كل شيء هادئ على الجبهة الغربية

كل شيء هادئ على الجبهة الغربية
Remarque Im Westen nichts Neues 1929.jpg
غلاف الطبعة الأولى
المؤلفإريش ماريا رمارك
العنوان الأصليIm Westen nichts Neues
المترجمأ. و. وين
البلدألمانيا
اللغةالألمانية
الصنفرواية حرب
الناشرپروپلوين ڤرلاگ
تاريخ النشر
29 يناير 1929
نـُشـِر بالعربية
ليتل، براون وشركاه، 1929
نوع الوسائطPrint (غلاف مقوى)
الصفحات295
OCLC295972

كل شيء هادئ على الجبهة الغربية (ألمانية: Im Westen nichts Neues، إنگليزية: All Quiet on the Western Front)، هي رواية كتبها إريش ماريا رمارك، الذي قاتل في الحرب العالمية الأولى. وتصف الرواية الضغوط البدنية والعقلية الفادحة التي تعرض لها الجنود الألمان أثناء الحرب، والانفصال عن الحياة المدنية كما يشعر به العديد من أولئك الجنود لدى عودتهم من الجبهة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خلفية

كانت الحرب العالمية الأولى آخر الحروب التى تتلاحم فيها الجيوش تلاحماً فعلياً بل كان الجندى ينظر في عين الجندى الآخر قبل أن يزهق روحه. فالدبابات لم تكن قد دخلت الخدمة بعد والطائرات لم تكن كذلك تستعمل إلا على نطاق ضيق للغاية وبالتالى بقى المشاة هم عماد القتال. وحروب أوروپا كانت تقوم على اساس الرغبة في إحتلال الارض والتمركز فيها فكان الجنود من الطرفين يتخندقون متقابلين ثم عندما تصدر الأوامر من الضباط المرافقين للجنود بالقتال والهجوم كانوا يغادرون الخندق صائحين ويهجمون على الخندق المقابل وقد ينجح الخندق المقابل في حصدهم بالمدفعية قبل أن يصلوا إليه أو لا ينجح وفى هذه الحالة يتم القتال بالسونكى إلى أن يتم تطهير الخندق من كل الجنود المعادين وتكون التكلفة خمسة أو عشرة آلاف جندى في الهجمة الواحدة وذلك في سبيل تحقيق 100 متر من الأرض كانت تفصل بين الخندقين. وفي اليوم التالي يعود المهزومون لكي يستردوا ما فقدوه بنفس الطريقة. ولذلك كان ضحايا الأمراض النفسية والعاهات من الجنود المحاربين في تلك الحرب أعلى من ضحايا الحرب العالمية الثانية لأن القتال كان تلاحمياً كحروب القرن التاسع عشر.


عن الرواية

"كل شيء هادي في الميدان الغربي"، عنوان الترجمة العربية للرواية، دار الهلال، نوفمبر 1981. لقراءة الرواية، اضغط على الصورة.

جد رمارك كان بحّاراً يحب المغامرة. خدم في قوة الحماية Schutztruppe بأفريقيا.. وطاف العالم كله. ثم استقر بمهنته كمشرف في معمل للورق. ولم يصبح رجلاً غنياً قط. الأم كانت دائماً تشكو المرض. وقد فارقت الحياة وهي لا تتجاوز الثانية والأربعين، أبان الحرب عندما كان ريمارك سجيناً. كانت دائماً تفكر بأبنائها، وتريد لهم الأمان، ريمارك الصبي الأشقر الجميل كان عليه أن يختار مهنة أفضل، معلم مثلاً، مهنة تعني الضمان والأمان لكل حياته، وتعني أيضاً الحصول على التقاعد مستقبلاً.[1]

