موفق الدين بن يعيش

آلاء الجوخي
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

موفق الدين بن يعيش (و. 553 هـ- ت. 643 هـ)، هو نحوي شهر، وأحد من أهم نحاة القرن السابع الهجري، يعدُّ كتابه (شرح مفصل الزمخشري) موسوعة نحويَّة ثرَّة أغنت المكتبة العربية، واعتمد عليها الكثير من الباحثين، فلا تكاد مكتبة عربية تخلو منه.

هو أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا بن محمد بن محمد بن علي بن المفضل بن عبد الكريم بن محمد بن يحيى بن حيّان القاضي بن بشر بن حيان الأسدي، الموصلي الأصل، الحلبي المولد والمنشأ، الملقب موفق الدين النحوي ويعرف بابن الصائغ. قرأ النحو على أبي السخاء فتيان الحلبي، وأبي العباس المغربي النيروزي وسمع الحديث على أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل، وعلى أبي محمد بن عبد الله بن عمر بن سويدة التكريتي، وبحلب من أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي والقاضي أبي الحسن أحمد بن محمد بن الطرسوسي وخالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني، وبدمشق على تاج الدين الكندي، وغيرهم، وحدث بحلب وكان فاضلاً ماهراً في النحو والتصريف.

أما مؤلفه فلم تقدِّم لنا المصادر معلوماتٍ عن أسرته، ولم يشر المترجمون إلى تفصيلات حياته، فلم يتسنَّ لنا معرفةُ شخصيته معرفةً دقيقةً كغيرِه من كبار النحْويين، وليست معرفتُنا تفصيلاتِ حياته أمراً ذا بال، إذا كان وصلنا من تراثه العلميَّ تلك الموسوعة النحوية الآنفة الذكر المسمَّاة: شرحَ المفصَّل، التي تدلُّنا على دقَّة تفكيرِه النحْويِّ وسَعَةِ علمِه، بيدَ أنَّ بعضَ الترجماتِ أشارَتْ إلى نسبِه وبعضِ مناحي شخصِه؛ فعرفَّتْنَا شيئاً عنه.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نسبه

هو أبو البقاءِ يَعِيشُ بنُ عليٍّ بنِ يعيشَ بنِ أبي السَّرايا بنِ محمَّدٍ بنِ محمَّدٍ بنِ عليٍّ بنِ المفَضَّلِ بنِ عبدِ الكريمِ بنِ محمَّدٍ بنِ يحيى بنِ حيَّانَ القاضي بنِ بشْرٍ بن حيَّانَ الأسدِي، الموصلِّيُّ الأصْلِ، الحلبيُّ المولدِ والمنشَأ، الملقَّبُ موفقُ الدِّينِ النحويُّ، ويعرَفُ قديماً بابنِ الصَّائغِ (1).


شخصيته وأخلاقه

تتبدى لنا شخصية ابن يعيش من خلال ما أورده مترجمه؛ شخصيةً لامعةً محببةً، فهو يمتلك صفات المعلَّم الحق فقد " كان طويلَ الروح، حسَن التفهُّم، طويل الباع في النقل، ثقة علامة كيِّساً، طيبَ المزاح، حلوَ النادرة، مع وقارِ ورزانة" (2).

ويبدو أنه كان خفيف الظلِّ حاضر الطُّرفة، سريع البديهة، ولم يكن علمه ووقاره ورزانته لتمنعَه من المزاح اللطيف وجمال الروح، وقد عُرِف عن كبار العلماء الوقارُ والهيبة، والإعراض عن المزاح، فهذا ابن جني يقول لبعض كتَّاب ديوان آل بويه بعد أن مازحه: ما هذا القول يا أبا الحسين أعزك الله! ومتى رأيتني أمزح فتمزح معي، أو أمجُن فتمجُنَ بي! (3)

فقد كان ابن يعيش يحمل في شخصه روح الدعابة والمزاح، وقد وصلنا بعض من المواقف التي تظهر لنا خفة ظله، وحبه للدعابة اللطيفة، يقول عنه ابن خلكان:

