهات متصاعـدة والنفوس خاشعة والدموع هاطلة وصناديق الموت متراصفة وعجوز جاثمة على ركبتيها تنوح : وافلذة كبدي، وافلذة كبدي ! ورجل يقول ويردد : قبَّح الله وجوه الغـــدر ! أحس كمال أن الأصابع تشير إليه، فلم يفهم شيئا، وانتابه شكّ مُخيف، فتقدّم إلى أحد الشيوخ وسأله قائلا : ماذا حدث يا جدي؟ فنظر إليه الشيخ بعـين الشفقة وقال : ألست ابن سي محمد؟ قال : نعم، ولم هذا السؤال؟ فمدّ الشيخ يده، ووضعها على كتفه، وإذا بدموع صافية فرّت من أحداقه، وسقطت مُبللة لحيته، فأخرج منديلا من جيبه، وكفكفها وقال : ألهمك الله الصبر ياولدي، فهذه الصناديق التي تراها أمامك هي أرواح بريئة من هذه القرية التي حصدتها الليلة الماضية مناجل بأيْدٍ غادرة، تلك الشرذِمَة ُالملعونة من الإرهابييـن الذين وفدوا إلى قرية هؤلاء المساكين فروّوا بدمائهم تربتها، وزرعوا الموت في أرجائها، بعدما ملأوا بطونهم بخيراتها، ثم فـروا منها متسترين بجلابــيب الـــدجى، وكان سي محمد وعائلته من بين أولئك الذين وافـتهم المنية علي يـدِ أعـداء البلاد والعباد . عندئذ عرف كمال سِرّ إشارة الناس إليه، وتفسير الحُلم الذي رآه بالليل، وتأكد أن الدهر قـد كشر عن أنيابه، في وجهه من جديد، بعدما فجَعَهُ في أمه وأبيه، وأدرك أن صدر كلثوم المملوء حنانا قد تصدّع، وابتسامة محمد قد اندثرت، ووجه رحمة المشرق قد أوشك أن يختفي بين طيات الثرى . وقفَ بُرهَة ًمن الزمن يتأمل في أخيلة المَوْت الراقصة فوق المأتم، ودون أن يشعر ألقى بنفسه على تلك الصناديق، وراح ينوحُ ويفيض بعَبَراتٍ لو مرّت على الصخور لأذابتها، ولو سكبها على الحقول ما طلبت غيثا بعدها، حتى سقط مغشيا عليه، فحمله بعض الحضور إلى الكوخ، ولما أفاق وجَدَ نفسَه داخله، في سوادٍ مازج السكون المُخيف، والباب مُوصد أمامه، تنفلت من ثغوره نسمات فرّت من هَوْل الليل لتؤنس غربة جسمه النحيل المُمتد على حصير بال، هنالك على طاولة صغيرة غطتها طبقة سميكة من الغبار شمعة تغلبت على نورها تلك النسمات فأطفأتها، وبجانبها مذياع صغير يتثاءب ويرسل آخر ماجادت به حنجرته من أنغام آخر الليل الحزينة . حاول الفتى أن يذهب في سُبات عميق عله يتناسى ما حل به، لكنّ بلبل الأرق غرّد فوق رأسه، فانقلب يمينا وشمالا فلم يجد إلى النوم سبيلا، ولقد رحل به خياله إلــى منظر رحمة وهي تدنو منه وتناديه وتلاعبه مبتسمة كالوردة النضرة وسط الزهور، وتذكر كلثوم ببشاشتها ومحمد ذاك الأب اللطيف الذي لم يسمع منه سوى كلمات العطف المتدفق، وهو يناديه بكلمة" إبني " التي حُرم سماعها من أبيه الحقـــيقي . وكذلك بقي الفتى يسبح في بحر الأوهام، ومن حين لآخر يتأوّهُ آهات متتالية يطرد بها أنفاسا متمردة، أبَتْ أن تخمد النيران المتأججة في صدره، حتى جاء الفجر، فقام وصلى داعـيا الله للجميع المغفرة والثواب، حامدا إياه على سلامته ونجاته من أيدي السفاحين، وبقي كذلك عاكفا إلى أن شفا منه الصباح، وإذا بالباب ينفتِح، ونور الشـمس يتدفـق شيئا فشيئا، وخيال يدخل وأخذ يقترب منه، فرفع كمال بصعوبة رأسه وحمْلق فيه، فإذا هي عجوزتتعــثــر بجلابيبها، حاملة في يُمناها كوب حليب، وبيُسراها قطعة خبز وقليلا من السّمْن والعسل، فسلمت عليه وجلست بجانبه وقالت : خذ يابني الفطور، فنظر إليها فغسقت عيناه بالدموع وقال : كيف لي به وحَلقي مَسْدُود ، كيف ؟ خبريني بالله عليك ياأماه، ماالعمل؟ فلم أعُدْ أطيق البقـــاء في هــــذا الوجود، بعدما رأيتُ البــارحة أهْـــونَ العذاب، وليتني مِتّ قـبله وكنت من الغابرين. نظرت إليه العجوز نظرة مِزاجها الألم والرحمة ومَسحت خصلات شعره بلطف، وحاولت أن تظهر له ابتسامة، لكن الدموع غـدرت بها وكانت الأسبق، فتنهدت وقالت : لا تقنط من رحمة الله ياولدي، وسلمْ أمرك له، فهو الأدرى بحالك، ولاشك أنك سوف تحضى برعايته كما حظيت بها يوم رحل عنك أبواك، وأنت صبي، هيا قم وكل قليلا من السمن، فهو أريَحُ للنفس، ثم مدّت يدها إلى قطعة خبز وغمستها في السمن، ووضعتها في فمه، فراح يمضغها بصعوبة حتى ابتلعها، فزادته جُرعة من الحليب، وهكذا بقيت تطعمه حتى اكتفى، فنهضت وانصرفت مودعة إياه على أمل العودة إليه بوجبة الغـداء . نظر كمال إلى أرجاء الكوخ، ورفع ظهره عن الحصير بصعوبة كأنما يقتلع جسده اقتلاعا، ثم قام وخرج من الكوخ، وبعدما سار أمتارا معدودة إلتفت إليه وقال : وداعا يا مهد الحنان، ومخدع الأمان، إني راحل إلى حيث شاء خالق الإنسان، عساني أعثر على ملجإ يأويني أو صدر يحتويني، ثم أنشد والدموع تتساقط من عينيه مدرارا :

          قلْ لِــمَن ْتحْتَ الثرَى ياكـُــوخ أنني    ***     بَعْدَهُمْ ماطـــابَ لِي طـعْمُ المَـنام
         لا غفتْ عيني، ولا جــــفت جُـفونِي    ***     مِن دُموع البُعد عنْ أغلى الأنـام
       
         فلما فرغ من شعره، إتجه صوب المنبع، أين كان يجلس رفقة رحمة فودّعه، وودع الطيور الحائمة، والزهور المزينة لكتف الوادي، ثم ألقى آخر نظرة على الكوخ الذي تنفـس منه آخر الهواء، فتذكر أمه، وأغمض عينيه محاولا أن يرى طيفها بينهما، لكنه رحل عــن مخيلته إلى الأبد، حاول العودة إلى الماضي ليقترب من ذاك الطيف الجميل لكنه تلاشى مثل السراب، ولقد خطر على باله أن يلقي آخر نظرة على المدرسة التي كان ينهل منها العلوم، فذهب وهمَتْ عينه ماشاء الله من الدموع، ثم مشى بخطى بطيئة إلى حيث لايدري، ونفسه مثقلة بالأشجان، ودرْبُه مفروش بالأشواك، والدنيا في عينيه ليلة قاتمة الظلام، والحياة زهرة ذابلة رمت بها الريح في كل البقاع، فداستها الأقدام . إلى أن وصل إلى غابة ، فأكل من ثمرها ونام بها حتى الصباح، ثم حمل زاده من ثمارها وواصل  رحلته سائرا مدة ثلاثة أيام حتى وصل إلى إحدى المدن، فدخلها، وقد اصفرّ وجهه واشتدّ به الجوع، تراءى له من بعيد خبّاز، فتقدم إليه ليسأله من فضله، ووجنتاه تتقاطران خجلا، ولما بقي بينهما مِترين تقريبا، نظر إليه الخباز بوجه مكفهرّ ثم تقدم إليه وصفعه صفعة قوية وقال : هيا، أغرب عن وجهي، أيها اللص ! هكذا خدعتني البارحة وخطفت مني الخبـز، هيا اغرب وإلا هشمْت عظامك .

وهكذا بقي يلحّ عليه ويضربه، فحنِق الفتى واغتاظ أشدّ الغيظ، وجمع كل ما بقي لديه من قوة في يد واحدة وضربه بلكمة واحدة على أنفه، جعلت الخبّاز يسبح في دمائه، وفـرّ هاربا مرددا : لا بارك الله فيكم ياقوما تعرّفون العَوَز جريمة، والجوع فضيحة ! إلى أن أحسّ أنه في مأمن، فأخذ قسطا من الراحة، ثم واصل التجول في أزقة المدينة حتى بان له حلواني في إحدى الزوايا، فاقترب منه ودون أن يشعر راح يرنو إلى أطباق الحلويات على كل لون، ولعابُه يسيل، فلفت انتباه الحلواني، واحتار في أمره، فانتظره لعلهُ يمضي إلى حال سبيله، وكانت الشمس مائلة إلى الغروب، لكن الفتى بقي ساكنا . ناداه الحلواني، فقام بصعوبة ومشى إليه وقال : - خيرا إنشاء الله ياسيدي . - كل خير، تبدو غريبا عن هذه الديار يابني . - نعم، لا أعرف فيها سوى نفسي . - ما اسمك ومن أين وفـدت ؟ عندئذ حكى له كمال قصته، فأشفق عليه الحلواني ورحمه، وأخلى له غرفة في بيته بعدما ناوله أنواع الحلويات، وأدخله الحَمّام، فشكره الفتى غاية الشكر وجلسا يتحدثان بعد العشاء . - إنه يسمى سعدان الشحيح، وإنك نجوْتَ منه بإذن الله تعالى، فإن له سبعة إخوة شِداد غلاظ، وربما يكون قد سخرهم الآن للبحث عنك، فالحمد لله على سلامتك يابني، ما أوصيك به هوأن ترحل عن المدينة إذا تنفس الصبح، وانجُ بنفسك، ثم أدخل الحلواني يده في جيبه، وأخرج بعض الأوراق النقدية أعطاها إياه، وانصرف لينام، بينما استسلم كمال للكرى إلى أن أيقظه المؤذن وهو يدعو الناس إلى صلاة الصبح، فقام وصلى وخرج من المدينة وجلا، متسترا بما تبقى من جزيئات الظلام، وسار طوال النهار حتى وصل إلى مدينة مجاورة، بعد أن أفلت الشمس ببضع ساعـات، وارتسم وجهها على سطح القمر الذي يبدو للرائي كالمرآة المستديرة تعكس شعاع الشمس، وتحيله إلى نور خافت يطرد أخيلة الظلام، فبات بها الفتى، ولما ظــهر حاجب الشمس إمتطى إحدى السيارات وأتجه إلى مدينة أخرى لا يعرف عنها سوى إسمها الذي سمع صاحب السيارة يردِّده مخاطبا المسافرين . ولقد ظلت المركبة تطوي القرى طيا وتخترق بطون البراري مدة ثلاث ساعات إلى أن أشرفت على مدينة جميلة، فتسابقت نسيمات البحر العليلة مغتنمة فرصة نومه، لتنعـش صدور الزائرين وترحب بهم . لم يشعر الفتى حتى توقفت المركبة وأمره السائق بالنزول، فنزل وراح يسيـــرعلى شاطئ البحر ويتأمل الزبد وهو يطفو فوق الأمواج الهادئة إلى أن يصل إلى حبيبات الرمال فتستقبله بحرارة وشوق . ولقد أحس كمال بالغربة القاتلة من أول لحظة نزل فيها من السيارة ولم يجد في هذا العالم العجيب جليسا سوى البحر، فاستلقى على الرمال، وبدأ يرميه بالحصيات ويخاطبه قائلا : غريب أنا أيها البحر ! والغربة كم هي مؤلمة، غريب عـن وجوه تتراقص أطيافهم على مُحياك يابحر، وفي زرقة أمواجك اللطيفة، فهل أنت غريب مثلي ؟ أظن أنك غريب مثلي، نعم أنظر إلى تلك الطيور المزركشة الأجنحة التي تحُومُ فوقك ثم تحلق بعيدا تاركة إياك، وتعود لتستنشق ماطاب من نسيمك العليل، وتقول لك : وداعا أيها البحـر، إنك غريب في هذا العالم مالك أنيس، هيا أجبها يابحر وقل لها : ألست من يطربكم وينعشكم برَيَّاه ؟ ويأتيكم بالبواخـر التي تمُـــدّكم بالـخير الوفـــير؟ عفوا يابحــر، لا،لا تقل ذلك إنها سوف تسْخــرُ منك وتقول : في الجو الطلق نعيش وبأيام الربيع نسعد ونلهو، وللزهور ننشد، فتبتسم لنا، وداعا أيها البحر، كم أنت غريب في هذا العالم ! أيها البحر، أتقبلني أنيسا ؟ نعم، لا ، بل سأكون لك أنيسا رغما عنك، ولن أبرحَ رصيفك الرملي، وسأتخذ منه بساطا، ومن موجك حارسا أمينا !

        أناخ كمال شهرا بتلك المدينة يقتاتُ من النقود التي أعطاه إياها الحلواني، ويهجعُ في إحدى البيوت القصديرية المهجورة، وأحيانا ينام على الشاطئ، أيـن يتربع أنيس غربته البحر، الذي بدأ يتأهب لاستقبال سَمُوم الصيف ليعمل على إحالتها إلى نسمات تسُرّ بلقياها الأرواح، ولقد زاد جسم الفتى نحولا، وأصبح مُحيّاهُ الجميل أكثر ذبولا، كأنما يحمل بين ضلوعه هموم البشرية جمعاء، وأتراح الفقراء، وغُصّة العشاق الذين أضناهم الفراق، بعد عهد التــلاق وزمن الوفــاق .
    في إحدى أيام الصيف، توسطت الشمس السماءَ الزرقاء التي طردت عنها الريح في أول النهار السحب المعكرة لصفائها ثم سكنت وكأنها تهيِّءُ للمصطافين يوما جميلا، بينما البحر هَمَدَ موجُهُ، وسكبتْ عليه الشمس من شعاعها، فبَدَا مشرقا كجبين العروس، برّاقا كوشاحها، وما هي إلا لحظات حتى عجّ  الشاطئ بأناس من كل الأجناس، وتجردت الأجساد من جُل اللباس، بينما كان كمال جالسا على صخرته، يخاطب البحر تارة، وتارة ينظر إلى الأجساد اللامعة والنفوس المخمورة بمُدام الإغراء، والأبصار المُتفرسة في جمال الأزياء، والأرواح الخاشعة لرنيـن الغزل، فهذه فتاة غِرّة إستسلمت لشاب إستمال قلبها بمعسول الكلام، فطاوعته ونزلت ضيفة َمخالبه، وهذه امرأة إغتنمت فرصة دخول زوجها البحر لتسمع الكلمات الرقيقة من عشيقها، ويعود بها إلى أيام ما قبل الزواج بذاك الذي سمّاهُ الشرع والقدر بَعْلا، وهذه أخرى تركت ثلاثة اطفال أوأربعة، وامتطت زورقا صغيرا رفقة باعة القلوب  مُدَّعِية ًأنها مُحَصَّنة محترمة ! ، وهذا فتى مُتفتح جاء بصديقه، وأجلسه بجانبه، وأخذ يحدثه عـن مغامراته، وأخته تبادلهما أطراف الحديث، وذاك الصديق يسترق النظرات إلى أخت صديقه، وينظر إليها بذوْب قلب وهي دارية ٌبه فتزداد نرجسيتها، وتزيدُهُ حُرْقــة ًبإظهار مفاتنها الصارخة، أما الأخ الغافل فمُنشغلٌ بالفخر بمغامراته وشجاعته ! وتلك ثنائيات متمايلة تغترف من البحر الرومنسية الكاذبة، والكل غارق في بحر العشق، هذا كله باسم الحب !

نظر كمال يمينا، فعَـــنَّ له رَهْط ٌمن الفتيات في شروخ شبابهن، يرتدين لباسا يخجل لرؤيتهن به العاقل، ويندب حماقتهنّ وطيشهن اللبيب، وهنّ يتمايلن كأنما لعبت برؤوسهن عُصارة الكروم، وبينهن شابين غليظين شديدي البنية، مفتولي العضلات والكل في سرور ومزاح، ولما اقتربوا منه قالت إحداهن : أنظروا إلى هذا البدوي كم هو أنيـق ! مُشيرة بأصبعها إلى كمال الذي تمزقت أثوابه من قبل ودُبر، وتطاول شعْرُه، فقهقهَ الجميع وتعالت الضحكات، فأحسّ الفتى بحياء شديد، فنهض ومشى بوجنتين مُحمرتين، فقالت إحداهـن ساخرة منه : إلى أين أنت ذاهب ياسيدي ؟ تعـــال وخذ رباط عنقك، فقد نسيته، هيا أجبني لماذا أنت صامت ؟ فشزر إليها وتشجّع وقال : السكوت عن الأحمق جوابه * . فلما سمع الشابان كلامه، هجَمَا عليه وأمسكه أحدهما من رأسه، والآخر من رجليه ووضعوه بينهم وراحوا يتضاحكون، فقالت إحدى الفتيات : أتركوه يمضي لحال سبيله، لكن أحد الشابين ضحك وقال : كيف أتركه ياسَـوْسَـنْ، سوف أعلمه السباحة اليوم، أظن أنه لن تتاح له فرصة أخرى يتعلم فيها ، بعد ذلك حمله على ظهره وألقاه في البحر، وركب قاربا هو وصديقه، وخليلاتهما، وتركـوه يتخبّط في


  • حكمة مشهورة .