دخل ريمارك المدرسة الكاثوليكية التي تؤهله لتعلم مهنة التدريس. وهناك تعلم العزف على الأرغن. شهادته كانت تحمل درجات جيدة جداً. درس مهنة التعليم لمدة سنة ونصف السنة، وبعدها اندلعت الحرب. وعندما أنها ريمارك دراسته تطوّع في الجيش وأُرسل إلى الجهبة الغربية، وجرح مرتين، وانتهت الحرب. إلا بالنسبة لريمارك، حتى المقربين منه لم يعرفوا مدى تأثير تجرب الحرب على نفسيته، وحتى بعد مرور سنوات عديدة على انتهائها، لم يستطع ريمارك أن يُفكر بشيء سوى بالحرب فقط إنها الفكرة الوحيدة التي تسلطت عليه. وعاد إلى مدينته اوسنابروك وعمل كمدرّس في إحدى القرى المجاورة. لكنه ما كان سعيداً أبداً، مهنته لم تكن تثير اهتمامه إطلاقاً، عزلة القرية أصابته بالكآبة، فقرر ترك وظيفته، ليعمل في مستشفى الأمراض العقلية كعازف على الأرغن. أما المحطة التالية فكانت في مكتب صديقه، الذي يبيع رخام القبور، وتماثيل تذكارية لجنود الحرب، مهنة جافة لكنها لا تخلو من الإثارة.

أثناء عمله هذا، بدأ يرسل بعض كتاباته إلى الصحف والمجلات، لكنها لم تكن ذات تأثير كبير على ميزانيته، ألمانيا مازالت تسبح في أزمتها، إذا بعث بمخطوطتين إلى مجلة ما، يأخذون واحدة ويرجعون الثانية إليه، وإذا أراد إرسالها لمجلة أخرى، فإن مصاريف البريد تكلفه أكثر مما يقبضه من أجر على المخطوطة الواحدة. في القرية كان يشعر بالملل المميت في أوسنابروك كذلك، فسافر إلى مدينة بالقرب من هانوڤر وهناك يعثر على عمل في إحدى شركات الكاوتشوك. ويعمل في جريدة إشو كونتينتال التابعة للشركة ذاتها.

والآن ما عليه سوى أن يكتب ويحرر، وقد تعلق بمهنته هذه، التي أعجبته، وهو مقتنع تماماً بأنه قادر على الكتابة. لكنه لا يكتفي بالكتابة لهذه الجريدة فقط، فيسافر إلى برلين. وهناك حالفه الحظ وعمل كمحرر في جريدة الرياضة المصورة وبقي فيها. ومع أن مهنة الصحافة لا تُغني المرء، لكنها لكنها تضمن له حياته بالشكل الذي طالما تمنته والدته له. وهو كان منذ طفولته الفقيرة يتمنى الحياة الآمنة المضمونة، ولكنه هنا في مدينة برلين الكبيرة بات يشتاق لخيالات الشباب وأحلامه، وفترة المراهقة.. فيكتب أثناء ليالي الأرق والتدخين:

حتى لو أعطينا إياها ثانية، هذه الطبيعة الخلاّبة لشبابنا، فلن نعرف ما نصنع بها. القوة الرقيقة والغامضة التي اجتاحتنا. ليس بإمكانها الآن الاحتمال والصمود. سنكون بها وداخل محورها. سنذكرها ونحبها ونصاب بالانفعال عند رؤيتها. لكن هذا سيكون أشبه بمنظر الحزن والتمعن الذي ينتابنا عند رؤيتنا صورة لرفيق توفي. ها هي تقاطيعه وها هو وجهه. والأيام التي أمضيناها سوية. تكتسب لون الخداع والغش في ذاكرتنا.

هذا ما يكتبه ريمارك، أو بالأحرى هذا ما يكتبه بطل روايته لا جديد في الجبهة الغربية. شكل هذه الرواية هو أقرب إلى المذكرات، وتُكتب بضمير المتكلم "أنا".

تدور القصة حول شاب يدعى "پاول بويمر". ومثل ريمارك يتطوّع للحرب وهو فتى صغير. وأثناء الكتابة يتساءل ريمارك فجأة، ما الذي يرعبه في برلين، ما الذي يجعله لا يشعر بالاطمئنان والراحة فيها؟ الناس الذين عادوا من الحرب يحاولون الآن وبنمط حياتي سريع ووحشي ودقيق أن يعوضوا ما خسروه في السنين الأربع من الحرب. هؤلاء الناس لا يملكون شيئاً الآن، هذا الجيل بأكمله قد دحر وهزم في الحرب "حتى الذين نجوا من قذائفه". وأثناء كتابته لهذه السطور، يعرف ريمارك بأنه يكتب ضد الزمن، الجيل الذي عاد من الحرب إلى بيته، لا يعتبر نفسه بأي حال من الأحوال "ضائعاً".

