كتاب الاعتبار

نص كتاب الاعتبار انقر على الصورة للمطالعة

كتاب الاعتبار لسنا ندري ما اذا كانت هناك دراسة تقارن بين كتاب عبدالرحمن الجبرتي المؤرخ المصري الكبير حول حملة نابوليون على مصر عند المنعطف بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكتاب اسامة بن منقذ حول الصليبيين، الذي وضعه خلال الربع الأخير من القرن الثاني عشر. صحيح ان الفوارق بين الكتابين كبيرة، خصوصاً ان كتاب الجبرتي كتاب في التاريخ، بينما كتاب اسامة كتاب يغلب عليه طابع كتب السيرة الذاتية، غير ان ما يجمع الكتابين ويدعو الى المقارنة بينهما، انما هو تلك النظرة التي يحملها كل منهما إزاء الآخر الآتي من خارج الديار، وفي شكل اكثر تحديداً كي لا تختلط الأمور، إزاء العدو الذي يأتي غازياً لكنه يحاول ان يحمل في جعبته اهدافاً متنوعة أخرى. وهي نظرة تبدو متشابهة في نهاية الامر: فيها من التسامح بقدر ما فيها من الحيرة، وفيها من الغضب - إزاء الاحتلال الاجنبي - بقدر ما فيها من محاولة للتفهم والتساؤل حول ما يمكن العثور عليه من ايجابي لدى الآخر الدخيل، في لحظة تلاقٍ بين حضارتين.[1]


فالحال، ان ما يمكن التوقف عنده اساساً، في كتاب «الاعتبار» الذي ألفه اسامة وهو قد تجاوز الثمانين من عمره، ليس ما فيه من وصف للأحداث التاريخية فقط، وليس ما يحمله من ملامح السيرة الذاتية والتأمل الفلسفي فقط، وليس صور اللهو والعلاقة مع الطبيعة وممارسة القنص والصيد والحب في زمن لم يمنع عصفه وصعوباته ذلك الأمير الشاعر المقاتل من الانصراف الى نفسه وهواياته فقط... ما يمكن التوقف عنده اكثر هو تلك البساطة والأريحية التي بها يتحدث اسامة عن «الأعداء». ولنقرأ مثلاً هذه الفقرة: «كنت اذا زرت البيت المقدس دخلت الى المسجد الاقصى وفي جانبه مسجد صغير قد جعله الإفرنج كنيسة. فكنت اذ دخلت المسجد الاقصى وفيه الداوية (فرسان الهيكل من الجنود الصليبيين) وهم اصدقائي، يخلون لي ذلك المسجد الصغير أُصلّي فيه. فدخلته يوماً فكبّرت ووقفت في الصلاة. فهجم عليّ واحد من الافرنج أمسكني وردّ وجهي الى الشرق وقال: «كذا صلّ!» فتبادر اليه قوم من الداوية اخذوه وأخرجوه عني. وعدت انا الى الصلاة، فاغتفلهم وعاد وهجم عليّ (...) وردّ وجهي الى الشرق وقال: «كذا صلّ!» فعاد الداوية ودخلوا اليه وأخرجوه واعتذروا اليّ وقالوا: «هذا غريب وصل من بلاد الافرنج في هذه الايام وما رأى من يصلّي الى غير الشرق». فقلت: «حسبي من الصلاة! فخرجت فكنت اعجب من ذلك الشيطان وتغيير وجهه ورعدته وما لحقه من نظر الصلاة الى القبلة». والحقيقة اننا اخترنا هنا ان نبدأ حديثنا عن كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ بهذا النص، لما في هذه الحكاية من معانٍ ودلالات، ناهيك بما في رواية اسامة لها من بساطة تبدو معها امور كثيرة اشبه بالبديهة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نبذة

