نقاش:كونفوشيوس

مذهب كونفوشيوس الديني والاجتماعي : لم يدعي كونفوشيوس أنه نبي يوحي إليه فقد كان حكيما ومصلحاً اجتماعياً ولم يكن رجل دين وكان يقدس الإله الذي يعبده شعبه ويداوم علي الطقوس والشعائر الدينية ولكنه لم يعترض في دراسته الخاصة لمناقشة التعاليم الدينية التي كانت سائدة عند الصينيين القدماء الذين كانوا يعبدون أرواح قوي الطبيعة مثل الشمس والقمر والنجوم والجبال وابحار زالأنهار والغابات والزروع .وكذلك يعبدون ارواح الموتي ويقدسون السماء ترك جانب العقيدة واتحه إلي الجانب العلمي من الحياة فركز علي الإصلاح الخلقي والإجتماعي والسياسي ولهذا كانت الكونفوشيسية مذهبا عملياً خلقياً اكثر منه ديناً وذلك لأنه وجد قومه غارقين في بحار من الاوهام ومنكبين علي التفكير في عالم الارواح منصرفين عن الدنيا تصرفاً كاملاً يكاد يصل بهم إلي حد الأزدراء والإهمال لما تتطلبه حياتهم فيها فأراد أن ينبهم إلي هذا الجانب العملي في جياتهم ودعا أهل الصين إلي العلم وحثهم علي نشر الفضيلة والتآخي والحب والطهر . وجعل كونفوشيوس لإصلاح المجتمع أساساً منها : 1- إصلاح الفرد وهو إصلاح الأسرة لأن الأسرة هي مجموعة الأفراد . 2- صلاح الاسرة هو إصلاح المجتمع لأن المجتمع هو محموعة من الأسر التي تعيش فيه . ولهذا كانت الكوفنوشيوسية تدعوا إلي السلوك المستقيم وتبشر بمذهب الأخلاق وتدعوا إلي التمسك به أشد الإستمساك ولا تزال أثار كونفوشيوس باقية حتي الان فقد غمره الصينيون بحبهم بل أن منهم من أتخذه إلهاً بجوار السماء التي هي أعظم الألهة عندهم . عقيدة الكونفوشيوسية في الألوهية: تخرج كونفوشيوس علي التعاليم الدينية التي كانت سائدة عند الصينيين القدماء ولقد تلقي صغيراً أو تلقاها والعود أخضر بالقبول ولذا حيا التعاليم الدينية القديمة التي كانت تدعوا إلي عبادة السماء والأرواح المسيطرة علي ظواهر الأشياء وهي الملائكة وأرواح الآباء والأجداد وأما السماء المعبودة فلا يقصدون بها تلك القبة الزرقاء بل يقصدون الافلاك ومداراتها والقوي المسيطرة التي تسيطر عليها وتسيرها في مدارتها وبإتصالها بالأرض والأمطار والرياح وقد اعتقدوا في السماء أنها عالم حي متحرك حسب نظلم دقيق محكم وأن كل ما في العالم من قوي مسيرة إنما هو خاضع لسلطلت السماء وأما عبادتهم للقوي المسيطرة علي الاشياء الموكلة بها فلأنهم كانوا يعتقدون أن لكل شئ قوة تسيطر عليه وتسيره وهي كثيرة وكذلك القمر والسحاب والمطر والجبال والأنهار وهذه القوي جميعها يعبدها الصينيون وقوي الارض. والملوك ولكن يعبدها غيرهم من عامة الشعب أما القورة الخاصة بكواكب السماء وكل ما يكون فيها لا يعبدوها إلا الملوك . وأما عبادتهم لأرواح الآباء والأجداد فإنهم يعتقدون أن أرواح الأموات تنفصل عنهم بعد موتهم وتبقي في الدنيا أسرهم ولذلك يعبدون أرواح الآباء تقديساً لهم ووفاء بعهدهم وشكراً لهم علي ما قدموا من نعم – لأبنائهم ويقدمون لهم القرابين وعبادات الصينيين عبادة عن غناء ورقص وموسيقي كأنهم بهذه الآمال يشاركون ألهتهم معهم في سرورهم وأفراحهم وأغانيهم وموسيقاهم وكان أهل الصين يقدمون في شعائرهم القرابين للإله- الأعظم وهو السماء ولقوي الطبيعة المختلفة أقاموا المعابد التي بنيت علي شكل هيكل عظيم وأقاموا بداخله هياكل ثلاثة لكل معبود هيكل :- 1-هيكل خاص بالإله الأعظم وهو عظيم السماء. 2-هيكل خاص بقوي الطبيعة . 3-هيكل خاص بأرواح الآباء والأجداد والملوك. ورسم الصينيون الثالوث الصيني بالعناصر التالية:- 1- تي ين الإله المجهول غير المنظور ( إله السماء) 2- تي سز الإله الكواكب والافلاك ( قوي الطبيعة ) 3- تي شانج إله أرواح الأباء والأجداد والملوك . وكانت تذبح الذبائح حول هذه الهياكل التي أقاموا بجوارها الأصنام والتماثيل ومن ذلك الوقت أصبح الصينيون يعبدون الأصنام. وقد عرفت الصين المجوسية بعد دخول المسلمين فارس وفرار حكامها إلي الصين بديانتهم المجوسية وبنوا معبداص لهم في عاصمة الصين ونشر علماء المجوس ديانتهم في شمال الصين. واما العقيدة الغالبة في الصين الأن البوزية ومع أن البوزية ديانة تقشف وتسول إلا أن الصينيين صبغوها بما يتفق مع مزاجهم وروحهم . عقيد الكونفوشيوسية في البعث والجزاء: لم يكن الصينيون يؤمنون بالبعث والجزاء ولا بالجنة ولا بالنار ولم يفكروا بالحياة بعد الموت بل كان كل – همهم إصلاح الدنيا فقط وكانوا يعتقدون أن أي شذوذ يقع في سلوك الإنسان لا بد أن يترك أثره في الكون كله فإذا أجاد الإنسان عن الطريق السوي أو ارتكب جريمة من الجرائم حدث في الحال إضراب في السماء والأرض وأما الكسوف والخسوف والزلازل والبراكين والجذب والأوبئة في نظرهم إلا نتائج حتمية لجرائم الإنسان. الكونفوشيوسية: 1-مكثت العقلية الصينية والفكر الصيني القديم كنزا مدفونا في احقاب التاريخ لا يعرف الغربيون ، ومن داناهم شيئا منه ، حتي خبل اليهم أن تلك الأمة القديمة ليست لها فلسفة ولا لون خاص من الوان الفكر الانساني ، ولا منهج خاص من مناهج السلوك لبلوغ الغاية السامية في طريق الخير ، وما كان ذلك الخفاء إلا لصعوبة الوصول إلي تعرف ماضي تلك الامة ، فاللغة الصينية عسيرة ليس من السهل معرفتها ، والتراجم عنها ليست كاملة الصحة ، ولا تامة التصوير لمعاني ما اشتملت عليه بسبب تلك الصعوبة ، ولكن تكل الغشاوة لم تلبث أن أزيلت ، وكشف الإرادة الإنسانية ودأب العلماء ، وحرصهم علي طلب المعرفة ولو بالصين – عن الفلسفة الصينية والعقل الصيني ، والنفس الصينية ، ولقد استبان مما كشفوا عنه أن أخص ما امتازت به النفس الصينية ، أنها أقدر النفوس علي تحويل النظريات الخلقية إلي أخلاق عملية ، ففلسفتها تقوم علي السلوك القويم للإنسان ، وهى عملية في هذا المعني أكثر منها نظرية ن فحكم الحكماء ووصاياهم ، ونظرياتهم الفلسفية هي أعمال الشعب في سلوكه ومنهاجه . وإذا أكن العالم قد رأي الآراء الدينية علي أكمل وجهها في الساميين والتصوف علي أكمل منتحبة في الهنود ، والفلسفة النظرية في الإغريق ، فالفلسفة العملية علي أكمل وجوهها في الصين والفلسفة عندهم تنحو نحو الأخلاق وهي تبتدئ بنظريات للأخلاق الفاضلة ، وأسس لقواعد الخير والشر ، ولا تلبث حتى تبسط وتسهل وتصير أخلاقاً عامة للشعب ، وأسس لقواعد الخير والشر ، فالجانب العملي له العناية الأولي لديهم ، ولهذا بلغت الأخلاق عند الصينيين درجة من السمو أدهشت العلماء عند ما تعرفوها ، وعلموها ، ولقد دهش المبشرين عندما علموا ما عند الصينيين من حكم موروثه ، ووصايا ، وآراء خلقية سامية ، ولذا قرروا أن الصينيين لابد أن قد بعث فيهم رسل ، ولقد أخذوا لهذا يوازنون بين التوراة والكتب الصينية في الأخلاق والحكم والوصايا. ومهما يكن أمر الداغع الذي يدفع هؤلاء المسيحيين إلي هذا الظن فليس عندنا نحن المسلمين من مانع يمنع من قبوله . بل أنا أقرب إلي اعتقاده ، لأن الله سبحانه وتعالي وهو الحكيم العليم ، الرؤوف الرحيم ، لا يترك أولئك الجماعات الكبيرة من البشر من غير هاد يهديهم ، ولا الرسل ، ولا عصراً لسول ، وليس جهلنا هذا نافياً للوقوع ولا دليلاً علي عدم الحصول ، لان عدم المعرفة لاتستلزم عدم الوقوع . ولم يبين القرآن الكريم كل الرسل السابقين ، فقد قال الله تعالي:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ}سورة غافر 78 ولذلك نحن لانستطيع أن نقف موقف السلب من دعوي المسيحيين أن رسلا بعثوا في الصين ولكن ليس لدينا خبر يقيني برسول معين بعث فيهم ، ودعوي ذلك لا تخلو من الحدس والتخمين "وان الظن لايغني من الحق شيئاً" . 3- هذا. والذي نلاحظه علي الفلسفة الصينية أنها اتصلت بالدين وامتزجت به امتزاجاً تاماً ، وفي الحق أن التأملات الفلسفية ، والتدين منبعهما من نفس واحد ، ينبعثان من مكان في وجدان واحد ، غير أن احدهما يعتمد علي العقل المطلق والأخر يعتمد علي النقل في أغلب نواحية ، وخبر القضايا الفلسفية ما كان موافقاً للدين الحق لأن الدين الحق لا يأتي بشئ يتنافي مع العقل القويم . 4- وقد تغالبت الفلسفة والدين عند اليونان الأقدمين لأنحراف أحدهما وعدم أستقامة ، وكذلك أصطدمت الفلسفة والدين في القرون الوسطي في أوروبا في هذا الانحراف ايضاً وقد يحدث أن تنحرف الفلسفة ولا تتقيد بقواعد العقل ، فتسير أوهاماً وأحلاماً وتخييلات لا نظرات صائبة وتأملات ، وعندئذ تنحرف عن سمتها فلا يدانيها الدين الحق ، بل يكون بينهما ما يكون بين النقيض والنقيض.

