خطابات إلى الأمة الألمانية

غلاف أول طبعة للكتاب، 1808.

خطابات إلى الأمة الألمانية (Reden an die deutsche Nation‏، 1808) هي كتاب في الأدب السياسي كتبه الفيلسوف الألماني يوهان گوتليب فيشته داعياً إلى الوطنية الألمانية رداً على احتلال واخضاع الأراضي الألمانية للامبراطورية الفرنسية بقيادة ناپليون.[1][2] وقد استثار فيشته إحساس الألمان بالتميز في اللغة والتقاليد والأدب، مما شكـّل هوية مشتركة.[1]

Cquote2.png «أن نكافح ضد تهديم أكثر طموحاتنا نبلاً فهمّة ما زالت يمكن لها أن تولد فينا. ان نجابه إذلال أمتنا كلها بالوسيلة الوحيدة الباقية لنا بعد أن حاولنا كل الأخريات... هذا ما تطرحه خطاباتي. إنها تحرضكم على أن تغرسوا في الأرواح عميقاً وفي قوة، بفضل التربية الوطنية الحقة الإرادة المبنية على الايمان بخلود شعبنا، وهو ضمانة خلودنا نحن. علام تقوم هذه التربية وكيف نمارسها؟ هذا ما سوف أجرب قوله لكم في الخطاب المقبل.» Cquote1.png

للوهلة الأولى قد يبدو هذا الكلام جزءاً من خطاب سياسي تحريضي يلقيه واحد من أولئك الزعماء السياسيين الذين يلجأون عادة الى أقصى درجات الديماغوجية لاستنهاض الهمم الشعبية في سبيل غايات سياسية واضحة، وفي وقت تكون الأخطار محيقة بأمتهم. إنها بكل تأكيد من تلك العبارات التي يمكن استعراض لأبرز الخطب التي يلقيها زعماء متمسكون بالحكم، أو قادة أحزاب يريدون ان يبرروا ما يفعلون، أو كتّاب من الدرجة الثالثة طلب منهم سادتهم ان يؤلبوا الدهماء - عامة الشعب -، في سبيل حماية مصالحهم، يمكن لمثل هذا الاستعراض أن يراها ماثلة في كل لحظة وحين. فاستنهاض الهمم تخويفاً، يعتبر واحداً من الأسلحة الأساس التي تلجأ إليها الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية لحماية نفسها، وبالأحرى لدفع «الجماهير العريضة» الى حمايتها.

فالحال إننا لو بحرنا في خطابات معظم السياسيين الشعبويين في الماضي كما في الحاضر، لن يفوتنا أن نجد مثل هذا الكلام، يقال خصوصاً في اللحظات التي تكون فيها الشعوب مهزومة، وبالتالي فريسة لتصديق أي كلام تحريضي وأية فصاحة تعبوية. غير ان كاتب هذا الكلام ليس من هذا النوع، بل هو واحد من أكبر الفلاسفة الذين أنجبتهم أوروبا في تاريخها، وواحد من أبرز فلاسفة العقلانية الألمانية الى جانب كانط وهيغل، بل ثمة من يبدّيه على الاثنين معاً. كاتب هذا الكلام هو الفيلسوف فيخته، يوهان گوتليب فيشته، الذي، بسبب كلام من هذا النوع كتبه في سنواته الأخيرة، سوف يحسب دائماً ضمن خانة العقول المؤسسة للنزعة القومية الألمانية التي أسست، بدورها، للنازية، تلك الكارثة التي حلت على ألمانيا وعلى البشرية في القرن العشرين، وكان أخطر ما فيها انبناءها على أسس فلسفية تمت بألف صلة الى نوع من العقلانية التنويرية إذ انحرفت الى لا عقلانية مدمرة وصاخبة، من جراء الهزيمة السياسية والعسكرية الكبرى التي أحاقت بألمانيا أيام الحروب النابوليونية، فكانت ذات مفعولين من المؤسف انهما ترابطا في ما بينهما: من ناحية جعلت كبار المبدعين، من هيگل الى بيتهوڤن وگوته، يكفرون بالثورة الفرنسية إذ بات الجنرال الصغير وريثها، ومن ناحية ثانية، يتجهون صوب نزعات قومية ضيقة كانت في الأصل تتناقض مع كل فكر تنويري. ويعني هذا بالطبع أن المعركة التي كانت تدور ضد التخلف، باتت معركة ضد التنوير نفسه. وكان هذا اقسى ما يمكن ان يصيب الفكر.

