محسن عبد الخالق

لكل ثورة رجالها الذين حملوا أرواحهم ورقابهم علي أكفهم من أجل تحقيق هدف سام وغاية نبيلة تضمن للشعوب الحرية والكرامة والاستقلال ولكن عندما لا تتحقق الاهداف النبيلة سرعان ما ينقلبون هم أنفسهم عليها.. وتعتبر ثورة يوليو أول حركة عسكرية قام بها شباب من الضباط الأحرار تراوحت أعمارهم بين 27 و34 عاماً، باستثناء اللواء محمد نجيب، وإذا كانت هذه ميزة تميزت بها، فإن الضباط الأحرار لم يستطيعوا أن يطرحوا رؤية متكاملة للنظام السياسي لمرحلة ما بعد الثورة، فقد صدرت عدة بيانات تتحدث عن فساد النظام وتأثيره علي الجيش، وقيام مجموعة من الضباط بتطهير الجيش من الفاسدين، حتي عزل الملك لم يعلن إلا بعد ثلاثة أيام.. والنص الوحيد المتعلق بالنظام السياسي ورد فيه ما يعرف بـ«المبادئ الستة»، والذي ينص علي "إقامة حياة ديمقراطية سليمة" والذي لم يتحقق، فكانت أولي سلبيات الثورة غياب الديمقراطية، حيث ركزت الثورة علي قضية الوطنية ولم ترس أسس الديمقراطية لأنه كلما تعمقت الديمقراطية التفت الجماهير حول قياداتها، فالديمقراطية لا تتعارض مع الأمن، ومن الممكن أن يكون هناك نظام ديمقراطي وفي ذات الوقت يوجد جهاز أمن قوي، ولكن الثورة لم تستغل ذلك.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ليلة الصدام ونقطة التحول

يؤكد هذا ما حدث يوم الخميس 15 يناير عام 1953، والذي كان نقطة تحول في تاريخ الجيش المصري، حيث كان اعتقال ضباط المدفعية، أول صدام مباشر بين ضباط الجيش المصري، إذ دخل 35 ضابطاً -برتبهم وملابسهم العسكرية- سجن الأجانب في أول سابقة في تاريخ الجيش المصري وتحت القيادة المصرية، إذ كانت القوانين تنص علي حجز الضباط حجزاً شديداً، (تحت حراسة مشددة في «ميس» إحدي الوحدات وليس في غرفة السجن حتي تنتهي المحاكمة)، ومن هنا تأتي أهمية قضية انقلاب ضباط المدفعية علي مجلس قيادة الثورة التي لم يشر إليها الكثيرون، والتي نتج عنها صدور قرار بحل الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها باستثناء جماعة الإخوان المسلمين، والإعلان عن فترة انتقالية تمتد لثلاث سنوات، وأيضا أعيد تشكيل مجلس قيادة الثورة وعادت الرقابة علي الصحف، فاعتقال ضباط المدفعية فجر كل سلبيات الثورة من اختلافات وانقسامات بين الضباط الأحرار.

فبعد نجاح الثورة استولي ضباط القيادة علي السلطة وانفردوا بها وحاولوا المستحيل لإبعاد زملائهم في تنظيم «الضباط الأحرار» عنها، الأمر الذي أثار غضب الآخرين، خاصة الذين لعبوا أدوار أهم ليلة الثورة من الأدوار التي لعبها أغلب ضباط القيادة، ومن ثم كانوا يرون أن لهم الحق في معرفة ما يدور داخل القيادة من أمور، فلما استشعرت القيادة خطورة الموقف سمح جمال عبدالناصر بعقد مؤتمر أسبوعي مع ممثلي الأسلحة من الضباط الأحرار، فكان يناقشهم من خلال تلك المؤتمرات في السياسة العامة للثورة والمشكلات التي تواجهها، وقد استمرت تلك المؤتمرات فترة طويلة إلي أن تباعدت ثم ألغيت بعد ذلك بحكم مسئوليات عبدالناصر، فكانت تلك المؤتمرات تأخذ الجانب الأكبر من الجوانب الاجتماعية والنقدية من الضباط الأحرار علي تصرفات مجلس قيادة الثورة بعد أن أصبحت المشكلات الناتجة عن تسيير الأمور محل نقاش بينهم داخل التشكيلات المختلفة وذلك بحكم شعورهم بما لهم من حقوق علي مجلس قيادة الثورة.