 بيد أن الفلسفة في الصين لم تتجاف عن الدين ، ولم تنأ عنه مع أنك ستعلم أن الدين كان قائماً علي الاشراك ، والفلسفة قائمة علي الاخلاق القويمة ، ومع ذلك تلاقيا وسار التدين مع الفلسفة سيراً متزنا محكماً ، وذلك لما بيناه من أن الفلسقة الصينية قامت علي تنظيم السلوك الإنساني ، واصلاح الأخلاق العملية ، وهنا التقت بدينهم من ناحية ما يدعو إليه من حسن المعاملة بين الناس ، فاتخذوا الاخلاق الفاضلة مذهباً القويم ، وديناً تدعو إليه الألهه في زعمهم ، فكان للأخلاق دعامتان قويتان:

احدهما قائمة علي الفلسفة والعقل والمنطق. وثانيتهما قامت علي دينهم . وبهذا تقاربت فلستهم مع دينهم علي اقامة بنيان قوي من الأخلاق ، ووسلوك الناس ، وأن كان دينهم في عقائده ، وأسسه ليس شئ مذكورا ، ولا يمت إلي الحق والمنطق بنسب ، ولا يتصل به بسبب. ولقد كان المزج المحكم بين فلسفة خلقية قديمة ودين ليس له أصل قويم ومنطق مستقيم علي أتم وضوح في الكونفوشيوسية وصاحبها كونفوشيوس . 4-حباة كونفوشيوس: الاسم المشهور به في الصين " كونغ فوتس" ومعني فوتس الحكيم أو الاستاذ ، وكونغ هو الاسم ، فمعني التركيب الأستاذ أو الحكيم كونغ : وقد حرف الغربيون التركيب إلي كونفوشيوس " ولد ذلك الحكيم عام 551 قبل الميلاد بأحدي قري مقاطعة لو من مقاطعات الصين وكانت اسرته عظيمة تمت في نسبها إلي فرع ملكي ، فكان يجري في عروقه دم ملكي يشعره بالعزة ، ولقد كان أبوه قائداً عظيماً وحاكماً لاحدي المدن ، ولم يعقب في شرخ شبابه ولا في كهولته ، وقد وهب الله له ذلك الابن الحكيم علي الكبر ، وقد نيف علي السبعين ، ولكن الطفل لم يكد يبلغ الثالثة من عمره حتي فقد اباه ، ولم يترك له من حطام الدنيا شيئا ، غير أنه عاش علي سمعة اسرته ، فعاش وأن كان مقدور الرزق ، محدود المورد ، وتعلم العلم الذي كان يتعلمه من هو في مثل مولده وأسرته ، فتعلم آراء الاقدمين الدينية ، وتفهمها وأخذ بها ، وكان لها سلطان تام علي نفسه. ولننظر نظرة عاجلة إلي التهيئة التي حاطت بها العناية ذلك الشاب ، دم نبيل يسري في عروقه ، واسرة سامية ذات شهرة ومجد ، وفقر شديد كان معه مقترا عليه في الرزق ،وأن تلك العوامل مجتمعة من شأنها أن تكون في الشخص نزوعا إلي معالي الأمور من غير استعلاء ، وذلك إذا صادفها مواهب عالية ، ونسف سامية . فإن شعور المرء بمجد اسرته وكرم محتده ، وشرف نجاره من شأنه أن يجعل في المرء اتجاها إلي معالي الأمور وتجافيا عن سفسافها ، وأن الحد من الرزق يخلق في نفس الشخص العطوف الرفق بالضعفاء ، والتواضع ، ومحبة الناس . ومن ذلك المعني الاثر الصحيح : " اللهم احيني مسكينا ، وأمتني مسكيناً ، وأحشرني في زمرة المساكين". فذلك الحكيم الذي تهيأ له أن يكون من اسرة كريمة ، وينشأ فقيراً ، قد اجتمع لديه هذان الأمران وبامتزاجهما تعلو النفس عن الدنايا من غير استخداء ، فتكبر من غير استكبار ، وتتواضع للضعفاء من غير صغار. تعلم ذلك الحكيم في صغره ما مكنه من أن ينظر إلي الحياة نظرة المستقبل ، وأن يدرس طبائع الناس وخيرما يطب به لادوائهم ، وتكون فيه سلامتهم وأصلاحهم ، ولقد تزوج في مقتبل عمره ، فقد تزوج قبل أن يبلغ العشرين من حياته ، ولكنه لم يجد في زوجه رفيقة تصاحبه في لاواء الحياة ، وشؤيكه له تشركه في سرائه وضرائه ، ففارقها بعد سنين معدودة ، ولكن بعد أن أعقب منها صبياً وجارية صار له قرة عين. وقد احس كونفوشيوس بحنين منذ بلغ أشده ، واكتملت نفسه إلي ارشاد الناس إلي خير مناهج الحياة ، وأقوم السلوك ، ولذا كان أشد ما يرأب فيه أن يتولي صناعة التدريس ولكن لم يتوافر له ذلك في أول قيامه بالأعمال العامة ، فقد عين في بعض الأعمال الإدارية المتعلقة بالزراعة ، وقبل ذلك العمل علي مضض وشوق إلي غيره ، وذلك لضيق ذات يده وحاجته إلي ما يقيم أوده أسرته ، وقد اعتكف مع ذلك علي أسرته بعلم آحادها ومن ينضم اليهم ، وصار منزله منتدي طلاب العلم وقصده ، ولقد عين بعد ذلك أستاذاً وعندئذ اخذ يبث تعاليمه فيها ، حتي كان له منهم صحب يشبهون حواري النبيين في التمسك بفكرته ، والصدور عن دعوته ، والإخلاص لنحلته ، وهو في هذه الأثناء لا بني عن تكميل نفسه بكل أنواع المعرفة ، فهو يعلم ويتعلم . ولذلك أعمل الجهد في الاتصال بفيلسوف كان في شيخوخته وكونفوشيوس في شبابه ذلك الفيلسوف هو لوتس ( ) فالتقي به وتعرف إليه ودارسه آراه فلم يتفق الفيلسوف الشيخ مع الشاب ، وسنبين في الفصول الآتية أوجه الخلاف بين الحكيمين. ولقد اخذ كونفوشيوس يطوف في الآفاق دارساً مرشداً مرائضا لنفسه وحاثا أصحابه علي الأخلاق القويمة ، حتي لقد استطاع أن يقول عن نفسه التي أشرف علي تهذيبها وتكميلها ، ماحكي عنه أنه قال في كتاب المحاورات : "انصرفت إلي طلب العلم ، وانا في الخامسة عشرة من سني ، وفي الثلاثين التزمت جادة الفضيلة وفي الأربعين لم يكن في نفسي أي ريب في حقائق الأشياء ، وعلمت القضاء والقدر وأنا في الخمسين ، واصغت اذني إلأي كل الحق عارفاً فاهما له وانا في الستين ، ولم اتجاوز حدود السلوك القويم وانا في السبعين . 5-اخذ كونفوشيوس يطوف البلاد داعيا مرشداً ومسترشداً ، وكان في كثير من الأحيان يخص بارشاده الحكام ، معتقداً أن صلاح الراعي يستلزم صلاح الرعية . وان حسن قوامته علي الناس يتبعه صلاحهم ، ولأنه يري أن السياسة الحكيمة في تهذيب الرغبة ، حتي تقوم المحبة بين الناس مقام القانون ، ولقد كان يقول " السياسة هي الإصلاح فإن جعلت صلاح نفسك اسوة حسنة لرعيتك ، فمن الذي يجترئ علي الفساد ؟ ، لهذا كان يخص – وهو يطوف مقاطعات الصين – الأمراء بإرشاده لأن صلاحهم صلاح العامة ، وعليهم يواسي. وقد عاد بعد طوافه إلي ولايته ، وقد كملت رجولته ، وانضج الاختيار آراءه ، وثقل تفكيره فعين حاكما لأحدي مدنها ، فكانت هذه فرصة قد انتهزها ليروض الناس علي تعاليمه عملا كما راض هو نفسه ، فأخذ أهل هذه المدينة بالسلوك القويم ، وكانت عبقريته في أن راض الناس علي ذلك رغبا لا رهبا وبالاختيار لا بالإجبار ، حتي صارت تلك المدينة الفاضلة نموذجاً يحاكي به ، ومثالاً يحتذي به ، ولم يستمر حكم ذلك الحكيم مقصوراً علي المدينة الفاضلة ، بل رفعه أمير المقاطعة إلي مرتبة نائب الحاكم للمقاطعة ، ثم ولاه وزير العدل ، فكان شأنه في هذا كشأنه الأول يروض مرؤوسيه علي الأخلاق ، ويعطيهم من نفسه أسوة حسنة ، فيقتدون به ، واستعان في أعماله ببعض أصدقائه الذين اشربوا تعاليمه ، ومازجت نفوسهم نفسه ، وفي حكه ساد السلام ، واطمأن الناس ، وأظلت الفضيلة الجميع ، وكان هذا مثلا صالحاً لحكم الفلاسفة ، سبق أحلام أفلاطون وغيره من المثاليين. 