ذلك، بالتحديد، ان فيخته كتب هذا الكلام، الذي يختتم به الخطاب الثامن من أصل 14 خطاباً يتألف منه عمله الأشهر «خطابات الى الأمة الألمانية»، تحت وطأة الهزيمة الساحقة التي حلت بألمانيا أمام زحف قوات نابوليون بونابرت. قبل ذلك كان فيخته من الثوريين التنويريين انصار الفكر الفرنسي - مثله في هذا مثل هيغل وبيتهوفن وغيرهما -، ولكن حين هزم الفرنسيون ألمانيا، نجده - من دون أن نغفل ما طرأ لديه من عوامل ذاتية وأكاديمية لا علاقة لها بالفرنسيين في الوقت نفسه - نجده وقد راح يكتب نصوصاً تشي بتحوله عن «نزعته العقلانية المقترنة بيعقوبية سياسية، الى نزعة روحانية متعالية وتأليهية»، بحسب تعبير جوليو بريتي. وهذا ما قاده، في السياسة الى أن ينضم الى الرجعية المعادية لفرنسا وللفكر اليعقوبي.

ولئن كانت تلك التحولات قد بدأت تظهر عليه في كتاب «قدر الانسان»، مستنداً في ذلك الى المثالية الكانطية والى نزعة حلولية تحاول المزج بين الكائن البشري والطبيعة «بالنظر الى أن هذه الأخيرة، ليست كائناً مفارقاً لي، وليست نتاجاً منقطع الصلة بي، لا يمكنني النفاذ اليه»، فإنها - أي التحولات - صارت أكثر وضوحاً وتماسكاً في كتابيه «السمات المميزة للزمن الراهن» و» التمرس في حياة المسرة»، لتصل الى ذروتها في «خطابات الى الأمة الألمانية».

كتب فيخته تلك «الخطابات» في برلين بين العامين 1807 و1808، وتحديداً بعد معاهدة الصلح في تلسيت التي أسفرت عن سحق القدرة العسكرية البروسية. ونعرف ان تلك المعاهدة وُقّعت في وقت كانت فيه ألمانيا تعيش أوقاتاً عصيبة، إذ في أواخر العام 1806، بعد معركة ينا، احتل الفرنسيون برلين. وهرب فيخته الى كونيگسبرگ ليدرّس طوال ستة أشهر، لكن هذه سقطت بدورها في أيدي الفرنسيين في العام 1807، فلجأ فيخته مع نفر من الوطنيين الألمان الى الدنمارك. وفي آب (أغسطس) من ذلك العام أُبرمت معاهدة السلم، وعاد فيخته لينتمي الى واحدة من أكثر الروابط القومية الألمانية تطرفاً (توگوندبوند) وبدأ يروج لأفكار قومية ألمانية مناهضة لفرنسا، هي تلك التي تضمنتها الخطابات.

الترجمة العربية لخطابات الى الأمة الألمانية، ترجمة د. سامي الجندي، الطبعة الأولي، أكتوبر 1979، دار الطليعة بيروت.