الماء، حتى خرج بعدما رأى شبح الموت ممتثلا أمامه، فتنفس الصعداء ونزع أثوابه المُبللة ونشرها تحت أشعة الشمس، ثم جلس يبكي ويتضرع إلى الله، داعيا إياه أن يسحق أيدي الظلم التي اعتدت على اليتيم المسكين، ويبتــر الألسنة التي سخــرت بأوجاعه، وأن يكون له خيـر ظهير، فلما جفت ملابسه إرتداها، وكفــكف دموعه، ومشى يقول بأعـلى صوت : تبّا لكم ولنواميس إبتكرتها عقول غير عقولكم، فأذعنتم لها صاغرين ووضعتها أيدٍ غير أيديكم، فاستجبتم ونكستم رؤوسكم أمامها في خنوع، بعدما رميتم الدستور الإلهي الذي تنيـر فوانيسه كل الأرجاء، واتبعْـتم ما تمليه النفس وتكتبه الأطراف على صفحات الأيام تاركة بصمات الرذيلة باسم الحب، على حساب الأجساد البشرية التي خلقها الله تعالى من تربة طاهرة، لقد دنستم إياها بأيديكم القذرة، وشتـتـتم حُبيباتها المتماسكة بريح أفواهكم النتنة ، وجرفتموها بماء عُيونكم المخادعة، لماذا لا تتركونها على حالها كما خلقها الله تعالى أحسن الخالقين ؟ لماذا أيها البشر تعبثون بها ؟ وقد أوْدَعَها الله العقول إحدى مقدسات الوجود، وأورثها منزلة عالية بين المخلوقات، هي تلك الأجساد التي لم تعطوها نصيبها مـن العفة والصفاء . أخاطبكم إناثا وذكورا، أتظنون أنكم سعداء ؟ بل أنتم أشقى الناس على الإطلاق، وأتعـــسَ البؤساء، ومكتوب عليكم الذبول والفناء شيئا فشيئا، لكنكم لاتحِسّون به حتى تبقى لكم دقيقة واحدة على الفناء، فإني متأكدٌ أنكم سوف تصرخون بأعلى صوت : واحسرتاه ! وسوف تندمون على اختياركم التزحلق على سفح يبدو لكم سهلا، لكنه يوصل إلى هُوة عميقة، بدَل تسلق جبل من خلفه سهلٌ أخضر، تزينه الورود والأشجار المتباهية بيانع الثمار، وتجري من حوله أعذب الأنهار . أخاطبكم فلا أحد يسمعني غير نفسي الخاشعة . أريد أن أبُوح بكل ما يتـَّـقد في صدري لكـن أخاف أن تتصدع وتتفتت الصخور من صدى كلماتي ولا تتحرك أوتار قلوبكم ! أو أكون أضحوكة الزمن المستور بضباب الجهل، ومهزلة هؤلاء المغتبطين بالحياة، والذين يتقدمون كل يوم أميالا إلى الوراء !! مشى الفتى والحسرة تمزق قلبه، ونفسُه مثقلة بالأسف، وعينه تشتهي أن تذرف الدمع ثانية، وقلبه أشدّ حزنا من نبرات الناي . سار بنية الرحيل إلى عالم اللانهاية، بعيدا عن أمثال هؤلاء البشر، وما إن ابتعد قليلا، بينما كان الكل يداعب المَوْج الذي يبتسم فيُغري النساء والرجال، فإذا السماء قطبت جبينها، والموج ثارَوتلاطم، والبحر زمْجَر وأصبح يرمي بذوائبه، فيخطف الأجساد المتراصفة عـلى حافـــته، وسُرعـــان ماتعـــالت الصرخات والهُـتافات، لكن هل من مُجيب ؟ وهل من ناج ؟ وما هي إلا دقائق حتى سكن وعاد إلى حالته الأولى، بعدما امتلأ بطنه، وكأنه سَغِب فهَاجَ وطلب طعاما، فلمّا اكتفى هدأ . وهكذا كانت تلك الأجساد العارية أكلة جاهزة، ووجبة شهية للحيتان وكلاب البحــر !!

   عـــاد الطبيب " احميدة " إلى منزله المتواجد خارج المدينة ببضع الكيلومترات، بعدما ملأ القفة بكل ما أمْلته عليه زوجته " خديجة " في الصباح، ونزل من سيارته حاملا إياها، ودخل البيت، فاستقبلته بالإبتسام المعهود، وأخذت بيده إلى غرفة الإستقبال، فألقى بنفسه على الأريكة، وأحسّ كأنما حُط على كتفيه جبل عظيم، وبدَت له تلك الغرفة الجميلة تغشاها فحمة الليل، وتلك الزخرفة المُزينة للجدران كأنما رسمها دخان السِّراج على بقايا كوخ إنشقت حيطانه، فنهض الرجل وتمَطى مطلقا تنهيدات متتالية، فتقدمت منه خديجة وأجلسته وخلعت سُترته، ورباط عنقه وقالت : الحمّام جاهز، فلم يردّ عليها . عندئذ جلست بجانبه محاولة أن تعيد البسمة إلى ثغره، فلما يئست ونفذ صبرها قالت : أرى جفونك تتقاطر حُزنا ووجنتاك عليهما ملامح الألم، ثم ابتسمت وسألته بذكاء :
    - أكـَـدُّ النهار نال منك كل هذا ؟
إلتفت إليها وأشار برأسه أن  لا .

قالت : فلماذا إذن ؟ أجبني بالله عليك، فما كنت عني لأسرارك كاتمٌ من قبل . هيا رد علي، فلم يبق لي صبر، فتأوّهَ الرجل الحصيف الفصيح وأطلق :

سَقـطتْ عَـــلى الخُــدودِ دَمْـعَــــــتان ِ لِـــــفتـًى تــــائِهِ بَـــال ٍحَيْــــــــــرَان ِ فأشارتا لأسًى فِي ضُلوعِهْ وهُــمُوم تتوَارَى بكـيانهْ مِنهُ تقرّبْتُ أرْنـُو لِجُفــون ٍ إمْتــــطـتها سُــــحبٌ مِــنْ أحْـــزان ِ ومَسَحْتُ عَــبْرتيْهِ الحارَّتــين بَعـــــــدهَا رَاحَ يُمـــازحْهُ لِــــسانِي يا بُـني مَالكَ ذابــلَ جَفـْــــن ٍ؟ أهــو دَاءٌ، أمْ بــكَ كـــيدٌ لِــــــزمَان ِ؟ قام، فاغـرورقتِ العَـيْنُ بدَمْع كحُـــــتاتٍ مِـــن فتـــيتاتِ الجُـمان ِ ثم قــال : بالله عـليك أجــبني ... مَـنْ يُواسِـــيني ويَمْــحُو أشجاني ؟ عِشتُ عُصفورًا صغيرا يترامَى بين وَكـر وَضِــــــفافِ الغـــدْران ِ وكـرُ ريح وبسَاط مِن ترابْ لِيتــيم لــمْ يَــذق طـــعْمَ الحَــــنانِ رُحْتُ سَاع خلف صَدر يَحْتوينِي فتجرّعْـــتُ كـُــؤوسًا مِن هَــوان ِ وذرفـتُ الدَّمْعَ رقراقا جَرفـتُ بهِ جُرحًا كــان يَشــــلّ لِــــساني جُبتُ أقطارا، وكمْ عُـمتُ البحار علني آوي إلى عُـــش الأمــــان فاستبدَّتْ بي رزايا مَاحقاتٌ ما هَوَتْ قـَط ُّبإنـــس ٍأو بجَــــان ِ سـيِّدي ... لست ُنسيمًا أو عـبيرًا فاحَ مِن أكمام زهْـــر الأقحُوان ِ ما أنا قـيثارة ٌتعـزفُ أشجَى اللحـن أو رَيْحــانة، أو فــــرْعُ بــــان ِ لا أنا ريمٌ تناجيهِ الفـَـــلا، أوْ وردة ٌفي ظِل رَوض ٍ وجــنان ِ بـلْ حَــقيرٌ كــرَمَادٍ ... تترامَى به نسَمَاتٌ في كل مَكان ووحيدًا في دُجَى ليل بَهيم فاحِم المُلاءَةِ، الحَظ رَمَانِي باكيَ العَيْن، حَزين القلبِ، مَكسُورَ جَناح أغــبرَ الوَجْـــه تـــرَانِي أرقـبُ الرِّفـق مِن الله القـدير ذو سَـخاءٍ، أهـــل جُـــودٍ وَمَـنان ِ.

فلما فرغ من كلامه رفعت خديجة رأسها بعدما عرفت مايختلج في صدره وقالت : أيـن هو هذا الفتى ؟ ولماذا لم تأتِ به عـساهُ ينفعـنا ؟

 - وجدتهُ في مخرج المدينة لما عُدتُ من العمل، ولقد حدثتني نفسي بعدما كلمته أن أجيء به، لكن لم أدْر ِكيف ركبت السيارة وتركته، آه !  من قساوتي .
- هيا، قم يارجل واعمل مَعروفا مع هذا اليتيم المسكين .

نهض احميدة وركب سيارته واتجه صوب كمال، وأتى به . وكانت الشمس قد هجعت والليل ألقى نقابه الأسود على وجه الطبيعة، فأدخلوه الى الحَمّام، وألبسوه أجود الثياب، ثم توجهوا إلى مائدة العشاء، فأكلوا وأعدّوا له غرفة في الحديقة الموجودة في الواجهة الخلفية للمنزل، وجلست خديجة عند رأسه تسأله عن حياته، فحكى لها رحلته من مُبتدئها إلى مُنتهاها، فلما عرفت أنه يتقن الفلاحة، فرحتْ فرحا زائدا لأنها أدركت أنه سيقوم بتزيين الحديقة وإعادتها إلى ماكانت عليه قبل أن ينتقل البستاني الأمين الذي كان يعمل بها إلى رحمة الله . أما احميدة فجلس بجانبه، وقد سمع ناقوس الذكرى يدقّ، فاستجاب بالإنصات، وعاد إلى أيام طفولته وتذكر ما كابده من صِعاب، وكيف قاوم وابل الهموم الذي تهاطل عليه بعدما مات أبوه، وكيف تحدّى كل النـــوازل واجـــتاز الصِّعاب وأصبح طبيبا ماهرا، فحمد الله تعــالى وزادت رأفته بالمُستلقي على السرير، وما كان عليه إلا أن يُهنئه على سلامته بالبسمة، ويُعزيه فيمَنْ فقده بدمعة خالصة جرَتْ على خده، فمسَحَها وراح يمُسّ شعر الفتى ويُحدّق إلى وجهه الذي سَرَت فيه روح الحياة من جديد، وينظر إلى جفونه التي بدأت تتثاقل عليه شيئا فشيئا، حتى تطابقت، انصرف هو وزوجته للنوم، بينما ابنتهما " كاميليا " إغتنمت فرصة سِنةِ الجميع، وذهبت ونظرت في وجه هذا الفتى الغريب الذي سمعت أبواها يتحدثان عنه، ثم اتجهت إلى غرفتها حامدة الله على سلامته . وفي الصباح استيقظ كمال، ولم يَدْر أهُو في حقيقة أم في حُلم . قام ونظر إلى تلك النافذة التي يتدفق منها لألاء الصباح وإلى الكتب المتراصفة في الخزانة، وإلى جمال اللوحة المُعلقة على الجدار والمزهرية الموضوعة على الطاولة الزجاجية، فتذكر مزهرية " رحمة " والبيت القصديري الذي كان ينام فيه، فحمد الله وقال : لاحول ولا قوة إلا بالله العظيم، سُبحان مُغيـِّر الأحــــوال ! في تلك اللحظات دخلت إليه خديجة حاملة إبريق الحليب، وطبقا من الحلوى اللذيذة، فحيّته وقدمت له فطور الصباح، فأكل حتى شبع ولسانه مُنعقدٌ لا يعرف كيف يعبّر عن شكره لهذه العائلة الكريمة، بعد ذلك أقبل احميدة مبتسما وحيَّاهُ وجلس يمازحه :

 - أظن أنك بستاني ماهر، يابني .
 - نعم، ياعمي فسوف ترى بعد أيام قليلة كيف تصبح الحديقة المحيطة بالمنزل .
 - إذن هذه الغرفة غرفتك، والحديقة حديقتك، وسوف أتوجه غدا إلى مدير المدرسة، وأطلب منه أن يسجلك لِتــتم دراستك ....

قاطعته خديجة قائلة : والبيت بيتك، وأنت إذن لنا إبن أمين، وعَضدٌ مُعـين .

 - أو ليس لديكم أبناء ؟

أجاب احميدة متلعـثما : بالطبع، لا ياولدي .

 - سأكون إنشاء الله لكم شاكرا، ووفيا لِسَادتي حتى آخر نبض في عروقي، ولن أنسَ جميلكم ما حَييتُ .
   مرّت أربع سنوات على كمال، وهو بين الأحضان الدافئة لتلك العائلة، ينهل منها العطف والحنان، ويتلذذ بأهنئ عيش، ولقد أعاد إليه الدهر نبراس الأمل الذي خطفه منه في الأيام الماضية بمخالبه، وعادت نشوة الحياة إلى نفسه بعدما طرد الدهر عنه سهام المُنون التي كادت أن تقطع أوردته، وابتسم له الزمـن ابتسامته العريضة، بعدما كان مكفهرا عَبُوسا، ومسحت جسمَه شمس الجمال بنورها مسحة ًطاهرة، فأكسبته قدّا معتدلا، وخدا مزهرا، وملامح بهية تغطي مُحياه، كما يغطي اللحم بقايا الجراح المندملة، بعدما كانت مختفية وراء سِتار الآلام ووخــز الأسقام، وحُرقة الجَــمَرات المنسكبة من الأحداق .

فقد كان احميدة له الأب ببشاشته، والأخ الأكبر بعطفه، والصديق الوفي بنصحه ولطفه، وخديجة، الأم بحنانها والأخت الكبرى بحبها، والعمة برأفتها، وما كان يمرّ يوم إلا وازداد فيه حبهم للفتى الغريب، نظرا لما وهَبَه الله تعالى من خلق كريم، وحكمة في الحياة، وكلام رقيق يذيب الأحجار وترْكدُ مُنصتة ًله الوديان والأنهار، بالإضافة إلى كونه نشيطا حازما، فلقد كان يستيقظ كل يوم قبل أن تغادر العصافير وُكناتها، فيُصلي ويبقى مترقبا إستقبال تلك المملكة الصغيرة المحيطة بعَرشه لبريق الصباح إلى أن تأتيه خديجة بالفطور، فيتناوله ثم يتجه إلى المدرسة، فيظل مُنكبا على العِــلم حتى المساء . ولقد كان كمال ذكيا ماهرا في اكتساب القلوب، وخطف الأحداق من العُيون، وزرع الإبتسام على الثغور، فمن حين لآخر كان يقطف باقة ورد جميلة ويباغت بها خديجة فتفرح كثيرا، وتضع قلبها في راحته اليمنى، أما احميدة فيفاجئه بباقة أشعار يمدحه فيها فيثـلج صدره، ويضع قلبه في راحته اليسرى، كما كان يعمل بحماس فـيَّاض . فكان في أيام الخريف يلتقط ويرمي بعيدا أوراقَ الأشجار المتناثرة، والتي انتزعتها الريح من أمّهاتها وألقتْ بها على الأرض، ويهيِّءُ الأحواض لاستقبال حبّات الغيث، ويقتلع الأعشاب المتطفلة على لقم الأشجار، أما في فصل الشتاء، فيفرّ إلى غرفته وجلا من سُعَار الفصل المرعب، خاصة عندما تموت الشمس في راحة السماء، وتعزف الريح ألحان الهجاء سُخطا على الكائنات، ويكفـن الثلج كل المرئيات ظنا منه أن هزيم الرعد قد أفقدها الحياة، وكثيرا ماكان احميدة وزوجته يأتنسان بكمال في تلك الليالي البعيدة الأعجاز، والتي تطرد الكرى عن جُفونهم، فيسهر الجميع قرب المدفأة على كؤوس الشاي، ويعيشون الحكايات الأسطورية والطرائف المضحكة، التي تتناوبها الألسنة، والمناظرات الشعرية التي تزخرف المجلس، فكمال واحميدة هما الطرفان، وخديجة هي الحَكمُ الذي يُرجِّحُ كفة القسطاس إلى كمال دائما، غالبا أو مغلوبا . بينما في فصل الربيع، وعندما تكون الطبيعة عروسا بارعة الجمال مزدانة بأثواب خضراء متحلية بعقود من شتى الورود والأزهار، وحول مِعصمها سِوار قوس قزح . كان الفتى يقضي أمسياته في تلك الروضة الغناء والجنة الفيحاء بين أشجار البرتقال والليمون واللوز، يقلم فروعَها المُتمردة، ويروِّي عروقها الضمآنة بأنقى المياه، ويناجي الطيور المغردة النشوانة بكؤوس النسيم وسِحْر الربيع الجميل، ويتجول بين تلك الغواني المتراصفة في الحديقة والتي أيقظتها زقزقة العصافير، فربَت وتطاولت سيقانها وغمَرعـــبيرُها كل الأرجاء، واختلفت ألوانها وأشكالها وتمايلت، عارضة أزياءها على مَرْأى الربيع، شاكية إليه عذاب الفراق وجُورَ الشتاء، ساكبة على وجناتها دموع الفرحة بقدوم سيِّدها، أما الذابلة منها، فهي تخجل من بشاعة وجهها، فتحاول الإختفاء لتبكي أيامها التعيسة، لكن وَليَّها الربيع يراها، فيتقدم إليها، ويطمئنها ويَعِدُها بالنضارة في العام المقبل . أما عندما يجيء الصيف حاملا شعاع شمسِه اللافح ونسائمه الحارة وسماءَه الأصفى من المرآة ، وثماره التي تتبرج بها البساتــين، فالفتى في هذه الأيام كان يـخلو بالكــتب والمجلات التي تصادفها أنامله، وأحيانا يذهب إلى البحر لا ليسبح، بل ليقرأ ما يكتبه الزبد على صفحات الرمال، ويتذكر ماضيه الحزين وأيامه السوداء، وعندما تبتعد الشمس قليلا عن الكائنات في آخر النهار رأفة بها، يتجه إلى الحديقة حيث الأشجار الظمآنة التي انتظرته طويلا ليسقيها، ويجني ثمارها اليانعة خاصة أشجار الكروم، التي نفذ صبرها وأثقلت كاهلها عناقـيدها المُتدلية . وأهم ماميَّـز حياته في تلك السنوات الأربع هو دخول تلك الفتاة التي لا يعرف عنها سِوى سواد عينيها صَرْحَ نفسه الخالي، ووطأت قدماها بَيْداءَ قلبه، فقد كانت تنتظره في مخرج المدينة عندما يعود من الدرس، فتضرب بلثام على وجهها، وتخرج من جيبها أوراقا نقدية تعطيها إياه، فيرفض في بادئ الأمر، لكنها تسبقه دائما بالقسَم يمينا خالصا على ضرورة مَسْكِها، فلا يَهُون عليه أن يرُدّها في يدها المرتعشة، فيمسكها شاكرا إياها بأرق العبارات وأعذب الكلمات فترد عليه بلغة اللحاظ وتنصرف، أما هو فيبقى يلمّ قصاصات شرايينه التي قطعتها تلك السهام التي رمته بها من عينيها، ويمشي مُصارعا جلبة ذاته . ولقد توسّل إليها مِرارًا أن تنزع لثامها، أو تعرِّفه بنفسها، لكنها أبَتْ، بل سوَّلت له نفسه أن ينزع لثامها عُـنوة ليعرف من تكون هذه الكريمة، لكن صوت الضمير لعْلعَ في أعماقه مُحذرا إياه من مقابلة حفنات التـِّبْر بأطباق الشوك، فكبَحَهُ دويّ الحق وسلم أمره لدوامة القدر آملا منها أن تزيح القناع عن الوجه المسـتور، وتأتي بعــهد السعادة والســـرور .


    ودّع كمال شتاء العام الخامس بين أحضان تلك العائلة، واستقبل ربيعه الذي أتى بأنفاسه الرقيقة،  ونفحاته العَطِرة مُتباهيا بما اكتساه من أثواب مُلونة، فخورا بكثرة عشاقه، مستهزئا بغرور الشتاء وجُهُومَتِه، حاملا معه بذور المحبة ليغـرسها في القلوب الطيبة، وسُرَج الأمل ليضعها في أيدي البؤساء، وتيجان السعادة ليلبسها من إبتسمت لهم الأيام .

