بنك الحبشة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تأسيس بنك الحبشة

سعت بريطنيا بعد أن دعمت نفوذها السياسي في اثيوبيا بمعاهدة 15 مايو سنة 1902 (37)، الى تدعيم نفوذها الاقتصادي أيضا، فحاولت استقطاب التجارة الأثيوبية الى السودان ومصر عن طريق المحطة التجارية التي حصلت عليها في المعاهدة المذكورة في حدود السودان مع أثيوبيا، وذلك بدلا من ميناء جيبوتي الفرنسي (38)، وساعد على ازدياد نفوذ بريطانيا الاقتصادي، تحول منليك عن فرنسا بسبب غلطة سياسية كبرى وقعت فيها حكومة فرنسا، اذ لم تنتبه الى تاثير الاتفاقية التي عقدتها مع الشركة الفرنسية المنفذة لمشروع الخط الحديدي جيبوتي – أديس أبابا على علاقتها بأثيوبيا (39).

وكانت هذه الشركة قد حصلت على امتياز بناء هذا الخط الحديدي، وعانت اضطرابا ماليا عاقها عن الاستمرار في تنفيذ هذا المشروع، وحاولت انجلترا عن طريق شركاتها المسيطرة على المشروع وبالتالي على تجارة أثيوبيا التي يخدمها هذا المشروع في نقلها الى ميناء جيبوتي. على أن الحكومة الفرنسية عقدت اتفاقية مع الشركة منحتها اعانة سنوية مقدارها نصف مليون فرنك لمدة خمسين عاما وذلك لمنعها من الالتجاء لمعونة بريطانية، واشترطت أن تظل الشركة الفرنسية وتحت اشراف وزير المستعمرات الفرنسي سواء في لائحتها أو خط سيرها الذي لا يعدل الات باذن منه، كما أسندت عملية تحديد أجور النقل الى الادارة الفرنسية في الصومال الفرنسي الذي تنتقل اليه ملكية الخط من جيبوتي الى هرر، وذلك بعد 99 سنة من تأسيس الشركة التي تلتزم باعطاء تخفيض لنقل موظفي الحكومة الفرنسية وبضائعهم أو أي بضائع أخرى مرسلة باسم الحكومة الفرنسية. كما خولت الاتفاقية لوزير المستعمرات الغاء الاتفاقية ومصارة، جزء من الخط يقع بين جيبوتي وحدود أثيوبيا (40).

وكانت غلطة الحكومة الفرنسية أنها حلت محل الشركة دون استشارة منليك في ذلك. ولما كان الامبراطور الأثيوبي حريصا على استقلاله، فقد استغل سيرجون هارينجتون معتمد بريطانيا في أثيوبيا هذه الفرصة، ولفت نظر منليك الى مطامح فرنسا في بلاده، مما أدى الى انقلاب سياسته ازاء الفرنسيين، فاحتج رسميا على الاتفاقية السابقة الذكر، واعتبرها تعديا على حقوقه كحاكم دولة مستقلة، وبذلك هبط النفوذ الفرنسي في أثيوبيا هبوطا فاحشا (41).

لذلك فعندما أصبح من الضروري انشاء نظام مصرفي في البلاد خصوصا بعد تأسيس العاصمة أديس أبابا وانفتاح البلاد على العالم الأوروبي وبالذات بعد انتصار عدوه، وتدفق الأوروبيين عليها، رفض منليك أول مشروع لتأسيس بنك أثيوبي لأنه مقدمه كان فرنسا. على أن ضرورة وجود بنك أثيوبيا عادت الى الظهور مرة أخرى في أوائل شهر مايو سنة 1903، جعلت منليك يطلب – وذلك بعد تحوله عن فرنسا – من هارينتجتون المعتمد البريطاني في أثيوبيا، أن يطلب من حكومته المساعدة والتدعيم في انشاء هذا البنك (42).