ثم بدأت بعد ذلك حركة الضباط الأحرار تنشط في سلاح المدفعية من خلال انتقاداتهم لأعضاء مجلس قيادة الثورة وتسأل من اختار ضباطه، وكانوا يعربون عن رفضهم أن يمثلهم في مجلس قيادة الثورة عبدالمنعم أمين وكمال الدين حسين، و انتقدوا ذلك بشدة، و طالبوا بأن ينتخب كل سلاح ممثليه في مجلس القيادة. واستمرت اجتماعات الضباط الأحرار في السلاح تناقش مواقف القيادة وطبعوا منشورات تطالب بتكوين قيادة جديدة منتخبة وتشكيل وزارة مدنية وعودة الأحزاب. وكان علي رأس تلك الحركة اليوزباشي محسن عبدالخالق واليوزباشي فتح الله رفعت، واللذان كان يطلق عليهما عبدالحكيم عامر (توأم الحركة). فمحسن عبدالخالق أحد قادة سلاح المدفعية في ثورة يوليو وأحد مؤسسي حركة الضباط الأحرار عام 1949 والذي حصل علي نجمة فؤاد لشجاعته في حرب فلسطين وأحد نجوم ثورة يوليو والذي كان مسئولاً عن مجموعة إزالة المعوقات التي تعترض الطريق إلي مقر القيادة في كوبري القبة ليلة الثورة، أما فتح الله رفعت فهو أحد الضباط القلائل الذين صنعوا الثورة والذي شارك في قيادة القوات التي تولت مهمة طرد الملك فاروق من مصر يوم 26 يوليو 1952، إلي جانب مشاركته في حرب فلسطين عام 1948.


ثورة تصحيح وانقلاب

كان الهدف الرئيسي من انقلاب ضباط المدفعية أو (حركة المدفعية) -كما يطلق عليها ضباط المدفعية- تصحيح مسار الثورة بعودة الديمقراطية بعد أن طغت الديكتاتورية علي مجلس قيادة الثورة، فأرادوا أن يضعوا حدا لوقف الزحف إلي الديكتاتورية، وكان هذا سر اعتراض مجلس قيادة الثورة علي تصرفات المدفعية، فقد كانت كل مطالبهم هي الديمقراطية خاصة بعد خروج الإنجليز من مصر وهي حكم الشعب للشعب، وليست ديمقراطية محصورة في إطار الضباط الأحرار، وعلي جانب آخر كانوا لا يريدون السلطة، فقد واجهوا ضباط القيادة بكل صغيرة وكبيرة وقعوا فيها، ولشجاعة محسن عبدالخالق وحماسه استطاع أن يجمع ضباط المدفعية من حوله وأن ينقل كل انتقاداتهم إلي عبدالناصر وغيره من ضباط القيادة من خلال الاجتماعات والمناقشات التي دارت بينهم والتي تبلورت في شكل مشروع صاغه عبدالخالق وناقشه معه 34 ضابطًا من المدفعية أبرزهم حمزة أدهم وفتح الله رفعت وأحمد كامل وعبدالستار أمين، وبناءً علي ذلك تقدم محسن عبدالخالق بمشروع إلي جمال عبدالناصر والذي كان بناءً علي طلبه بوضع مشروع باقتراحات لتنظيم حملة القيادة والسيطرة علي الحكم والعلاقات بين الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة وأسلوب مساءلتهم حيث كانت الديمقراطية هي أهم المواضيع التي جاءت في هذا المشروع، فكان نص المشروع -كما قال عبدالخالق- هو أن هدفنا عودة الديمقراطية وقد قدرنا لهذا بضعة أشهر أو عاماً علي الأكثر فيكون نظام الحكم في مصر ديمقراطيًا إلي أقصي درجة وفق الظروف القائمة، والأهم ألا يسمح النظام بقيام الديكتاتورية أو ترسيخها، ولهذا كان هدف المشروع ومضمونه مقتصرين علي فترة الحكم الانتقالي، أما الديمقراطية نفسها فمعروفة الأركان، ولذلك ركزت نقاط المشروع علي تأكيد الديمقراطية كنظام للحكم، الإعلان عن عودة دستور 1923 وتشكيل لجنة لتعديل الدستور بما يتناسب مع الواقع السياسي، وأن يترك لأساتذة الفقه الدستوري اختيار لجنة الدستور، وإعادة تشكيل مجلس قيادة الثورة علي أن يكون عدد الأعضاء خمسة أو سبعة علي الأكثر، ويقتصر تشكيل المجلس علي أعضاء مجلس القيادة، وأن يكون مجلس الثورة هو السلطة العليا في الدولة كما يقوم مقام مجلس الوصاية، ويتم تشكيل لجنة تسمي (اللجنة الوطنية) تقوم مقام البرلمان في فترة الانتقال ويتم اختيار أعضاء اللجنة إما بالانتخاب أو بالاختيار أو بالاثنين معًا، ويتراوح عدد أعضائها من 30 إلي50 عضوًا وتكون عضويتها مبدئيًا من: أعضاء مجلس الثورة الحالي الذين لم يشملهم تشكيل المجلس الجديد (7-9 أعضاء) وعدد مماثل منتخب من بين الضباط الأحرار وعدد مماثل لعدد من العسكريين من رجال الدولة الذين لا خلاف علي نزاهتهم ووطنيتهم.