6-ولكن تلك الحال لم تدم طويلا ، فان رجالا نفسوا علي الحكيم تلك المنزلة ، وضاقت صدورهم حرجا من عظيم ما طويت عليه من الحقد فزينوا لامير المدينة أن يخالف إرشاد الفيلسوف ، وقدموا له غصناً من الشجرة التي افري إبليس آدم علي الأكل منها قدموا له غصن اللذة الشهي ، وحسنوا له أن يفك نفسه من القيود ، ويقبل عليها ففعل وعصي إرشاد كونفوشيوس فرأي هذا أن أمور الدولة لا تستقيم ، واميرها غير مستقيم لأنه القائل : أن اخلاق الرؤساء كالريح ، واخلاق المؤوسين كالعشب والي ايه جهة هبت الريح مال العشب . عندئذ هدد الحكيم الأمير بترك الأمر أن لم يستقم ، فلم يرعو هذا عن فيه ، واستمر سادرا في شهوته ، فاعتزل الحكيم ، وعاد الي التطواف في الأقاليم الصينية ، لا يقيم في بلد الا علي نية النزوح منه ، وكلما حل علي امير مقاطعة دعاه الي السلوك الفاضل ، فلم يجب احد منهم دعاءه ، وان اكرم وفادته ،حتي برم بهم ، ولم يكن له عزاء الا تكاثر تلاميذه الذين اعتنقوا آراءه حتي بلغوا ثلاثة آلاف أو يزيدون ، وكلهم قد اشرب روحه ومازجت آراءه نفسه ، وخالطت منها المهجة والفؤاد . وقد عاد بعد الرحلة الطويلة ألي مقاطعته "لو" فأكرم اميرها وفادته ولكنه لم يطعه كسائر الامراء ، فعكف الحكيم علي مدارسة اصدقائه ، وكانت السن قد تقدمت ، فقد ذرف علي السبعين وقد اطرح هموم الدنيا ، ولكن نزل به وهو في تلك السن المتقدمة ما حزفي قلبه امضت نفسه بموته ، وهو في هذه السن ، واما ثانيهما فهو تلميذه الاثير عنده المحبب لديه ، وقد كان قطعة من روحه ونفسه وأسمه "هووى ( ) . فأظلمت الدنيا في وجهه ، ولكنه ل يقعد عن العمل ، بل اخذ يلخص الكتب القديمة ويرتبها وبذلك قد خلد لنفسه عملا آخر جليلا بهذا التلخيص وذاك الترتيب . هذا موجز لحياة فيلسوف الصين العظيم ، وقد مات بعد أن ترك من تلاميذه الذين اخذوا علي عاتقهم ودعوته في الأقاليم الصينية ثلاثة ألاف ، وقد نبغ منهم اثنان وسبعون وكلهم تعاون في نشر مذهبه الخلقي في البلاد ، حتي صار بعد ذلك مذهبا رسمياً لتلك البلاد المترامية الإطراف، واستمر كذلك من آخر القرن الثاني قبل الميلاد إلي القرن العشرين بعده . 7-عقيدة كونفوشيوس: تخَّرج كونفوشيوس علي التعاليم الدينية التي كانت سائدة عند الصينيين الاقدميين ، فقد لقنها صغيراً وتلقاها والعود اخضر بالقبول . ولذا أحبا التعاليم الدينية القديمة ودون أصولها ولم يتعرض في دراسته الخاصة لمناقشتها ، ولم يكن له مذهب فيها يدعو إليه ، ويحث الناس علي اعتناقه ، بل كل عنايته تقوم علي السلوك المستقيم والدعوة إليه ، ولم يكن مدعياً لرسالة ، ولم يكن هو رسولاً مبعوثاً ، بل كان حكيماً فيلسوفا يبشر بمذهب في الأخلاق ويستمسك اشد الاستمساك به ، وأما عقيدته فهي ما كان يعتقده الصينيون القدماء ولا يزال أثارته في عقيدة أكثر الصينيين المعاصرين . وأساس هذه العقيدة أنهم يعبدون ثلاثة أشياء السماء والأرواح المسيطرة علي ظواهر الأشياء ( الملائكة ) وأرواح الآباء . 8-أما السماء المعبودة فلا يقصدون بها تلك القبة الزرقاء ، بل يقصدون تلك الأفلاك ومداراتها والقوي المسيطرة التي تسيطر عليها وتسيرها في مداراتها ، وباتصالها بالأرض ، وبالإمطار والرياح وغير ذلك تنبت الأرض من كل زوج بهيج ، وكانت عبادتهم السماء لأنهم يعتقدون أنها عالم حي متحرك حسب نظلم دقيق محكم ، وان كل ما في العالم من قوي مسيرة إنما خاضع لسلطان السماء. وظواهر ما تدل عليه عبارات كتبهم أنهم لا يفرضون قوة مغايرة للعالم هي المنشئة له والمديرة لأموره والمسيرة له والمسيطرة علي حركاته والواقية له من الفناء والانهيار ، ولأجل أن يستقيم لهم فرضهم بعض الاستقامة – وان كان الأساس غير مستقيم – يقولون ان العالم فيه جانب مادي وجانب روحي هو القوي ، ومن القوي منفردة او بائتلاف عدة قوي تحدث ظواهر الأشياء ويتم التحول المستمر الذي يقدرونه قانونا عاما شاملا والسماء لها السيطرة العليا علي القوي والمادة والأشياء جميعها . وعلي اية حال فليس عندهم منشئ ومنشأ ، بل المنشئ لديهم من ذات المنشأ ، كما يسود الفلسفة الأيونية التي كان قوامها العنصر الأول الذي تكونت منه الأشياء . ومع ذلك هم يؤمنون بالقضاء والقدر ، فيقولون أن كل الحوادث مقدره في السماء معروفة وقد اختص بعبادة السماء وتقديم القرابين لها ملكهم الأكبر ، ولذا يقال عنه أنه أبن السماء. وقد حالت العقيدة وصار كل ملك أو امير لمقاطعة له حق عبادة السماء كالملك الاكبر. ومن عقائدهم المتعلقة بذلك أن الملك واجب عليه بأمر السماء أن يحكم الرعبة بالعدل فان قسا وظلم سلطت عليه السماء من رعيته من يخلعه أو يقتله ثم مكنت لغيره من العادلين من يستولي علي عرشه ، ويحكي أن ملكاً استولي علي العرش بعد أن انتصر علي الملك الذي قبله وقتله ، قال : " اعطي الإله لكل انسنا ضميراً إذا اتبعه بحفظه ويقوده إلي الطريق السوي ، والإله دائما يبارك الطيب ويعاقب الردئ . ولذلك أنزل المصائب علي بيت هشيا بيت الملك السابق " كي يضع حدً لآلامه ". 9-أما عبادتهم القوي المسيطرة علي الأشياء ، الموكلة بها ، فلأنهم كانوا يعتقدون أن لكل شئ قوة تسيطر عليه وتسيره ، وهي كثيرة : فللشمس قوة تسيرها وكذلك القمر وللسحاب ، والمطر ، والجبال والأنهار ، وكل الكواكب ، والأشياء ، وهذه القوي جميعها يعبدها الصينيون ، وقوي الأرض لا يعبدها الملوك ، ولكن يعبدها غيرهم . اما القوي الخاصة بكواكب السماء وكل ما يكون فيها ، فهي من السماء لا يعبدها ألا الملوك . ومن عقائد الصينيين أن أرواح الأموات تنفصل عنهم بعد موتهم ، وتبقي الدينا مع أسرتهم ، ولذلك يعبدون أرواح الآباء تقديساً لهم ، ووفاء لعهودهم ، وشكراً لهم علي ما أسدوا من نعم لأبنائهم ، ويقدمون لهم القرابين. وعبادة وعبادات الصينيين غناء ورقص وموسيقي ، وكأنهم بهذه الأعمال يشركون آلهتهم ومعهم في سرورهم ، وأفراحهم ، وأغانيهم وموسيقاهم . 10-ولم يكن الصينيون القدماء يؤمنون بجنة ولا نار ، ولا ثواب ولقد اخذ كونفوشيوس بكل هذه العقائد ولم يزد عليها ، فلم يؤمن باليوم الآخر ، ولم يفكر في الحياة بعد الموت ، بل كان كل همه في إصلاح الحياة الدنيا. يروي أن احد تلاميذه سأله عن مآل الأرواح بعد الممات فقال : " لم نقدر علي خدمة الإحياء فكيف نقدر علي خدمة الأموات ولم نعلم الحياة فكيف نعلم الممات " وكان يقدم القرابين ، ويقوم بواجب العبادة التي يقوم بها كل صيني بل كان في الناحية الدينية ساذجاً يتشاءم من هزيمة الرعد ويرتجف وترتعد فرائصه عندما يسمعه ، ويقرأ التعاويذ لطرد الأرواح الشريرة من بيته ، وفي الجملة كانت عقيدته ساذجة ، وعقله في هذه الناحية كان عشا للخرافات والأوهام ، وفيه موضع لأساطير الأولين التي اكتتبها وحفظها ، ولكن عبقريته وقوة إرادتها باديتان في آرائه في السلوك الإنساني والخلق القويم ، ورياضة النفس عليه . 