- "وكان حسَن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدئ والمنتهي، وكان خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون، مع سكينة ووقار، ولقد حضرت يوماً حلقته، وبعض الفقهاء يقرأ عليه " اللُّمَع " لابن جني، فقرأ بيت ذي الرُّمة في باب النداء: أيا ظبية الوعْسَاء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أمُّ سالم

فقال له الشيخ: إن هذا الشاعر لشدة ولهه في المحبة وعظم وجده بهذه المحبوبة (أم سالم) وكثرة مشابهتها للغزال كما جرت عادة الشعراء في تشبيههم النساء الصباح الوجوه بالغزلان والمها =اشتبه عليه الحال، فلم يدر هل هي امرأة أم ظبية، فقال: (آأنت أم أمّ سالم)؛ وأطال الشيخ موفق الدين القول في ذلك وبسطه بأحسن عبارة، بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن، وذلك الفقيه منصت مقبل على كلامه بكليته، حتى يتوهم من يراه على تلك الصورة أنه قد تعقل جميع ما قاله، فلما فرغ الشيخ من شرحه قال له الفقيه: يا مولانا أيش في المرأة الحسناء يشبه الظبية، فقال له الشيخ قول منبسط: تشبهها في ذنبها وقرونها، فضحك الحاضرون، وخجل الفقيه، وما عدت رأيته حضر مجلسه" (4).

وليس مفهوم ابن خلكان للمجون كمفهومنا اليوم، فمفهومنا لا ينسجم مع حياة ابن يعيش، فقد كان الرجل محدثاً سَمع وسُمِع منه، ويرى د.نبهان أن ابن خلكان كان قاضياً، والقضاة عادة شديدو التزمت، فما رآه ابن خلكان مُجوناً قد لا يكون في حقيقة أمره أكثر من ميل إلى الفكاهة .

وربما لا يكون وصفُ ابنِ خلكان ابنَ يعيش بالمجون نابعاً من كون ابن خلكان قاضياً متزمتاً، فهذه الكلمة كانت تستخدم للتعبير عن الفكاهة والمزاح وحسب، وليس تعبيراً عن الخلاعة كما هو استعمالنا الحالي للكلمة، كما أن هذا التعبير لا يقتصر استعماله على ابن خلكان وحده، ويدلنا على ذلك الخبر الذي ورد عن ابن جني، الذي استخدم كلمة المجون بمعنى المزاح، وسياق الخبر يدل على ذلك، والكلمة على ما رآه د.نبهان فيها قدح بشخص ابن يعيش، إلا أن ابن خلكان لم يكن في معرض ذمه بل كان مادحاً له، فقد قال: " خفيف الروح ظريف الشمائل كثير المجون"، فكيف له أن يمدحه ويذمه في وقت واحد، وإن كان الكلام مدحاً فقط، فكيف يمدحه بالمجون وهو القاضي المتزمت؟ فكلمة المجون في سياقها هذا تعني ما تعنيه الفكاهة فقط.

ومن أخباره أيضاً ما رواه ابن خلكان:

-" وكنا يوماً نقرأ عليه بالمدرسة الرُّواحية، فجاءه رجل من الأجناد وبيده مسطورٌ بدَيْن، وكان الشيخ له عادة بالشهادة في المكاتيب الشرعية، فقال له: يا مولانا اشهد عليّ في هذا المسطور، فأخذه الشيخ من يده وقرأ أوله: أقرَّت فاطمة..، فقال له الشيخ: أنت فاطمة؟ فقال له الجندي: لا يا مولانا، الساعةَ تحضر، وخرج إلى باب المدرسة، فأحضرها وهو يتبسم من كلام الشيخ.

- ويقرب من هذا أن شخصاً دخل عليه وعنده امرأة، فقال: أيُّكما الشعبي؟ فقال له هذه".