وبالفعل ارسل هارينجتون برقية الى وزارة الخارجية البريطانية يعرض عليها رغبة الامبراطور الاثيوبي، ويطلب منها أن تعهد بتنفيذ هذه الرغبة الى بعض رجال المال والتجارة في انجلترا. وحول هذا المطلب بعد عام ونصف الى اللورد كرومر في مصر الذي كتب الى سير الوين بالمر مدير البنك الأهلي المصري يقول له أن منليك يعطي امتيازا لمدة خمسين عاما لشركة مصرفية لها اختصاصات تتعلق بأعمال المصارف وسك العملة واصدار الأوراق المالية وتخليص البضائع وتخزينها والحفاظ على كل أموال الدولة واقراضها. وأضاف كرومر أن الحكومة البريطانية تحبذ هذه الفكرة وتؤيدها وأن الايطاليين والفرنسيين مهتمون بها ولهذا فهو يرحب بدخولهم في المساهمة في انشاء هذا البنك، وقد استجاب مدير البنك لهذا الطلب بسرعة وارسل مندوبا عنه ذا سلطات تنفيذية واسعة الى أديس أبابا للبحث والدراسة (43).

وتسلم ماك جيلفري مبعوث البنك الأهلي إلى أديس أبابا الامتياز الصادر من الامبراطور منليك في 10 مارس سنة 1905 الخاص بالاحتكار المصرفي في أثيوبيا وجاء في مادته الأولى، بأن يمنح البنك الأهلي المصري امتيازا لمدة خمسين عاما لكي ينشئ شركة مصرفية تسمى باسم "بنك الحبشة" لا يقل راس مالها عن نصف مليون جنيه موزعة على مائة ألف سهم تطرح في أسواق المال في كل من لندن وباريس ونيويورك وبرلين وروما وفينا والقاهرة وأديس أبابا للاكتتاب العام فيها مع موافقة حكوماتها، ويكن لهذا البنك أن يزيد راس ماله كلما استدعى الأمر ذلك على أن يكون مركزه الرئيسي في أديس أبابا ومع ذلك فقد صرح له بانشاء فروع كلما راى ذلك وجابا سواء كان في الداخل أو الخارج (44).

وضمانا لهذا البنك وموقفه الاحتكاري لمدة خمسين عاما، منحه منليك ثمانية امتيازات هي: أن لا يسمح لاي بنك آخر بممارسة أية أعمال مصرفية في أثيوبيا وأن له الحق وحده في اصدار الأوراق النقدية والعملات والتبادل الحر في الذهب والفضة، وأن لا تقوم الدولة بسك أية عملة معدنية، انما اسند اليه ذلك بالتشاور مع الحكومة الاثيوبية التي اعتبرته بنك الدولة تضع فيها أموالها العامة ومدفوعاتها الحكومية تكون بموجب اذون مقبولة الدفع لدى هذا البنك، وتعطي الحكومة الأثيوبية ايضا الافضلية في الاقتراض منه، كما سمحت له بأن يبني مخازنه في المناطق التي يستطيع فيها التجار تخزين بضائعهم في مقابل القروض، هذا بالاضافة الى أن الحكومة الأثيوبية منحت البنك أرضا بلا مقابل سواء للمركز الرئيسي في أديس أبابا أو فروعه وتوكيلاته ومخازنه – وسمح للبنك بأن يستخدم السكك الحديدية في نقل البضائع بالنسبة الحكومة المقررة لها، ويحصل الامبارطور منليك على 20 % من صافي الأرباح، وذلك بعد دفع التكاليف ووضع جزء من الأرباح كاحتياطي وتوزيع جزء آخر على حاملي الأسهم، وقد حدد هذا الامتياز بانه اذا لم يفتح البنك قبل أول يوليو سنة 1906 يعتبر لاغيا (45).

وقد أثارت هذه الامتيازات التي بموجبها أصبح هذا البنك المقترح انشاؤه مسيطرا على كافة الأنشطة الاقتصادية في أثيوبيا. اثارت الدهشة والحيرة في الراي العام المصري واعتقد ان استقلال أثيوبيا قد انتهى وذلك بالرغم من أن هذا البنك كان يخضع للبنك الأهلي المصري وكان سيعمل على تنمية العلاقات التجارية بين مصر وأثيوبيا (46). والواقع أن منليك فطن الى هذا، فطلب أن يكون المكتتبون في راس مال البنك من جنسيات مختلفة وتتاح الفرصة للاشتراك في تأسيس البنك. وذلك لكي يستخدم أموال هذا البنك الدولي في تمويل سكك حديد جيبوتي – أديس أبابا بقصد تدويلها هي أيضا (47).