فدور اللجنة الوطنية هنا ليس حرية المناقشة والموافقة علي التشريعات التي يقترحها المجلس فقط بل دورها أيضًا إيقاف الاتجاهات الديكتاتورية والمحافظة علي جوهر الديمقراطية، أما السلطة التنفيذية فتتولاها وزارة يعينها مجلس الثورة والذي له حق التكليف وقبول الاستقالة أو الإقالة، تنشأ سكرتارية لمجلس الثورة يتولاها سكرتير عام لتولي سكرتارية المجلس، ومن وظائف السكرتارية -بجانب هذا العمل- القيام بالتنسيق بين المجلس ومجلس الوزراء وبين المجلس والجمعية الوطنية. وعلي الرغم من موافقة عبدالناصر علي المشروع في بداية الأمر فإنه تراجع عنه بعد الزوبعة التي حدثت داخل مجلس قيادة الثورة برفض المشروع، فبدأ غضب ضباط المدفعية ينتقل من مرحلة التفاهم الودي إلي مرحلة التفاهم بالقوة، فكان ذلك من أهم أسباب (حركة المدفعية).


الصحفي الكبير وسر الضباط التسعة

ومن ضمن الأسباب المهمة التي أدت لانقلاب المدفعية مقال مصطفي أمين في جريدة الأخبار الذي نشر في 14 أكتوبر 1952 بعنوان (سر الضباط التسعة) والذي زاد من سخط وغضب الضباط الأحرار خاصة الذين كان لهم دور أهم بكثير من ضباط القيادة، فقد حرك المقال نار الفتنة بين الضباط الأحرار وضباط القيادة، لأن نشر هذا المقال ما هو إلا نقض ضباط القيادة للعهد الذي قطعوه علي أنفسهم هم وبقية الضباط الأحرار بالبعد عن الدعاية الشخصية وألا ينشروا صورهم ولا يكتب عنهم في الصحافة، مما اضطر جمال عبدالناصر إلي إنكار صلته بذلك المقال، بل طلب التحقيق مع مصطفي أمين لنشره ذلك المقال، الذي أشار فيه إلي أن عبدالناصر هو القائد الفعلي للثورة وأن الذين ساعدوه في ذلك هم بقية ضباط القيادة جمال سالم وأنور السادات وعبدالحكيم عامر وعبداللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وصلاح سالم وكمال الدين حسين وخالد محيي الدين، وكان من ضمن الأسباب التي أدت إلي هذا الانقلاب تخلص ضباط القيادة من رشاد مهنا بإقالته في 14 أكتوبر 1952 من منصبه كوصي علي العرش، فقد أثارت إقالته ضباط المدفعية واعتبروها إهانة لهم لأنه كان بمثابة الأب الروحي لهم، فبعد الثورة عين القائم مقام مهنا وصيًا علي العرش ونتيجة خوف ضباط القيادة منه لم يسمحوا له بأن يتولي أي منصب تنفيذي، فكان كل همهم هو كيفية التخلص منه، فسرعان ما أعلنوا إقالته من منصبه واتهموه بأنه يتصرف كما لو كان ملكا، وأنه يحرض ضباط المدفعية علي الانقلاب ضد مجلس قيادة الثورة، بل ادعوا أنه كان يريد إحياء الخلافة العباسية، وأنه لم يكن له دور في الثورة، فاعتقلوه في سجن الأجانب ضمن مجموعة انقلاب المدفعية، وبعد الإفراج عنه اختفي تمامًا من الحياة العامة، وقد اعتبر ضباط المدفعية التخلص من رشاد مهنا الخطوة الأولي في مشوار التخلص من كل العناصر القوية والمنافسة لضباط القيادة، وعلي جانب آخر أسهم رشاد مهنا في زيادة غضب ضباط المدفعية علي ضباط القيادة بأن اتهم ضباط القيادة بأنهم ألغوا كلمة الإسلام من الدستور ومحوا عبارة «أنه دين الدولة الرسمي».