وكتاب «الاعتبار» هذا وضعه اسامة بعد تجارب دامت عشرات السنين من الحكم والقتال والحياة الهادئة حيناً، الصاخبة حيناً آخر. ومن المرجح انه كان اول كتاب من نوعه يضعه «مسؤول» سياسي وعسكري في ذلك الزمن، ليحكي فيه تجربة عايشها بنفسه من دون ان يحاول الخروج مما يرويه بأية استخلاصات او استنتاجات او حتى مواعظ... اضافة الى الطابع الرئيس الذي يبدو على الكتاب وهو ان مؤلفه يحاول فيه ان يكون منصفاً تجاه العدو من دون لفّ او دوران. غير ان المؤلف لا يبدو على الاطلاق مبهوراً، لا بالعدو ولا بالحكايات التي يسجلها من حوله. فلئن كان اسامة قد أسهب في فصول كتابه في وصف حياة الفرنجة وعاداتهم معتبراً اياهم، بعد كل شيء، بشراً، لا مجرد اعداء وحسب، ولئن كان يعترف في صفحات الكتاب بما وجد لديهم من معارف وتقدم، فإنه كان يدرك - وكما يشير امين معلوف بحق في كتابه «الحروب الصليبية كما رآها العرب» - ان «الافرنج في القرن الثاني عشر (الميلادي) متأخرون جداً عن العرب في كل الميادين العلمية والتقنية». وهو اذ يستنكر جهلهم ويتحدث عنه مطولاً، فإنه يستنكر ايضاً أخلاقهم وعاداتهم. وهنا يقول امين معلوف في ذلك الكتاب نفسه، انه «بقدر ما كان اسامة يزداد معرفة بالغربيين كانت فكرته عنهم تزداد سوءاً. فهو في نهاية الأمر بدا وكأنه لا يقدّر فيهم سوى الصفات الحربية». مهما يكن من أمر، علينا ان نذكر هنا ان اسامة بن منقذ انما تعرّف إلى الافرنج - ما اتاح له ان يعرفهم مباشرة وعن كثب وبعيداً من الأحكام المسبقة، ما يسجّل سابقة كانت فريدة من نوعها في ذلك الزمن. وربما كان علينا هنا ان نشير الى ان ذلك الواقع كان وراء دخول الكاتب الأمير طرفاً - كما يروي هو نفسه - في ذلك التعاون الذي قام بين دمشق المسلمة وإمارة القدس الصليبية. وكان ذلك في مرحلة هدأت فيها تلك الحروب الصليبية بعض الشيء لكي تنفجر من جديد. وهذه المرحلة هي التي يؤرخها اسامة ويكتب في مناخ من الحنين اليها ذلك النص الذي لطالما فتن المفكرين والمؤرخين الغربيين وتعاملوا معه كدليل على موضوعية فكر عربي معين. وقد وصل هذا الافتتان الى حد ان مستعرباً فرنسياً معاصراً لنا، هو اندريه ميكيل، حوّل سيرة اسامة بن منقذ وحكاية كتابه «الاعتبار» الى رواية متميزة، اعادت هذا البطل العربي المسلم، الى الفكر الغربي بعد غياب. والحال ان الغرب كان تعرّف الى اسامة من خلال كتاب آخر صدر في الفرنسية عنوانه: «حياة اسامة» خلال العشرية الاخيرة من القرن التاسع عشر، وفي وقت كان فيه عدد من المستشرقين قد بدأوا اهتمامهم بجمع تراث هذا الأمير المتأمل.

في نهاية الأمر يمكن اعتبار كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ واحداً من اول الاعمال الادبية العربية التي حاولت ان تتعاطى مع صورة الآخر. وذلك في وقت كانت فيه الكتب التي يصدرها هذا «الآخر» عن الشرق والمسلمين حافلة بالتجنّي والأحكام المسبقة. وفي هذا الإطار، قدم اسامة من دون ادنى شك درساً طيباً - ولم لا نقول نادراً!؟ - عن امانة الكتابة وموضوعية النظرة.

المؤلف

إلقاء هذه النظرة لم يكن، على اي حال، غريباً عن ذلك الأمير الاديب، الذي ولد وعاش في منطقة وزمن كان الاختلاط والتمازج الحضاري سمتهما الرئيسة. وكان القتال نفسه فيهما فعل ايمان بالقيم الاخلاقية. وتقول «الموسوعة الاسلامية» ان اسامة يدعى في الاصل اسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الشيزري الكناني. وهو ولد في عام 1095م في بلدة شيزر شمال حماة في سوريا. وكانت شيزر مقر حكم أسرته من آل بني منقذ. وكان اسامة في الرابعة حين استولى الصليبيون على بيت المقدس. ولئن كان اسامة منذ ان شبّ عن الطوق قد انخرط في خوض القتال، ضد الفرنجة، كما ضد منافسي أسرته من أمراء المناطق الاخرى، فإنه ظل طوال عمره على اتصال مستمر بالفرنجة «يخاصمهم حيناً ويصادقهم حيناً آخر». وهو كان كأبيه، محباً للقتال والصيد، ولكن للكتابة ايضاً. وعلى رغم انه أمضى تسع سنوات من حياته في جيش اتابك الموصل الزنكي، إلا انه لم يتوقف عن الكتابة يوماً. وهو حين توفي أبوه اضطر، لأسباب عائلية، تتعلق بخشية عمه الوارث الإمارة، منه، اضطر الى مغادرة شيزر ليعيش متنقلاً طوال تسعة اعوام في بلاط بني بوري في دمشق، خصوصاً، كانت هي الفترة التي اقام فيها صلات وعقد معاهدات مع الفرنجة في بيت المقدس وصار الداوية اصدقاءه. بعد ذلك قصد مصر الفاطمية وشارك في دسائس القصور. ثم قاد حملات ضد الصليبيين في فلسطين. وغادر القاهرة بعدما مكث فيها قرابة العشر سنوات، وهو بعد ذلك استقر في دمشق التي مات فيها عام 1188م وقد اربى على التسعين. اشتهر من كتبه الى «الاعتبار»: «لباب الآداب» و «المنازل والديار» و «القلاع والحصون» و «أخبار النساء» و «النوم والأحلام».