11-آراؤه في الأخلاق :بجدر بنا قبل أن نتكلم علي مذهب كونفوشيوس في الأخلاق أن نبين الظاهرة العامة في أخلاق التي سادت عصره ،والآراء الخلقية التي كانت سائدة قبيل زمانه ، ولكي نكون علي بينه من مدي أقواله ، وما دفع إليها ، وما بعثه علي قولها ، وخصوصاً أنه ما ادعي أنه أتي بجديد في السلوك القديم ، ولكنه أحبا المقبور من آراء سابقة ، واخذوا أنفسهم به من أخلاق. اعتقد الصينيون منذ أقدم عصرهم أن الأحداث الكونية تتبع الأخلاق التي تسود الناس وملوكهم ، فكلما كان الاعتدال والانسجام والفضائل يسودان المعاملة بين الناس ، ويربطان العلاقات بينهم برباط من المودة والرحمة فالكون سائر في فلكه من غير أي اضطراب ، ولكن أذا حاد الإنسان عن سمت الحق ، والسلوك القويم إلي الفضيلة اضطرب بعض ما في الكون لمخالفة القانون الأخلاقي ، وما الزلازل وخف الأرض وكسوف الشمس ، وخسوف القمر إلا إمارات لفساد خلقي ، احدث ذلك الاضطراب الكوني ، وإذا كان السلوك غير القويم يحدث الاضطراب ، والقحط ، فالسلوك القويم يجلب الخير والبركات ، ويجعل كل ما في الكون يجئ علي رغبة الإنسان ، والسبب في ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن المؤثرات لأي الأكوان ترجع إلي ثلاثة : أولها السماء ولها السلطان الاعلي ، وثانيها الأرض لقبولها أحكام السماء ، وثالثها الإنسان بما يؤثره بإرادته ، فإرادته الفضيلة وسلوكه سبيلها يجعل مظاهر الكون إلي خير الإنسان ، فالجو يمتلئ بالنسيم العليل والحرارة المنعشة والغيث المحيي لنبات الأرض من غير أن يخرب العمران . 12-والإنسان مفطور علي الخير عندهم ، سالك الطريق القويم لو خلي وفطرته ، ولكنه مع الفطرة الخيرية حي مستقل مفكر لا تمنع فطرته من النزوع الي الشر وسلوك سبيله ، والارتطام في حماته ، وذلك لإرادته المستقلة واختياره ، واستيلاء الشهوات عليه ، ومع أنهم كانوا يؤمنون بالقضاء والقدر ويذعنون لأحكام السماء يجعلون للإرادة الإنسانية الشأن الأول ، وذلك لان الإرادة الإنسانية للخير أو الشر لها أثرها في الكون ، ولأن آلهتهم عادلة فزعموا أنها لعدلها تجعل مشيئتها في الكون علي حسب عمل الإنسان ان خيرا فخير له ، وان شرا فشر له ، وان أفعال السماء المسببة لفعل الإنسان لا تقبل التخلف قط ، ولأنها جزاء ما قدم وأما أفعال السماء التي تكون حظا من غير تقدم الإنسان يسبب لها فهي تقبل التخفيف بالإرادة الإنسانية الخيرة والشريرة ، وفي هذه الحدود الضيقة كان إيمانهم بالقضاء والقدر . 13-وطريق الخير هو الاعتدال والاقتصاد في كل أفعال النفس وسجاياها ، فالقناعة مع الجد من غير استسلام فضيلة ، واللين من غير ضعف فضيلة ، والرحمة مع العدل مع المسئ فضيلة أيضا ، وكذلك التجمل مع السذاجة وهكذا كل الفضائل ، وأقصي الطرفين من إفراط او تفريط رذيلة وبدون الفضيلة طريق السعادة والرذيلة طريق الشقاء ، لأنه اذا كانت آلهتهم نغصت وترسل شواظا من نار علي من يخالف قانون الأخلاق فالشقاء في المخالفة والسعادة في الموافقة ، ولأن الموافقة تجعل النفس متوافقة مع فطرتها سائرة منسجمة مع طبيعتها . والرحمة أخص ما يجب أن يسود الناس من صلات ، فهي الرابطة التي تربط آحاد المجتمع بعضهم ببعض وهي التي تجعل الناس متحابين سعداء من غير عنف زاجر ، ولا قانون مشدد ، واذا كانت الفضيلة في عمومها طريقا لسعادة الآحاد ، فالرحمة التي تسود المجموع هي طريق العلاقة المبينة حدود ما للانسان وما عليه ، وليست الرحمة هي الرفق بالمجموع مع معاملة اهل السوء بما يستحقون من غير شطط ولا تفريط ، وأما التسامح المطاق ، ولو مع المسئ ، فأنه رحمة ظاهرة تخفي في ثناياها سترا للأجرام ، وذلك ليس من الرحمة الحقيقية في شئ. إذن فغاية الفضيلة في عمومها وخصوصها عندهم الكمال الإنساني والسعادة لبني الإنسان وإقامة بناء المجتمع علي التواد والتراحم والتعاطف. 14-وقوانين الأخلاق لا تنفصل عن السياسة عند قدماء الصينيين ، فاقوم الأخلاق ينتج أقوم السياسة ، وأحب أنواع الحكم ، بل أن الحاكم لا يمكن أن يحمل الناس علي الجادة من غير أن يحمل نفسه عليها ، وان الملك الذي لا يسوس الناس ونفسه بالأخلاق القويمة ينزل عليه السماء ، وينزع منه الملك كما بينا سابقاً ، فلا تسمح في قانون الاخلاق ولو كان الآثم ملكا ، وبهذا استمر العدل قائماً مع وثنيتهم وعدم تدينهم بدين سماوي . ولم تكن هذه اراء فلسفة لخواصهم تدرس وتناقش أصولها ، لكنها كانت أعمالا للناس كما هي اراء للعلماء ، وبذلك كان مجتمع الصين القدماء يسوده الخلق الكامل ردحا من الزمان ، ولكن خلف من بعدهم خلف لم يسلك طريق الأخلاق ، فحوالي القرن السابع قبل المسيح حكمت الصين اسرة ارتكبت من الظلم والإثم ما اوقع الشعب في الفوضى والاضطراب وجعل حكام الولايات يسيرون في طريق الرذيلة والانحلال الخلقي ، وإذا تفاقم الشر ، وجمحت النفوس وتفشي الداء اعمل الفضلاء الجهد ، وأحسوا بعظم التبعة , لذلك نحم في آخر القرن السابع والقرن السادس قبل الميلاد عقول جبارة ، ضاعفت الجهود وبذلت أقصي المجهود لكي ترجع الأخلاق الصينية إلي غابرها ، وكان دعوتها وحيا لعبقرية جبارة , واستنباطا لما استقر في أعماق القديم ، وأحياء للمدفون من كرائم العادات ولكن ابرز هؤلاء لوتس وكونفوشيوس . 15-ظهر كونفوشيوس في هذا المضطرب بعد لوتس ، ويعد ان جرب هذا كل آرائه في إصلاح المجتمع الصيني ، فلم يفلح إلا قليلا ، واضطر لان يدعو إلي الانزوا والفرار إلي العزلة لذلك جاء كونفوشيوس محاولا إصلاح ذلك المجتمع بغير طريقة لوتس ، بغير مذهبه ، وآراؤه في الأخلاق تتجه إلي ثلاث نواح : الأولي في بيان الأصل الخلقي الذي تقوم عليه الفضائل ، والثانية إصلاح المجتمع وحمله علي السلوك القويم ، والثالثة إصلاح نظام الحكم وتقييده بالفضيلة لا بعدوها. أما الناحية الأولي فهي قوام فلسفته ، وهي الجزء النظري منها ، وقد ابتأ نظراته الفلسفية بنظرية تعيين المعني واللفظ ، وتعيين الأسماء والمسميات ، وهي النظرية التي ابتدأ بها أيضا سقراط من بعد كونفوشيوس وذلك لما تشابهت فيه أحوال العصرين اللذين عاش فيهما الفيلسوفان : فكونفوشيوس جاء إضراب خلقي ، وتلاعب في نظم الحكم ، وعبث بمصالح الدولة علي الألفاظ لتوهين الأخلاق ، فكان لا بد من العمل علي تعيين المعاني الدالة علي الألفاظ ليثبت المعني مستقيماً ، لكي لا يمكن التلاعب به ، وإفساد الاستدلال من طريق ذلك التلاعب ، وكذلك سقراط وجد السفسطائيين قد اتخذوا من اللعب بالألفاظ طريقا لحل أخلاق الشباب الاثنين وإفساد اعتقاده ، والعبث بكل ما هو فاضل لديه ، ولذا كان اول ما دعا إليه سقراط تعيين المعاني الدالة عليها الألفاظ حتي لا يتخذ – المفسدين من بريق اللفظ ما يفسد الاستدلال والتفكير . دعا كونفوشيوس إلي العناية بمعاني الأسماء والألفاظ الدالة علي المسميات والحف في تلك الدعوة ليقطع علي المضللين سبيل التضليل ، ويفتح الباب ليستقيم طريق المعرفة من غير تمويه ولذا جاء في كتاب الحوار لكونفوشيوس أن احد تلاميذه سأله بأي شئ يبتدئ – سياسته أن تولي حكم الامارة ؟ " فقال " : لابد من تصحيح الاسماء " فدهش التلميذ من هذا الجواب ، ووقع من نفسه موضع العجب ، فقال كونفوشيوس : " اذا لم تكن الاسماء صحيحة لا يوافق الكلام حقائق الاشياء ، واذا لم يكن الكلام موافقا للحقائق وقع الخلط في اللغة وفسدت الامور فلا تزهر الآداب ولا الموسيقي ، ويضطرب التفكير ولا تنزل العقوبات علي من يستحقها ، واذا يرى الرجل الكامل ان من الضروري أن توافق الاسماء مسنياتها ليمكن أن يتكلم بها . وان يعمل بما يتكلم ، والرجل الكامل الخلق لا يستهين بكلامه ، ولا يهمل في تعبيره ". وعنايته بتعيين الالفاظ جزء من عنايته بان يكون الشخص الكامل علي تمام المعرفة بنفسه وبحقائق الاشياء ، فهو يحث علي المعرفة الصحيحة ، ويعتبرها جزءا غير قابل للانفصام من منهاجه الخلقي فيعتبر من كمال الفضيلة للرجل حسن ادراكه للامور ، وقدرته علي فهم ما يلقي بين يديه من المسائل من غير أن يدفعه الغرور إلي الضلال ، ثم هو يدعو إلي التفكير القويم في كل ما يلقاه الانسان ويري شرطا لازما للتفكير أن تكون عند الشخص قبل التفكير مقدمات كافية لان يفكر ، والتفكير لا بد منه لكل معرفة ، ولذا يقول " من تعلم من غير تفكر وتدبر فهو في حيرة ، ومن فكر من غير تعلم فهو خطر الضلال " ويري أن طريق العلم الا يقس الغئب علي الشاهد لانه تخمين ، ولا يجري الحدس والتخمين فيما لا يعلم لان الظن لا يغني من الحق شيئا ، ولذلك يقول لاحد تلاميذه : "الا اعلمك طريق العلم ؟" اعتبر ما علمت معلوماً . واعتبر ما جهلت مجهولاً ، هذا هو طريق العلم " ولاتظنن أنه يقصر الفضيلة علي المعرفة بل أنه يري أن المعرفة من طريق الفضيلة ، وليست هي الفضيلة ، كما يقول سقراط . بل هو يقول :"من يعلم الحق دون من يولع بطلبه . ومن يولع بطلبه دون يطمئن اليه دائما " فالمراتب عند ه ثلاث : 1-معرفة للحق مجردة 2-وشوق الي الحق ومحبة له 3-وعمل به وارتياح النفس الي العمل به ، مهما يكتنفها في العمل به من صعاب وشدائد ثم يقسم الناس بالنسبة للمعرفة الي اربع درجات : الدرجة الاولي درجة رجل وهبته السماء المعرفة ، واوتي الالهام ، وهي اعلي الدرجات ، والثانية درجة رجل لم يؤت الهاما ولكن فيه ذكاء ، فتعلم ووصل الي اقصي ما يتعلمه من لم يؤت الهاما ، والدرجة الثالثة درجة الرجل الذي لم يؤت ذكاء ، بل فيه غباء ، ويطلب المعرفة ، وينال منها بمقدار طاقته ، والدرجة الدنيا وهي الدرك الاسفل ، رجل حائر بائر فيه غباء وبلاده فلم يعرف ولم يحاول معرفة . 16-وان معرفة الانسان لا يمكنها أن تصل إلي الغايات من الاشياء بل اقصي مايمكن أن تصل اليه هو معرفة ما يمكن أن تعرفه ، وهو النواميس والقوانين التي تسير الاكوان علي مقتضاها ، فان العالم في نظره محكوم بقوانين لا تقبل التخلف ، قوامها التآلف والانسجام بين اجزائه ، فالسماء والارض والانسان قد ارتبط ثلاثها بنظام محكم وبقوانين مؤلفة بينها ، وان ذلك النظام قد يمكن أن يعرفه الانسان ، ولايمكن أن يعرف علته الغائبة ، ولا مبعثه ، ودوافعه وان الشر كل الشر أن يكون في تصرفات الانسان ما يحبذ به عن النظام المؤتلف بين الانسان والاكوان ، وذلك بان يرتكب من الشر ما يكون سببا في أن تنزل السماء عذاباً ، ولذلك يقول في الحوار : " لو ارتكبت مالا يليق غضبت عليّ السماء ". ولذلك كان تحلي الانسان بالفضيلة ، و الذي يجعله مؤتلفاً مع نظام السموات والارض ، ولان العالم يسير بنظام وقوانين محكمة ، كانت طبيعة الانسان وفطرته الي الخير لكي يكون النظام هو السائد ، ولذلك يقول كونفوشيوس كما كان يعتقد من سبقه من حكماء الصين وفلاسفته أن النزوع الي الخير والفضيلة طبعي فطري في الانسان ، وليست الفطرة الانسانية مبالة الي الشر نزاعة اليه ، بل انها خيرة ، ولك للارادة المستقلة التي منحها الانسان ، وللشهوات واللذات التي يمكن استحواذها عليه بشذ عن داعي الفطرة ونداء الطبيعة ويتجه الي الشر ، ويفعل ما ينزل به غضب السماء في زعمهم ، ففي النفس ينابيع صافية المورد للخير ، وفيها استعداد للشر ان عرض لها عارض اللذات والشهوات ، فالاصل للنفس الخير والشر عارض ، واذا كانت النفس في اصل فطرتها الخير ، والشر انحراف عن الفطرة ، فالحكم اذن من عمل علي احياء الفضيلة بتنمية قوي النفس الخيرة وتصفية ينابيعها من كدورة اللذة ، واعتكار الشهوات ، فان النفس اكصحة الماء الصافية المستوية واللذات كالاحجار تقذف فيها ، فتحدث فيها اضطرابا وتثير فيها اعتكاراً . 17-واذا كانت الفضيلة من دواعي الفطرة السليمة فطلبها من كمال الانسانية ، اذ رغبة الخير فطرية فيه ، وعلي ذلك يطلب الانسان الفضيلة لارجاء منفعة ، ولا دفعا لمضرة ، ولا حلبا للذة ، ولا دفعا لحرمان ، ولكن يطلبها لانها كمال انساني ، فهو يقول في الفصل الرابع من كتاب الحوار ( ) " الرجل الكامل الخلق يطلب الفضيلة ، والرجل الناقص الخلق يطلب اللذه ، والرجل الكامل الخلق يفكر في اجتناب الرذيلة واداء الواجب ، والرجل الناقص يفكر في كسب المنافع والرجل الكامل الخلق واقف علي البر والرجل الناقص واقف علي الريح". فالفضيلة عنده لا تطلب لما فيها من لذات ، ولكن تطلب لانها كامل الإنسان ولانها تمسك السليمة ، والطريق التي بها يتم التآلف والانسجام ين الانسان والعالم واذا – تمسك الشخص بالفضيلة وابتعد عن الانحراف عن سبيلها وتجنب الخضوع للملاذ ، سهل عليه كل صعب ، وهان عليه كل شلق ، وان رياضة النفس علي الفضيلة ، تجعل الشخص يحتمل الفقر والفقروالغني فان افتقر لم يهن ، وان غني لم يطغ ولم يأشر ، ولذا يقول في كتاب الحوار : "الرجل غير الفاضل لا يستطيع أن يبقي في الفاقة أو الثروة طويلا ، أما ذو الفضيلة فهو مستريح في فضيلته ، حريص عليها ". وان كانت الفضيلة لا تطلب إلا لأنها السنة ، والانسجام ، وتزكية النفس الإنسانية ، فمن ثمراتها الراحة ، والاستهانة بالآلام ولذا يقول :" ذو الفضيلة نشيط ، ووزين ، ومعمر ، بالفضيلة عنده روضة فيها الراح والريحان ، والسر والاطمئنان أما ذو الرذيلة فهو في شقاء وبليان مستمر وينزل عليه غضب السماء جزاء ما قدمت يد له واقترفت نفسه ، ولذا يقول : " يولد الإنسان مستقيما فمن فقد الاستقامة واستمر حبا ، فنجاته من الموت من حسن حظه ". 