إن أغلبية الناس في ألمانيا يشعرون بارتياح كبير، يقبضون نقوداً كثيرة يرتادون المسارح ودور السينما، السيارات تشترى، والبيوت تُبنى، فرق الجاز تعزف والرقص متواصل، أكل وشرب، المرء يتسلى، يعيش ويترك الآخرين يعيشون، شيء واحد لا يريدون تذكره، الحرب. لقد انتهت، الناس يحاولون نسيانها، وتجنب ذكرها، ريمارك يكتب ما لا يريده الناس، يكتب أن جيله ما عاد حياً، ولو أنه لا يعلم بذلك. لكن أحدهم من الذين ينتمون إليهم أيضاً، ونجا من قذائف الحرب أيضاً، يتحدث عن رفاقه الذي سقطوا في الجبهة. "اليوم سيحصلون على طعام وافر، لقد عاد من العملية ثمانون شخصاً بدلاً من مائة وخمسين"، ها هو مولرف الذي مازال يحمل كتبه المدرسية. لير حامل اللحية الكثة وحامل الحب لفتيان الجيش.. والرابع هو پول بويمر.

كانوا 19 طالباً من نفس الصف، تطوعوا للحرب. مدرّسهم كان يُلقي عليهم محاضرات في الالتزام والوطنية ويدعوهم بـالشباب الحديدي، إلى أن تطوّعوا في الجيش من تلقاء ذاتهم. مدربهم الضابط هيملشتوب. كان يرهقهم باستمرار ويوقفهم لمدة ربع ساعة تحت البرد القارس.. للتدريب فقط. كانوا يكرهون هيملشتوب. ويختلف أسلوب التدريب عندما ينتقلون إلى الجبهة. عين لهم ضابط جديد وعسكري مخضرم يُدعى ستلانيسلاس كاتشينسكي. ويصبح ستلانيسلاس الحامي والمرشد. وأخذوا يدعونه "كات". من خلال عيني بويمر يعيش ريمارك الحرب ثانية.. الهجمات الأولى.. صواريخ تصبغ الليل بالضياء، الرعد ومدافع الدبابات.. وابل من طلقات الرشاشات الجافة. الهواء محشو بالبكاء والصفير.. الأوساخ تتطاير والشظايا تئز والأضواء الكاشفة تغمر السماء المظلمة، طبول نارية وحواجز نارية، ألغام وقنابل يدوية. إنها مجرد كلمات.. لكنها تشمل كل بؤس العالم.

رمارك في داڤوس، 1929.

"بجانبنا جثة إنسان يرتعد خوفاً، رأس مفلطح، وجه معصور بين الأيدي، وخوذته متدحرجة جانباً. أكتافه النحيلة ترتجف.. حمى القذائف". ودائماً جثث جديدة.. غذاء القذائف "وجوه شاحبة ملتصقة، أيد مسكينة ومتشنجة، والشجاعة تنتحب مثل كلب، بالرغم من التقدم والهجوم لكنهم يتوقفون فور النظر إليهم.. وجوههم الميتة تحمل تعبيراً شنيعاً.. كوجوه أطفالنا موتى.." طبول نارية.. الأرض تكاد تتشقق. في المقابر تهطل الأمطار بغزارة. توابيت وموتى يتطايرون هنا وهناك.. كات يصرخ "غاز.. غاز.. أنذر الجميع" ويهرع الكل إلى الأقنعة الواقية. على الأرض مازال أحدهم ممداً.. ووسطه عبارة عن كومة لحم واحدة.. إنه ينشج "ابقوا معنا.. لا تذهبوا". يود كات أن يشهر مسدسه ويطلق الرصاص عليه.. جسده لا يتحمل النقل.. إنه يريد إنقاذه من ساعته الصعبة الأخيرة.. فيقبل الآخرون.. وشيء من هذا القبيل لا يقوم به المرء إلا إذا كان بمفرده.. كات، يهز رأسه متألماً.. على هؤلاء الشباب المدفوعين إلى الموت السريع. وتنطفىء النار.. ويهطل المطر بنغمته الرتيبة.. والجميع يعانون الإعياء والجوع. وهم محاطون بالموتى والجرحى "بشر... منهم من كانت جماجمهم تسقط جانباً.. وآخرون كانت أرجلهم ممزقة يتعثرون بلا شعور.. أحد الجنود يزحف على يديه ويجرجر ساقيه المهترئتين وراءه.. بشر بلا أفواه.. بلا وجوه".