- وكنا يوماً نقرأ عليه في داره، فعطش بعض الحاضرين وطلب من الغلام ماء فأحضره له، فلما شرب قال: ما هذا إلا ماء بارد، فقال له الشيخ: لو كان خبزاً حاراً كان أحب إليك.

- وكنا يوماً عنده بالمدرسة الرواحية، فجاء المؤذن وأذن قبل العصر بساعة جيدة، فقال له الحاضرون: أيش هذا يا شيخ وأين وقت العصر فقال الشيخ موفق الدين: دعوه عسى أن يكون له شغل فهو مستعجل.

- وكان يوماً عند القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب، فجرى ذكر زرقاء اليمامة، وأنها كانت ترى الشيء من المسافة البعيدة، حتى قيل تراه من مسيرة ثلاثة أيام، فجعل الحاضرون يقولون ما علموه من ذلك، فقال الشيخ موفق الدين: أنا أرى الشيء من مسافة شهرين، فتعجب الكل من قوله وما أمكنهم أن يقولوا شيئاً، فقال له القاضي: كيف هذا يا موفق الدين؟ فقال: لأني أرى الهلال، فقال له: كان قلت مسافة كذا كذا سنة، قال: لو قلت هذا عرف الجماعة الحاضرون غرضي، وكان قصدي الإبهام عليهم. وله نوادر كثيرة يطول ذكرها".

علمه

كان ابن يعيش طَلَابة للعلم –كما تروى لنا الأخبار- وكان يناطح شيوخه في حلِّ العويصِ من المشكلات، فقد " رحل من حلب في صدر عمره قاصداً بغداد ليدرك أبا البركات عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن الأنباري، فلما وصل إلى الموصل بلغه خبر وفاته، وقد ذكرت تاريخ موته في ترجمته، فأقام بالموصل مُدَيْدَة وسمع الحديث بها، ثم رجع إلى حلب، ولما عزم على التصدُّرِ للإقراء سافر إلى دمشق، واجتمع بالشَّيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي الإمام المشهور، وسأله عن مواضع مشكلة في العربية، وعن إعراب ما ذكره أبو محمد الحريري في المقامة العاشرة المعروفة بالرحيبة، وهو قوله في أواخرها:

حتى إذا لألأ الأفق ذنب السـرحاوآن انبلاج الفــــجرِ وحـانْ


فاستَبْهم جوابُ هذا المكان على الكندي: هل الأفق وذنب السرحان مرفوعان أو منصوبان، أو الأفق مرفوع وذنب السرحان منصوب، أو على العكس وقال له: قد علمت قصدك، وأنك أردت إعلامي بمكانتك من هذا العلم، وكتب له خطه بمدحه والثناء عليه، ووصف تقدمه في الفن الأدبي، وكان فاضلاً ماهراً في النحو والتصريف" .

شيوخه

سمع من القاضي أبي سعد بن أبي عصرون، وأبي الحسن أحمد بن محمد ابن الطرسوسي، ويحيى الثقفي، وسمع الحديث بالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي، وعلى أبي محمد بن عبد الله بن عمر بن سويدة التكريتي، وبحلب من أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي والقاضي أبي الحسن أحمد بن محمد بن الطرسوسي وخالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني، وبدمشق على تاج الدين الكندي. وأخذ النحو عن أبي السخاء الحلبي، وأبي العباس المغربي، وجالس الكندي بدمشق .

تلامذته

روى عنه الصاحب ابن العديم، وابنه مجد الدين، وابن هامل، وأبو العباس ابن الظاهري، وعبد الملك بن العنيقة، وأبو بكر أحمد بن محمد الدشتي، وإسحاق النحاس وأخوه بهاء الدين، وسنقر القضائي، وآخرون .

