نقاش:مصادر التشريع الإسلامي

مصادر التشريع بين الفهم والتطبيق

أشرف حُزين

محام وباحث دكتوراه في الحقوق


انتشر مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي حديث مسجل للدكتور ياسر برهامي عضو الجمعية التأسيسية، مع مجموعة من رموز التيار السلفي في مصر، جاء فيه الكثير من الأقوال والآراء التي أثارت لغطاً شديداً في الشارع مصر، ومن أهم ما جاء فيه دعوى (برهامي) أنه قد نجح في التضييق والحد من الحقوق الحريات العامة في مسودة الدستور، بمعاونة من الدكتور سليم العوا، ودون أن يتنبه لذلك غالبية أعضاء الجمعية التأسيسية، وذلك عن طريق المادة (76) والتي جاء نصها: " العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص دستوري أو قانوني، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، و لاعقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون" وقد زعم (برهامي) أنه بعد إضافة كلمة "دستوري" للنص، يجوز توقيع عقوبات على جرائم موجودة في مصادر الشريعة الإسلامية (الكتاب والسنة والإجماع والقياس ...الخ) دون أن يُنص عليها في الدستور بشكل مباشر أو في القانون، استنادًا إلى المادة الثانية من الدستور وتفسيرها الوارد بالمادة (219) حيث تنص المادة (2) من الدستور على أن : "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومباديء الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" وجاء نص المادة (219) كالتالي: "مباديء الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة" وقد يبدو للوهلة الأولى أن ادعاء (برهامي) له وجاهته و فيه شيء من المنطق؛ لكنه في حقيقة الأمر ادعاء عارٍ عن الصحة تماماً، ولا يصمد للحظة أمام الحقائق الدستورية والقانونية المستقرة، ، وبيان ذلك في النقاط التالية: أولاً: يُلاحظ أن منشأ الوهم عند (برهامي) نتج من عدم درايته بالمصطلحات القانونية وهو ما تسبب في خلطه في فهم كلمة (المصدر) الواردة في المادة الثانية من الدستور في عبارة (الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) حيث خلط الرجل بين "المصادر المادية" وبين "المصادر الرسمية" للتشريع. ولتوضيح الفرق بين المصطلحين أقول: لكي يصدر أي قانون تشريعي في أي دولة ويصبح نافذاً فيها وملزماً للجميع، لابد وأن نمر بمرحلتين أساسيتين؛ المرحلة الأولى: وهي مرحلة وجود مضمون القاعدة القانونية قبل القيام بتشريعها ووضعها في صورة قواعد قانونية، فالتشريع لا يخلق قواعد قانونية من العدم، بل يستمد مضمونها ومادتها من مصادر متعددة، كقوانين دول أخرى، أو شرائع دينية، أو أفكار اجتماعية أو سياسية، وهو ما يسميه الفقهاء القانونيون (المصادر المادية أوالموضوعية) للقانون. وأما المرحلة الثانية: هي قيام السلطة التشريعية بتحرير مضمون القواعد القانونية في صياغات فنية منضبطة تهيئها للتطبيق العملي وتمنحها قوة الإلزام المادي، وتحمل الجميع على احترام أحكامها، وهو ما يسمى (بالمصدر الرسمي) للقواعد القانونية وهو المصدر المنشيء للتشريع، وهو دائما سلطة الدولة، وهو المقصود بكلمة "المصدر" الواردة في المادة (2) من الدستور المصري باتفاق الفقهاء والشراح، وهو ما جرى عليه العمل منذ دستور 1971. ولعل الفرق يتضح بشكل أكبر بين (المصادر المادية) و(المصادر الرسمية) بالمثالين التاليين: المثال الأول: وضعت مصر تقنين القانون المدني الحالي سنة 1948 وتم العمل به سنة 1949 على يد العلامة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وقامت بعض الدول العربية بتبني معظم أحكام هذا التقنين في قوانينها الوطنية، ومن هذه الدول سوريا والعراق وليبيا والجزائر. فمثلاً بعد قيام المشرع السوري بإصدار هذا القواعد (التقنين المدني المصري) في صورة قانون سوري، أصبحت هذه القواعد قانوناً وطنياً سورياً مصدرها المباشر المنشيء لها هو إرادة المشرع السوري، وإن كان القانون المصري هو مصدرها المادي أو الموضوعي. المثال الثاني: عندما أورد المشرع المصري أحكام الشفعة في القانون المدني المستمدة من أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، فالمصدر الموضوعي أو المادي للقواعد الخاصة بالشفعة هو الشريعة الإسلامية، ولكن بعد قيام المشرع المصري بوضعها في قواعد قانونية ملزمة، أصبحت نصوصاً قانونية مصرية وضعية مصدرها المباشر أو المصدر المنشيء لها هو إرادة المشرع المصري. ومما سبق يتضح أن الدكتور (برهامي) قد أساء فهم كلمة "مصدر" الواردة في المادة (2) وتوهم أنها تعني المصدر الرسمي، وهو فهم خاطيء يجافي المصطلح القانوني، ويأباه فهم القانونيين، فالمخاطب في هذه المادة هو المشرع المصري المتمثل في مجلس النواب فهذا النص يقول له: عليك