جلس كمال ليستريح بعدما روّى الأشجار المزدانة بالبراعم الفتية، وبقي مترقبا لحظة توديع الورود الجميلة لقرص الشمس المُنحدر إلى المغيب، ويستمع إلى هَمْسها وشكواها مَرارة الفراق، فإذا به يسمع وقع خطى خفيفة تتجه إليه، فنهض فلمح فتاة في ريعان الشباب، ممشوقة القد، لها حاجبان كالهلال، وعينان أبهى من الزهر وأعمق من البحر، وشفتان أحلى من مزيج الدِّبس والشهد، تبدو عليها ملامح الغنج . تحمل صينية وتتقدم إليه شيئا فشيئا، فلما وصلت إليه تحرك من مكانه، وإذا بحبّة عَرَق سقطت من جبينه . بادرها بالتحية قائلا : أسعد الله مساءك، فردّت عليه بكلام أرق من لحن العُود، وأنفاس أعطر من ريح المسك وصوت أوقع في النفس من معزوفــات النــــــاي، قائلة : مساء الخير، خذ هذا الشاي، فإنه يزيدك قوة ونشاطا، فأمسكه وألقى على مَسَامعها كلمات الشكر بلسان مُتلعثم وعقـل مسلوب، ثم قال بعد أن خيّم عليهما الصَّمت بضع دقائق : لكن، لو تسمحي لي ياسيدتي، من أنت ؟ فأنا لم أعهَدْ رؤيتك في هذا البيت، فابتسمت وقالت : بل تراني دائما . ثم أخرجت منديلا حجبتْ به مُحيّاها عنه، فحدّق كمال جيدا في عينيها، فإذا هي تلك الفتاة التي تجُودُ عليه بالنقود في آخر كل شهر، وما إن من تأكد من ذلك حتى جثم محاولا أن يقبل رجليها، لكنها أبتْ، ومدَّت يديها الناعمتين ورفعته عن الأرض فأحسّ أنه يحلق بعيدا بأجنحة السعادة التي دبّت في ضلوعه، وسَرَت في عروقه مع نجيع الدماء، فأصبح كالعصفور الذي كسا الريش جناحيه، فبدأ يتأهّب للطيران لأول مرة، فلما استقام دبَّجَ وجهَه بابتسامة لطيفة، فاستدار مُحياهُ كالبدر وقال : ياالله، خبريني كيف دخلت هذا المنزل، وهل لك صِلة ٌبأهله ؟ فأجابت قائلة : لن أخبرك حتى تأتيني وعْدًا، لتكتمَنَّ ما أقوله لك، فلما وعَدَها وحلف لها يمينا خالصا بمَحْض إرادته قالت : إعلم أنه سقط رأسي بهذا البيت منذ ثمانية عشر عاما، ولقد حجبني أبويّ عن مرآك، ربما لحاجة في نفسيهما، فكنت أتلثم وآتيك بالدراهم لأني أعلم أنك عديمٌ مُحتاج، وكثيرا ما سمعتهما يتحدثان عــن خـصالك الحميدة، فاغتنمت فرصة خروجهما اليوم لأقـدم لك الشاي، والذي صنعـته بيدي، وأتمنى أن يعجبك . إذذاك بدأ كمال يضرب جبينه براحته ضربات متتالية ويقول : آه ! لقد قضيت خمس سنوات تقريبا في هذا البيت، ولم أعلم أن هناك فتاة لطيفة تسكنه، سبحان الله !

  - سأعود الآن قبل أن يعود أبواي وينكشف الأمر .
  -  لكنك لم تخبريني مااسمك ؟
  - لا ، لا هذا لا يهمك ، مع السلامة .

سارت الفتاة باتجاه غرفتها، بينما بقي كمال يترقبها حتى غابت عن أنظاره بعدما ملكت قلبه، وأضرمت النار في مُهجته، وأجّجتها في كبده، فمشى إلى غرفته سكرانا بسُلافة الحُب، ولما وصل رمى بجسمه على السرير، وراح يغازل الطيف المنعكس على مَرَايا نفسه، فمدّ يده ليمسكه، لكنه فــرّ منه، ثم راح يناجيه ويتوسل إليه قائلا : تعال إلي، لماذا لاترأف بي، تعال إلي، لماذا لاترأف بي، تعال إلى دفء روحي وعانقها، واسكبْ في فاها قليلا من ريقك العسلي علك تشفي غليلها، وسُرعان ما استفاق وطرَد وساوسه وقال : مابك ياكمال ؟ هل أنت ولهانٌ إلى هذه الدرجة، أم بك مَسّ من الجن ؟ أتخاطب العفاريت الطائرة أم الجــن الماردة ؟ أين هي هذه التي تجري لاهثا خلفها ؟ ثم ضحك على حماقاته، ونهض لكن الطيف لايزال يراوده . وجاء الليل، وما أطول الليل في عيون العشاق، وما أبعد فجره ! جاء الليل، فبغشت السماء قليلا، وتناثرت حبات المطر على زجاج النافذة، فنهض وبقي يراقب كيف تمتزج حبيبات الرذاذ بنور القمر الخافت، وكيف ترتشف الورود كؤوس المَطر، ثم عاد واتكأ على سريره محاولا النوم، لكنه لم يجد إليه سبيلا . أحس بقلق شديد، فبقي يجُول في أرجاء الغرفة، كمَن طال انتظاره لشخص عزيــز، ثم تفطن إلى القراءة، فحمل كتابا وراح يقلب صفحاته، لكنه لم يستطع أن يقرأ جُملة واحدة، فحطه في مكانه وشرب كوْبًا من الشاي، فمازاد طير الكرى سوى التحليق بعيدا عن عينيه، إستلقى ثانية على سريره، فسمع قلبه يهمس ويقول : خلصني من أنامل تلك الفتاة إنها تعصرني في هذه اللحظات كالليمونة، فأيقن الفتى أنه جبروت الحب، ولم يستطع أن يفعل شيئا سوى أن يُعـزي قلبه بحفنة دموع فاضت من عينيه، وبعد هنيهة أحس أن قلبه يشتهي أن يسكب عصارته، فاستجاب له وجلس على كرسيه وحمل ورقة بيضاء كتب عليها :

هَواك بين ضُلوعِي مِــشعَلٌ يَلـــهَـــبُ *** والدّمْعُ مِنْ مُقــلـتي لـه الـنّوى يَسْكـبُ فالـــبدروالنجم والـدّجى مـعي تشـــهَدُ *** والقـلبُ والجَــفنُ والأنـــامِلُ تكـــــتبُ هَيْهات، هيهات أنْ أهـْوَى سِـواك أيـا *** ناءٍ عـَن العَيْن، إلى مُــهْجَتِي يَقــــرُبُ

ثم كتب اسمه وأخفى الورقة، وفي الصباح خرج باكرا يترصّد مُؤرِّقته عَلها تنظر إليه نظرة الراحم المشفق، لكنه لم يرَ لها خيالا، وكذلك بقي كل يوم لكن بدون جدوى، وكأن السماء اختطفتها أو الأرض ابتلعتها .

  حمَل الربيع حقائبه وأمتعته ورحل بعيدا، ومرّ على رحيله شهر كامل، فازداد كمال شوقا 

وحنينا واحترق لوعة ووجدا، وفي إحدى الليالي النجماء وقد ذهـب هزيعُها الأول، هـزته الصبابة هزا عنيفا، فأزمع أن يرى محبوبته، حتى ولو أدّى به ذلك إلى خروج روحه من لحمه، فقام وجعل القصاصة الشعرية في جيبه، وخرج من غرفته وتسلق السور، ومشى حذرا خائفا من انكشاف أمره . تجلى له ضوء خافت تشق أشعته عتمة الظلام، فاتجه نحوه إلى أن انتهى به المسير إلى مصدر النور . أطل من النافذة فإذا هو شبح الفتاة التي رآها في أوائل أيام الربيع، جالسة على كرسيها تنظر إلى الورقة البيضاء الموضوعة على الطاولة وإلى قلمها، وتشدّ رأسها بقوة عَلَّ شؤبوبَ الإلهام يتدفق، فنظر إليها الفتى مُتحيرا من أمرها، ثم أدخل الورقة التي كتب عليها عصارة قلبه من تحت الباب، وانصرف خائفا، ونام حالما بالـــرد والوصال . وعندما ألقى الصباح وشاحَهُ على صدر الكون، قامت " كاميليا " وغسلت وجهها المُبرقع بالسّهاد، وجلست إلى المرآة، فاكتحلت وذهبت لتناول فطور الصباح، ولما همّت بفتح الباب، حمل النسيم إليها ورقة مطوية، ففتحتها، وقرأت سطورها بتمعـن، فعرفت أن الفتى يحمل لها أكثر مما تحمله له، فقبلتها ووضعتها في حافظتها، وقلبها يخفق بشدة، وكأنه لأول مرة أشرق فيه بريــق السعادة في سمائه، ودبّت في أوردته نشوة الحياة . ولما جاء الليل، جاء بأثقاله وحطها فوق كتفيها، فأصبحت تترقب بلهفة مجيء الصباح علـَّهُ يزيح تلك الأعباء، لكن الصباح أبى المجيء، فحملت يَراعها وكتبت حروفها المتأوهة، وكلماتها النابضة بالصدق، ثم حملت ورقتها، ونزلت وفتحت الباب الخلفي، واتجهت نحو غرفة مؤرِّقـــها، لتنظر في وجهه الجميل، ثم تنام مطمئنة . أخذت تمشي بحذر، بينما هو كان يُسامر النجوم، فلما رأى نورا يضيء أرجاء الحديقة وشبحا يتقدم شيئا فشيئا، إختفى خلف شجرة وبقي يترقبها، فلما وصلت إلى غرفة كمال أطلت من النافذة، فلم ترَ سِوى الدّوَاة، أو بعض الكتب والأوراق المبعثرة على الطاولة، فمسحت عينيها جيدا، وأعادت النظر ثانية، فإذا هي خاوية ٌعلى عُروشها . راحت عندئذ تطلـق تنهيدات متتالية أسَفا وحسرة . في تلك اللحظات تقدم إليها كمال، ووضع يده على كتفها، فالتفتت مندهشة مذعورة وقالت متلعثمة بعدما حدقت جيدا في وجهه الجميل : إسمح لي، لقد ضاق صدري الليلة، فنزلت بهذا المكان علني أروِّح عن نفسي، أو أجد راحتي في هذه الحديقة الساحرة، فابتسم ونزع بلطف من يدها تلك الورقة، وقرأ كلماتها، فأدرك أن سهمه قـد أصاب الهدف فقال : حمدا لك يارب ! لقد استجبت دعائي ، هيا تعالي ياثمرة حياتي نجلس جنبا إلى جنب، هيا اجلسي يا منارة ذاتي المظلمة، يا ...

 - لا ، لا إني خائفة، سأنصرف الآن، ما أوصيك به هو إن أردتَ الكتابة إلي، فضع رسائلك في الصندوق الأحمر الموجود قرب المخرج الرئيسي للمنزل، فكلامك الحُـــلوالجميل وحده يكفيني .
- مادمت تودِّين الرواح، فلا أقدر أن أمنعك، لأنك إن طلبت عيوني فهي ملك يديك، ولو طلبت روحي فهي بين راحتيك، لكن دعيني أرنو بضع ثوان إلى عينيك علني أغــرق، فإني أشتهي الغــــرَق الآن !.

إنتعشت الفتاة بخمرة الحب، فابتسمت وقالت في دلال وبذكاء وفي كبرياء : ياسلام، أنت مُحِب إلى هذه الدرجة ؟ الحب ياعـــزيزي إحساس نبـــــيل لا تتلفظ به الألسنة، بل يبوح به احمرار الوجنات وعسل العيون، إذن لواعجُك التي تسكبك بين يدي ليست إلا زيف، وابتداءا من هذه اللحظة يمكنك أن تنساني، مع السلامة ...


من كمال إلى كاميليا :

هل أنســـاك ؟ أمْ أنـــسَى دَمْدَمَــة كــــلِمَاتِكِ فِــي فـــــــــــؤادِي أو أنسى طيفكِ وهُو يرقصُ على مَسْرَح سُهَـادِي كيـف أنـسى أنشـودة ًبعثتـني مِنْ سَكرةِ رُقـــادِي وسُــــــنونوة ًهِـــي كــــل أمَـــلي وَمـُـــــــرادِي هل أنســـاك ؟ أم أنسى ابتــــسامات الصّـــــبَاحْ

وسَخاءَ الرّبيع بعِطرهِ الفــــوّاحْ

أم أنسى هَمَسَاتِ الزهور المِلاحْ في مَسـامِـــــــــــــــــع الأرواحْ هل أنساك ياوردة ًمُبتسمة أم أنسى الأمواجَ وهي مُتناطحة أمَــامِي أبمَقـدُوري أن أنسى أيّامي وأسْـــــقامِي عجزت أن أنسى طيفكِ وكـلماتِك ولا المَوْجَ والزهرَ والربيعْ عجزتُ أن أنسى ولو إحدى هذه الأكمام الصفراءْ فكيف أنساك ؟ كــــيف أنســـاك ؟ وكلها جزءٌ منكِ وكـلها أكمامكِ التي تزين مُحَيَّاكْ !!.

 مضى شهر كامل، وكمال ينتظر الرد، لكن من يسمع أنينه أو يُواسي شجونه ؟ ولقد أصبح طيف تلك الصبية لا يكاد يغادره، وأضحى يعيش في بحر الأوهام التي تهجم عليه، كلما تقدم إليه الليل، فتارة تراه يسير جارّا أذياله بين الأشجار، وتارة يكفكف الدموع المُهراقة من عينيه، وطورا يخاطب الطيور والصخور والحشرات والنجوم كالمجنون، ولمّا نفذ جَلده إلتجأ إلى يراعه فكتب إلى محبوبته يقول :

عـــــندما تـــــنطق الحُـروفُ والكــــــــلماتْ ... عندمَا يُطلق اليَرَاع ُكل ما يَحْويهِ مِن ْزفـرَاتْ عندما تـتِــــــيهُ في دفـــــاتري العِـــــــباراتْ وعندما ترسُــم الدّمـعة إسـمكِ على الوجـناتْ ثـم تسـقـط ُ... لمّــاعة ًسَــمْــــحاءْ فتـمــتـزجُ معَ المِـــداد ويرسُــــمان إســمكِ ثم يكـــتبان مع صَــمت الـــــدُّجى : عيناك أوقيانوس عميق، رُحت أبْحِر فيه حيث اللانهاية، فلما وصلتُ إلى ذاك السِّحر الذي يزينه، أصبحت عالقا به، وبعد استراحة قصيرة، أكملت سَفريتي بزورقي الصغير، فرأيت ألوان الجمال، تحيط بها الأشواك والأهوال فوليتُ فـزعًا . ياوردة مُبتسمة في وجهي، أنا لا أقول لك أحبك، وكلِفٌ بك، و ، ...بل أقول باختصار أن حبكِ أحالني إلى قطرة ندًى حقيرة، فأتوسل إليك أن ترتشفيني من ثغورك عساني أحضى بقليل من دفء أكمامك المتفتحة !


             من كاميليا إلى كمال :

بعد التحية والسلام : كتاباتك يا – كلمة لاشجاعة لي بقولها الآن – وصلتني، وهي محفوظة في ضياء عيوني، وكلماتك خبأتها بين طيات جفوني وحروفها جعلتــها ذخرا أواسي شجوني . أقول لك خليلي في كتابي هذا أن هواكَ لا محالة قاتلي، وحُبك إضطجع مفاصلي، وطيفك توسّد مُـقلي، وإني لأرى الحياة بدونك زهرة ذابلة، والأيام كذبة زائلة والصباح ظلمة داكنة . سألت دائي القمر والنجوم والسماء، فقالت : دواؤك بسمة ٌمن ثغر الحبيب، وسألت الطيور وقسْطلة المِياه الجارية، فقالت : شفاؤك همسة مـن جفون الخليل، ولقد تجلدت، ولطالمَا صارع كبريائي القلب، لكنه خرج منهزما، وبقي القلب ينادي بأعلى صوت : إنتصرت، إنتصرت، وهزمت ألدّ الخصوم، وبانتصاره أعلنت أنا بدوري هزيمتي . لا تؤاخذني، لقد كنت قاسية معك بعض الشيء، لكن في غضون قسوتي قلبٌ يعتصر ألما، وينصهر وجْدًا !! صدقني، هربت مِرارا من مخالب الحب لأني أهابُهَا كثيرا لكن هذه المرة، وفي هذه اللحظات بالذات أصرخ وأقول : إني مهزومة، وأنادي بأعلى صوتي : إني أضعف مخلوق أمام شعاع عينيك، فإن كنت ذو أنفاس طيبة، فاجعل صدرك صندوقا لمْلِمْ فيه أشلاء روحي المتكسرة، ولسانك باب صدرك الذي تغلق به على ماتبوح به فتاة مسكينة سكب الحب بريقه على قلبها الصغــــير .


                                                                            " سلامٌ عليك من التي تحمل 
                                                                               لــك أكــثر مما تحمل لها "


    رن ّالجرس، ثم طرق الباب مَرّات مُتتالية طرقا خفيفا، فنهض احميدة من على الأريكة متثاقلا ليفتح الباب مُرددا : ترى من سيزورنا في آخر النهار ؟ فسبقته خديجة وقالت : إجلس لتستريح، سأفـتح أنا الباب .

- آه ! أمينة، أختي العزيزة، تفضلي، تفضل سي احمد مرحبا بكما . - أهلا وسهلا بكما، ماهذا الغياب الطويل ؟ تفضلا، قال احميدة بعـدما قام لاستقبال ضيوفه . ردّ أحمد مبتسما : الحمد لله يا أخي احميدة، أعذرنا فالظروف كما تعلم تعرقلنا على زيارتكم . جلس الجميع في غرفة الإستقبال يتبادلون أطراف الحديث، بعد ذلك حُط سماط العشاء، فأكلوا ثم وضع إبريق الشاي، فصبّ احميدة لكل واحدٍ كوبا، وراحوا يتسامرون في بَهجَة وسُرور حتى كاد أن يذهب النصف الأول من الليل، فقررت أمينة أن تفتح الباب إلى لباب الحديث فقالت : أين كاميليا ؟ ألا تريد أن تــرى خالتها، وتطمئن عليها ؟ فردت خديجة : بلى، إنها تنام في أول الليل، وتستيقظ عند الفجر لتحضر للإمتحان النهائي، فهو أحسن وقت للمذاكرة . أشعل أحمد سيجارة وطرد بها أول نفــس ثم قال : والله يا أخي احميدة، منذ خمس وعشرين سنة إقترنتُ بأمينة، ولم أرَ فيها سوى أسْمَى الخِصال من ذكاء، وخِفة روح وحسـن خلق، وكذلك فعلت أنت بأختها خديجة، وأظن أنك لم تـرَ فيها عيـبا قط، أليس كذلك ؟ فهزّ احميدة رأسه ثم أطلق : بلى، فأكمل أحمد حديثه قائلا : وكما قال الأولون : إذا عرفت الأم، فإنك عرفت ابنتها، فقاطعت أمينة كلامه قائلة بلهجة المُتوسِّل : وقصْدُنا في هذه الليلة المــباركة أن نطلب يدَ ابنتكم، ونزفها في الأيام المقبلة إنشاء الله عــروسا لابننا " سامي " الذي تعرفون عنه الوسامة والجد، و....،.....، وما كادت تكمل مَديحَها لابنها حتى قامت خديجة وأطلقت زغاريدا متتالية، ثم أحضرت زجاجة عِطر رشتها بأريجها، فمدَّ احميدة يده إليها وأجلسها وقال : لا أريدك أن تكوني جاهلة، دعـينا نرى رأيَ الفتاة أولا . - وهل أنت في ريْب من عدم موافقة الفتاة التي عجنتها بيدي، وأين ستجد بعْلا أحسن من ابـن خالتها ؟ - هيا، قومي واخبري الفتاة بالأمر . نهضت خديجة، وبعد هنيهة جاءت بكاميليا إلى المجلس، فسلمت على خالتها وزوجها، وجلست بمحاذاة أمها . أمينة : أبشري يا بنيتي، غدًا سوف تصبحين عروسا جميلة لابن خالتك، هيا تعالي إجلسي بجانبي ياحبيبتي، فلما سمعت البنت تلك الكلمات التي نزلت عليها كالصاعقة، جَمدتْ ولم تستطع النطق، وبقيت صامتة لبعض الدقائق، ثم قامت وهرولت إلى غرفتها دون أن تنبس بكلمة، حينئذ أطلق أحمد قهقهة عالية وقال : السكوت علامة الرضا، هيا بنا نعود يا أمينة إلى المنزل، فالفتاة تبدو خجولة، وفي الأسبوع القادم إنشاء الله سنعود لإعلان الخطوبة الرسمية .