كان هيملشتوب قد حقّر الكثيرين من هؤلاء البشر.. ومن بينهم كان ابن وزير، لكنه لم يكن يعلم بذلك.. وعرف بعد فوات الأوان، خسر منصبه وأرسل إلى الجبهة. والآن.. ولأنه أصبح أكثر جدية.. أخذ يرتعد خوفاً بعد ما أساء معاملة أحد هؤلاء الشباب "وجهه يعلوه الاضطراب، يعاني من الخوف. إنه مازال جديداً هنا، ولكن ما يثيرني هو وجوده هنا.. بينما الشباب الصغير في الخارج".

أخرج أنفث وجهه، لكنه لا يتحرك، الشفاه ترتجف فأكرر اخرج يحرك ساقيه ويسند نفسه إلى الحائط ويكشر عن أنيابه كالحيوان. أمسكه من ذراعه وأبدأ بخضه كالكيس.. والرأس يتمايل يميناً وشمالاً.. واصرخ بوجهه "يا قذر.. ألا تود الخروج يا كلب، يا حقير، أتريد الهرب؟" إنه يتجمد بمكانه.. فأخبط رأسه بالحائط "يا حيوان" وألكمه بأضلاعه "يا خنزير" وأدفعه أمامي.. بضربة قوية على رأسه.

يمر الآن فوج جديد. بينهم قائد.. يرانا وينادي "إلى الأمام إلى.. الأمام، اتبعوا الآخرين"، "هيملشتوب ينفذ أوامر القائد.. وينضم إليهم بعدما ينظر حواليه بحذر شديد. فأتابعه بنظراتي وأراء يقفز، ها قد عاد لرشاقته السابقة. بل إنه يسبق القائد بمسافة كبيرة".

فرصة استراحة قصيرة. كات يقوم ببعض الألاعيب والحيل الفرنسية "يود المرء أن ينطفىء كل شيء، حرب، شناعة، بؤس.. ليستيقظ شاباً سعيداً". يخلق كات الحاسة السادسة إذا اقتضى الأمر. في إحدى المرات أتى بخنزيرين صغيرين وجعل الآخرين يجمعون البطاطا والجزر.. يقوم كات يقوم بشيّ اللحم.. الجميع يحيطون به.. وكأنهم يحيطون برجل عجوز. حتى هيملشتوب كان بينهم مشاركاً.. فقد فمه الواسع نهائياً. في المقدمة هجوم.. وهجوم مضاد، بجانب المقابر تلال من الجثث، "الجو حار.. وهم متروكون دون دفن، نحن لا نستطيع دفنهم، لا نعرف إلى أين نذهب بهم.. ستدفنهم القذائف".

يستنتج بويمر بأنه ما عاد يملك ارتباطاً حقيقياً مع موطنه.. ماذا يعرف هؤلاء من الحياة. إذا كانوا لا يعرفون الموت؟ "من الآن، بدأ الوداع يندمج في.. والدتي تنظر إليّ بصمت.. وتعد الأيام.. أنا أعرف ذالك".

وللمرة الثانية يصاب بويمر ويرسل إلى المستشفى وهناك يفكر: "عمري اثنان وعشرون عاماً.. ولكني لا أعرف إلا اليأس والموت والخوف والمعاناة فقط. إني أرى، أن الشعوب تقتل بصمت، بطاعة، بسذاجة، دونما معرفة، ماذا سيصنع الآباء إذا نهضنا وطالبنا بالانتقام؟ لسنين كانت مهنتنا: القتل. ما الذي سنصبح عليه؟".