كما أخذ عنه ابن خلكان صاحب وفيات الأعيان، الذي يقول: " ولما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف، وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهل ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة، وهي إذ ذاك أم البلاد مشحونة بالعلماء والمشتغلين، وكان الشيخ موفق الدين المذكور شيخ الجماعة في الأدب، لم يكن فيهم مثله، فشرعت في القراءة عليه، وكان يقرئ بجامعها في المقصورة الشمالية بعد العصر، وبين الصلاتين بالمدرسة الرواحية، وكان عنده جماعة قد تنبهوا وتميزوا به، وهم ملازمون مجلسه لا يفارقونه في وقت الإقراء وابتدأت بكتاب "اللمع" لابن جني، فقرأت عليه معظمها مع سماعي لدروس الجماعة الحاضرين، وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين، وما أتممتها إلا على غيره لعذر اقتضى ذلك" . وأخذ عنه ياقوت الحموي (226هـ)، والقفطي(646هـ)، وابن عمرون (649هـ)، وابن العديم (660هـ)، وابن مالك الأندلسي (672هـ) .

كتبه

يرى كثير من الباحثين أن ابن يعيش قد اقتصر على تأليف كتابين فقط في حياته المَدِيْدَةِ، هما شرح المفصل، وشرح التصريف الملوكي، لكننا نستشفُّ مما ورد من أخباره في الكتب أنَّ ابن يعيش كان عالماً نحريراً، فلا بد أنه أودع علمه كتباً من تأليفه، كما أن العصر الذي وجِد فيه كان عصر ازدهار التأليف، لاسيما أنه كان معاصراً لعلماء من طبقته أُثر عنهم غير قليل من المؤلفات النحوية، فقد كان معاصراً ل ابن الحاجب(646هـ) صاحب الكافية في النحو والشافية في الصرف، كما أن كان معاصراً للزنجاني(ت بعد سنة 655هـ) صاحب الهادي وشرحه، وعاصر ابن الأنباري (577هـ)، وغيرهم من الجهابذة في هذا العلم، فقد كان ثمة ما يشجعُه على الكتابة والتأليف، ومن الممكن أن يكون قد ألف الكتب والشروح، فلم يصلنا منها الكثير، كما هو حال كثير من كتب تراثنا العربي، ومما يدلنا على ذلك ما جاء في أحد ترجماته من أنه "صنف شرحاً للتصريف لابن جني، وشرحاً للمفصل، وغير ذلك".

غير أن ما وصلنا من كتبه كان مقتصراً على كتابين، وهما ليسا كتابين مؤلَّفين له بالمعنى الحقيقي للكلمة، وإنما كانا شرحين لكتب خَلَت، وربما كان عمله مدرساً سبب ولعه بالشرح، وهذان الكتابان هما:

1- شرح كتاب المفصل للزمخشري (538هـ).

2- شرح كتاب التصريف الملوكي لابن جني(392هـ).

يقول ابن خلكان: "وشرح الشيخ موفق الدين كتاب (المفصل) لأبي القاسمالزمخشري شرحاً مستوفًى، وليس في جملة الشروح مثله، وشرح (تصريف الملوكي) ل ابن جني شرحاً مليحاً، وانتفع به خلق كثير من أهل حلب وغيرها، حتى إن الرؤساء الذين كانوا بحلب ذلك الزمان كانوا تلامذته".

وفاته

كانت ولادته لثلاث خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة بحلب؛ وتوفي بها في سحر الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وعاش تسعين سنة ودفن من يومه بتربته بالمقام المنسوب إلى إبراهيم الخليل، صلوات الله عليه وسلامه، ورحمه الله تعالى.

المصادر والمراجع

1- الخصائص، صنعة الإمام أبي الفتح عثمان بن جني (392هـ)، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الرابعة، 1999.

2- سير أعلام النبلاء، للإمام شمس الدين الذهبي(748هـ)، تحقيق شعيب الأرناؤط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1982.

3- وفيات الأعيان لابن خلكان (681هـ)، تحقيق د.إحسان عباس، دار صادر بيروت.

4- ابن يعيش النحوي، د. عبد الإله نبهان، منشورات اتحاد كتاب العرب، 1997.