أخصب المصادر لدراسة العلاقات الاجتماعية بين المسلمين والنصارى إبان الحروب الصليبية، وهي مذكرات فارس آخى فرسان الفرنج وحاربهم، وأحبوه وأحبهم. وخصوه بزيارة المسجد الأقصى متى شاء، ورجاه أحدهم أن يرسل معه ابنه مرهفاً إلى بلادهم، وتندر عليهم في كثير من فصوله، متهكماً من طبهم مقارنة بالطب العربي، مؤرخاً للكثير من عاداتهم وتقاليدهم. لم يترجم كتاب عربي إلى اللغات الأوربية بعد القرآن مثل ما ترجم، لا ينافسه في ذلك إلا طوق الحمامة لابن حزم. وكان في حكم الكتب المفقودة في القرون الأخيرة، حتى عثر ديرنبورج أثناء عمله في تكملة فهرس المخطوطات العربية لمكتبة الأسكوريال على أوراق متفرقة مدسوسة في ثنايا مخطوطات أخر، وتبين له بعد تفحصها أنها قطعة من كتاب (الاعتبار) تبدأ بالورقة 22 وتنتهي بالورقة 88 وفيها خاتمة الكتاب، وهي مكتوبة بالخط الشامي، عن نسخة كتبت بعد وفاة أسامة ب26 سنة، وحاول ديرنبورج العثور على القسم الضائع فلم يفلح، قال: (وبعد تفكير طويل قررت أن أنشره على علاته) فنشره عام 1884م وأتبعه بدراسة موسعة عن أسامة وأسرته، وترجمة فرنسية للاعتبار، نشرها سنة 1895م. ويرجح أن الكتاب كان ضمن المكتبة السعدية التي هرب بها ملك مراكش زيدان بن أحمد، إبان الثورة عليه سنة 1020هـ مستقلاً سفينة كاسطيلان الفرنسي، حيث اعترضته سفن قراصنة إسبانية، استولت على السفينة، وأرسلت الكتب إلى الإسكوريال، وفي عام 1081هـ شب حريق في الدير التهم جانباً من المخطوطات العربية، وأفسد الماء المستعمل لإطفاء الحريق الكثير منها، فكان منها كتابنا هذا، حيث طمست الورقات الأولى منه بفعل الماء، ويعتقد أن الصفحات الضائعة قد أتلفها الماء أيضاً. وكان استرجاع هذه المكتبة أحد مهمات الوزير الغساني في رحلته: (افتكاك الأسير: ط) سنة (1102هـ 1690م). ويفهم من خاتمة الكتاب أن أسامة ألف الاعتبار لصلاح الدين، وكان مستشاره كما حكى أبو شامة منذ عام 570 وإذا غاب عنه في غزواته كاتبه وأعلمه بواقعاته. وكان من مصادر التاريخ المعتبرة، فقد ذكر الذهبي أنه امتلك نسخة منه، ونعت أسامة بأحد أبطال الإسلام، ورجع إليه أبو شامة في الروضتين، وابن واصل في (مفرج الكروب) وابن العديم في كتابيه (زبدة الحلب) و(بغية الطلب) وابن شداد في (الأعلاق الخطيرة) والمقريزي في (اتعاظ الحنفا) و(المقفى). ونظر مجلة عالم الكتب (مجلد 4 ص152و554) حول ضياع مخطوطته الوحيدة في العالم، ونبذة عن ترجماته. سيما الترجمة الأخيرة إلى الفرنسية: (أندريه ميكيل) الذي ترجم (كليلة ودمنة) سنة 1957. ويصف ميكيل كتاب الاعتبار الذي يتناول حياة جمهرة غفيرة من الشخوص بأنه أشبه بالروايات الروسية العظيمة. وانظر في كتاب (ابن رشد والرشدية) ص94 خبر سرقة المكتبة السعدية وفيه إشارة إلى إلى ما وقع من إتلاف المخطوطات العربية على مدى واسع بأمر (إكزِمِنِز) قال: (وبلغ عدد ما أحرق منها في ميادين غرناطة ثمانين ألفا) قال: (ونلاحظ هنا أن مجموعة الإسكوريال لم تكن من بقايا عرب الأندلس، خلافا لما يعتقد، وإنما أتى معظمها من السفن المراكشية التي غنمت سنة (1611م) وقد قضى حريق سنة (1671) على نصفها تقريباً) نقل ذلك عن غاينغوس (1/ 8). [2]

المصادر

  1. ^ ابراهيم العريس (الإثنين ٢٧ أغسطس ٢٠١٢). "«كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ: إحترم عدوّك لتكون جديراً به!". دار الحياة. Retrieved 29/8/2012. {{cite web}}: Check date values in: |accessdate= and |date= (help)
  2. ^ زهير ظاظا. "كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ". الوراق. Retrieved 15 سبتمبر 2007.