هذا إذن ما يكتبه ريمارك خلال ليالي الأرق والتدخين. والتي ينشطها بأقداح القهوة. إنه لا يريد أن يشكو.. بل أن يخبر. فهو لا يوفر لنفسه شيئاًَ. إنه يعيش الجحيم ثانية.. الذي يقبع خلفه كما هو واضح. والذي يعرف عنه بأنه سوف ظل خلفه قابعاًَ إطلاقاً، إنه يصف الشعور الذي تملكه.. عندما قتل ولأول مرة إنساناً عن قرب وبوعي تام.. وكان ذلك دفاعاً عن النفس..

"الآن فقط، أرى بأنك إنسان مثلي.. طالما فكرت بأسلحتك وقنابلك. الآن أرى زوجتك ووجهك يتحدان.. سامحني، يا رفيق، نحن نرى ذلك دائماً بعد فوات الأوان". إنه يرى الرفاق وهم في المستشفى بصارعون الموت "أحدهم بدأ يغني بصوت بصوتٍ عال ولمدة ساعة قبل أن يموت.. وغيره.. كان قد زحف إلى الشباك، وها هو الآن ملقى تحته.. وكأنه أراد رؤية السماء للمرة الأخيرة". ويرث زوج أحذية من رفيقه، فهو لا يحتاج لها بعد الآن. "قبل أن يفارق الحياة أعطاني حقيبته وحذاءه، الحذاء نفسه الذي ورثه عن رفيقه كاماريش إنني انتعله الآن إنه يناسبني تماماً.. بعدي سيحصل عليه تيادين. لقد وعدته بذلك".

.. هذا التباين يتوارد خلال الكتاب كله. ماذا ستقدم الحياة بعد لهذا الذي يبلغ الـ 22 عاماً. ما الذي يستحق بعد؟ فالأكل نفسه أهم بكثير. يحكي پول بويمر عن تلك المرة، التي قام فيها الرفاق بسرقة المعلبات الإنكليزية والفرنسية والخنازير والبط. وبعد؟ فالجو العسكري لا يرغم الشباب على الاهتمام بما يوليه رؤساؤهم لقضية الكرامة. إنهم يجدون في ذلك دافعاً للسخرية.

ويقول أحدهم انتبه، فنحن سنخسر الحرب لأننا نعرف كيف نُلقي التحية بشكل جيد. وفيق لبريمر يقترح: "بلاغ الحرب النهائي عليه أن يتحوّل على عيد شعبي.. مع بطاقات دخول وموسيقى كما في ساحة مصارعة الثيران.. إنهم على الحلبة، فيقف الرؤساء والجنرالات من البلدين يلبسا السباحة.. مسلحين بالعصى.. ثم يهمون بضرب بعضهم البعض.. ومن يصمد للأخير يكون هو المنتصر.. فهاذ أبسط وأفضل من أن يحارب الناس هنا.. فيما بينهم". بويمر يستدرك الآن.. هؤلاء الجنود الأبرياء يشبهون الجياد التي لا تفقه ما يحصل، لو وقعت قنبلة ومزقت أحشاءها؟

يقول أحدهم: "إنها لشناعة كبرى.. أن تكون الحيوانات في الحرب". وببطء يتخذ بويمر.. يتخذ ريمارك قراره، بصدد الفرنسي الذي قتله "لئيم أنت، وغداً أنا. ولكني يا رفيق إذا نجوت.. فسأحارب ضد هؤلاء الذي قضوا علينا نحن الاثنين.. أنت على حياتك. وأنا؟ على حياتي أيضاً.. إنني أعدك يا رفيق، فهاذ يجب أن لا يحدث ثانية..".

إذن لا حرب ثانية.. لا حرب أبداً. ولكن، إذا انتهت الحرب.. ترى لماذا سيصغى هؤلاء الشباب الذين كبروا في الجبهة؟ ها هم يتناقشون حول ذلك. نعم: سيشربون أولاً.. هذا بديهي... ولكن.. ماذا سيفعلون بعدها؟ كيف ستكون حياتهم اليومية؟ هذا ما لا يعرفه أحد "ماذا ينتظرون منا.. يا ترى لو جاء زمن خال من الحرب.. لسنين ونحن مشغولون بالقتل.. هذه مهنتنا الأولى في الوجود.. معرفتنا بالحياة تقتصر على الموت.. ما الذي يأتي.. أو يحدث بعده، ما الذي سنصبح عليه؟؟".

