جهاركس الخليلي

شمس الدين جهاركس الخليلي Jaharkas al-Khalili (توفي 917 هـ/1389م) كان أحد أمراء السلطان الظاهر برقوق (أول المماليك البرجية الشركسية في أواخر القرن 14)، ومقربا إليه؛ ويحمل لقب "أمير أخور" (أي المشرف على الاسطبلات والخيل والهجن والبريد).

بحلول عهد السلطان برقوق، أول سلاطين المماليك البرجية (الشركسية) في أواخر القرن 14، تأثرت مصر بشدة من ويلات الطاعون، إلا أنها واصلت دورها كمركز لنشاط اقتصادي عظيم، كما يدل تشييد العديد من المباني التجارية والدينية في ذلك الوقت.[1]:147 أثناء العهد الأول للسلطان برقوق (1382-1389) قام سيد الاسطبلات (أي "أمير آخور")، جهاركس الخليلي، بإزالة مقبرة الفاطميين، تربة الزعفران، لينشئ مكانها كرڤان سراي كبيرة ("خان" بالعربية؛ وهو مبنى لإقامة التجار وبضائعهم) في قلب المدينة.[2]:179 وقيل أنه ألقى عظام الأسرة الملكية الفاطمية في تلال القمامة شرق المدينة.[1]:57 وسـُمـِّيَ الخان خان الخليلي الذى مازال يعرف باسمه حتى الآن؛ والذي أزاله السلطان الغوري، بدوره: في شهر ربيع الأول من عام 917هـ (1511م)، وأقام مكانه محال ووكالات ونزلاً للتجار.

شاء الخليلي ذات يوم، أن يبني لنفسه خانا كبيرا، تمارس فيه شتى أنواع التجارة، وبعد بحثه عن موضع مناسب، رأى أن يشيد الخان على موضع قريب من مسجد سلطانه برقوق بالقرب من ميدان “بين القصرين” بشارع المعز، ولم يكن هناك شيء ليعيق الخليلي عن قراره، سوى أن الأرض التي اختارها كانت تحوي رفات عدد كبير من الموتى، وهو ما يستدعي نبش قبورهم للبدء في البناء، وهو قرار لم يكن من السهل اتخاذه دون مسوغ شرعي.[3]

كان للخليلي، صديق يدعى، شمس الدين محمد القليجي، وهو شيخ حنفي يعمل بالإفتاء، وتولى نيابة القضاة بالقاهرة لفترة، فتوجه إليه جهاركس وسأله الرأي الشرعي في نبش القبور التي تعيق إنشاء مشروعه الاقتصادي الضخم “خان الخليلي”؟ فما كان من القليجي إلا أن أخبره أن هذه قبور خلفاء الدولة الفاطمية الموجودة بالموضع الذي كان سابقا تربة الزعفران، وأفتاه بجواز إزالتها وإلقاء ما بها من رفات كون الفاطميين “كفارا رفضة”.

وفي صبيحة يوم مشهود، استجلب الخليلي العشرات من العمال والعبيد، وبدأوا ضرب معاولهم بتربة الزعفران واستخراج رفاة عشرات الرجال والنساء، ووضعوهم داخل قفف على ظهر البغال التي سارت بهم في شوارع وحارات القاهرة، التي لطالما شهدت مرورهم في احتفالات وسط الهتافات والحشود، وكأنها تودع دولتهم التي كانت ملأ السمع والبصر.

ومرت البغال من أمام المشهد الحسيني، والجامع الأزهر وكأنها تودعهما، فيما تجمع البعض لمشاهدة هذا الموكب غير المألوف، ثم خرجت من أسوار القاهرة تماما، وألقي بها في كيمان البرقية -“مقلب قمامة” ضخم موضعه الحالي هو حديقة الأزهر- في نهاية لا تليق بمن كانوا يوما ما حكاما لدولة مترامية الأطراف تشمل مصر وأجزاء من الشام وشمال أفريقيا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

كيمان البرقية

كانت كيمان البرقية تقع بالجهة الشرقية من أسوار مدينة القاهرة، وكانت في البداية فضاء لا بناء فيه، يربط ما بين الأسوار وجبل المقطم.