ومن الأسباب التي أدت إلي إثارة غضب ضباط المدفعية أيضًا ممارسات بعض ضباط القيادة السيئة، وحاولوا استغلال الثورة لتحقيق مكاسبهم المادية والشخصية حتي إن ضباط المدفعية قالوا لقد طردنا فاروق وجئنا بأربعة عشر فاروق آخر، وظهرت تلك الحقيقة في تكالب بعض ضباط القيادة علي القصور والتحف الملكية، ومن ناحية أخري ميل بعضهم إلي الديكتاتورية وأنهم لن يترددوا في البطش بكل من يقف أمامهم، الأمر الذي استفز ضباط المدفعية فتقدموا بمشروع جريء يطالبون فيه بعودة الديمقراطية بالسلم أو بالسلاح.


المدفعية والقوي السياسية

وحتي تتحقق الديمقراطية قام ضباط المدفعية بالاتصال بكل القوي السياسية وبجماعة الإخوان المسلمين، فقام محسن عبدالخالق بالاتصال بقيادات حزب الوفد أمثال محمد صلاح الدين وعبدالفتاح حسن وأحمد أبوالفتح لتولي مناصب في مجلس وزراء الحكومة المقترحة لكنهم كانوا غير مقتنعين بفكرة محسن عبدالخالق ورفضوا الخروج عن حزبهم، أما جماعة الإخوان المسلمين فقد دارت محادثات بين المرشد حسن الهضيبي وكل من محسن عبدالخالق وفتح الله رفعت، ولكن فشلت تلك المحادثات بسبب إصرار الإخوان علي إلغاء الأحزاب وان يكون تنظيمهم هو حزب الثورة، وزاد المرشد بأن أصدر أوامره لجميع أتباعه بأن يقفوا موقفًا سلبيًا من حركة الجيش و لا يؤيدوا أو يعارضوا أي طرف منهم. وفي الواقع فقد ظل ضباط المدفعية غير متأكدين من أهدافهم العامة ومنقسمين حول تكتيكات التحرك، فتركزت خطة المدفعية من خلال الاجتماعات التي تحولت إلي خلايا سرية في انتهاز الفرصة التي يوجد فيها كل أعضاء القيادة في مكان واحد ليحاصروا المكان ويلقوا القبض عليهم ويعتقلوهم، ويرغموا محمد نجيب علي إعلان بيان يؤكد فيه تغيير الوزارة وعودة الجيش إلي الثكنات والأخذ بمشروع الحكم الذي دشنه جمال عبدالناصر، ولكن لم تنفذ الخطة بسبب انقسام ضباط المدفعية والاختلاف حول استخدام العنف أو الاستمرار في الضغط بالوسائل السلمية المشروعة وعاود بعضهم الاتصال بضباط القيادة من جديد.


تكتيك جس النبض

علي الجانب الآخر حاول ضباط المدفعية جس نبض قوتهم من خلال انتخابات نادي الضباط في يناير 1953، فدفعوا بمرشحين هما اليوزباشي مصطفي توفيق واليوزباشي إبراهيم عاطف ضد مرشحي القيادة عبدالمجيد فريد وأحمد زكي، وكسب ضباط المدفعية الجولة وخسر ضباط القيادة ليثبت ضباط المدفعية أن لهم الشرعية في الاختيار وفي البرامج، وأن الضباط الذين انتخبوا مرشحيهما هم أيضًا الذين رفضوا القيادة ويعملون ضدها، مما أثار غضب ضباط القيادة، ليصدر في 15 يناير1953 قرارا بإلقاء القبض علي 35 ضابطًا بتهمة التآمر علي قلب نظام الحكم، وهم: علي شريف، أحمد كامل، حمزة أدهم، مصطفي توفيق، إبراهيم عاطف، مصطفي راغب، علي فوزي يونس، إبراهيم حسان، يحيي فهمي، عاطف سعد، نصر الدين رياض، السيد علي إبراهيم وعوض مختار هلودة، ومن الأسماء التي جاءت في التحقيقات سامي شرف -سكرتير الرئيس عبدالناصر فيما بعد- ومحمد فوزي -وزير الحربية فيما بعد- وعيسي سراج الدين، سعد عفرة، و قام كل من زكريا محيي الدين وكمال الدين حسين وعبداللطيف البغدادي بالتحقيق مع ضباط المدفعية. وبعد عملية القبض علي قيادات المدفعية واجهت القيادة العسكرية تحديا أكبر لسلطتهم، فعندما أذيع خبر القبض علي ضباط المدفعية قام 500 ضابط من سلاح المدفعية بالاعتصام في صالة الطعام، ورفضوا أن ينفضوا إلا بعد أن يتدخل جمال عبدالناصر شخصياً ويعدهم بالبحث والاستقصاء، لكن ذلك الوعد لم يتم الوفاء به علي الإطلاق، وتلا ذلك تحديدًا في 17 يناير قيام النظام بالقبض علي العقيد حسني الدمنهوري أحد الضباط الأحرار وقائد وحدات المدرعات في الصحراء الغريبة الذي رفض اعتقال ضباط المدفعية، واتهم بتحريض سلاح المدرعات علي التمرد وحكم عليه بالإعدام في جلسة خاصة أعدها مجلس قيادة الثورة. ومخافة أن تزداد حالة الغضب داخل الجيش أجل جمال عبدالناصر حكم الإعدام ثم خفف إلي حبس مدي الحياة حتي ظل بالسجن إلي عام 1958و تم الإفراج عنه، أما ضباط المدفعية فقد تراوحت الأحكام العسكرية مابين عام و25 عاماً وكان محسن عبدالخالق قد حكم عليه في البداية بالإعدام ولكن رفض عبدالناصر التصديق علي الحكم فخفف إلي 25 عامًا.