لا أحد منهم يريد الموت.. الجميع يأملون بالحياة "الحياة شرك دائم ضد تهديدات الموت". إنهم يرقدون بالأوساخ، أيديهم متشنجة ويصلون كي يبقوا على قيد الحياة "ليس.. ليس الآن.. ليس الآن في اللحظة الأخيرة" بالرغم من كل شيء فهم يعلمون "لو عدنا الآن.. سنكون تعبين، ساقطين، محترقين.. ودون جذور أو أمل سنضل طريقنا".

في الختام يلقى بويمر مصرعه في أكتوبر 1918.. في يوم هادىء وساكن، النبأ اقتصر على الكتيبة فقط. ففي الغرب لا شيء جديد يطلع عليه.. كان يرقد على الأرض نائم، عندما أداروا رأسه عرفوا بأنه لم يتعذب كثيراً قبل مماته.. تعبير وجهه كان حاسماً وكأنه كان راضياً كل الرضى عما حصل.

كتاب حربي ضد الحرب

كتاب سلمي، السلم في نظر بعض الألمان آنذاك كان جرماً.. هذا بالنسبة للقوى الشوفينية والرجعية. ألفرد هوگنبرگ صاحب دار للنشر تُدعى شرل وباختصار، هوگنبرگ هو رئيس ريمارك في مجلة الرياضة المصورة.

دار النشر "شرل" تطبع الكتب أيضاً. ولكن تحت هذه الظروف لام معنى لطبع كتاب ريمارك. ريمارك يبعث بنصوص الرواية إلى أكبر دار نشر في ألمانيا "س. فيشر" فترفض طبعها. والسبب: "من يريد اليوم قراءة روايات حربية؟" وبالفعل، فإن اختيار ريمارك لم يكن موازياً للزمن. ويحكي ريمارك لأحد الصحفيين بأنه ألف رواية:

وبماذا تنصحني
وماذا تعالج روايتك؟
الحرب
أنصحك.. بأن تمزق النصوص فوراً.

الظاهر.. أن رواية "لا جديد في الجبهة الغربية" سوف لن ترى النور أبداً. فكيف طبعت؟ لقد كتب الكثير حول هذا الموضوع. وكيف وافقت أكبر دار نشر في ألمانيا أولشتاين على طبع الرواية.. الأمر كان بسيطاً وصلت النصوص إلى يد فريتز روس المسؤول في هيئة الرقابة داخل الدار. كان لديه وقتاً كافياً لمرجعة النصوص.. لأنه كان طريح الفراش.

بعدها.. عقد اجتماعاً مع المسؤولين في دار النشر، ووضع النصوص على الطاولة "ها هي نصوص ريمارك.. قرأتها ووجداها مؤثرة بشكل غير طبيعي.. سيطبع منها على الأقل 100.000 نسخة" وأصاب التردد الجميع.. إلا مدير الدار أولشتاين. "إذا رأيتم فيها مجازفة.. فالخسارة سأتحملها أنا على نفقتي الخاصة".. وبعد مناقشة دامت ساعات.. وافقوا على طبعها.

التقى ريمارك بأولشتاين وكان غير متفائل وأكد "لا أؤمن بنجاح كتابي.. من يريد اليوم أن يقرأ رواية تصف الجحيم الأرضي؟" فرانز أولشتاين يبعث الرواية إلى جريدة فوس التي تصدرها الدار نفسها.. واقتر أن تنشر كحلقات في الجريدة.. لكن الإدارة عارضت وقالت إن الرواية غير مشوقة كي تنشر كمسلسل، والجريدة لا تنشر إلا لكبار الكتاب.. أولشتاين بقي صامداً ومصراً إلى أن فرض إرادته أخيراً.