وكانت السيول عند اشتدادها عادة، تتسرب إلى القاهرة اندفاعا من أعلى المقطم، فأمر الحاكم بأمر الله، بوضع “كيمان” خلف سور القاهرة بالقرب من باب البرقية، لصد تدفق المياه، فصارت تلال شاهقة منعت المياه من الانحدار، كما بني عليها بعض طواحين الهواء. ومع مرور الزمن، استخدم المصريون هذا الموضع، لإلقاء مخلفاتهم، هي الوظيفة التي خصصت لهذا الموضع واستمرت ترتبط به قرابة 600 عام كاملة، إلى أن أزيلت مؤخرا لبناء حديقة الأزهر.

وشهدت عملية إزالة تلك التراكمات لبناء الحديقة، العديد من الاكتشافات الأثرية، تضمنت أسوار المدينة القاهرة التي بدأ في بنهائها صلاح الدين الأيوبي ولم يكملها، وكان غرضه من هذه الأسوار أن تشمل المدن الأربعة التي شكلت عاصمة الدولة في ذلك الوقت، “الفسطاط والعسكر والقطاع والقاهرة”، كما اكتشفت أحجار ثمينة وألواح عليها كتابات بالهيروغليفية.

اللافت، أن عملية إنشاء حديقة الأزهر في هذا الموضع، تمت بالتعاون بين محافظة القاهرة، وبين الشاه كريم الحسيني، الملقب بـ”الأغا خان الرابع”، وهو مواطن بريطاني الجنسية، ويعتبر إمام الشيعة الإسماعيلية النزارية -من نسل الخليفة المستنصر- وذلك كهدية منه للقاهرة تخليدا لذكرى أجداده ودولتهم الغابرة.


نهاية جهاركس

جهاكس الخليلي كانت نهايته مثيرة وتستدعي التوقف، وهي نهاية اعتبرها “المقريزي” أفضل جزاء على ما فعله من نبش لقبور الموتى والاستهانة بها وإلقائها في المزابل.

ويحكي المقريزي قصة نهاية جهاركس الذي كان عمره أقصر بكثير من عمر “خان الخليلي” قائلا، أن السلطان الظاهر برقوق، أمره بترأس جيش ضم 500 مملوك، والتوجه بهم إلى دمشق لمواجهة بعض الأمراء الذين خرجوا على السلطان، في معركة الناصري سنة 917 هـ/1389م، إلا أن جنود السلطان هزموا بسبب خيانة بعض القواد للخليلي وفرار الباقين.

وينهي المقريزي حديثه عن الخليلي محاولا إنصافه ظالما ومظلوما بقوله “وقتل الخليليّ… وترك على الأرض عاريا وسوءته مكشوفة، وقد انتفخ وكان طويلا عريضا إلى أن تمزق وبلي عقوبة من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وأبنائهم، ولقد كان عفا الله عنه عارفا خبيرا بأمر دنياه، كثير الصدقة، ووقف هذا الخان وغيره على عمل خبز يفرّق بمكة على كل فقير، منه في اليوم رغيفان، فعمل ذلك مدّة سنين، ثم لما عظمت الأسعار بمصر وتغيرت نقودها، من سنة ست وثمانمائة، صار يحمل إلى مكة مال ويفرّق بها على الفقراء”.

وبهذا انتهى الخليلي وانتهت قصته، وبقي خانه الشهير، شاهدا على ما فعل، بعدما أصبح واحدا من أهم المزارات السياحية في مصر طوال عقود.

ومات جهاركس الخليلي بدمشق، وتركت جثته في الخلاء؛ لتلتهمها الحيوانات البرية.

ويقول المؤرخون بأنه دفع ثمن إخراج جثث الفاطميين، وإلقاء بقاياهم على ركام الأكوام خارج القاهرة.

الهامش

  1. ^ أ ب Raymond, André. 1993. Le Caire. Fayard.
  2. ^ Williams, Caroline. 2008 (6th ed.). Islamic Monuments in Cairo: The Practical Guide. Cairo: American University in Cairo Press.
  3. ^ الحاوي سوفت. "خان الخليلي.. حكاية نبش قبور الخلفاء الفاطميين وإلقاء رفاتهم في المزابل". الحاوي سوفت.