 - مع السلامة، نحن في انتظاركم، قالت خديجة، ثم أوصدت الباب مُودِّعة الضيوف ثم اتجهت مباشرة إلى غرفة ابنتها مَسْرُورًة وجلست تداعـب خصلات شعرها وتردد :
- مبروك يا جمـيل .
- لكنني لم أتمِمْ دراستي بعـدُ يا أماه .
- اللعنة على دراستك هذه التي تجُرّك شيئا فشيئا إلى هُوّة العُنوسة، طيب، أي شيء أحَبّ إليك ؟ أتلك الكراريس والكتب التي تتوجهيـن بها كل يوم إلى قاعة الدرس، أم رضيع صغير أمامك في مهده، يحدثك بلغته، ويبتسم فينير لك أرجاء البيت ؟
- دراستي قبل كل شيء .
- في الأسبوع القادم، ستكون خطبتك الرسمية، وبعدها تزفين إلى بيت زوجك، وستعرفين بعد ذلك ألوان السعادة، وسوف تتذكرين كلامي، وتقولين لامَحَالة : أنت على حق، لأنك اليوم لا تزالين غِرّة، لا تعرفين سِوى قشور الأمور، هكذا أطلقت خديجة كلماتها، وانصرفت فوجدت احميدة في انتظارها .
- هل وافقت الفتاة ؟
- بالطبع، إسمح لي الآن، إني ذاهبة للنوم، كي أقوم في الصباح باكرا لأرتب لها أثوابها وحُليّها ولوازمها .

أما كاميليا فقد أغلقت الباب بإحكام، وارتمتْ على السرير، وطفقت تسكب العبرات من عينيها شؤبوبا لا يجف، إلى أن أحست أن الكرى قد هجم على أبويها، خرجت متسللة صوب غرفة كمال، ودقت الباب فخرج، ولم يصدق كيف ساقَ إليه القدر محبوبته في هذا الوقت بالذات، والذي كان فيه مُنادمًا لطيفها، فارتعدت مفاصله وخفق قلبه خفقانا شديدا، ثم رسم ابتسامة جميلة وقال : لا أصدق أنني في حقيقة، وكأن القدر أشفق علي، فمدّ يدهُ وحملك إليّ، هيا تفضلي ولا تخافي، فالكل أظنهم نيام . دخلت الفتاة، ثم تشجعت وحدقت في عينيه الواسعتين لأول مرة، فنظر هو بدوره إلى عينيها وإذا بدمعة رقصت بضع ثوان على حدقتها ثم سقطت على خدها، فمدّ يده ومسحها بلطف وقال : سمعت الزغاريد، بُـشرى خير إنشاء الله .

 - وأي خير ؟ خالتي جاءت تطلب يدي على لسان إبنها سامي .
 - وماذا ترين ؟ 
 - لا أرى سِوى النور ظلاما .

طأطأ الفتى رأسَهُ وفكر قليلا ثم قال : عُودي الآن إلى غرفتك، وفي الصباح أخبري أمك عن موافقتك القِـــران بابن أختها ! .

- وأنت ؟.

رفع كمال رأسه، ونظر إليها نظرة يائس من الحياة، فانهمرت الدموع من عينيه غزيرة، وجرَتْ على خديه وقال : أنا، لكـن مَنْ أنا ؟ لقد عرفتُ في هذه اللحظات فقط من أنا، ومن أنت ؟ وليتني لم أعرف، كم كنت مخطئا لمّا استجبت لصُراخ قلبي، ونسيتُ خليتي في مملكة الوجود، وكم كنت غبيا، عندما أردت أن أجلس بجانب القمر على تختٍ واحد، ونسيت أنني مَوْجة ٌحقيرة تتلاعب بها الرياح كما تشاء، حقا نسيت نفسي فقادني قلبي إلى مَسْرح أحلام تتبخر بدُنوي منها، والآن فقط عرفت من أنا ومن أنت ؟ وليتني لم أعرف، ليتني لم أعرف .. فأزمعتُ أن أحفر بأظافري ضريحًا لقلبي أواريهِ فيه، وأصغي إلى سلطان العقل الذي طالما حذرني من رؤية الأشواك ورودا !

- ماذا تقول ؟ أتشك في حبي لك ؟                                                                       

أطبق كمال رموشه، وكأنما يريد أن يُرجع تلك الدموع المنسكبة من عينيه إلى أعماق قلبه وقال : آه ! لو تعلمين مَدَى حُبي لك، لقلتِ أنه فاق حُب الندى للورود، وحُب البلابل للأغاريد، لكن عرفت أنكِ السماء وأنا الأرض، أنكِ البسمة تفتح القلوب وأنا الدمعة تجرح الخدود، سامحيني يا كاميليا لأنني لم أحْسِن إستقبالك، هيا ارجعي الآن إلى غرفتك ونامي قرير العين، وفي الصباح تزيّني واخرجي إلى صديقاتك وانبإيـــهن بخبر خطوبتك، فإنهـن سيفرحن كثيرا، أتركيني من فضلك لوحدي أطعَن قلبي الطعنة الأولى والأخيرة عساهُ يَسْتفيق من حماقاته، أما أنا فأعِدُك أن أبقى البستاني الوفي لأبويك، وأتولى خدمتهما مادمت حيا - لا تقل هذا يا كمال، فأنت مثقف وتعلم أن الحكماء قالــــــوا : خادم الناس سيدهم . - أتركيني من فضلك لوحدي . مدّت الفتاة يدها ومسحتْ دموعه وقالت : حسنا، سأتركك لوحدك، لكن إعلم أنك السبب إن غرستُ خنجرا في صدري، الوداع ..... بعد ذلك انصرفت، وسرعان مااختفت عن أنظاره، وتركته حاملا من الهموم ما يشلّ قدميه، أما هي إتجهت صوب غرفتها وجلست تواسي أحزانها بينبوع من الدموع حتى جاء الصباح، فخرجت لتروِّح عن نفسها، لكن غـيمة حجبت عن عينيها نور الشمس، وهكذا ظلت تراودها طيلة أيامها، فأحالت نهارها أسْوَدًا بعدما كان مشرقا جميلا، وليلها أشدّ وحشة وعـــتمة، كما أصبحت ذات أطوار غـريبة، فتارة تترك الخبز يحترق سَهوًا، وتارة تقدم أطباق الأكل مالحة فتعتذر لأبويها كل مرة بأعذار كاذبة .

      وجاء اليوم الموعود بعد مرور أسبوع، وجاء الخطيب حاملا أبويه في سيارة فخمة مزينة بورود من كل الألوان، مرتديا بذلة من أنفس القماش، تفوح بأشذى العطور، وحازما عنقه برباط من الحرير.                                                                                    

دار دورة كاملة هو ومن معه من خِلان يمتطون أفخم المَرْكبات حول بيت الخطيبة مُعبِّرين عن السعادة والسرور، ثم نزلوا فرحّب بهم احميدة، ودخل الجميع البيت فاستقبلتهم خديجة بوجه بشوش، فجلسوا وراحوا يتضاحكون على رنين كؤوس المشروبات، وكان كمال من بين المدعوِّين جالسا في ركن الغرفة صامتا، وكلما نظر إليه أحد الحاضرين، يرسم ابتسامة مزيفة على شفتيه معبِّرا بها عن فرحته، بينما كان يواري أهوالا تعصف بفؤاده . في تلك اللحظات طرق الباب، فنهض احميدة وفتحه، فإذا بالإمام قد وصل . كان يرتدي جُبة ناصعة البياض، ورأسه محزوم بعمامة بيضاء أيضا، فرحّــب به وأدخله وأجلسه، فأمـر الإمام بإحضار الفتاة لقراءة الفاتحة، بعدما شرب كوبا من الشاي . عندئذ أخرج الخطيب من جيبه خاتما ذهبيا نفيسا وراح يتلاعب به . وبينما هم كذلك إذ طلعت كاميليا كالقمر، فأول ما لمحت عيناها الفتى الحزين في زاويـــة من زوايا الغرفة الفسيحة، فأحسّت أنه يخاطبها ويعاتبها عتابا قاسيا . نظرت الفتاة إلى أمها، وإذا بدمعتين خالصتين تنسكبان على خدها كأنهـــما قطــرتي ندى إنسكـــــبتا على وريــقات وردة جميلة، فأطلقت الأم زغاريدا متتالية، ظنا منها أن تلك الدموع هي دموع الفـــرحة أو دمـــوع فراق العش الذي تربَّت فيه، لكن سرعان ما ازداد بكاء الفـتاة، وتحــولت الدمــوع إلى وابــل بعدما كان رذاذا خافتا، وتلفظت بــ لا ، لا ،...ثم اختفت بسرعة البــرق، حينئذ فــهم الجـــميع الموقف وتحولت تلك الغرفة إلى مأتم ساكن مُبَرقع بأخيلةِ الكآبة بعدما كان عُرســا تغــرد فيه طــيورالســعادة فوق الرؤوس . هز أبو الخطيب عكازته، واتكأ عليها حـتى استـــقام وألســنة الغيظ تتطاير من عينيه، فتبعه الخطيب وأمه التي تلفظت بــ : بضاعتكم اخزنـــوها، وخــرج الإمام كذلك مــرددا: مهزلة، والله ! نظر احميدة إلى زوجته بجفون تتقاطر حزنا، ثـــم خرج وركــب ســيارته واتجـــه إلى حـــيث لا يعلم، أما الأم فقد سارعت إلى ابنتها توبِّخها، وتمطرها بوابل الشتائم، بينما كمــال فقــد حلقت روحه بعيدا، مغردة بأناشيد الإنتصار، وسار إلى غرفته ليخط على الورق تهاني الوفاء .


       من كمال إلى كاميليا :  

ياامرأة زرعت بذرة الوفاء في قلبها، وسقتها بالدماء والدموع، فلما اهتزت وربَت وأصبحت شجرة، توردت أكمام زهرتها ثم أينعت ثمرتها، وضعت تلك الثمرة بين راحتيّ ! إعلمي أنها أغلى عندي من كنوز الدنيا، وتاج المُلك وأحلى من ابتسام الأيام . ياامرأة كفكفت دموعي، وغسلت مُهجتي إلا من لواعج الهوى، لا أجد ما أجازيك به مقابل جميلك سِوى قلب صادق، هو من الآن بين يديك، فافعلي به ماشئت، حتى وإن أردت أن تغرسي فيه خنجرا،فأقسم أنني لن أحرِّك ساكنا أو أنبس ببنت شفة . صدقيني، في تلك اللحظات التي بَتــرَ فيه الحُب أيْدٍ أرادت أن تبطش به، كادت أوردتي أن تسقط، وتمرح مع أوراق الخريف من شدة ما امتلأ به قلبي من سعادة، فراح ينتفخ وينتفخ حتى ظننت أنه سينفجر، لكنه عاد إلى ماكان عليه بمُجرد أن سقطت دمعة الفرحة، إذذاك جاش ينبوع إلهامي واشتهى تدفقا، لكنني أمْهَلتهُ إلى هذه اللحظات التي طاوعه فيها اليراع، وراح يرسم على وجه هذه الورقة البيضاءعِـبارات الإمتنان والـثناء . إعلمي ياكاميليا أنني مهما تكلمت، فإنني متأكد أني لن أفِ ولو بقلامَة من حقك، أو بصيص من تضحياتك ! وفي الأخير أقرئك سلامي مع أزكى النسمات، مِسْكه حروف تشدو فوق رأسك بالثناء، وتغرد بعـبارات الوفاء، مُدِّي يديك إلى الأثير فأنا متأكد أنك ستتلمسينه، وانصتي جيدا فلا محالة ستسْمَعيه .

والمُـنى لقـياكُمُو في صَمـتِ لـيل ٍ *** ذِي دُجًـى تعْـمِي عُـيون الرُّقـباءِ


    هجَـمَ  الليل على ضياء النهار، كما تهجُم النار على بياض الورق، فتحيلهُ أسودًا فاحما، فعاد الطير إلى وكره، وفرّ الحيوان إلى مربضه، وبقي البحر مُسامرًا النجوم، بينما عَنّ مـن هنالك الهلال كالقلامة يُرسِل نورا خافتا ينير به مسالك أبناء الليل، ويفتح به عيونهم .          

خرجت كاميليا بعدما تأكدت من سِنة أبويها، ففتحت الباب الخلفي، ومشت بين أشجار الحديقة حتى وصلت إلى غرفة كمال، فأطلت على نافذته، فرأته يُحاور مِحبرته ويَراعه، ويُترجم عُصارة قلبه إلى حُروف يرسمها على الورق . دقت زجاج النافذة دقا خفيفا، فرفع رأسه، ولمّا رآها بَدَأ يمسح عينيه جيدا كأنه لم يُصدق مايَرَاهُ، وبعدما تأكد أنّ ما يراه ليس ضربًا من أحلامه المُعتادة، إبتسم وتحرّك سريعا وفتح الباب، وبعد صمتٍ دام دقائقا مَعدودة بادرته كاميليا بالتحية قائلة : أسعَدَ الله مساءك، عندئذ إسترجع أنفاسه وقال : مساء النور وكل شيء جميل، هيا تعالي، تعالي يامَنارة قلبي، ودعيني أرنو إلى وجهك الطاهر، وأستنشق أنفاسك الزكية المنبعثة من ريحانة الوفاء التي تتربع على صدرك، تعالي لأنقش إسمك على جبيـن الضباب، وأكتبها على صفحات قلبي، فلا ينمحي حتى تطلّ نفسي على شراجيب الحِمَام، هيا اقتربي مني ياحبيبتي ولا ترتاعي، فطيفك طالما اختال أمامي، وهاقد زارني اليوم حاملا روحه معه . فلما سمعت الخريدة كلامه الرقيق إنفجرت ضاحكة، فأركبها على ظهرها مثلما تفعل الأم بفطيمها، ثم مشى بين الأشجار، وهي تضربه بلطف على كتفيه وخديه، وتقول : أنزلني، أنزلني ...وهي غير راغبة في النزول، فردّ عليها قائلا : أخاف أن يسرقك مني حِندَس الليل، أو يحملك النسيم على بساطِهِ السِّحري، ويحلق بك بعيدا بعيدا، أو يختطفك مني إبن ملك الجان الذي أراه في هذه اللحظات يسترق النظر إلى روحينا، وعينه التي تتوسط جبهته مِلؤها الغيرة والغيظ، تعالي نجلس سويّا تحت ستار هذه الأيْكةِ، ونشرب معًا أقداح الهوى العذب، ونسكب قليلا منه على الثرى كي تنتعش أوصال هذه الشجرة العظيمة، فـتثمل ثمارها، وتنقـل عبقها الفواح ممزوجا بأنفاس روحيْنا إلى خياشيم كل الكائنات، وتروي أوراقها قصّة حُبنا لكل الكائنات . ولما وصلا إلى شجرة ملتفة الأغصان، جلسا جنبا إلى جنب يتساقـيان أعــذب الكـلمات وأرق العبارات.

  - لا أدري كيف تمكنت من الإنفلات من قفص محفوفٍ بالعُيون، ووصلت إليك، لكنني لازلت أشعر بالخوف، فمتى ياربّ يأتي الوصال الأبدي، وينجلي هذا الخوف، ونمشي سويًّا جنبا إلى جنب أمام الملأ  ؟                                                                                
 - لا تيأسي فالحب سلسبيل عذب يتفجر من السماء، فيسقي القلوب الطيبة، فينبت بها ورود الأمل ورياض الخير، وسِراجٌ يرسم معالم الحياة و ينير الدروب، ويكشف عن أشواكها وصخورها التي تعيق المَسِير في موكب الزمن، فنتفادى تلك العثرات التي تهرق دماءنا، وتكسر عظامنا، لا تقنطي يا نسمة أيقظت نفسي من هجعة الوحدة، فالحب تتولى رعايته قوة علوية لا تضاهيها أية قوة في هذا الكون، ولا تخافي فالقوة التي تجمعنا اليوم هي التي تتولى شؤوننا غدا، والأقدار التي تبارك حبنا اليوم، لا أظنها ستعصف بنا في يوم ما .                 
- لكنني أرى سحابة الفراق تقترب منا شيئا فشيئا، لتحملني إلى ماوراء البحار .               
- ماذا تقصدين ؟                                                                                            
- ألا تعلم ماذا جرى لي قبل شهرين ؟ وما لقيته من زجر وشتم بسبب مخالفة أوامر أمي، والآن هاهو أبي جاء دوره، لقد ألقى عليّ أوامره التي لا تناقش ودعاني للهجرة إلى فرنسا ومتابـــعة دروســـي هنــالك، رفقة " سناء" إبنة صــديقه، فـترى ماذا سـيكون مصــيري هذه المرة ؟ أي نعم إن الطائرة توشك أن ترفعني فوق السحاب غدا، لذا أزمعت أن أراك قبل الرحيل، ولو أدى بي ذلك إلى سفك دمــائي، ولأودعـــــك عسى الله أن يجمعنا عن قــــريب، آه!إني أحـــن إليــــك قبل أن أفارقك، فكيف أكون ترى بعد فراقك ؟ رفع كمال عينيه ونظر إلى النجوم المُشعشعة ثم اقترب من محبوبته قليلا، وإذا بدمعة هَوَت من عينه فانسكبت على راحة يدها، فنظرت إليه وشفتاها مرتجفتان، عليهما زرقة الموت، ورفعت يدها وارتشفت على مَرْآهُ تلك الدمعة الساخنة، ثم مدّتْ يدها ولمست شعره، ثم خدعته وطبعت على جبينه قبلة دبّتْ حرارتها في جسمه كما تدُبّ نشوة الرّاح في العروق، سكبت بها عصارة مُهجتها في صدره، وزبدة حَنانها في كبده، ثم نهضت واقتلعته من فوق الأرض وقالت له : إسمح لي الآن بالعودة، فأومأ لها بجفون مُعبرة عن اللوم والألم، ولأيًا قال : قدح المُنون عندي ألذ من كأس الفراق، رافقتك السلامة يا جُمانة فريدة في هذا العالم، وداعا لا تنسي أن تراسليني، وتوافيني بعنوانك .                                                                                          

بعدئذ إنصرفت الفتاة ملوحة بيدها والدموع تبلل ثيابها، وكذلك تحرّك هو متثاقلا صوب غرفته، وبقي يصارع الموج المتلاطم في بحر صدره إلى أن انبلج الصباح، خرج ليرى خِلسة ًمحبوبته التي امتطت مَرْكبة أبيها المتجهة إلى المطار .