رواية "لا جديد في الجبهة الغربية" تظهر منذ 10 نوفمبر 1928 في جريدة فوس. رد فعل الجمهور كان لا يُصدّق. ما أن صدرت حلقتان من الرواية حتى بدأت برلين بأسرها تتحدث عنها.. الأيدي تتلقف الجريدة والجمهور في ذهول تام.. من كان يعتقد أن ريمارك يتحلى بهذه القدرة.. هذا الإنسان الهادىء.. من كان يؤمن بقدرته على تأليف كتاب قوي ومؤثر بهذا الشكل؟. بلا شك، إن هوجنبرگ مستعد الآن أن يرميه خارجاً.. لكن ريمارك يقدّم استقالته من تلقاء ذاته. ذهول في دور النشر الألمانية وكان الناس ما يزالون يهتمون بقضية الحرب. إنه أمر متوقف على كيفية كتابة روايات الحرب بالذات.

في هذه الأثناء.. دار النشر أولشتاين تستعد لطبع الكتاب. الطبعة الأولى خمسون ألف نسخة. لكن وقبل صدور الكتاب تظهر موجة وحشية موجهة ضد ريمارك، آتية من الرجعيين، آتية من هؤلاء الذي يحبذون لو ابتدأت الحرب ثانية، ومن رجال هوجنبرغ. ريمارك يوصف بالقذارة. هذا الإنسان غير الألماني الذي ينتحل اسماً فرنسياً- هكذا تصرخ الصحف اليمينية- مع أن اسم ريمارك هو اسم جده.. واسم الكثير من الألمان. بل وتشكك بمشاركته في الجبهة. هذه الهجمات تتحول إلى عامل دعائي للكتاب. الكتاب يباع بنجاح كبير.. ويضطر أولشتاين أن يستخدم مطابع أخرى لتساعده في الطبع. في عام 1929 يباع منه في ألمانيا فقط 901-925 ألف نسخة. بعد 18 شهراً يباع منه 3 ملايين ونصف المليون نسخة. ويترجم الكتاب إلى كافة اللغات تقريباً. بل وتطبع أيضاً نسخ لفاقدي البصر.. ويسجل في كل مكان أرقاماً قياسية في المبيع. في أمريكا يحوّل إلى فيلم سينمائي.

وعندما يُعرض في برلين يتحوّل إلى فضيحة كبيرة. جوزف گوبلز قائد ومؤسس المركز النازي في برلين آنذاك، يدفع الشباب الهتلري إلى الهجوم على السينما، وإلقاء قنابل مسيلة للدموع، وإطلاق فئران بيضاء بين مقاعد المتفرجين وسط هتافات يا ألمانيا استيقظي والفيلم أينما عُرض كان يثير الشعب واللغط.. مسؤول إدارة رقابة الأفلام يصرح: "الفيلم يعبّر عن شجاعة وعزم الجنود الألمان في الحرب العالمية" ثم.. يمنع الفيلم من قبل الرقابة العُليا للأفلام.. هذا هو أو نصر حاسم لگوبلز. ويستدرك گوبلز أن لا شيء أفضل من أن يتعلق المرء بنجاح حتى لو كان بنذير مضاد. إذا هاجم شخصاً.. تكتب عنه الصحف يومياً.. فسيقاسمه الشهرة بشكل تلقائي.. ويحتل لنفسه اسماً في الصحف والمناقشات. ريمارك أصبح غنياً بفضل كتابه الأول. ولكن ليس أسعد مما هو عليه.

هناك أسباب عديدة لذلك.. مها ما هي خاصة ومنا ما هي بطبيعتها عامة. احد هذه الأسباب، ريمارك يرى بوضوح أكبر من الآخرين.. يرى النمو السريع للحزب النازي. إنه لا يأبه ولا يستغرب للرسائل المجهولة التي تصله.. ولكن عددها هو الذي يذهله.. إنه مقتنع تماماً بأن هتلر سيستلم زمام الحكم بسرعة كبيرة.. وستكون حياة ريمارك حينئذ مهددة باستمرار. لماذا يتحتم عليه الانتظار إلى ذلك الحد. ريمارك يسافر على سويسرا ويبتاعفيلا صغيرة في بورتو رونكو بالقرب من قرية الصيادين اسكونا. ويصبح ريمارك أول منفي بسبب هلتر.