وقد تعرض ضباط المدفعية للتعذيب والتنكيل في السجن مثل فتح الله رفعت الذي تعرض لنزيف في المعدة، أما محسن عبدالخالق فقد طلب من زكريا محيي الدين قلماً وورقة كتب فيها أنه هو المسئول الأول والأخير عن تلك الحركة وطالب بألا يحاكم هؤلاء الضباط، ولكن زكريا كان مصرًا علي المحاكمة وأيضا علي أنها مؤامرة ضد الثورة، وكان من الممكن أن يظل محسن عبدالخالق حبيسا طيلة فترة عقوبته لولا تمرد سلاح الفرسان في 1954علي ضباط القيادة، فذهب إليه عبدالحكيم عامر في محبسه وطلب منه أن يخرج معه ويرتدي ملابسه العسكرية ليشترك مع القوات في تطويق وحصار تمرد الفرسان وإنقاذ الثورة من انقلاب جديد، لكن محسن عبدالخالق رفض الخروج إلا بعد أن يخرج كل ضباط المدفعية المعتقلين، وتمت تلبية مطلبه، وارتدي محسن عبدالخالق بدلته العسكرية حتي نجح مع زملائه في القضاء علي تمرد سلاح الفرسان سلميا.


عامر يستعين بعبدالخالق

وكانت المرة الأولي في التاريخ التي يخرج فيها ضابط متهم بقلب نظام الحكم من السجن ليقضي علي مؤامرة أخري لقلب نظام الحكم أيضا، وبعد خروجه من السجن لم يستمر عبدالخالق طويلًا داخل الجيش حيث عين مديرًا لدار التحرير للطباعة والنشر، أما فتح الله رفعت فبعد الإفراج عنه عمل في دار التحرير للطباعة والنشر ثم مديرًا لمكتب سيد مرعي في بنك التسليف الزراعي ثم رئيسًا للبنك.

والسؤال المطروح الآن: هل كانت الحركة انقلابًا علي مجلس قيادة الثورة أم كانت حركة سلمية هدفها تصحيح مسار الثورة وعودة الديمقراطية؟ فمن وجهة نظر ضباط القيادة هي انقلاب لقلب نظام الحكم، أما من وجهة نظر ضباط المدفعية فإنهم رفضوا الاعتراف بها علي أنها انقلاب بل حركة كان هدفها الحوار والإصلاح وذلك من خلال قائدهم محسن عبدالخالق الذي قال «لو أردنا انقلابًا لفعلنا لأن القوة كانت في أيدينا وكانت بعض وحدات المدفعية طوارئ ومسيطرة علي البلد يوم القبض علينا وكان من الممكن أن نثير باقي الضباط أو علي الأقل لو أحسسنا بأنهم سيقبضون علينا ولكنا أقمنا في السلاح، وساعتها لن يستطيع ضباط القيادة الاقتراب منا.

وفي كل الاحوال فإن التاريخ يشهد للطرفين بصفحات من الوطنية والتضحية حتي في أحلك الظروف فلا ينسي التاريخ لمحسن عبدالخالق انه القائد الوحيد الذي رفض الاستسلام في حرب النكسة بل استطاع أسر عدد من الجنود الاسرائيليين وعند تسليمهم بعد وقف اطلاق النار وجه له قادة اسرائيل وعلي رأسهم موشيه ديان التحية العسكرية.. وعندما تحصل علي التحية العسكرية من العدو في عالم الجنرالات فأنت حتما تتحدث عن شخصية فريدة من نوعها في كل شيء.


المصادر

انظر أيضا


وصلات خارجية