18-ولكن الفطرة قد يغالطها الإنسان ، فبزعم أنه سائر علي مقتضاها مؤد للواجب سالك سبيله ، وهو يجزع من اللذات والشهوات فكيف يأمن الشخص هذا العثار ؟ وكيف يطمئن إلي أن ما يسلكه هو موجب الفطرة ، وهو الفضيلة ؟ قد عالج كونفوشيوس هذه الحال ويفهم من حواره مع تلاميذه ومن مجموع آثاره انه يوجب علي الشخص أن يراقب نفسه ويلاحظ البواعث التي تبعثه علي الإعمال ، فإن كانت هي المنفعة الشخصية أو السنة ، وهو الصراط المستقيم ، والسلوك القويم ، لذلك هو يقول عند الحكم علي الأشخاص أهم إلي هدي أم إلي ضلال :"انظر إلي أعمال الناس ، ولاحظ بواعثها ، وراقب ما إليه يستريحون فأين يخفي الناس سرائرهم . أين يخفي الناس سرائرهم .. إذا كانت ملاحظة الدوافع سهلة علي الشخص إذا كانت في غيره فكيف يصعب عليه إن يلاحظ دوافعه ؟ ثم هذه الملاحظة تدفع الفيلسوف الكبير إلي أن يدعو الشخص الي التأمل النفسي ، ومراقبة وجدانه ، لتستيقظ نفسه اللوامة ، وتحاسبه علي ما يقدم عليه من عمل ، ويكون من نفسه رقيب عليه شديد المراقبة ، قوي الحس ، صادق الحساب ، لا يترك صغيره ولا كبيره الا احصاها . ولقد قال احد تلاميذه : "اراقب نفسي واسائلها كل يوم ، هل خانت عندما تولت شئون الناس ؟ هل كذبت عندما عاملت ؟ هل كانت غافلة عن العمل بما تلقته من العلوم ؟" بهذه المراقبة الشديدة بأمن الرجل أن يحيد عن الفطرة ، واخشي ما يخشاه كونفوشيوس علي الفطرة اللذات من أن تطمس نورها وهداها ، ولذا كان يحث علي الخشونة في العيش لكي تكون اللذات امة للشخص ولاتكون سيداً مسيطرا عليه ، ويري أن تعود ترك اللذات مما يساعد علي إتباع الفطرة الخيرة ولذلك يقول : " إذا عزم المتعلم علي طلب الطريقة الموافقة للفطرة السليمة وهو بأبي الملبس الخلق ، والمطعم الجشب فهو غير خليق بأن يحاضر ". وان تلك المراقبة النفسية وتعود النفس خشن الحياة ، والسيطرة علي اللذات والشهوات أول ثمراتها التمسك بالفضيلة والتمسك بالآداب ، وأول ثمار التمسك بالآداب حسن العشرة وإنما تستحسن سنة السلف الصالح لاشتمالها علي هذه الصفة التي تراعي في جميع الشئون صغيرها وكبيرها ، ولكن أو روعي حسن المعاشرة من غير أن يضبط بالفضيلة ما استقامت الأمور". فهو يري أن المظهر الحسي للفضيلة حسن المعاملة والمعاشرة المقيد بقيودها ، ومن هنا نري أن في الأخلاق تبتدئ من الفرد ، وتنتقل إلي إصلاح الجماعة بأن يكون الإفراد جميعا مقيدين أنفسهم بالفضيلة بحيث يجعل كل شخص من نفسه دافعاً للفضيلة يبعثه علي أن يعامل غيره معاملة مقيدة بالأخلاق الفاضلة فلا يظلم ، ولا يتعصب ولا يغلب رغباته ولا يجعل من نفسه مغلبا علي الآخرين ،ولذا جاء في كلامه " الرجل الفاضل لا يتحيز والرجل الفاضل لا يتعصب ، وهذه كلها آراء لو تمسك كل واحد بها لقامت جماعة فاضلة يرتبط آحادها بالحق القويم من غير منافسة ، ولا مغالبة ، ولا تناحر. 19-نرجو بهذه الكلمات أن نكون قد بينا فلسفة كونفوشيوس الخلقية ولننتقل الي الناحية الثانية من نواحي آراءه ، وهي محاولته إصلاح المجتمع ، ومما تقدم نري أن إصلاح المجتمع في نظره غير عسير بل له غير متعذر وذلك أن يتمسك كل آحاده بقانون الأخلاق ، ولكن كيف السبيل إلي حمل العامة علي التمسك بقوانين الأخلاق ؟ وانغماره في الناس ، وثانيهما جعل القائمين بشؤون الحكم متمسكين بقوانين الأخلاق ، وان ترك العنصر الثاني إلي موضعه من الكلام علي الناحية السياسية في آرائه الخلقية ، أما دعايته إلي الأخلاق الفاضلة فقد سلك فيها ثلاثة مسالك. المسلك الأول: انه دعا إلي احترام الآباء ، والعناية بشدة إلي تماسك الأسرة ، ولذا تري في كتبه عبارات كثيرة في الدعوة إلي احترام الآباء وجعل ذلك أساسا من أسس الكمال في نظرة ، فهو يقول : واجب الولد البر بابوية إذا كان داخل المنزل والاحترام لذوي الأسنان إذا كان خارجة والصدق في أقواله والرحمة بالناس في كل أفعاله وان يتقرب إلي الفضلاء ، وإذا كان لديه فراغ من الوقت زجاه في كتب الأخلاق ، ولاشك أن الشخص إذا عني بالبر بالوالدين العناية بالتجمل بالكمال في حضرتهما أمدا طويلا بجعل الشخص يعتاد الفضيلة والسلوك الحسن ولعل هذا هو السر في أن الإباحية إذا سادت زمنا من الأزمان صحبها انحلال الأسرة ، وفك عقدة الاحترام التي بين الآباء والأبناء . المسلك الثاني من مسالكه في الدعوة إلي الفضيلة مسلك التدرج فهو كان يدعو إلي الأخلاق في رفق ، ويعطي كل واحد من الناس مقدار طاقته في دعوته ، فهو يقول :" من الناس من نستطيع محادثته في العلم ، ولا يمكن أن نحمله علي السير معنا ، بمقتضي الفطرة ، ومنهم من يكون ذا خلق قويم شديد التمسك بالفطرة والكمال الإنساني ، ولكن لا يمكنا مشاورته في تقدير الشئون . فهذه الطبقات المختلفة في استعدادها لقانونه الخلقي كل طبقة لها حظ من الإصلاح تعالج به ، وتحمل علي سلوك الجادة بمعالجته ، وقد حكي عنه احد تلاميذه الذين لازموه اشد الملازمة انه كان يرشد الناس بالتدريج إرشادا حسناً ، ولننقل كلام ذلك التلميذ المخلص فهو يقول في وصف آراء أستاذه وأثرها في نفسه " إذا رفعت إلي آراء الأستاذ عين النظر رأيتها أعلي مما كنت اعتقد ، وهي ملء نفسي وتحيط بي ، وتستغرق كل حسي ، والأستاذ يرشد الناس بالتدريج إرشادا حسناً ، وقد وسع بالعلوم مجال فكري ، وضبط بالآداب – سلوكي ، حتي إني لو رغبت في ترك آرائه ما طاوعتني نفسي ". المسلك الثالث من مسالك دعوته الي الخلق القدوة والاسوة فهو يري أن الرجل الفاضل يستطيع أن يؤثر بسلوكه القويم اكثر من أي بيان مهما تكن بلاغته ، ومن غير أن يتهم بالرياء في دعوته ، ولقد كان يدعو تلاميذه الي السلوك الخلقي باخلاقه ، كما دعاهم بكلماته فهو الذي يقول لهم : " اتظنون اني اخفي عليكم شيئا ، ما من امر اعمله الا فيه ارشادكم ، وهذه هي طريقتي في التربية ". 20-كان اذن من مذهب كونفوشيوس ان يختلط بالناس ليصلحهم وليس من مذهبه ان يعتزل الناس وينقطع عنهم ، ولذا جاء في كتاب الحوار " لا يمكن أن اعاشر الطيور والوحوش ، فلو لم اعاشر هذه الامة فمن الذي اعاشره ؟ لو كانت البلاد تحت سيادة عادلة ما كنت في حاجة الي محاولة لاعادة نظامها ". وهنا يفترق نظر كونفوشيوس عن نظر الفيلسوف "لوتس" صاحب مذهب الطاوية فنري لوتس بعد إن جرب وخالط الناس ، وحلب الدهر اشطره ، وعرف حلوه ومره ، انتهي إلي أن الخير ليس في محاولة إصلاح المجتمع الفاسد بالعمل والنشاط والدعوة بل الخير كل الخير في الزهادة والاعتزال ، فلما التقي به كونفوشيوس ، وهو شاب متفتح الآمال ، مزدهر النفس ، وحاوره قال الشاب للشيخ : إذا كان واجب كل شخص من آحاد الأمة إن يعتزل في كهف من الكهوف ، فمن الذي يبقي في المدن يعمرها ، وفي الأرض يفلحها ويزرعها ، وفي الصنائع يسهر فيها ، ومن الذي ينسل ويعمل ليبقي الكون عامراً ببني الإنسان ؟ وإذا كان الاعتزال مقصوراً علي الحكماء والفضلاء فمن الذي يربي الإنسان ويؤدبه ؟ ام يترك الناس حائرين بائرين لا هادي ولا مرشد ". لذلك يتجه كونفوشيوس إلي الجماعات يصلحها ، ويؤدبها ، ويعظها ، ولا يعتزل ويترك الناس في غيهم يعمهون ، ولم تكن هذه النقطة وحدها هي التي افترق عندها الحكيمان بل تخالفا في أساس المعاملة بين الناس ، وهي جزاء السيئة اهو سيئة مثلها أم عفو وتسامح ؟ يري لوتس أن الصفح والعفو هو مايجب ان يعامل به المسئ أما كونفوشيوس فيري أن المسئ يعامل بالعدل وليس من العدل العفو عن سيئته بل أخذه بجريرة عمله ، فالمسئ لا يعفي عنه ، ولكن بعدل معه لا يظلم ولا يظلم . 21-ولنترك ألان محاولته أن يصلح الأخلاق بشخصه من غير أن يستعين بسلطان الحكم وللتنقل الي الناحية الثانية من النواحي الخلقية ، وهي آراؤه في السياسة ، ولا نقصد بآرائه السياسية ما يجري به العرف ألان من الآراء في أصل نظام الحكم ، ولون النظام اهو ديمقراطي أم ارستقراطي أم حكم الفرد ، ولا بيان توزيع السلطات في الدولة ، واختصاص كل سلطة فتلك أمور لا تعنيه ولكن الذي يعنيه هو مقدار القسط الذي يقوم به الساسة من إصلاح في الأخلاق ، وما يجب أن يتبعه ليكون كحاكم صالحا للوصول الي الغاية منه ، وهي إصلاح أخلاق العامة ، وما يجب إن يتصف به الحاكم من أوصاف ويتحلي به من أخلاق وما يصح أن يكون موصلا لتولي المناصب ، ثم الأوصاف العامة للحكومة الصالحة للقيام بهذه المهمة الخلقية ، وواجب الحكماء عند تنكب السبيل ، ما يعني به كونفوشيوس – وما تشير إلي آراؤه فيه في هذه الإلمامة الموجزة . يري كونفوشيوس أن السياسة الحكمية هي تقوم علي الأخلاق القويمة ، فليست السياسة بمنفصلة عن الأخلاق ، ومن فصل الأخلاق عن السياسة فهو لم يفهم الغاية في السياسة ولا الغاية من الأخلاق في نظر كونفوشيوس ، أن الغاية السامية من السياسة هي إصلاح الأخلاق ، وقد يكون من واجب الدولة أن تعني بتوفير الخبز للعامة ، وان تعني بالقيام علي الميزانية ، وتنظيم دخلها وخرجها ، ولكن الغاية السامية او الواجب الأمثل هو في إصلاح أخلاق الناس وتهذيبهم ، وليس السياسي المستقيم من يستطيع إن يحكم بالعدل والإنصاف فقط بل السياسي حقا من يستطيع ان يهذب الرغبة حتى لا تكون ظلم ، ولذا يقول :"إني في الفصل بين المتخاصمين كغيري من الناس ، ولكن السياسة الحكيمة إن تهذب الرعية حتى لا تكون مخاصمة ". 22-ولكن كيف السبيل إلي ذلك ؟ لقد رام صعبا وطلب عسيرا ، هذا ما يبدو لنا إما هو فيري إن الأمر ليس من العسير بالقدر الذي يلقي البأس في قلب الحكيم الطالب للإصلاح الذي يسلك سبيله ، فهو يري إن الملوك والقادة في السياسة يؤثرون بأخلاقهم أكثر مما يؤثرون بقوانينهم ، فهو يعتقد اعتقاداً جازما أن العامة يسيرون علي أخلاق حكامهم ، فان كان حكامهم صالحين صلحوا وان كانوا معوجين فسدوا ، ولذلك يجعل أساس إصلاح أخلاق الناس ان يكون حكامهم ذوي أخلاق ، فهو يقول في قوة إيمان بما يقول :"ان الحاكم إذا شغف بالآداب الفاضلة لا يجرئ احد من رعيته علي اهانة غيره وإذا شغف بالصدق لايجرئ احد علي الكذب ، ومن هذه حالة اقبل عليه الناس حاملين أولادهم علي ظهورهم ". فاقتداء الناس بحكامهم الصالحين هو الطريق الأول لتهذيب الناس ، وهو لا يعتقد إن تحلي الحكام بالخلاق الفاضلة أساس إصلاح العامة فقط ، بل أساس طاعتهم أيضا ، فان الناس لا يطيعون إلا من يرون فيه الاستقامة والمحافظة علي الآداب العامة ، فهو يقول " إن كان سلوك الرئيس مستقيما أطاعه المرؤوسون من غير إن يأمرهم ، وان كان غير مستقيم لم يطيعوه ولو أمرهم " هو لهذا لا يفهم ان الطاعة بالأحكام الرادعة ، والقوانين الزاجرة ،والأوامر القاسية ، أنما الطاعة في نظره ما كانت عن رغبة النفس ، واقتناعها بان الحق فيما تؤمر به وتدعي إليه ، وليست إجابة الأمر مكرهة تقي المجيب وهو يحاول التخلص من تأنيب الضمير ، ولذلك يري أن قيادة النفس بالآداب والأسوة الحسنة هي التي تتبعها الطاعة التي يحاول الشخص فيها العصيان الا الزنجرة فستحاول التخلص منها ، وهي غيره مستحبة من مخالفتها ، وإذا قدتها بالفضائل وأصلحتها بالآداب تستحي من ارتكاب الجرائم وهي صالحة ". 23-ثم إن أول الأسس التي يجب أن يعتمد الحاكم عليها ثقة الرعية به ونيله محبتها ، فيجب أن يعمل علي نيل هذه الثقة ، واجتذاب الجماهير لتجد أوامره إجابة من القلوب ولا تجد مظهرا من الخضوع ، ولذلك يوصي الحكام بالعناية بهذه الثقة إلي درجة إن يري أن العمل لها يكون قبل العمل لقوت الناس أو الإعداد للحروب ، لأنها أساس قوة الحكم ، وهو من من غيرها قسر وإرهاب وعنت يولد الخوف. وان أطاع الناس رهبة وخوفاً انقطع الحبل الموصول بين الحاكم والمحكوم ، فتضطرب الأمور وتهرع الأخلاق وتفسد النفوس . سأله احد تلاميذه عن ضروريات الساسة فقال:" من ضروريات الساسة الأقوات الكافية وذخائر الحرب الواقية ، وثقة الرعية , فقال التلميذ: " لو اضطررنا إلي حذف واحد من هذه الثلاثة فبأيها نبتدئ بالحذف ؟ قال :" احذفوا ذخائر الحرب " قال " لو اضطررنا إلي حذف احد هذين الأمرين فأيهما نحذف ؟ وأيهما نبقي ؟" قال :"احذفوا الأقوات ، فان الموت حظ الإنسان منذ الغابر من الأزمان ، ولكن السياسة لا تقوم إلا بثقة الرعية ". وإذا كانت ثقة المحكومين أساس الحكم ، فالواجب الأول علي الحاكم لكي يقوم بواجبه الخلقي علي الوجه الأكمل أو الصحيح أن يجتهد في العمل علي جلب هذه الثقة ، ولا شك أن أخذه هو بمبادئ الأخلاق أساس لجذب ثقة الناس إليه والقرب من الناس والتداني مع الاحتشام والتجمل والوقار كذلك فلا يجعل هوة بينه وبينهم ، ولا يتبذل معهم في قول او عمل ، ويري إن الشفقة بالناس أساس من أسس الثقة وداع من دواعي الإخلاص للحاكم ، سأله احد تلاميذه قائلاً: " كيف يجعل الحاكم رعيته يجلونه ويثقون به مخلصين ويتواصون بالخير فيما بينهم ؟" فقال مجيباً :" إذا قابلهم بالسمت والوقار اجلوه ، وإذا كان بارا بوالديه شفيقا علي قومه ، وإذا رفع الصالحين وأعان العاجزين تواصوا بالخير".