يكتشف گوبلز أن كافة الكتّاب المعروفين من الألمان. لا يكنون له التقدير وأغلبهم منفيون في الخارج. أو أنهم قد انصهروا بالمنفى الداخلي. فتراوده أغرب فكرة. ألا وهي جلب ريمارك إلى ألمانيا. ويبعث إليه بشخص مقرب موثوق به في حالة رضوخه سيشطب على الماضي كله.

لا يُبدي ريمارك أي استعداداً لذلك. لا يريد التورط مع القوميين الاشتراكيين. وبعد مرور ثلاث سنوات على استلامهم الحكم.. تصدر في جريدة فولكش بوباختر قصة مطوّلة بعنوان "ليل في الجبهة" مرسلة من النمسا وتحت توقيع مستعار. وقد أرفقت بها حاشية تقول: "بعد أكاذيب الناس من أمثال ريمارك ننشر هنا تجربة إنسان عاش الحرب فعلاً.. بعد قراءتها، لا يستطيع المرء إلا أن يقول: هكذا كانت الحقيقة".

عندما اطلع گوبلز على الجريدة.. سال الزبد في فمه.. إنها جزء من رواية ريمارك نفسه. بعض الصحفيين النمساويين سمحوا لأنفسهم بهذه المزحة.. وبعثوا بجزء من رواية ريمارك.. بعد استنساخها. العالم يحتفل بريمارك.. العالم المجار لألمانيا يطبع له الكتب التي ألفها فيما بعد.. رواياته ستترجم وستصور.. ريمارك يصبح من مشاهير عصره. إنه أعلى ظفر لريمارك. كل نجاحاته الشخصية لا توهمه ولا تعزله عن الكلمات الحقيقية التي كتبها آنذاك في مذكرات الحرب. كلمات تحكي مأساة جيله، مأساة الذين تحطموا من الحرب، حتى ولو كانوا قد نجوا من قذائفها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

حجم الخسائر البشرية في الحرب العالمية الثانية

الخسائر البشرية في الحرب العالمية الأولى موثقة على أفضل ما يمكن في رواية الجندى الألماني السابق إريش ماريا ريمارك وإسمها "لا جديد في الغرب" وكان كاتبها جنديا على جبهة فرنسا وشاهد هذه الأهوال. وسبب العنوان هو أن الصحافة الألمانية في ذلك الزمان كانت تكتب عن أخبار الجبهتين التين تحارب عليهما المانيا (روسيا وفرنسا) فكانت جبهة فرنسا تسمى الجبهة الغربية أو الغرب. وبسبب الجمود الذى كان واقعا في مواقف الأطراف على الجبهة الغربية كانت الصحف دائما تكتب التقارير عن الجبهة الشرقية التى كانت تتبدل دائما وانتهت في النهاية بخروج روسيا من الحرب عقب الثورة البلشفية بينما كانت الصحف تصف الجبهة الغربية بعبارة وفى الغرب لا يوجد جديد. وأخذ إيريش ماريا ريمارك هذا العنوان المستفز له ولأقرانه عنوانا لكتابه الذى لا يحوى سوى أهوالاً يومية ولكنها لم تكن تأت بأى تغيير واقعى على الأرض فكان الأمر بالنسبة للصحافة وكأنه لا يوجد جديد أى أنه عنوان تهكمي.

وهو كتاب يشرح بطريقة غير مباشرة الصدع الذى يوجد دائما بين الجبهة وما يحدث فيها بالفعل من ناحية والحياة المدنية في الداخل وما يعرفه الناس عن وقائع الحروب الدائرة من ناحية أخرى.. وهذه الهوة بين الأمرين كانت ولا تزال موجودة حتى اليوم وحروب العراق خير شاهد عليها رغم كل التفوق التكنولوجى الأمريكى. أما الحروب التى تلت الحرب الأولى فكان القتل فيها يتم من بعد سواء بالطائرات أو المدفعية بعيدة المدى ولا يرى الجنود بعضهم بعضا إلا فيما ندر.

انظر أيضاً

الهامش

  1. ^ خولة القزويني. "لاجديد على الجبهة الغربية" - تأليف: أريش ريمارك". موقع الأديبة خولة القزويني.

وصلات خارجية