أيها المجلس التشريعي أن تستلهم وتهتدي بمباديء الشريعة الإسلامية عند قيامك بالتشريع فاتخذها مصدراً رئيسياً لقوانينك، وهذه المبادي أيها المجلس تشمل الأدلة الكلية للشريعة، وقواعدها الأصولية والفقهية، ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة. أما السلطة القضائية فهي ليست مخاطبة بهذه المادة، لأنها سلطة تطبيق وتفسير للتشريع وليست سلطة إصدار. وبعبارة أخرى: فإن مبادي الشريعة الغراء لا تصبح قواعد قانونية في ذاتها لمجرد النص الدستوري؛ فلابد أن يأخذها المشرع الوضعي (مجلس النواب) ويضعها في قواعد عامة مجردة بعد اختياره ما رجح عنده إن كان أمراً خلافياً، ولا يجوز لأي قاضٍ أن يتجاوز تشريعات الدولة إلى نصوص الشريعة مباشرة، لأنه ليس مخاطباً بالمادة (2) كما بينا. ثانياً: يبدو من الفهم المضطرب لـ (برهامي) أنه قد اعتبر نص المادة (2) بمثابة إحالة كل من السلطة التشريعية والقضائية إلى أحكام الشريعة الغراء عند التشريع والقضاء، والمادة تستعصي على هذا المعنى منطوقاً ومفهوماً، فنص المادة (2) يخاطب سلطة التشريع وليس القضاء، وليس بها ما يدل على الإحالة إلى مصادر الشريعة مطلقاً، فالإحالة دائماً تكون بألفاظ صريحة، في أحوال معينة وإلى قواعد محددة، كما ينتج عن هذا الفهم الواهي اختلاف الأحكام القضائية إلى حد التناقض أحياناً تبعاً لاختلاف الأقوال والمذاهب، وتعدد جهات التشريع والتفسير، والتداخل والخلط الشديد بين السلطتين التشريعية والقضائية، وهو ما يكر على المنظومة القانونية كلها بالفساد والبطلان. ثالثاً: جاء في عجز المادة (76) "ولاعقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون" فمن باب أولى أنه لا عقاب بلا قانون ابتداءًا، وهو قياس جلي. وهذه العبارة منقولة من دستور 1971 المادة (66) وهي عبارة أكثر اتساقا مع النص الأصلي منه في الدستور الجديد، حيث كانت النص في دستور 1971: (ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون) (ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون) وفات من غيّر هذا النص تعديل عجزه بما يجعله أكثر اتساقاً مع صدره. رابعاً: فإذا ما فرضنا جدلاً تجاوز ما سبق بيانه وهو أمر مستحيل قانونا، سيصطدم فهم الدكتور برهامي بقاعد أخرى من القواعد الدستورية الثابتة والمستقرة عبر القرون، منذ أن كان ينادى المنادي بالقوانين في الطرقات، وتعلق على الجدران في الأسواق، ألا وهي قاعدة وجوب العلم بالتشريع وإعلام الناس به وهو شرط لإلزام المخاطبين بالقانون، ولا يتحقق العلم قانوناً إلا بالنشر في الجريدة الرسمية؛ ولو نُشر في كافة وسائل الإعلام الأخرى دونها، فإذا طالب أحد بإيقاع عقوبة بأحد الأشخاص طبقاً لنصٍ في مصادر الشريعة، وجب عليه أن ينشر قبلها نص هذه العقوبة والجريمة التي أنتجتها في الجريدة الرسمية، غير أنه لا ينشر في الجريدة الرسمية إلا ما صدر عن الدولة من قوانين. حيث تنص المادة (223) من الدستور الجديد على أنه: (تنشر القوانين في الجريدة الرسمية خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إصدارها، ويعمل بها بعد ثلاثين يوماً من اليوم التالي لتاريخ نشرها، إلا إذا حددت لذلك تاريخاً آخر. ولا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبلها، ومع ذلك يجوز في غير المواد الجنائية والضريبية النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة أغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب) ولا يخفى تشدد المادة بخصوص المواد الجنائية. وما يدعو للدهشة، عدم تنبه الدكتور برهامي ورفاقه لكلمة (الرئيسي) الواردة في نص المادة (2) حيث اعتبرت الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع وليس المصدر الوحيد، وهو الأمر الذي قد يفتح المجال لتسرب بعض القوانين المخالفة لمباديء الشريعة الغراء، أو رفض الطعن بعدم دستورية بعض القوانين الموجودة بالفعل، بحجة أن المشرع قد استلهم هذه القواعد من مصادر فرعية أخرى، ولم يستلهمها من مباديء الشريعة، وصياغة النص تؤيد هذا القول. وكان الأولى بالدكتور (برهامي) وأصحابه بدلاً من اختزال الشريعة في أن تصبح تضيقاً على الحقوق والحريات، متوهمين أن ذلك نصر وإعلاء للشريعة، كان الأولى بهم الانتصار للشريعة حقاً بالإصرار على تحقيق مقاصدها الكبرى في مسودة الدستور، من عدالة اجتماعية نفتقدها، وتأمين حياة كريمة للمصريين، وحفظ كرامتهم، وإرساء أسس العدالة والكفاءة في كل مؤسسات الدولة بلا استثناء، وإغلاق باب المحاكمات العسكرية للمدنيين. هذا هو الانتصار للشريعة حقاً لو كانوا يعلمون.

                                                                                           أ