16 سبتــمبر             
من كاميليا إلى كمال :                                                         

" بعد الثناء على خالق الأكوان، ومُصوِّر الثقلان، والصلاة والسلام على خير بني عدنان أما بعد :

 فراقك خليلي أضناني، والشوق إليك جفت أمامه كل أقلامي، وطيفك أضحى أنيس مقامي، وحبك فتت عظامي، ومازاد عليّ هو مرارة الغربة، فأنا أعيش مع صديقتي سناء في غرفة ضيقة، في إحدى ضواحي تلك المدينة التي يُسمونها عاصمة الجن والملائكة، وحياتنا بسيطة للغاية، فنحن نتجه كل صباح إلى الدرس، ونبقى هنالك إلى أن تتوسط الشمس السماء، فنعود معًا، ونتعاون على أداء وجبة الغداء، وفي المساء نخرج إلى مدينة مجاورة، تلك المدينة أقل جلبة التي نسكنها، فنقضي أمسيتنا نتفرج على المُروج الخضراء، ونستمع إلى سمفونيات الطيور المغردة، لكن مؤخرا، صدقني، لقد بدأتْ نفسي تملّ من الورود والزهور، بعدما كانت مَوْضِع نجيع الدماء في العروق، وتعْرضُ عن أنغام الطيور بعدما كانت تهتز طرَبًا بها عند كل شروق، وأحيانا تنتابني أحاسيس غريبة لم أعْهَدْها، وشعور بكآبة تزداد يوما بعد يوم في هذا العالم الغريب، بين أناس يشربون المُدام ماءًا، ويعتبرون الحياء خرافة غابرة، وهم غير مبالـين، وكأن قلوبهم مُبطنة بالتراب . لقد عجزت حقا أن أسير في طريق هذا المجتمع الغريب .                                                                                                      

ورغم كل الظروف إنني أسْعَى إلى أن تكون دراستي فوق كل اعتبار، لكن إسمح لي أن أقول لك أن طيفك يُعرقلني، ورغم ذلك أشعر بالسعادة وهو ممتثل أمامي، فأرمي كراريسي وكتبي، وأطفىء الفانوس، وأبقى أحاوره حتى يتلفظ لساني بكل العبارات التي تمليها مُهجتي، فأستسلم للنوم . في هذه اللحظات أكتب رسالتي، وصديقتي سناء بجانبي، وهي تبلغك سلامها الحار . بلغ سلامي إلى تلك الأيْكة التي جلسنا تحتها في آخر ليلة التقينا فيها، وأخبرني عن أحوال والدي، ولا تنسَ أن تراسلني في أقرب وقت ."

ســـــــــــلام


كاميليا                 

حي الورود الصفراء، رقم الباب 119 باريس

                                                                           03 نوفمبر

مـن كمال إلى كاميليا :

أريـدُ أن أنفجرَ مِثـل البُركـــــانْ لكنَّ إحْدَى ذوَاتِي صَاحَتْ وأبَتْ أريد أنْ أطلقَ أناتي الــرّثــة لكن صدري أبَى، والأنــة هَمَدَتْ ومُقـــلتي... لدُموع العــين قـد ألِـفتْ أمَّا جُفوني رأيتها قد انتصَبَتْ وأخبرتني عن فراقها للكـَـرَى مِن يوم فـراق أحْلى ما عُيونِي رأتْ أوَدُّ البَوْحَ بجذوة ٍتحرقـني للشمس ِ لكنّ شمسي قدْ، وقـدْ أفلتْ للــبدر ... لكن بدري، قد وقد اختفى فما عملي ؟ وقناديلي تمرّدتْ وما بيدي ؟ وأبواب الحياة، قدْ صُدَّتْ . هذه صرختي إليك يا جمانتي الغالية، وهذه حياتي لخصْتها لك في سطور معدودة، لتعلمي أنني أتجرّع مرارة الفراق العلقمية في اليوم ملايين المرات، ولتتيقـني أن طيفك ممتثل أمامي في كل الأوقات، وأيامي بدونك كلها سوداء حالكات، وهاأنذا أعيش مُتشبِّثا بسِراج الأمل، أمل اللقاء عن قريب، آمين . لقد سألتني عن أحوال أبويك، فأقول لك أنهما لا ينقصهما سِوى النظر إلى وجهك الطيب، والسلام .


كمـــــــال


17 جانــفي

من كمال إلى كاميليا :

مِنْ وراء القضبـــانْ أكـــــــابدُ آلام بُعـْـــدِ الأحِــــبةِ والخِـــلانْ أستنشقُ نسيمَ الصبابة، فأزفر حِمَمَ بُركانْ من وراء القضــبان أداعب دُجَى الليل الطــويلْ وأساهر أشعة البدر الجميلْ أأتنِسُ بالوحـدة، وأصــطحب الفــــراقْ أحــدِّث الأجـفان، فـتـتـبـلل الأحـــــداقْ من وراء القضــبان أخاطـــب الحـــــشرات، أمــازحُ الــوطــــــواطْ لا، لا لسـت حَــبيسَ جُـدران الإسمـنت والـبلاطْ بدونكم أنا حبيس جدران بلا جـدرانْ أسيرُ زنزانة بلا أبواب ولا قضــبانْ !! لكن، لا بأس ... من وراء القضبان تعلمتُ كيف يعتصر القلب آلام الفراقْ وكيف يخــط القــلم عـــــــلى الأوراقْ علمتني أيامي كيف ترقص الدمعة على الأحداقْ مُودِّعة عينا ألفتها ... فـترنـــــــو إليها في اشــــــــتياق ثم تنسكب ذليلة بائسة.. علمتني الأيام تحمّل سُم العقاربْ علمتني الليالي جَمّا من التجاربْ فاستقرأت أن .. ما الحياة إلا كـَــدٌّ ومتاعــــبْ أمـــل، يـــــــأس ونــــــوائب قضبان هي ... قضبان أوهــــــام وكــواربْ .


جُودي علينا بكلمة تروِّي صاديًا " المخلص كمال "


من ســـناء إلى كمـــال :

الحمد الكثير للرحمن الرحيم، مُحْيي العظام وهي رميم، ومُخرج الداء من الجسم السقيم أمّا بعــدُ : كتابكَ الأخير أخي – أدام الله بقاءك – قد وَصلْ، وحروفك بللت المُقلْ، وأنينك سُمِعَ وفي الأعماق توغـلْ، والشكر لك مُقدِّم الكلام على جميل الشعــــورْ، والصدق الموفـــــورْ . أخي – أعزك الله - من أين أبدأ ؟ والأنامل ترتجف، وكيف أدخل إلى لبِّ الكلام، والقلب يتقطع إربا إربا ؟ فخير ما أفتح به كلامي هو قول لا يخجل قائلهُ : إنا لله وإنا إليه راجعون، رُحماك يارباه لتلك الروح الطاهــرة التي أحبّت روحك بصدق وإخلاص، فقد انتقلت إلى جوار خالقها، وهي تنادي باسمك . أعذرني ياكمال، فأنا أعلم أن هذا النبأ الذي انقلهُ إليك عــبر رسالتي، كمَنْ مَدَّك بخنجر لتدافع به عـن نفسك، فلما مَدَدتَ يدَك لتمسكه، غرسهُ في صدرك، وأنا متأكدة بأنك على علم أن هذا واجبي تجاهك، وأنت الأوْلى بمعرفة ذلك، وأتمنى من الله أن يلهمك وذويها الصبر والجَلد، والآن سأوردُ لكَ كيف كان ذلك ؟ في إحدى الأمسيات، بينما أنا وصديقتي كعادتنا نتجول في مَرَج عشبه أخضر مُنبسط، وطيره منشد مُغتبط، وماؤه فرات زلالْ، وشجره وارفُ الظلالْ، وهواؤه أعطر من ريح العنبر وأريَحُ للنفس من نسيم السَّحَرْ . إنتهى بنا المسير إلى ينبوع صاف ماؤه يصبّ في نهر مُلتو، فاغترفنا من ماء المنبع، وشربنا حتى ارتوينا، وبقينا نسير على حافة النهر، نقرأ صفحات الجمال الساحر، ونستمتع بأغاريد الطيور المرفرفة فوق رأسينا، صدقني لحَدِّ الآن لم أعرف كيف إلتفت فوجدت صديقتي تتخبط في مياه النهر المتدفق، وكأنما يَدٌ خفية جذبتها ورمت بها هنالك، أو أن تلك المياه إشتهت أن تستحم ّروحُها الطاهرة فيها، فأخذتها عُـنوة !! وتصوَّرْ كم هــز فؤادي مَنظرها وهي تصارع الموت، وتلوح بيدها أن الوداع، وشفتاها تقذفان الزبد بعيدا، ولِسُوء حظي ما كنت أعرف العَوْم، ولقد تمنيت في تلك اللحظات فِداهَا بنفــــسي . في تلك اللحظات رأيت خيالا يقفز بأقصى ما يقدر عليه، ويغوصُ في الماء ويتقدم إليها شيئا فشيئا، فإذا هو شاب يحاول إنقاذها، والغريب في الأمر أنه لما وصل إليها، فإذا هي تعْرضُ عنه، وبقيت كذلك حتى أصبحت تطفو كريشة عصفور فوق الماء . أما أنا فلما أفقتُ من غشيتي، وجدت الممرضة تمسح جبيني، وإلى جانبها ذلك الفتى الذي حاول إنقاذ كاميليا من الغرق، فنظرت إليه نظرة شزراء معبرة على اللوم والعِتاب وقلت والدموع تتساقط من عيني :

 - لماذا لم تنقذها ؟ فصمت الشاب هنيهة وقال بلهجة المتحسِّـر : إمرأة عظيمة ! أتدرين ماذا قالت لي قبل أن تلفظ آخر أنفاسها ؟
- ماذا ؟

قالت لي : إبتعد عني أيها الفتى، إبتعد، وإن اقتربت مني سأغرقك معي، إبتعد عني فالموت أحَبُّ إلى نفسي من أن يلمِسَ جلدي الطاهـر غيـر الرجل الذي أحبته نفسي، وسكب روحَهُ في قالب روحي ! فخِفتُ على نفسي، وتركتها لحالها . أخي كمال : لن أخبرك عن حالي بعدها، وأقول لك : ألهمنا الله الصبر وإياكم، فصبرٌ جميل والله المُستعــــــــــان .

                                                                               ســـــــــلام
                                                                                        " ســــناء "
   لمّا قرأ كمال تلك الرسالة التي بعثتها له سناء، خرج مُهرولا بين شوارع المدينة، والدموع هامية من عينيه غزيرة، يصرخ وينادي بأعلى صوت : جُمانتي، جمانتي، أرجعوا لي جمانتي ياناس، فالتفَّ حوله الرجال والنساء والصبيان، فمنهم من كان يقول : المال نقمة، وآخر يقول : لو لم تكتنز جمانتك، وبعْـتها وأنفقتها على نفسك وعلى غيرك لكان خيرا لك، ولما بقي يقول مالا يعـيه : أصبحوا يقولون عنه : مجنون ، مجنون !!

فلما سمع تلك الكلمة، أحرقت الأنفاس التي حملتها إلى أذنه غـشاء قلبه، فاستقام بينهم، وبصوت يُحاكي قصف الرعد، راح يقول : تقولون عني أيها الناس : مجنون ! فأجيبكم : حقا أنا مجنون، لا اقتناعا مني بذلك، وإنما إرضاءًا لكم . أنا مجنون ! وفي جنوني لذة لا تضاهيها لذة استمتاعكم بعقولكم الجوفاء، ونشوة تنسيني همومي الخرساء . تقولون عني مجنون، وأعذركم لأن عـيونكم كلها عـمياء، لا ترى سِوى أغلفة الأمور، ولاتشتهي غير الجميل الناعم، حتى وإن كانت تلك النعومة قـشرة تحمل في ثناياها أفاع سُمها ناقع . آه ! لو تعلمون سبب جنوني، لتمنيتم أن تكونوا كلكم مجانينا !! هكذا تلفظ بكلماته الأخيرة، وتوارى تحت الثرى، بطعـنةٍ من صَدَى صرخته المُدوِّية .










    • العِـتابُ الأخْـرَس **
     لماذا تنظرين إليّ ؟
سُؤال أشارتْ به جُفوني، عندما رأتها عيني في المَوكب مُزينة بأنفس الحُلي، ووجهها مَطليّ بطبقة سميكة من المساحيق والألوان التي أحالت جمالها الطبيعي إلى أشباح ترقص فوق مُحياها النضِر، نعمْ رأيتها تسترق النظر إلي، وأنا جالس لوحْدي، مُؤتنسا بغربان الكآبة المُحَلقة فوق رأسي، والتي تنعــق فتشمئــزّ منها نفسي أيّما اشمئزاز !

لماذا تنظرين إليّ الآن ؟ أتشفقين عليّ شفقة القاتل على الجُثة التي أهْرَق دمها، أم شفقة الجار المُـــتخم على جاره المُتضوِّر جُوعًا ! لا تنظري إليّ من فضلك، فإني مُشفق عليكِ أكثر ممّا أنت مُشفقة علي، لأنك نسيتِ تلك الأيام الربيعية البهية، أنسيت عهْدَ الصبا ؟ عندما كـنا نذهب معًا يدًا بيد إلى الينبوع المُتدفق، ونملأ بمائه الفضِّي جرَّتنا التي صنعـتها جدتكِ من الفخار، ونحملها معًا، أنسيتِ عندما كنا نمتطي حصاننا البلاستيكي ؟ فيحلق بنا في فضاء الأحلام اللامتناهية، ويخيل لنا أنه أسرع من أبْجَـر "عـنترة "، بينما هو لا يتحرك من مكانه ! أأنساكِ عام الخطوبة عشر سنوات وأربعًا بهذه السهولة ؟ أم أنسَتكِ أكياس الذهب والفضة، والمنزل المُرَقـش أعواما من العـمر استرقـتِها عند غفلة الدهر رفقة ذلك المُعْدَم البائس الذي هو أنا، فمنذ متى كان المال يدًا سحرية تدني الأرواح من بعضها وتزاوج القلوب، وترشها بعِبق السعادة ؟ ومنذ متى كان العَوَز كفا خشنة تصفع الأرواح وتباعدها عن بعضها، وتزرع فوق القلوب أشواك الحزن ؟ فرُبَّ قصر مُتعال تغشى الكآبة ُأرجاءَهُ، ورُبَّ كوخ حقير به كل الثغـور تبتسم . أنسيتِ آخر يوم إلتقينا فيه ؟ وقلت لي أن الحياة ترقص نشوانة بحُبنا، ثم ركبنا ونحن مُبرقعيْن بالعَفافِ قاربا جميلا يَمْخر الموج، والشمس تأبى الهُجوع وتشتهي أن تتفرّج على بلابل السعادة المرفرفة فوقــنا، وأنت تقولين وترددين : معك تتفتح زهوري . لماذا تبكـين؟ وعريسُكِ الأنيق ينتظرك بوجهٍ بشوش وأثواب تفـوحُ عِطرا، وأمّك تطلق الزغاريد، والثغور من حولك كلها مبتسمة، فما هَمَّك إن كانت واحدة منها حزينة، لا تبكِ، فقد قرأت في أحداقك صفحات قلبك، وتهيَّئي كي يطير بك حبيبك الذي اختارته لك أمك بمَرْكبته المُجنحة بالحب، فالموكب يكاد يقلع، وإن سألوك عن دموعك، فقولي لهم : ليست إلا دموع فراق الوَكر الذي ألفتِهِ، وإن زارك طيفي في يوم ما، فاضربيه بين عينيه بخنجر أسود ! . كانت تلك اللحظات الأخيرة التي تحاورت فيها الجفون، ثم بلغ مسامعي أزيز أول سيارة تحركت من مكانها، فسارتْ خلفها مَرْكبة العروس المزدانة بالورود والقلوب المزيفة، لكن ذلك ما مَنع عيوننا شكواها من بعيد حَرَّ الفراق، ولهيب الأشواق، حتى كاد الموكب أن يغيب عن نظري، فلم أدْر كيف نسيتُ نفسي وحرّكتني القوة الكامنة في أعماقي، فاقتلعت جسدي من على الأرض، و بقيت ألوِّح بيدي أن الوداع، الوداع وأقول منشـــــدا :

أيَا نســمة ًإخمــدي نـار شوْقِـي *** ودَاري دُمــوعًا بـها فـاض مَوْقِي ويابَدْرُ أنــت أنـيسي، فكـُـنْ لي *** شهـــيدًا عـلى وفــائي وصِــــدْقِي وبلغ سَلامِي إلــى من نســاني *** عَسَـــــاهُ يَجُــــودُ عـــليّ برفـْــق ِ وقلْ له : لـيتك جَرَّعْتني كـَــــأ *** سَ سُمٍّ، ولمْ تسْقِني كوْبَ عِشـق ِ.

















    • عَـدْل الأقـدار **
 إثـنان يمشيان بخطى متثاقلة على عــتبة المدينة، مُحدقـيْن إلى الشفق البعيد المعـلن عــن استعداد الشمس للهُجوع في مخدعها خلف الجبل المتعالي . الظلام بدأ ينــثر أولى ذرّاته على صفحة الكون، والبدر أخــذ يبرز بعدما محــته أشعة الشمس طِوال النهار .
ــ غدا سنتزوج يا حبيبتي، وسنأتي بمولود بَهيٍّ، إن كان ذكرا سميناه " نسيم "، وإن كان أنثى سميناها  " نسمة " .
ــ نعم ياحبيبي، وسنقضي شهر العــسل على شواطئ سيدي فرج وزرالدة، و،.........

الشاب يُخرج من جيبه زجاجة عِطر يرُش بأريجها فتاتهُ، ثم يحملها بين ذراعيه ويجري بها . تقهْـقِهُ، يحمل النسيم جدائل شعرها ويصفعُ بها وجْه حاملها . يزداد غــبطة وتملأ الفرحة قلبيهما، وتحملهما السعادة فوق جناحها، وتحلق بهما في الفضاءات اللامتناهية .


  الإثـنان يمتطيان المَرْكبة الفاخرة التي تمزق بـــطون المُــروج الخضراء بسـرعة فائقة، يأكلان حَبّات الفستق اللذيذة، يتضاحكان، تنفلت الضحكات من زجاج المركبة وتتسرب إلى مسامع الأثير .
 ــ آه ! يا حبيبي، كم أنا سعيدة بجانبك .
 ــ لكنك لستِ أسعــدَ مني ياسوزي .
 ــ قل يا رضا، متى تكون الخطوبة ؟
 ــ سأتركها لك مفاجأة .

المركبة تتوقف أمام فــندق فـخم .

 ــ أهذا هو الفندق الذي حدثـتني عنه ؟ 
 ــ نعم، وهنا سنقضي أسبوعا بعد الزواج .
 ــ حقا، رائع جدا .