 24-وان من اشد الأمور لزوما لجذب ثقة الناس والوصول إلي الغية السامية من السياسة ،و هي التهذيب أن يولي الحاكم الصالحين فإذا كان "كونفوشيوس" يري أن أولي طرائق تهذيب الناس ، وحملهم علي السير علي الجادة الاقتداء بالحاكم في سلوكه القويم ولذا اوجب أن يكون سلوكه علي سمت الأخلاق ، فكذلك يجب أن يكون أعوانه من هذا القبيل فلا يولي إلا الصالحين ، وينزع الولاية من الطالحين ولا يدنيهم إليه ، فان إداناتهم منه مضعف للثقة به ، ولقد سأله أمير مقاطعته قائلاً: " كيف تكتسب طاعة الرعية ؟" فأجابه بقوله : إذا اعلي الصالحون وابعد الطالحون أطاعت الرعية وإذا أقصي الصالحون وادنب الطالحون عصت الرعية " فولاية أهل الصلاح في نظرة تجذب الناس إلي الثقة بالحاكم ، وتحملهم علي طاعته ، وتساعد الحاكمين علي الوصول إلي رغباتهم السامية من تهذيب الأخلاق ، ولذا كان يقول : لو تداولت أيدي الصالحين شئون الدولة لمدة قرن واحد لتهذيب الظالمون جميعاً ، ولا ستغني الحاكم عن عقوبة الإعدام .

ولأنه يري أن تولي الصاحين بعين الحاكم علي تنفيذ مهمته الخلقية يستحسن لذوي الأخلاق والصلاح ان يتولوا مناصب الدولة ويطلبوها أن كان الحاكم عادلا ، لان من يتولي المنصب من قبله يعينه علي العدل بل أن تقديم الخدمة في ذلك الوقت فريضة لازمة علي أهل الصلاح ، ولذا يقول في قوة : "آمن بالحق ، وأحب العلم ، واتبع الفطرة ، ولا تقم في مملكة سادتها الفوضى واطلب المنصب إذا كانت البلاد محكومة بسياسة حكيمة ، واعتزل إذا كانت تحت سياسة عادلة ، ومن العار أن تغني وتعتز والبلاد تحت سياسة غاشمة ". وان كان طلب المنصب لازما علي من هو أهل له أن تعين فمن الواجب قبله أن يعني الرجل بتأهيل نفسه له ، فليس الغرض إن يتولي ليستمع بسلطان الحكم ، وجاه المنصب ، بل الغرض ان يصلح ويعين علي الإصلاح ، فهو لا يطلب المنصب، لانه رغبة يؤلمه الحرمان منها ، بل يطلبه لأنه تكليف إذا توافرت المؤهلات له ولذا يقول : "لأيكن همك أن تتولي المنصب ، بل ليكن همك ما يؤهلك لهذا المنصب ، ولا تهتم بجهل الناس قدرك ، بل اهتم بالفضل الذي تريد ان يعرفوك به ". ثم انه يوجب علي طلب المنصب الا يجعل عنايته موجهة إلي مقدار المرتب من المال ولكن ليجعل عنايته في القيام بالواجب لذات الواجب . ولذا يقول : "من يخدم الأمراء فليجعل العناية بأداء الواجب في المحل الأول ، وأمر الراتب في المحل الثاني". فالإخلاص للواجب هو الأمر الذي يجب ان يعني به صاحب المنص . ذكر احد تلاميذه : ان وزير من الوزراء تولي رئاسة الوزارة ثلاث مرات ، فلم يظهر علي وجهه امارة الابتهاج في واحدة منها ، واستقال ثلاث مرات ، فلم يبد في واحدة منها علي وجهة الاكتئاب بل كان يخبر الوزير الجديد بجميع ما حصل في شئون الدولة في عهده ، فقال كونفوشيوس : "قد كان مخلصاً ، فالإخلاص علي ذلك في نظرة يجعل طالب المنص بطلبه لأنه واجب من غير أن يطير فرحا لأبهة الحكم ، ويتركه لعجزه عن أداء الواجب من أن يمضه الألم لفقده جاه السلطان فالمنصب توليه واجب لذوي الأهلية له ، ليس فيه مغنم للمخلص ، ولا في فقده مغرم لا يطلب للشهوة ولا يشعر المخلص عند تركه بمضاضة الحرمان . وبينما هو يري أن الفضلاء أن سعوا للمناصب في الحكومة الفاضلة ، فقد سعوا فيها هو حق وواجب ، يري أن الواجب علي الصالحين أن يعتزلوا المنصب أن كانت الحكومة غير صالحة وعجزوا عن إصلاحها لشهوات استمكت في رؤوس من هم اعلي منهم ، وتعذر عليهم حملهم علي الدرب وقد اعتزل هو منصبه لما رأي أن أمير المقاطعة قد استولت عليه الشهوات واستحوذت علي بصيرته ، ولما ناقشه تلاميذه في اعتزاله مناصب الدولة قال لهم : "لماذا بهمكم أن يفقد أستاذكم منصبه ، أن البلاد قد خلت من العدل والاستقامة من زمن بعيد ، وستتخذ السماء أستاذكم ناقوسا لها ". 25-وإذا كانت الحكومة مستقيمة وهي التي يكون الحكم فيها علي مقتضي قانون الأخلاق كان من أثارها أن تكون الأمة قوية شجاعة مهما أحاط بها من أسباب الصعب ، ومهما يكن بها من فقر فهو يري ان الفضيلة تجعل النفس عامرة بالشجاعة ممتلئة بالقوة مطمئنة الي الغاية وهو يري هذا الرأي واثقا به ولم يكن قد رآه عن حدس وتخمين وتخيل جميل بل قد رآه عن خبرة وتجربة . ومجمل ما يقال في سياسة هذا الحكيم أنها الأخلاق الفاضلة فهي عدة الحكام وعتادهم وهي غايتهم ومرتجاهم وهي المطمح الاسمي وهي البذرة الصالحة يلقبها الحاكم في أمته فتنبت ازكي النبات وتثمر أطيب الثمرات . وما كان هو إلا نموذجا للحاكم الصالحة ، حكم فلم يخالف حكمه أراه ولم يباعد السلطان بينه وبين كلماته ، ولقد قال فيه احد تلاميذه : " أن رتبة الأستاذ " كونفوشيوس " لايمكن إن يصل إليها احد كما أن السماء لا يمكن أن يصعد إليها احد ، لو كان الأستاذ حظ من الإمارة أو الرياسة لصدق عليه قول القائل : أن أقام الرعية قاموا سراعاً وان هداهم سارعوا وان أراحهم لآووا منه إلي ظل وارف وان عاش عاش جليلاً وان مات أقيمت بموته النفوس حسرات فكيف يمكن أن يصل إلي رتبته غير ه ". 26-هذا هو الفيلسوف الحكيم الذي لا تزال الصين تجله علي اختلاف مللها ونحلها وهذه إشارة موجزة إلي أراه الخلقية التي لا تزال في الصين نبراساً يهتدي به الكثرة الغالبة فيهم . وبجدر بنا أن نقول إن ذلك الحكيم لم تكن عنايته الكبرى متجه إلي تأليف كتب ، ولكن عنايته كانت متجه إلي تكوين نفوس ، والي تربية طائفة من التلاميذ يكونون نواة لتربية جيل ، وبذلك تتوارث أراه الأجيال ، وجدتها لا تبلي لأنها تجد غذاء من نفوس الناس . ولقد دون تلاميذه أراه ، ومنها بين أيدينا كتاب الحوار ترجمة من الصينية إلي العربية صديقنا الأستاذ محمد مكين ، وهو روضة ناضرة الأزهار يرى فيها القارئ صورة صادقة لأراء كونفوشيوس الخلقية السياسية ويستشف من ثناياه روح العطف بين الأستاذ والتلميذ اذ يري فيهم أسرة شريفة لم تجمعها لحمة نسب او صلة ، ولكن جمعتها لحمة علم وعاطفة رحمة . ولكونفوشيوس مؤلفات أخري ألفها هو ، وهي تلخيصيات وشروح للكتب المقدسة القديمة التي نسخها وشرحها وعلق عليها أحياء لآداب القدماء من الصينيين ، وقد كانت شروحه وتعليقاته متضمنة منهجه وأراه في الدين والأخلاق ، والسلوك القديم .