محمد محمود الإمام

محمد محمود الإمام

الدكتور محمد محمود الإمام (1924 - 11 فبراير 2016) عالم الاقتصاد الجليل ورجل التخطيط البارز، ووزير التخطيط الأسبق، وأحد مؤسسي معهد التخطيط القومي ومديره. وكان من المشاركين فى وضع الخطة الخمسية الأولى "1960-1965" فى وزارة علي صبري، وهى أنجح خطة للتنمية فى مصر وحققت نسبة نمو غير مسبوقة بشهادة المؤسسات الاقتصادية والنقدية الدولية في الستينيات.

ورغم ذلك تولى الدكتور الإمام حقيبة وزير التخطيط عام 1976 فى وزارة ممدوح سالم الثالثة، رغم آرائه الناصرية ضد الرئيس الراحل أنور السادات. الدكتور الإمام كان يرى أن السادات لم يحافظ على عهده بالحفاظ على مكتسبات ثورة يوليو، والسير فى طريق الاشتراكية والتنمية الشاملة، وأنه ارتد على تجربة عبد الناصر.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

أفكاره

اهتم الدكتور محمد محمود الإمام بقضية التخطيط والتنمية واستراتيجياتها بمفهومها الشامل، وكان يرى أنها الطريق إلى الإصلاح والنهوض والتقدم، ومن بين ما قاله فى هذا الصدد فى آخر مقالاته عن التنمية فى مصر فى المرحلة الحالية "أن الحديث عن التنمية للمرحلة التى نعيشها الآن يتجاوز القوالب المألوفة التى تدور حول مشروعات، صغرت أو كبرت، منفردة أو مدرجة فى برامج، كما أنه يتجاوز المعالجة القطاعية، بأبعادها الفنية والاقتصادية، كما أنه يتعدى الحوار حول دور الفرد والقطاع الخاص بمجمله، والدولة وقطاعيها العام والمشترك، والأهم من ذلك كله ألا نقع أسرى فى قبضة المعالجة الكمية وما تعنيه من متاهات معدلات النمو والاستثمار ومصادر التمويل، وأنواع الروافد الخارجية المتمثلة فى معونة تقدمها الدول الأغنى إلى الدول محدودة الموارد المالية، أو القروض التى ذاق العالم النامى الأمرين منها فى الربع الأخير من القرن الماضى، وما زال يرزح تحت أعبائها، أو الاستثمار الأجنبى المباشر الذى يحمل حقيبته على كتفه، لينتقى أعظم الفرص ربحية، فيمتص العائد الأوفر الذى تحتاجه الدول محدودة الموارد حاجة ماسة لاكتساب ما يعينها على التخلص من ضائقتها واكتساب حرية اختياراتها التنموية، بعيدة عن قبضة الترسانة العالمية التى تقودها الولايات المتحدة من خلال توافق واشنطن مع ربيبتها منظمة التجارة العالمية ومؤسسات بريتون وودز التى ترعى مصالح الأغنياء على حساب الفقراء من الدول ومن أبناء الدول.

كان الدكتور الإمام يؤمن بأن التنمية هى عماد حركة المنظومة الوطنية التى تشمل مختلف مناحى حياة المجتمع، ولابد من معالجة شاملة، ليس فقط لكل القطاعات والأنشطة، بل بتغطية جميع "الحيثيات" التى تؤمن سلامة القرارات المبنية عليها، إنها معالجة لا تقف عند "ماذا وكم" لتحدد كيف ومَن وأين ومع من فى العالم الخارجى، كما أن التمييز فيه لا يقتصر على الأجلين القصير والطويل، بل لابد من أن ينطلق من مرحلة إعادة بناء الدولة وشيكة الانهيار بكل نواحى الحياة فيها، استعدادا لرسم مسار تكون فيه قادرة على مواصلة التقدم بقوى ذاتية وطيدة وليس بالجرى وراء من يبدى استعدادا للعون لنجده يتحول إلى نهب، وقال فى آخر مقال له "الأمر مطروح لحوار وطنى، وسأحاول - إن كان فى العمر ما يسمح - أن أساهم فيه فى مقالات تالية".


كتاباته

صدر له العديد من المؤلفات الاقتصادية، ومنها كتاب "تجارب التكامل العالمية ومغزاها للتكامل العربى"، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية، ودعا فيه إلى بناء مشروعٍ لتطوير التكامل فى الوطن العربى مستمدٍّ من خلاصة التجارب الإقليمية المختلفة، ومن خصائص التجربة العربية.. وما آلت إليه. ظل الدكتور الإمام مواظبا على إلقاء المحاضرات الاقتصادية فى المنتديات والمؤتمرات المحلية والعربية والإقليمية، وكتابة المقالات الأسبوعية بالزميلة "الشروق" حتى أسبوعين ماضيين.