ومع هذا فقد كانت نسبة الأموال المودعة والمكتتب بها المجموعة الانجليزية والمصرية تمثل 39% أي أكثر من الثلث وذلك بالنسبة الى المجموعات الأخرى فكانت المجموعة الفرنسية حوالي 19.5% والمجموعة الايطالية كذلك. والمجموعة الألمانية والنمسوية والأمريكية حوالي 11%، ومجلس ادارة البنك 5% والمكتتبين الأثيوبيين حوالي 6% (48). وهكذا نرى أن انجلترا ومصر احتفظتا بالسيادة على البنك بحكم أنها أكبر نسبة وبالتالي على اقتصاديات أثيوبيا وتدعيم النفوذ الاقتصادي البريطاني في هذه البلاد (49).

وبعد وصول الامتياز الى البنك الأهلي المصري، وتقديم ماك جيلفري تقريره في 15 مارس سنة 1905 مزكيا قيام بنك الحبشة، وموضحا أن هناك مجالات كثيرة يمكن أن يحقق البنك ارباحا من خلالها والتي تزيد كثيرا عن أرباح أي بنك ينشأ في البلاد المتقدمة، سعى المسئولون في البنك الأهلي المصري الى الحصول على ديكريتو من الخديوي عباس حلمي الثاني يسمح فيه باقامة هذا البنك طبقا للقانون المصري (50). وبالفعل صدر هذا الدكريتو في 30 مايو سنة 1905، حيث وافق فيه على عقد الشركة الابتدائي المحرر بصفة عرفية في القاهرة في 29 مايو سنة 1905 بين الأجانب سير الوين بالمر، ف. ت. رولت، وماك جليفري وجميعهم من رعايا انجلترا، بوهو بخار، روفائيل فنري، هيمبرت ايبانو وهم من رعايا ايطاليا، ألفريد فيبت من رعايا ألمانيا، وذكر أن هؤلاء مقيمون في القاهرة وأسسوا شركة مساهمة مصرية تدعى "بنك الحبشة" ورخص لها ذلك على عهدتهم ومسئوليتهم في مصر، بحيث لا يترتب لى هذا الترخيص أدنى مسئولية أو احتكار أو امتياز من الحكومة المصرية أو عليها، وبشرط أن يتبع هؤلاء المؤسسون قوانين القطر المصري وعاداته وأنظمته (51). وفي نفس يوم صدور هذا الدكريتو صدر دكريتو آخر يزيادة رأس مال البنك الأهلي الصمري بمبلغ نصف مليون جنيه هي قيمة راس مال بنك الحبشة المزمع انشاؤه (52).

وهكذا جاء "بنك الحبشة" على أنه فرع للبنك الأهلي المصري، له وضع خاص بادارة في أديس ابابا والقاهرة، وعين محافظ البنك الأهلي المصري محافظا لبنك الحبشة، ولكن كان له مدير تنفيذي وهيئة ادارية مكونة من جنسيات مختلفة يغلب عليهم الجنسية البريطانية (53). وقد عين ماك جيلفري مديرا تنفيذيا لبنك الحبشة، وتكون مجلس ادارته من ثمانية أعضاء منهم اثنان من الرؤوس الاثيوبيين وقد عين الامبراطور منليك الرئيس الشرفي للبنك الرأس تساما بدلا من الرأس ماكونين الذي توفي سنة 1906، الراس ولد جيورجيس وهما اللذان يمثلان الجانب الأثيوبي في هذا البنك (54) على أن جميع العاملين في هذا البنك كانوا من اليونانيين والايطاليين والفرنسيين والانجليز لافي المركز الرئيسي في أديس أبابا وفي الفروع الأخرى التي افتتحت في أنحاء الامبراطورية الأثيوبية (55)ز