تقلع المركبة من جديد، ثم تتوقف أمام باب الجامعة .

 ــ دعيني يا سوزي أحدِّق في عينيك بضــع ثوان، قال رضا .
 ــ أنا نازلة إلى الدرس فقد حــان وقــته .

تنزل ممشوقة القدّ، وتسير متمايلة . تزداد نرجسيتها، تلوح بيدها أنْ إلى اللقاء، بينما رضا تبقى عيناه شاخصتان إلى أن تغيب الفتاة، فيقلع بسرعة مُذهلة مُتجها نحو الشركة التي يديــــرها .

     حَـبّاتُ المطر تتساقط بتناغم مُتناسق على زجاج السيارة التي تسير بسرعة مُمِيتة، والمذياع يرسل إلى مسامع رضا أنغاما تذكره بماضيه مع ابنة عمه اليتيمة، تلك الصبية التي أحبته مَحبّة بني الإنس للجنان، وأحبَّت معه فقره وعَـوَزه، فلما عوّض الله عليه بالرزق، باعها في سوق الهوان بأبخس الأثمان، بعدما انتزع منها بمخالبه تلك الجوهرة الوحيدة التي ترصِّع تاج الشرف الموضوع على رأس كل امرأة لم يسبق لها القِــران، وبذهاب الجوهرة، سقط التاج وتكسر، فبقيت الفتاة المسكينة كالعارية بين المارة، لاعـزاء لها سِوى الدموع، ولاأنيس لها غـير نفس مؤمنة بقضاء الله وقدَره، آملة في المغفرة والرحمة . تهـزه عاطفتان متباينتان، عاطفة الشفقة والحنين إلى الإلف القديم، وعاطفة الكبرياء والترفع، فكيف لفتىً في مثل حاله أن يتزوج فتاة فـقيرة حـــقيرة ؟

في تلك اللحظات، بينما كانت الأفكار تتلاطم في رأس رضا، هزت أركان المَرْكبة الفخمة عــبوة ناسفة، كانت قد غـرستها أيدي الشـر في بطن الطريق، فكان رضا أول من ساقه القدَرُ إليها، وما هي إلا دقائق معدودة حتى أضحَت المركبة الفاخرة فحمة، والشاب حملته أيدي الخير إلى أقرب مستشفى، عـسى ملائكة الرحمة تطرد عنه الموت، وبالفعل فقد فـرَّ الموت، لكنه بتـــر ذراع الرجل وكِـــراعَهُ .

   الغـرفة دافئة بعض الشيء، تتسرب إليها بعض النسيمات الباردة عبر النافذة المشقوقة، و " رضا " مُستلق على ظهره ينظر إلى وجه أيامه السوداء، وعند رأسه أمه العجوز تندبُ حظ ابنها الوحيد الذي نطحه الدهر بقـرْنِهِ نطحة عنيفة، فأضحى مَبتور الذراع والكراع، عاجزا بعدما كان يطير في الآفاق مع العصافير الطليقة . الباب ينفتح شيئا فشيئا، فيتدفـق النور وتلجُ الباب صبية في ريعان الشباب، أحداقها مبللة بالدموع . سلمت على العجوز وجلست بجانبها . 

أدارَ إليها رضا رأسه بصعوبة، فبادرته :

 ــ مساء الخير يا ابن عمي، كيف هي أحوالك ؟

ردّ بنوع من الغضب : ما الذي جاء بك إلى هنا ؟ ألم تعرفي أنني سأتزوج سوزي؟

 ــ جئت لأطمئن على أحوالك، وفقط .

في تلك اللحظات، دُق الباب مرات متتالية، ثم دخلت الغرفة فتاة ٌترتدي سِروالا مُلاصقا لجلدها، وشعرها يتدلى على كتفيها أسْحَمًا كالليل، وعِطرها يملأ كل الأرجاء، فـبمجرد أن رأتها العجوز والصبية إنصرفـتا حَياءًا من خلاعــتها، بينما رضا رفع رأسه وابتسم قائلا :

 ــ مرحبا بك يا حبيبتي سوزي، تفضلي بالجلوس .
 ــ شكرا، لن أجلس إني مشغولة، كيف حالك ياصديقي ؟
 ــ آه ! ماذا تقولين ؟ صديقك !
 ــ نعم، صديقي، ولِمَ الدهشة ؟
 ــ ألستُ حبيبك ؟
 ــ نعم، حبيبي هو رضا مُدير الشركة، ذو البدلة السوداء، وسيارة المرسيدس الزرقاء، لا رضا مبتور الذراع والكراع !

هكذا ألقت كلماتها الباردة على مسامعه، وانصرفـت غير مكترثة به، بينما هو بقي يستمع إلى صدى وقع كعــب حذائها، ويندب حزمة الآمال الميتة على طاولته !
















    • القِـنْديلُ التّائِـه **
    كان في أوائل أيام الصِّبا طفلا بريئا ينعكس شعاع الشمس على مُحيَّاه الطاهر، لا يعرف في هذا الوجود سِوى أن الإجتهاد أساس الحياة، والعودة إلى البيت بعد نهاية الدرس مباشرة ضرورة حتمية، والجلوس في حضـن الوالدة أسمى قيم الحياة، وتلك الكلمات النابضة بالحنان التي تلقيها عليه أحلى الكلام وأبلغه وأصدقه، وكان بعـد العاشرة من عمره فتى ذكيا قليل الكلام، يبادر كل من يلقاه بالإبتسام، يُحيِّي الأكبر منه بتحية الإسلام ويعطف على كل من كان أصغر منه، لا فيهِ سذاجة الفتيان وحُبهم للمَرَح، لا يميل إلى اللعب حال أترابه، ولا تكاد تنفلت منه لحظة زمن وتذهب سُدًى، أما عندما تنقضي أيام الدرس ويأتي الصيف مثقلا بحرارته لا تكاد تراه إلا مرتين في اليوم، وذلك عند غدُوِّهِ إلى المدرسة القرآنية المتواجدة في مخرج المدينة أو عند رواحه مُرددا بعض ما حفظه من الكتاب المقدس، أو من دروس التربية الدينية التي يلقيها الشيخ على مسامع الفتيان ليغرس فيهم الفضائل الإسلامية السَّمْحة، وينقـــش على عـقولهم مبادئ وأخلاق السَّلف الصالح .

أما في سن العشرين، فشابا وسِيمًا تزينه بعض الشعيرات المتناثرة فوق شاربه، في عينيه عمق الحياة، وفي نظرته غـنى على اللسان، وفي ابتسامته إشراقة الأمل، وفي كلامه معزوفات ناي يمتلك القلوب، ويذهب بها في كل الإتجاهات مثلما يفعل النسيم بنور السِّراج، كما كان جادا حازما، لا فيه ترف الشباب ولهوُهم، ولا مُزاحهم ولغوهم، بهيَّ المنظر، وعلى مُحيَّاه بريق روح كلها صفاء ونقاوة، كثير الحياء، مما جعله يحظى بمنزلة عالية عند الجميع صغارا وكبارا، إناثا وذكورا .

   ولقد إعـتاد " سليم " الغـُدوّ في آخر النهار بخطى متثاقلة إلى حديقة قريبة تفتقــرُ إلى الجَلبَة، هناك يجلس وحيدا حيث يجد في السكينة راحة البال، وفي الأشجار والزهور والطيور أنيسا يطرد عليه الهموم التي لايكاد يخلو منها صدرُ أيِّ بشري، سواءً كانت بحجم الذرة أم بطول الجبال، وعندما يتـَّـشحُ الكون بالظلام، يعود إلى البيت فيستسلم للنوم بعدما يداعـب قليلا  قلمه ودفاتره على موعــد اللقاء بالصباح الجديد .
    في إحدى أمسيات الربيع الجميل، كان النسيم ينساب عليلا، والشمس قد مالت إلى مضجعها، والفتى جالس في الحديقة، يستمع إلى الموسيقى التي ترسلها الطيور إلى مسامع الأثير، ولما أفـَلتِ الشمس، وألبسَ الليل حلته السوداء للكائنات، وتزينت السماء بعقودها المتألــــقة .

إقتلع سليم جسمه من فوق الكرسي وراح يسير صوْبَ بيته مُحدِّقا إلى ذلك الجمال الهادئ الساحر، إذ تراءى له من فـوق شرفة عالية نورٌخافت وبلغ أذنه كلام رقـيق، فاقـترب قليلا وراح يرنو إلى مصدر النور، فإذا بصبيَّة جميلة مزينة بالحلي تناجي السماء والدجى قائلة : تعال إليّ يا أملي، فقد طال انتظاري إياك ! تعال إلي، فأنا مشتاقة لرؤية محياك . تعال إليّ، يا من لم أرَهُ قـَط، ولم أسمعْ صوته بَعْـدُ، يا من أراه فقط في أحلامي وأتخيّله متساميا عن الماديات، مختلفٌ عن أمثال هؤلاء البشـــــر الـذين يقرنون سعادة الروح بأكياس الذهب والفضة، وأقـبية المَأكل، وشـــــموخ الصُّروح . تعال إليّ، فأنا وحيدة في كهف مُوحِش مُزين بزخرفة كاذبة، تعال وحدك، فإني نظرت يمينا وشِمالا، فرأيت كل العُـيون ترنو إليّ، نعمْ ترنو إلى الحُلي التي تزينني، وإلى مكانة أبي التي ترفعني، وإلى هذا القصر الذي يأويني، لكن لمْ أرَ أحدا ينظر إلى كياني وروحي، فنبذتهُمْ جميعا، واحتقرتُ نفوسهم التي تطمع في قطف الزهور التي تزين الروح، ناسين أن الزهور مصيرها الذبول والزوال، ويُعرضون عمّن كانت روحُهُ مَحْفوفة بأشواك الحياة، حتى وإن كانت تلك الروح من الشهد والدِّبس، هيا تعالَ أيها الشهم، وطِرْ بي إلى العُلا، ولا تنظر إلى هذه المظاهــر التي تزينني، فإنها ليست إلا أقنعة جميلة زائلة بمرور الأيام، هيا خذني حُبا لِذاتِي وفقط، وانعمْ بدفء أحضان روحي لوحدك ! هيا تعال إلي، فقد طال انتظاري إياك . لما سمع الفتى تلك الكلمات، كاد يسقط مغشيا عليه من شدة وقعِهَا في قلبه، ثم بدأ يُحدِّق إلى مُحياها من حيث لا تراه، فأبْهَرهُ حُسنها وعذوبة كلامها، فحاول أن يكلمها، لكن الحياء كبَحَهُ، ولم يستطع أن ينبس بكلمة واحدة، ثم نظر إلى الفضاء الرحب، فإذا هو مزدان بزهور الليلك، ونظر على النجوم المتلألئة، فإذا بها تصغي إلى دقات قلبه الذي راح ينبض بشدة لم يَعْهَدها . حاول مرة ثالثة ورابعة أن يكلمها، فلما يئس جـرَّ نفسه إلى غرفـته، ولما وصل أشعل قنديلا ورمى بنفسه فوق الكرسي، ثم حمل قطعة خبز كانت فوق الطاولة وتحسَّسَها، فإذا بها تتكـسر بين أنامله، فطفق يلتهمُها وبعض المأكولات التي أعدَّتها له أمه، فلما أتمَّ وجْبَته أغمض عينيه علهُ يذهب في سكرة نوم تـنسيه وقـع كلمات الفتاة، لكن هيهات أن ينام، فإذذاك رأى طيفها ممتثلا أمامه، وهي تمُدُّ أصبعها، وتغرسه في أحـــداقه، وتقول له بصوت ملائكي : هيا قم واستجب لنداء الحب الذي يملأ صَدَاهُ كل الفضاء .

   مـضى شهر كامل والفتى في حرب ضروس بينه وبين قلبه الذي حلت به تلك الصبية الجميلة، واتخذت منه مأوًى آمنا، فكان يبيتُ مُطاردا جحْفل الهواجس التي يأتي بها الليل، مُقاوما كلاليب الأشواق التي تفتح أجفانه قهْـرًا، وتمنعها من الإنطباق  . مَضى الشهر وسليم يسعى، عـساهُ يرى تلك الفتاة ثانية، لكنها اختفت في سَرَاب الأيام، وأصبحت ضـرْبًا من الأحلام، فلما يئس وضاق صدرُه جلس ذات مســـــاء  وجــارَه يسكب بين يديه عُصــارة قلبه قائلا :
 ــ صدقني يا أخي سعيد، منذ رأيتها، أصبحت لا أطيق العيش بدونها، لقد كانت بارعة الحُسن رقيقة الكلام، فصيحة اللسان .
 ــ من هي هذه التي تحدثني عنها ؟
 ــ فلانة .
 ــ آه ! بنت سي محمد، حقا إنك تحلم، كيف لشاب مثلك أن يصل إلى نجمة متعالية ؟ دعـني من هذه الأوهام، وانظر من أنت ومن هي أولا .
 ــ لكنها عكس ماتـتـصور .
 ــ إنسَ، إنس ياصديقي، ذلك أفضل لك .
 ــ وكيف لي بذلك ؟
 ــ أنا أنسيك إياها .
 ــ بمَ ؟
 ــ بحوزتي دواءٌ ينسي كل الهموم، واعلم يا أخي العزيز أني لا أمُدُّهُ إلا لمن كانت لهم في قلبي منزلة عالية، أتريد أن تنسى حقا ؟

نزع سعيد من جيبه قرصا صغيرا يبدو للرائي قرص دواء وقال :

 ــ خذ هذا القرص وابلعْهُ .

أمسكه الفتى الغِـر مبتسما وابتلعه وبعد دقائق أغـمي عليه، فأمسكه سعيد وأسند رأسه إلى ركبتيه وقال مقهقها : زبون جديد ! الثانية والثالثة من عندي، والرابعة من عندك .

 - صديقي العزيز سعيد، إعـطني قرصا علني أتناسى هـُمومي، فقد ضاقـت عليّ الحياة، إعطني كي أعــيــش بعـض الساعات في العالم الذي ألِفــته معــك، قال سليم .

ردّ سعـيد بنوع من الكبرياء : آه ! ياصديقي، لقد أنفقتُ عليك أمـــوالا كــثيرة في ظرف أسبوعــين، وقد حان دورك كي تحرِّك ما في جيبك .

 ــ لكنك أخبرتني أن لي منزلة عالية عندك، فكيف تستغـني عـني في الوقت الذي أنا فـيه أحْوَجُ إليك أكثر من كل الناس ؟

ــ أنا لمْ أسْتغن ِعنك، لكن مَصاريفك أثقلت كاهلي، ورغم ذلك سأكون معك سخيا، وسأعطيك لفيفة لها نفـــس مفعـــــول القــــرص . أخرج سعيد اللفيفة من جيبه ووضعها في فم الفتى سليم، وأشعلها له فـــراح يأخذ منها أنفاسا متتالية .

 ــ هذا العالم أرحَبُ من الأول، أطــلق سليم .
 ــ  إذن هات ماعندك من النقود، وأنا سوف أبتاع لك لفيــفة أو لفيفــــتين .
 ــ خذ مائتي دينار، والملتقى في المساء، ولا تـبطئ عليّ، فهـمـت .
 ــ حسنا إلى اللقاء .
      مـرّت خمسة أشهر، فأصـبح ذلك الوجه المُشرق الجميل تتلاعـب فوقـه خيوط الشؤم، 

وتلك الوجنتان الحَمْراوان مَكسُوَّتان بغــبار الحــزن الذي حمَلهُ نسيم الأوهام، وتلك الأسنان المرسومة كعِـقدٍ مِن الدّر غلفتها طبقة صفراء سميكة، وأضْحَتْ تلك النفس النقية مَسْجُونة وراء لفائف المُخدرات، ذاك السّم القاتل الذي صوَّره له رفـيق السوء دواءا شافـيا، مُستغلا نقص خبرته، جارًّا إياه إلى الجحيم، كما أصبحت تلك العلبة التي كانت مملوءة بجواهر الأم المسكينة خاوية، بعدما ذهبت تلك الجواهــر مُقايضة ًبلفائف المخدرات التي يتلاشى دخانها في السماء، بينما ينغــرسُ سُمّها في نفس الفتى الغِــــرّ البريء، وقد أصبح إسم سليم لا تخلو منه المجالس، وعلى لسان الجميع، بين متأسِّف وساخـر، يُشار إليه بالأصابع، بينما هو غيــر آبهٍ بالناس، منشغل بسَفرته في بحــر الضياع الذي لم يعــرفه إلا بعـــدما تحركــت السفينة، وتوسّطت البحر، فنفذ الزاد وانتهى الوقود، فلا هـــو قادر على إتمام الســفر، ولاهـو يستطيع العودة إلى ميـــناء الأمــــــــان . أمَّا أمه المسكينة بعدما أدركـت ما حلَّ بابنها لم يكـن لها سِوى أن تعــزيه وتعـزي نفسها بتلك العَـبرات التي تذرفها صباحا مساءا، بينما أبوه لما حملت إليه الألسنة خبر الويلة التي حلت بفلذة كبده، بسبب سعيد، خرج يترصده إلى أن ألفاه، فأسقطه جثة هامدة، زُجَّ بعــدها وراء القضبان، وترك زوجه على حال الأيِّم، ومَن منا لايعـــرف حال الأيِّم وصغارها ؟

    مَــدّ الليل أنامله إلى المدينة، وأغمـض جُفونها بعدما ألبسها ثوب الوُجُوم، ورصَّع الفضاء بالنجوم، وزيّن صدره بالبدر المستدير، بينما كان النسيم يهمس بلغة رقيقة في مسامع الزهور.

مشى " سليم " تحت نور القمر، وابتعد عن المدينة قليلا، وجلس على ضفة النهر الأزرق حيث العشب منبسط والماء العذب يترقرق وينسحب كالأفعى الرقطاء، وتحت شجرة التيــن بقي الفتى مُترقبا مَوْتَ الظلام، وعِـناق الصباح للنبت والزهر وأشجار التفاح، والورود الندية البادية كالغواني المِــــــــلاح . نظر الفتى إلى ذلك المنظر الجميل ثم زفـر زفرة المُتألم العليل . وضع راحتيه على وجنتيه وأخذ يُحدِّق إلى الفراشات النشوانة بنور القمر والتي تحط فوق الأزهار البرية الندية، وتعطر أجنحتها بعبقها الفـــواح . ساعات تمُرّ والفتى هنالك يفكـر ويفكـر . قام وتحرك متثاقلا . نظر إلى زرقة النهر والتوائه، خـُيِّل له جنة أزهار الأقحوان والزنابق . نظر إلى ما حوله، خُيِّلت له تلك الروضة الغناء حوله إلى مزرعة أشواك . تقدم أكثر فزاده منظر النهر إعجابا وإغراءا، نظر خلفه فتوهَّم ضرغاما يَدنو منه لينهش لحمَه، فأسرع الفتى وألقى بنفسه بعدما ردد على مسامع الكائنات : " وداعا يادنيا الشقاء والآلام، ومرحبا عالم السِّحر والأحلام "، وما هي إلا دقائق حتى أصبح يطفو فوق الماء كريشة حَمَام، وهكذا كانت نهاية قنديل أطفأت نوره حشيشة الموت، فزلـتْ قــدمُه، وسقط سقطة مابعـدها رجوع، فوَا أسفا عليه، وسُحقا لرفــيق السّــــوء !!