«الخطابات الى الأمة الألمانية» هي، إذاً، 14 نصاً، القاها فيخته على شكل محاضرات في جامعة برلين. وفيها أخذ المفكر على عاتقه توجيه أمته الألمانية نحو السبل التي عبرها يمكنها ان تنهض اخلاقياً ومعنوياً، مؤكدة نبلها وحيويتها. في الخطابات قال فيخته أن الزمن الذي كان يمكن فيه تحقيق هذا الأمر، عبر الاصلاحات السياسية، قد ولى. المطلوب الآن التركيز على الأخلاق. والأمة الألمانية مؤهلة لهذا، فهي - وبحسب ما يخلص فيخته في مقدمة الخطاب السابع - «أمة تنتمي إلى طبائع الجرمان الأساسية التي هي طبائع عرق بدائي، له الحق بأن يعتبر نفسه الشعب المميز، بالمقارنة مع الشعوب الأخرى التي انفصلت عنه». وفيخته إذ يعدد مزايا هذا «الشعب الفريد»، في رأيه، يقول ان ما أضرّ به إنما هو «روح الموت الأجنبية التي تمد هيمنتها من دون أن يتنبه لها شعورنا، على كل مفاهيمنا العلمية الأخرى». وهنا يرى فيخته ان اللاتين الأوروبيين - ويقصد الفرنسيين في الدرجة الأولى - إنما انفصلوا أصلاً عن الجرمان، واختلطوا بالبرابرة المنحطين، ليؤثروا سلباً في الشعب الألماني الذي «يبرهن لنا التاريخ انه اختير من قبل العناية الإلهية ولكن بمهمة سامية هي انقاذ الجنس البشري». ويؤكد فيخته هنا أن «الفارق الوحيد بين الشعب الألماني والشعوب الأخرى يكمن في أن الألمان وحدهم هم الذين احتفظوا بنقاء الطاقة البشرية الخلاقة وكمالها».

من الواضح أن فيخته، الفيلسوف الكبير لم يلق مثل هذا الكلام على عواهنه، بل رسمه كأسس ذات بعد فلسفي، في انطلاق من مفهوم الأنا الخلاق، وما إلى ذلك. غير أن في إمكاننا طبعاً، أن نستبدل الأسماء، أسماء الشعوب والأماكن في هذا النص، لنجد كيف أن كل شعب في إمكانه أن يطبقه على نفسه، ويجد فيه مبررات تطرفه القوي وتعصبه ضد الآخر. ولقد امتلأ القرن العشرون، كما نعرف، بخطابات فاشية وعنصرية تكاد تكون مأخوذة بحذافيرها عن نصوص فيخته التي ترجمت وقرئت بشغف، من قبل متطرفي النزعات القومية، ومن بينهم نمط من قوميين عرب جعلوا من نص فيخته وتأكيداته أسساً بنوا عليها نظريات مماثلة. وهذا ما يجعل فيخته قابلاً لأن يعتبر الأب الشرعي لكل النزعات الفاشية المتطرفة الحديثة، عبر هذا الكتاب.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

إقتباسات

-- أن نحب الخير علي أنه خير لا علي أنه وسيلة نفع نجنيها منه , وأن يكون فيه رضا كامل

--


الكاتب

غير أن يوهان گوتليب فيشته (1762 - 1814) لم يكن في الأصل مفكراً فاشياً لاعقلانياً، بل كان من دعاة التنوير وأصحاب الفلسفة الإنسانية، ولطالما خاض المعارض ووضع المؤلفات التي جعلته طريدة اللاعقلانيين والكنيسة. ومن أبرز كتبه، التي يعتبر معظمها «برهاناً علمياً على مبدأ الحرية» - في رأي مؤرخ الفلسفة إميل براهييه - «أسس القانون الطبيعي» و «محاولة في نقد كل وصي» و «المبادئ الأساسية لكل نظرية العالم» و «نظرية القانون». ومعظمها مؤلفات وضعها قبل خيبة الأمل التي دفعته الى اللاعقلانية وإلى تأسيس الفاشية الحديثة.

المصادر

  • ابراهيم العريس (2015-05-13). "«خطابات إلى الأمة الألمانية» لفيخته: الفاشية في أولى خطواتها". صحيفة الحياة اللبنانية.

انظر أيضاً

الهامش

  1. ^ أ ب Jusdanis 2001, pp. 82-83.
  2. ^ James 2011, pp. 162.

المراجع

للاستزادة

  • Gregory Moore (ed.), Fichte: Addresses to the German Nation (Cambridge: Cambridge University Press, 2008).