شهادة جودة عبد الخالق

جودة عبد الخالق
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

سيرة الفقيد الكريم تتحدث عنه، ولكن التنويه بها ضرورى لإنعاش ذاكرة الأجيال، فقد خدم الدكتور الإمام وطنه الأصغر مصر ووطنه العربي الأكبر بإخلاص وتفان ضاربًا فى ذلك أروع مثل وأحسن قدوة، عمل عضوًا فى لجنة التخطيط القومي ووكيلا للجهاز المركزى للمحاسبات وأستاذا بمعهد التخطيط القومى ومديرًا للمعهد، وشغل منصب وزير التخطيط فى مصر، وعمل مستشارًا للأمم المتحدة لشئون التخطيط فى العراق، كما قام بالتدريس فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومعهد الإحصاء بجامعة القاهرة، كان دائمًا مشاركًا فى الشأن العام، بدأ حياته وفديا قبل ثورة 1952، حينما كان حزب الوفد يمثل ضمير الأمة، ثم تحول إلى الناصرية بعد ثورة 1952، ولم يكن ذلك بدوافع انتهازية كما فعل بعض الأساتذة، فقد كان شديد الإيمان بالأهداف التى قامت من أجلها تلك الثورة، وظل مدافعًا عن الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية حتى رحيله.

بدأت علاقتى بالدكتور الإمام، منذ منتصف الستينيات من القرن الماضى بعد تعيينى معيدًا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عندما تم انتدابى لبعض الوقت باحثا بمركز بحوث العمليات فى معهد التخطيط القومى الذى كان وقتها فى حى الزمالك، ثم تصادف أن لائحة كلية الاقتصاد تم تغييرها بإضافة مادة الاقتصاد القياسى بدلا من مادة اقتصاديات التعاون وانتدبت الكلية الدكتور الإمام لتدريس هذه المادة، ولما كانت مادة مستحدثة وصعبة، إرتأت إدارة الكلية أن يقوم أحد المعيدين بمساعدة الدكتور الإمام فى هذا الشأن بلقاء الطلبة مرة أسبوعيا لشرح ما استشكل عليهم فيها، وتقدمت لهذه المهمة، بعد أن رفض جميع زملائى لأنه لم يسبق لنا دراسة تلك المادة طبقا للائحة القديمة، كانت مجازفة كبيرة من جانبي، لكنها أتاحت لى فرصة فريدة لمعرفة الدكتور الإمام عن قرب.

تمتع الراحل الكريم بالعديد من الصفات الطيبة، فهو “ابن بلد” بكل معنى الكلمة، وإنسان بالغ التواضع، ومفكر شديد الإيمان بالقومية العربية، ومدافع صلب عن الاستقلال الاقتصادى والتكامل العربي، وله كتابات رائدة فى هذه المجالات، وبقدر ما كان عالما من العيار الثقيل، كان رحمة الله عليه يتمتع بنزعة شديدة للفكاهة وقدرة هائلة على التعبير الساخر، دون أن يتخلى عن وقاره وهيبته المعهودة، وهذا توازن دقيق ومدهش بلا جدال، وكم من مرة ألقى نكتة أو تعبيرا ساخرا فى غمرة انهماكه فى كتابة معادلات الاقتصاد القياسى بالطباشير الأبيض على السبورة السوداء فى قاعة الدرس بكلية الاقتصاد “هذا كل ما تيسر من وسائل الإيضاح وقتها”، كنت أشفق على الطلاب وهم يغالبون الضحك بصعوبة كبيرة للغاية، لأن الإمام كان يمضى فى الشرح بكل جدية وكأنه لم يقل شيئًا يستدعى الضحك!

كم هى فادحة خسارة مصر والوطن العربى والعالم الثالث واليسار برحيل الإمام، لكن خسارتى الشخصية بهذه المناسبة أكثر فداحة، كنت أناديه: أستاذى العزيز، فيرد: تلميذى النجيب، كان بالنسبة لى شخصيا هو الإمام مبنى ومعني، وليس فقط إسمًا ورسما، ولم تفارقه أبدًا روح الدعابة والمرح والسخرية، حتى وهو يعانى تحت وطأة المرض فى سنواته الأخيرة، أتصل به معتذرا له عن قلة السؤال قائلا: “سامحنى أنا مقصر”، فيرد على الفور بصوته الواهن “وأنا مكسر”! فيا لها من قوة داخلية كان يتمتع بها الإمام، وسأظل أتذكر موقفه الوطنى الصلب بعد هزيمة يونيو 1967 حين خاطب الجميع محذرًا من التسليم بنتيجة المعركة وموضحًا أبعاد الحرب ضد إسرائيل والاستعمار، وقتها كتب مذكرة برقم 806 فى سلسلة مذكرات معهد التخطيط عنوانها “اقتصاديات التعبئة والحرب”، هى مزيج رائع من التحليل العلمى والالتزام الوطني.

أستاذى العزيز، لا أقول وداعًا بل إلى اللقاء.

حكمة اليوم: وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر.

الهامش