    • الأقـحُوانة المجـهولة **

أيّتها الأقحوانة التي زرعـتْ بذرتـَها يَـــدٌ مِن سَرَاب في أرض محجُوبة بالضّباب ! أيتها الروح التي رُوِّيت بسلسبيل الدموع، وأطعــمت بخبز الغــصَّات . أيتها الجميلة النامية في بستان الوجود بين رياحين يمسح أكمامَها سِحرُ أبيها الربيع، وتحتضــنها إلى صدرها أمِّها الطـبيعـــة . أيّتها الحَمامة ُالحائمة في فضاء الحياة بلا جناحــين، الماخرة لمَوْجها دون قارب أو مِجداف . أيتها الصبية الحزينة، العارية الساقــين، المُمَزّقـــة الأسمال، المُحتمية مـن البرد بالجدران . أيتها الصغيرة التي لم تسمع قـط ُّلفظ بنيتي، ولمْ تحْظ بقبلة أب يُرسل بها دِفء صدره في أحضانها، ولم تتوسَّــد صدرَ أم ٍّتـزرع الحنان في قـلبها، إعـلمي أنّ كل نظرة منك تتكلم بألف لسان، وكل ذرة من جسمك النحيل تـرسل إلى قلبي سَهْمًا يقطع أوْردَته إربًا إربا، وكل حركة منكِ خنجر يُمزِّق فؤادي تمزيقا، وكل دمعة على وجنتيك البريئتيـن يَدٌ تصبّ فوق فرائصي ماء الثلج في ليلة الصّـقـــــيع . ما ذنبكِ يا طفلة كانت بالأمـس بُـرعُمًا في أقمِطتِهِ رمَته امرأة ٌبيـن السَّحَر والصبح، لقد كانت مقـنعة بالظلام، فلا نور الهلال أزال عنها القِناع، ولا أدركها ضياء الشمس، ولا عُيون البشر رصدتها، فكلهم مُخدرون بالنعـــاس، سُكارى بالأحلام، هي تلك المرأة التي اقتطعـتك بشـق النفس فـلذة من كبدها، جعلتها قطعة صابون إغتسلت بها من دنس العار، ثم رمتها في دهاليز الحياة حيث لا يعرف بشريٌّ من شأنها شيئا، وتركت أقدام الأيام تتلاعب بها كالكرة المستديرة، هذا مافعلته بكِ أمك، وأنا ربما أعذرها على فـعلتها هذه، لأنها آثرت أن تحترق كالشمعة وَحْدَها شيئا فشيئا في بطون الليالي السوداء، على أن تُحرق شرف أهلها بنار الفضيحة، وكذا في زماننا هذا العُـيون كلها قاتلة، والألسنة قاطعة كالسيوف المُهندة، لكنني لا أعذرها على استسلامها ونزولها لقمة سهلة بين مخالب رجــــــل متـــــوحش ! ما ذنبك يا نسمة غريبة لفظهَا السَّحَرُ بين لـُهَاثِ الكائنات ؟ ويا دمعة ًسائلة على وجنات الزمن، لم يُعرَفْ بعْدُ مَوْقـُها ولا حدقـتها ؟ أنتِ مسكينة بائسة، لكن حياة البُؤس خيرٌ لك مـن عيش التــرف، لأن البؤس مخارز ظاهرة للعـيان، تخِزُ الإنسان مرّة، لكنه يتفاداها بقليل مـن التبصر في الثانية، أما الـترف حَيّة ٌفي ثوب وردة جميلة، إذا ما أراد أحدٌ أن يشمَّ أريجها، نفـثت فيه قـليلا من سُمها لتـتركه يموت شيئا فـشيئا .

    بـينما كنتُ واقـفا أمامها أخاطبها بكلمات غير منطوقة وأراقب حركاتها حركة بحركة، ونظير هَدير المَوْج الغضوب سمعـتُ صوتا منبعثا من أعماقي يخاطب أبـاها المجهول، ويقول : وأنت أيها الرجل المتوحش، هلا قلمتَ مخالبك ! وهلاّ رحمتَ تلك المرأة الضعيفة المسكينة التي تستودع في صدرك مخبآت قلبها، وتسكب بين يديك لواعجها، فتستغل صفاءَ نواياها، وهشـاشة فِكرها، وتجُرّها بألفاظ مغموسة في العسل، مزخرفة بالوعود والأماني إلى جحيم لا يطاق، طابعا على جسدها بصمات الرذيلة، تاركا إياها حاملة في أحشائها حنظلة تنبذها المجموعة البشرية .

هلا سمعــت أنـَّاتِ هذه الطفلة البريئة بآذان حَدْسك، فأشفقتَ عليها، واهتزت تربتك لدموعها الهامـــــــية ! أليست هذه الصغيرة اليائسة من الحياة السعيدة جزءا منك؟ لا تخفْ أيها الجبار العابث بالقلوب والأجساد، الزارع لبذور الرذيلة، الغارس لفسيلة العار في الأراضي الطاهرة، فإن هناك قانون يحكم الطبيعة هو – كما تدين تدان -، وأنا على يقيـن أنه سيأتي يوم تعـــض فيه أناملك، وتبلع أسنانك . أما أنتِ أيتها الصغيرة الجالسة وحدك جلوس الأمل على جفن الثكلى، لا تقنطي فإن من خلف أناهيد البؤساء الصاعدة إلى الفضاء، ومن وراء النجوم والسماء، قوة ٌليست هناك أية قوة في هذا الكون لها كفؤا، قوة ٌتسيِّر الموجودات بإحكام هي قوة الله الجبار، ويَدٌ بيضاء كلها عدل وسخاء ورحمة، هي يدُ الله العزيز الغفار القادر على تبديل الأحوال، وعين ٌتحرس الأنام مـن شـــرالثـــقلان، وأذنٌ تسمع أنات المحزونيـن، وأدْعيَة المُتضرِّعين، فارفعي يديك المرتجفتين واسأليه، فستجدينه لا محالة نِعْمَ المُجيب !

بعـدما أخذ مِني مَرْآها مأخذه، وأحسستُ أن كبدي تتفتت بين أنامل غـير مَرئية نسجتها أشعة مُقلتيها الصغيرتين، فتحتُ لها ذراعي مَثيل من يستقبل غائبا طال انتظاره وأطلقتُ : تعالي ياصغيرتي، فقد نذرتُ نفسي خدمة لك، هيا انهضي ولا تخافي، فسوف أسْمِعُك الكلمات التي حُرمتِ من سماعها وسوف أقول لك : بنيتي، أختي وصغيرتي وحتى حبيبتي .

في تلك اللحظات أحسستُ بيدٍ تهْوَى على كتفي، فالتفتُّ فإذا هو رجل حَسَنُ الهَيْأة، على مُحياه يرقص بريق الوَقار يبتسم ويقول : بل أنا من سيقول لها : بنيتي وحبيبتي وصغيرتي وأختي، فأنا الأوْلى بها منك لأن الدهر فجعَـني في كل أبنائي، ثم دنا منها وحملها بيـــن ذراعــــيه، وبعدما حَيَّاني أركـــبها سيارته ومضى .






    • الفـيلسوف الظـريف **
      كــان لي صديق نـزل بقلبي منزلة عالية، لا لِمالِهِ، فـقد كان فقيرًا يكاد يكون مُعدَمًا، ولا لِنسبه فقد كان فـرْعًا أقتطع من شجرة ذوتْ أزهارها، وجفـَّت عُروقها، فهَوَى عليها فأسُ الموت ونقـلها إلى فضــــاء الأرواح، لقد مات أبوه وهو بُرعمٌ صغير، ثم لحقت به أمّهُ بعـد بضع سنوات، وتركـته تحت رحمة عمه، فنشأ مُتمرِّدًا على كل الأغلال التي تكـبِّل أمانيه، مُتراميا بين الأهوال والأشواك حتى وصل إلى وردة الحياة، فشمّ أريجها العَطِـر، وعـرف نكهتها، وفي مساء ذاك اليوم أصابه الزكام بسبب دخول بعض دقائق الوردة إلى أنفه، فأدرك بعد ذلك أن للحياة نقيضين متلازمين، هُما أريجها العَطِرودقائـقها المُدنِفــة، مُتوازييـْن كمُستقيميْن والإنسان يتوسّطهما فإذا أمالته رياح الأيام يمينا كانت حياته زكـية مُعطرة، وإذا أمالته شمالا كانت حياته بالآلام مُعكرة، بعد ذلك راح ينشر آراءا لألاءة المعنى، بالية الثوب، هذه الأخيرة جــعلته في موضــع مَسْــخرة جُل الناس المُتعامين عن تلك الأسرار والحِكم التي تخفيها قـشــور كلامه .

نعمْ، لقد أحببتهُ محبة عظيمة، لجرأته وعـِفة نفسه وتسَامِيهِ عن الماديات، ومَيْـله إلى المعـنويات، بالإضافة إلى بَساطته وظرفه، وتأجّج أفكاره في رأسه، ومُواظبته على واجباته الدينيـة، وحُبه للعزلة والإنفراد، ولقد كنت ألقـبه بالفيلسوف نظرا لكثرة تقصِّيهِ لآراء الحكماء والفلاسفة الكبار، وأحاديث الألى، ووَلعِهِ بنمَط حيـاة " ديوجيـن " وآثاره، ذلك الـرجل المعروف بصــاحب الفـلسفة الكــلبية . عرفـته في أواخر أيام الدراسة، وكان يكـبرني بعاميـن، فأنست به أيَّمَا أنس، وسَعدتُ بعِشرَتِه أياما، فكان كلامُه ينشرح له صدري، ويبعـث في نفـسي شعورا جميلا يفتح عيني، ويجعـلني أبصر ما خلف الستائـر، وما تواريه بعض السرائر، كما كانت تعجبني أطوارُه التي كـان يراها الناس غـريبة، فمَـثلا عِـوض أن يتـنزّهَ ويتفـسّح في الحدائق الجميلة، كان يختلف إلى مقبرة المدينة، وكأنما يـرى فيها مالا يَرَى الناس وعِوَض أن ينام الليل ويقوم النهار، فقد كان يَبـــيتُ مُستقبلا لخميس الأفكارالذي قال لي أنه يتهاوى عليه من سقف غرفته كعُنقود الكروم، فتارة يكون حلوا لذيذا، وتارة يكون حَصْرَمًا مُرّا، أما عـندما يزحَف ضـياء الصباح على جلد الغبراء، فإنه يستسلم للنوم حتى توقظه أصابع حِسِّه، مُبــشرة ًإياه بوقـت الصلاة، فينهض ويؤديها، ويُلبِّي حاجَته من المَأكل والمَـشرب، ويخرج ويتجـــه إلى حيث لا يَدْري، أما عــن قـُوتِهِ، فقد كان يَعُـولهُ عـمّهُ، ويُلقي إليه بعض الأوراق النقدية في آخر كل شهر، لا كرَمًا مِنه له، إنما مُقابل اكـترائه الدكان الذي ورثه الفـتى عن أبيه، والذي اسـتـرجعه، وكــتب مُلكا له بأمــرمن القضاء بعـد مُرورسنتـين عن بلوغــه سِن الــرشد، وكان الفضل في ذلك لأحَدِ رجال القضاء، كان صديقا لأبيه دلـَّـهُ على حقه في الإرث، وذلك بعدما امتلأت أكياس العَمِّ بالدراهم، ولايـزال يملأها كونه من أكــبر تجار المدينة .

     حدث أن زرتُ صديقي في بيته، أو بالأحْـــرى في صومعـته المتواجدة بمخرج المدينة، فطرقـت باب غرفـته الوحيدة، وكان الليل قد بدأ يسيل سوادُه على صفحة الطبيعة، فرد بصوت خشن، أدخل يا فلان ! فدخلت وحيّــيْته وجلست بجانبه على الحصير، فقام وأشعــل قنديلا ثم قدّم لي بعض الطعام، فأكلت وإياه، بعدئـذ نزع إبـريقا من على المجمرة، وصبّ في فنجانين قهوة عَطِرة الأنفاس، ورُحنا نرتشف منها جُرعات متتالية، ثم بدأتُ أسائله  كعادتي وهو يجيب شأن التلميذ بمُعـــلمه .
 - كيف عرفــتني قـبل أن تراني ؟

إبتسم وقال : قد أخبرتني عن مجيــئك عصافـير المساء التي تزور حديقـتي مُستقصية أخبار البشر وأحوالهم، ألم تعـلم بَعْـدُ أنك تطرق بابي أربع دقات كل مرة ؟ هكذا عرفتك ياصديقي .

- آه من حِدَّة ذكائك أيها الفيلسوف !  قل لي : ألم تفكـر في العمل ؟
- ما الفائدة من العمل ؟
- تكسب مالا ً.
- وماذا أفعـل بالمال ؟
- تبني بيتا .

إتكأ قليلا على الوسادة ومَدّ رجليه، وأخذ نفـسًا عميقا من بطن الغرفة ثم قال :

- وبعـدُ .
- تتــزوج .
- ولِمَ الــزواج ؟
- تنجب أولادا .
- وما سأجنيه من إنجاب الأولاد .
- يصبحون رجالا ونساء .
- ثم، ماذا ؟
- يملأون صدرك بهجة، ويكونون لك سبيلا إلى الراحة .

قهقه قهقهة عالية فـيها نوع من السخرية وأطلق :

- أنظر جيدا إلى حالتي هذه، فنظرت إليه جيدا، فوجدته فاتحًا رجليه المَمْدُودتــين على الفِراش، مُسنِدا رأسه إلى يديه المُشبّكـتين خلفه، فقال : ألا تراني الآن مبتهجا معك ؟ ألا تراني في هذه اللحظات جدُّ مرتاح ؟ لماذا صُلتَ وجُلت بي ياصديقي في هذه الحلقة المُفرغة، ولماذا كل هـذا العَـناء من أجل الوصول إلى نعـمة أنا فـيها الآن ؟

فلما سمعت كلامه، رحتُ أضحك وأضحك حتى استلقيت على ظهري، وظننت أن الضحك سوف يأخذ أنفــــــاسي معه ! وبعـدما استرجعـت سَكِينتي، تقدمت إليه أكثر، وضربته ضربة لطيفة على رأسه، فابتسم ابتسامة تحمل معنى النصر، وقال : إشرب القهوة أيها الفيلسوف، فأخذت جُرعات متتالية، وعاودته بأسئلتي قــــائلا :

- إذن لماذا لا تقوم بالمُتاجرة في دكان أبيك بدَل عمك، فإنه يجني أموالا طائلة ؟

فأجاب بنوع من التعصّب : لا أريد أن أكـــون تاجرا، ولا أريد أن تكون لديّ أموال .

- لِمَ ؟
- كـيلا يحدث لي مثـلما حدث للتاجر والجميلة، أو كما حـدث للغـني والجنية .
- وما شأنهم ؟
- إسمع ياصديقي، مِمَّا يُروى أنه كان في مدينة ما فـتى إبـن تاجر ، إسمه " جَمود "، مات أبوه وترك له ثروة لا بأس بها ودكانا، فسلك الفتى مسلك أبيه في التجارة، غير أنه كان أحمقا، بشع الوجه، لكن بريق الذهب غسل وجهه، وجعله جميلا في أبصار النفوس المادية، فكان يُنادى بأعذب الأسماء ويلقب بأنبل الشيم . وفي يوم من الأيام، بينما كان في دكانه عارضا تجارته، مرَّت به صبية جميلة هـيفاء، ونظرت إليه نظــرة أتبعَتهَا بغمزة تفننتْ في اصطناعها ومَضَتْ، فاستطار قـلب " جَمُود " فرَحًا، وظن أنه من شغـلها وسَكن قـلبها، وفي اليوم الموالي مَرَّتْ به فناداهـــــا ومَـلأ َجُيوبها بالدّراهم، وقفـَّتـَها بأشهى المأكولات وألذ المشروبات، فلما همّت بالرحيل قالت له : كل يوم يزداد وجهك وسَامة ً! ثم أنشدت بصوت رقـــيــــق :

نجُودْ وحَبيبُ الفؤاد جَـمُودْ *** عــلى عَـرْش حُبٍّ عَـفيفٍ قـُعُودْ وَحِـيديْن ِفي بهجةٍ وسُـرُور *** بَعيـديْن عـن نـــظرات الحَــسُودْ

فـلما سَمِعَ الفتى البشـــع كلامَها فـرح فرحًا زائدا، وبات تلك الليلة يحلم بها حتى الصباح . وهكـذا بقيت الفتاة " نـُجود " تختلف إلى التاجـر " جَمُود " لتقايض قليلا من رقتها، وعُذوبة روحِها بأكياس الدنانيروأقراط الذهب، فلما أحـسَّت أنها في مَأمَن ٍمِن الفقر الذي طالما رفسَهَا في أيامها السابقة، أعرضت عنه، وهجَرته وتجاهلته، فكان يبكي عليها صباحا مساءا كالطفل الصغير، لكنها لم تعِرْهُ اهتماما، بل كانت تتحاشى ذاك الزقاق الذي كان فيه دكانه، كونها تشمئزّ نفسُها لِمَرْآهُ، أما هو فكانت نهاية أمواله بارتشافه أوّل جُرعة ٍمِن كــــأس المُدام، الذي دلهُ عليه أحد رفاق السوء المُبرقعِين بنقاب الناصحين، المُتحججين أن الكأس هي السبيل إلى أرض النسيان، فجَرَّهُ إلى قبر دفــن فيه كل ماملكت يدُهُ من أموال، وتركه يعُضُّ بَنانهُ، ويلعنُ تلك اللحظات التي رأى فيها الصبية " نـُجود " وانزلق العام والثاني في سفح الحياة، فمرَّتْ " نجود " ذات يوم بأحد الأزقة فوجدت البائـس " جَمُود " متكــئا على جدار مشقوق، أطمارُهُ مُمزقة، وعلى شعـره تصول حبات التراب، فتقدمت إليه وسألته عن حاله، فقام واقتـرب منها مبتسـما وقال : أما زلت تحنــــــين إليّ يــا " نجود " ؟ فأومأت له بجفون عليها مَسْحَة ٌمن الكبرياء، وأرسلت على مسامِعِه كلمات مفعـــمة بالسخرية تقول : ماذا جرى لك بعدنا أيها الدميم ؟ رد َّمندهشا : - دميم ! ألم تقولي لي بالأمس أن كل يوم يزداد وجهك وسامة ً؟ فكيف تسِمِينني الآن بالدّمَامَة ؟

- بل قلت لك ذلك أيها الغبي، لكنك لم تفهمني لأن رأسك مَحْـشوّ بالهشيم، ولو كنت تنظـر بعين العقل * لعرفت أنني قلت لك : كل يوم تزداد جيوبك بالدراهم امتلاءا !
- أوَلمْ تقولي في حُبنا شعــــــــرا ؟
- لو كنت تسمع بأذن عقلك أيها الأبلهُ، لسمعـتَ من وراء الإطراء هجاءا يقول :

نـُجود وبَغـلٌ يُسَمّى جَـــمُودْ *** بنفسَجَة ٌتحـت ظِـلّ عَــمُودْ رَمَتــــهُ بسَــهْم فـنابَـــتهُ ثـمّ *** غـَدَتْ بَعْدَمَا ثـمِلتْ بالنـقـودْ

هكذا ألقت عليه كلماتها، وانصرفت تاركة إياه يقول ويردِّد : هذا هو الحب في زماننا !!

       وجاء الصباح، فغادرتُ غرفة صديقي، مُتشوقا إلى ليلة أخرى أسمع فيها قصة الغـنيّ والجنية، واعِدًا إياه بالزيارة ثانية، لكني لمْ أفِ بوعدي لأن قوة الأقدار كانت فوق قوّتي، فما هي إلا أيام قلائل حتى غادرتُ بلدتي إلى أرض بعيدة خضراء مُتـبرِّجة بزنابـق الآمال، مزروعة بخناجر الحنين التي تجرحُني بين الفينة والأخرى، فأضمِّد جرحي بذكرى جميلة في تلك البلدة الصغيرة الطيب أهلها، الثرية بسِحْر الطبيعة فيها والذي لمَسَ شعاعُه قلبي الصغير في مُبتدإ ِالعُمر، فأناره لألاؤه . وأنا أتجول بين تلك الوديان والينابيع وأشجار السَّرْو واللوز والصفصاف وأشتم من عطورها، يُخيَّل إليّ أنني أحْمَل على بساط النسيم عـن أديم الأرض إلى العالم العـلوي، لكن سرعان ما أهبط بمجرد أن أدْحُرَ تلك الأنفاس مـن صدري .

ما أشدَّ حنيني إلى تلك اللحظات التي كنت أقضيها أنا وأصدقائي الفقراء مثلي، مُتصفحين كراريس المذاكرة تارة، وتارة غاديــن إلى الدرس، وطورا راكضين كالعصافير بأجنحة السعادة في عالم الأحلام، غير آبهين بنوازل الحياة، لا نشتكي ألمًا، ولا نــحمل في أفـئدتنا هَـــمًّا . وبهذه الآهة الطويلة المُوجعة أختم كلامي عن صديقي الفيلسوف الظريف، الذي قـُبرَ بعـد رحيلي من بلدتي، وأضطرّ إلى رَمْي قـلمي بعيدا، فإنني إنْ طاوعته سوف يبقى يسيل ويسيل حتى مابعـــد الصباح .






  • من الأمــثال العـربية
    • أنا وقـلبي **

دعـيني أيتها الأوهــــام ! إبتعـدي عـني أيتها الأحـلام السَّـائرة في موكـب الضباب . دعـني ياقـلب أستلقي على سريري، عَسَى الكرَى يُعانق أجفاني لبضع ساعات، هاقـد إنزلـق الشـق الأول من الليل، وأنت لا تزال مُحَلقا في ســـماءٍ بلا قـمر أونجوم ! دعْـني، فحَفِيفُ أجنحتك يزعجني، وأناشيدك قدْ مَلتها نفسي، وآمالك قدْ أتعبتني وأثقلت كاهلي، أتوسَّل إليك أن تعـود إلى وكرك وتستريح حتى يجيء الصباح، وافعل بي ماشئت، بالله عليك خبرني فأنا مُحتارٌ في أمــرك . لماذا تعشـق ليلا ًكالغـُـداف، وتعْــرضُ عن نهار كأبْيَض اليَمَام ؟ ألا تشفـق على هذا الجسم الذي أطعمك لحمَه وسقاكَ دمَه، فلم يبقَ منه سِوَى الجلد ملتصقا بالعظم الذي يوشك أن يتفتت بعــدما امتصصتَ فــؤاده ؟ وانطفأ الفانوس وحلت مَحَلّ النور الخافـت ظلمة داكنة مُدجَّجَة بأشباح أفاع تدنو مِني شيئا فشيئا، فذعِرتُ وأغمضت عـَيني كي لا أراها، أما قلبي فامتلكه الفزع أكثر، وعاد إلى وكرهِ وَجلا، فحمدتُ الله على ذلك، وحاولت أن أذهب في سُبات عميق، لكن قلبي حلق بعيدا مـن جديد، بعدما انجلتْ تلك الأشباح، ثم عادَ يهمس في أذني قائلا " لن أنام، لن أنام ..

  -  لماذا لا تنام ؟ أمازلت تحِنُّ إلى تلك الريحانة التي اقتلعـتُ جُذورها منذ مُدة من تربتك، وسحقتُ أكمامها تحت قدمي، ونسفتُ بنسمات الموت بقاياها في سماء العَدَم ؟ أما زالت أذينتاك ياقـلب تسمعان صَدَى هَمْسها، وأوصالك تنتعــش ببقايا عِـبقها الفواح، وعيناك تكتحلان بطيفها الجميل ؟ ألم تنسَ بعدُ تلك الظبية التي حلتْ بأرضك، فأكلت من ثمارك وتروّت بدمائك، ثم صالت في وهادِكَ وأغوارك ؟ أغاضك أنني طردتها منك مذمومة مَدْحورة ؟ ألا يزال سِحْر مُقلها يَسْري في شرايينك ؟ ألا تزال سِهام نور البدر الذي أطل عليك ذات ليلة من ليالي عُمرك يخترق جدارك، أنظر الآن إلى الأفق، فسوف لن ترى غـيـر بعض النجوم المُبعثرة هنا وهناك، وأجنحة الليل السوداء الشبيهة بسواد كآبتي معـك .

إلى متى ؟ وأنت تذكرني بتلك الغادة التي يتدلى على ظهرها فرعٌ من خيوط الشمس، وتسبحُ في أحداقها الزرقاء أخيلة الحب والسعادة، وتربض فوق حاجبيها أرواح العـشاق، وترقـص على وجنتيها ورود الوفاء، وتعبث بشفتيها رَجْفة الإحساس الدفـين، إلى متى وأنت حزيـن على تلك الفراشة التي تفسَّحَتْ في رياضك، وأكلتْ من رحيـق أزهارك، وطافـت حول فوانيسك ؟ لا تـلمْـني ياقـلب إن قـلت لك أنني أحرقـت أجنحتها المُزركشة بنار الإعـراض، وتركـتها بيـن أنامل الغـيظ، كما أرادت أن تتركـني يوما بيـن أنامل الموت ! ألم تستفـق ياقـلبي ؟ ألمْ تحرق بَعْدُ آمالك العمياء ؟ إنها الحقيقة واقـفة أمامك، فانتبه ! ألا تـريد أن تستريح وتريحَني من حماقاتك ؟ حسَنا، سوف أطعـنك بسيف إمتشـقـتـه من غــمد العـقل، فاســــمع : إن تلك الحسناء التي كانت تحُوكُ لكَ أجنحة من دِفْءِ أنفاسِها، ووَمِيض أحداقها، لم تكــن سِوى أفعى رقطاء، تجرّك إلى مكان هــادئ آمِن، في روض جميل تحت ظل ظليل، كي تحمِلك بمَسْحَة على جبينك ببَنانها الناعــم إلى فضاء الرّقاد المَزروع بأحلى الأحلام، ثم تنفـث فيك سُــمومـها القاتلة . أجَل، لقد أخبرتني نسيمات السَّحر أن تلك الريحانة الجميلة تواري رُوح أفعى، إستبدلت سُمَّها بشذى المِسْـك، واستعارتْ عـُيون الظبية، وتقنعـت بوجْهِ القمر، وارتدت ثوب الفراش، وسرقـت شعـر ابنة ملك الجان، كل ذلك لتلقـيني وإياك مِن على جُرْفٍ عَال، سَحِيق الهُوّة . أأدْركتَ الآن ياقـلبُ أن تلك الرِّقـة والحلاوة، لم تكـن سِوى نقابا نسجَهُ الرّياء ليُخفي حَنظلة كادت تنفجــر مثل البُركان، فيجرفــك وإيّايَ مَاؤها، فنحتسي رغـمًا عــنا مرارته . أعرفت الآن ياقـلب ماكـنت أخْــفِيهِ عـنك ؟ أسَــرَى البَرْدُ في أوْردتِـــك ؟ فلما سمع قلبي تلك الكلمات، ثمل بها وعاد إلى وكـْره ليستريح، لكن ما الفائدة ؟ فالليل قد لفظ أنفاسَه، والفجر نفـخ على وجه الصــباح، فانتفض !!













    • أيـن نحـن ؟ **
     قــال ابن حزم الأندلسي – رحمه الله – في كتابه " طــوقُ الحَـــمامة " : حدّثــني  إبــن موسى هارون إبن موسى الطيب قال : رأيتُ شابا حَسَنَ الوجه من أهل قرطبة، قد تعبّد ورفض الدنيا، وكان له أخ قد سقطت بينهما مَؤونة التحفظ، فزاره ذات ليلة، وعـزم المَبيتَ عنده، فعرضتْ لصاحب المنزل حاجة إلى بعض مَعَارفه بالبُعـد عن منزله، فنهض لها على أن ينصرف مُسرعا، ونزل الشاب في داره مع امرأته وكانت غاية في الحسن وتِـرْبًا للضيف في الصِّبا، فأطال ربّ المنزل المقام إلى أن مشى العَسَسُ، ولم يمكـنه الإنصراف إلى منزله، فلما علمت المرأة بفوات الوقت، وأن زوجَها لا يمكنه المَجيء تلك الليلة، تاقـتْ نفسُها إلى ذلك الفتى، فبرزت إليه ودَعَـته إلى نفسها، ولا ثالث  معهما إلا الله عـزوجل، فوضع أصْبُعَه على السِّراج فتفــقع ثم قال : يا نفسُ ذوقي هذا، وأين هذا من نار جهنم ؟ فهال المرأة َمارأت، ثم عاودته، فعاودته الشهوة المُركبة في الإنسان، فعاد إلى الفِعلة الأولى، فانبلج الصباح، وسبّابــته قـد اصطلمتها النار "

أين نحن بني أمِّي من هذا السَّـــلف الصالح ؟ أين نحن من روح هذا الفتى الطاهر الذي ضرب نفسه بكف حديدية، ونهاها عن هواها الطائش لينعم بظل الله، ويَـنْــــأى عن حَرِّ الجحيم . أين نحن معـشر الشباب ؟ وقد أصبح الفتى يفخــر بشعره المُتدلي على كتفيه، وسِرواله المُلاصق لجلده، وأصبح الطالب الذي يحمل محفظة خاوية من صُوَر الفتيات يُعَدّ متخلفا وليس من أبناء العــصر ! سألت أحد الفتيان وكان معـروفا بالجاه والنسب، مشهورا بحُبه لبنت الكرمة، هل أنت على صواب مما تفعله ؟ وهل تتلذذ بالحياة عندما ترتشف كأسَك المُعَـبّإ بالمُدام ؟ فأجابني ببساطة : والله يا أخي، لستُ أدري فهناك من يقول أن الخمر حرام، وهناك من يقول أنه مكروه، وهناك من لا يقول شيئا، أما أنا فلم أفهم شيئا، فـبمُجرد أن سمعت كلامه، ألقيت في أذنه بعض الكلمات وانصرفـت حاملا بين ضلوعي من الهمّ ما يعــلم به الله . هاقـد أصبح الحجاب في وقـتنا هذا حُلة كباقي الثياب، مُزركش كأجنحة الفراش وجميل الطيور، ومزدان ٌبالورود والزهور، وفوّاحٌ بأشذى العطور، والجلباب عند بعض الفتيات المغرورات ضربٌ من الخيال، ونوعٌ من القيود العُرفـية التي أكل عليها الدهر وشرب، وأصبحن يلقــبنه بالخيمة ! أهذا هو التقدم حقا ؟ أالتقدم في تلك الثنائيات المُتمايلة في كل مكان، خاصة على رمال الشطآن، حيث الجو المناسب لرنين الغزل الماجن، والأنغام السوقية، ومَسْرَح الجسد والتبرّج والخلاعـــــة . هل التطور حقا في التلاعب بالقلوب والأجساد التي خلقها الله تعالى من تربة زكية، باسم الحُب ذلك المَنهل الرقراق المتدفـق من أديم السّماء لينبت أشجار الأمل، وزهور الخير، ويجرف أشواك الشـــر من القـلوب ؟ . تبّا لك يا ثـلة مُتمَرِّدة على الناموس الإلهي الذي تنير حُروفه كل القلوب، مُذعِـنة ً لشرائع ترتدي حُلة فاخرة ساحرة تواري بها سُمُومًا قاتلة، تلك التي دبّرَتــها رؤوس أعــداء الـدين، فانحنيت أمامها ذليلة، ونسجتها أيْدٍ قـذرة وردّدتها ألسنة ٌحلوة، فاستجبت لها صاغـرة، لماذا ياترى ؟ أغـرّتك المظاهر ؟ حذاري، فالمظاهر خادعة والسّـــموم قاتــلة . وفي الأخير أطلب من الله – عز وجل – الصلاحَ لأبناء هذه الأرض الطيبة، فهُمْ عِمادها ونبراسـُـها إذا قـسَت عليها الليالي السودُ الحَـــــالكات، وسَاعِــدُها إذا اشــتدت عـليها الـرّزايا والمُعْـــــضِلات .















    • رأيٌ في السـعادة **
       ذهـبَ الهزيعُ الأول من الليل، وفي ذهابه بصيصُ أمَل دُنوّ الصباح، ونشوة مَسِـيــــر نصف الطريق الطويل، ذهب بعـدَ طول عَـناءٍ في غـرفة أنيسي فـيها سِـراجٌ صغير يُحرق ما في بطنه كي يُبصِّرني بـدواتي وأوراقي وقرطاسي، يالــه من إيـثار !!

رميتُ اليَراع، وأطفأت السِّراج، واستلقـيتُ على سريـري عَـسى الكـرَى يشفـق على جفوني المُسهّدة، فأطبقـتها وأصبحت أفكـر في اللاشيء، وسُرعان ماتهاوى من سقف غرفتي خيط دخان، بقيتُ أراقبه حتى امتثل أمامي في هيئة شيخ مُحدَوْدب الظهر، قلّ ماترى في رأسه شعرة ًسوداء، وله لحية بيضاء تلامس سطح الأرض، فحيّاني بتحية رقيقة وردَدْت عليه بكلام أرق ثم سألته وجلا : من أنتَ أيها الشيخ الوَقور ؟ فابتسم، ومَدّ يدَهُ ومَسَح جبيـني ثم قال : ألم تعرفني يا بني ؟ أنا الدهر، فلما سمعت كلامه تجمّدَ الدم في عروقي، وبصعوبة نهضت من مكاني، وقـبَّلت يدَهُ وقلت : ماخطبك ياسيدي ؟ فقال : رأيتك كئيبا هذه الليلة، فجئت أستفــسر عــــن سبب كآبتك، فقلت : أنا كئيب دائما طالما أني لم أعـرف بَعْدُ موطن السعادة، ومعناها . قال : إسمع يابني : السعادة لن تراها إلا بمنظار الحزن، ولن ترتشف كأسها الحُلو إلا إذا كان زبَدُه علقميا، ولــن تسمع هَمْسَها الرّخيم إلا إذا زُلزلتَ بدَويِّ الآلام، ولن تشمّ عِـبقها الفوّاح إلا إذا مررتَ على صُنان الأيام السوداء، ولن تداعـب كـَشحَهَا النحيل إلا إذا لفحتك النيران ولدغـتك الأشواك ! فما أسعَدَ من هَوَتْ عليه رَزيئة ٌمن رزايا الزمن، فأودعـت الهمّ في قلبه، وأوقـدت الأسى في صدره، ثم جاء الفرَجُ فأضحى حامدًا مبتهجا . وما أسعد من فارق الأوطان، وودّع الأهل والخِلان سِنينا طويلة، فأحرقـته الغربة وألهَبَ جلدَهُ الحنين، ثم استيقظ ونزل من الطائرة في يوم مَا، فاستقبلته نسائم الوطن وأحضان الأحـبة . وما أسْعَـدَ التي أشعل الهوى في قلبها لهيبًا متأجِّجا، وأضناها نفور الحبيب، فدعَت الله عليه في سُكون الليل، وسلمت أمْرَهَا له، فاستجاب لهَا، ونقل لهيبَها من صَدْرها إلى صدر حبيبها، فجاد عليها بالإبتسام وأصـبح يَرُومُ الوصال . وما أسعـد الشعب الذي قاسى ويْلاتِ الإستعمار، وبطش يدِهِ القاسية، فـشمَّر على السَّـــواعـد وحَمَل الأحجار والبنادق والخناجـــر، وقاوَمَ بكل أنفاسه مُتجلدًا حتى رفرفـت طيور الحرية فــوق رأســه . وما أسعـَدَ الزهور التي صفعَها الشتاء، وفرش بها أديم الأرض، بمجيء الربيع، الذي أكسبها نضارتـها المعهودة وبسمـــتها المفـــــقودة . وفي الأخير أقول لك يابني أن السعادة الحقيقية هي تلك التي تسكبُها لك يَدُ الزمن في قدْح أفرغتهُ من الأتراح والأحزان، لكن لا تتجرّعْهَا لِوَحْدِك، بل يجب عليك أن تمُدّ مُعـدَمِيها بالقـليل . هكذا ألقى عليّ كلماته، وتحوّل إلى صِفته الأولى وتعالى واخترق سقف غرفتي، أما أنا إستيقظت من نومي فإذا الصباح قد ألــقى براقِعَهُ على كل الـبـــــــــطاحْ .

    • خــاتمة **

حَــيَاتي فِــدَاكِ جَـــزائِرُ مَــهْدِي مُـنايَ وَحُــبِّي وَكُـــلّ مُـــرَادِي

وَرُوحِــي تـناجيك أرْضَ الجُــدُودِ أيَـا بَـسْمة ًمِـن ثـغور الــوُرودِ ويانــسْمة ًتـُــــريحُ النـفوسَ وَكَــفا تُـــزيحُ دُمُـوعَ الخدُودِ

عِــرَاقُ هنـــيئًا بعَهْــدِ الكَـرَامَهْ وَمَرْحَـــى لِنـشْـئِكِ رُوح الشـهَامَهْ

عـِــرَاق نــزيفـكِ رَمْـز الإبَـاءِ وَعِـــزُّك يَفْـتحُ بابَ الخـُـلودِ صُراخك يُوقــظ مَـــوتى القـلوب وَصَـوْتك يُسكِت قصـفَ الرّعـودِ صَــدَاهُ سَمِعْــتهُ يومًـا يقـــول عَـدُوّك ذرْهُ غـِـــذاءَ اللـحُودِ

فِــلسـطين ياروضــة الأنــبياءِ ويَــا مَــوْطِن الـرّسُل الأتــقياءِ

فـلسطـينُ، عَزمُك يكـسر كُــل قيودِ الخنازير، جيفِ اليَــــهُودِ سَــلامي إلــيك، وفـخري بأبنا ءِ أرضِــك،أرْض الليُوثِ الأسُـودِ الفهـرس

  • الإهـداء .
  • مقـدمة .
  • معـزوفة الكتاب .
  • الوفـاء ( قصة ) .
  • العِـتاب الأخرس .
  • عـدل الأقدار .
  • القنديل التـائه .
  • الأقـحوانة المجـهولة .
  • الفـيلسوف الظريف .
  • أنا وقلـبي .
  • أين نحـن ؟
  • رأي في السـعادة .
  • خاتـمة .


عنوان الكتاب : سُطور مِن جَـمْر العُـيُون . الطبعة الأولى  : 2004 . المطـبـعة  : دار المعرفة ( الجزائر ) رقم الإيداع القانوني : 2315 / 2003 . ر . د . م . ك : 3 – 0237 – 0 – 9947 . ( جميع الحقوق محفوظة للمؤلف )