وبمجرد اعلان تأسيس البنك بدأت اجراءات طرح أسهمه للاكتتاب العام وتحدد أول شهر نوفمبر سنة 1905 موعدا لبدء بيع أسهمه في مصر وسائر العواصم الأجنبية الأخرى (56). وقد بلغ عدد الأسهم 100.000 سهم قيمة كل سهم منها خمسة جنيهات، وقد أخذت المجموعة المصرية الانجليزي ربع هذه الأسهم، والمجموعة الفرنسية والايطالية الربع الثاني منها، أما ما تبقى فقد احتفظ مجلس ادارة البنك منه ب5000 سهما وطرح الباقي (45.000 ) للاكتتاب العام، فطرح في أديس ابابا 7.500 سهم وفي مصر 6.625 سهم ومثلها في كل من المدن، لندن، باريس، روما، فينا وأخيرا نيويورك (57).

وبالرغم من أن الثمن المحدد لبيع الأسهم كان خمسة جنيهات، فان القائمين على البنك طرحوها في الأسواق المالية بأزيد من سعرها هذا، فبيعت في مصر بسبعة وتسعة جنيهات على أن هذا السعر لم يستمر طويلا في الأسوال المالية بمصر. اذ سعان ما هبط تدريجيا حتى وصل إلى 6.75 جنيها، وذلك يرجع الى اضطراب الثقة في هذا المشروع ولأن مستقبله محفوف بالمخاطر وقائم في بلاد لا تعرف حتى هذا الوقت قيمة التعهدات، هذا بالاضافة الى أن مصر كانت تمر بأزمة ثقفة في المصارف والأوراق المالية فقل اقبال الناس عليها مما أدى الى هبوط أسعارها الاسمية في الأسواق المالية، وبالطبع تأثرت أسهم بنك الحبشة، بل أن اسهم البنك الأهلي المصري نفسه تأثرت. فانخفض سعر السهم بأزيد من جنيهين (58). وظلت أسهم بنك الحبشة في الانخفاض حتى جاء الوقت الذي سارت تباع فيه بأقل من سعرها الأصلي أي أقل من خمسة جنيهات (59).

وعلى أي حال فقد افتتح الامبراطور منليك البنك في 15 فبراير سنة 1906، وذلك في قصر الرأس ماكونين، وفي هذا القصر المركز الرئيسي للبنك حتى يناير سنة 1910 عندما انتقل الى مبنى جديد صممه وبناه المهندسون الايطاليون، كذلك انشئت فروع للبنك في ديرداوا في سنة 1908، وجوري وجامبيلا، سايو، في سنة 1912 ، في دبسي وجيبوتي في سنة 1920. وظل محافظو البنك من الرعايا البريطانيين يعينهم البنك الأهلي المصري وذلك حتى سنة 1931 عندما أمم وأصبح خاضعا للحكومة الأثيوبية (60).

ومن البداية واجه البنك مشاكل جدية خطيرة، فقد كان عليه أن يغطي المرتبات الكبيرة لموظفيه وتكاليف الادارة للبنك وفروعه في أنحاء أثيوبيا، وكانت هناك صعوبة أخرى واجهت البنك، تتمثل في اصطدامه بمصالح المستثمرين الأجانب في بلد بعيدة كأثيوبيا تحتاج الى مجهودات ضخمة لكي تبدأ في اعطاء عائد مجز لها، كذلك لم يجد البن قبولا من المستثمرين الأثيوبيين الذين لم تجذبهم معدل الفائدة المنخفض (3%) لايداعاتهم، مفضلين استثمار أموالهم في الأرض، كما أن عملية الاقراض كانت تتم بين الأثيوبيين بمعدل فائدة (10) شهريا، هذا بالاضافة إلى احتياج الشعب الأثيوبي الى وقت كاف لادراك وفهم أهمية وفائدة البنوك. اذ لم ينظروا اليه الا على أنه يقرض جميع أفراد الشعب، وحتى الحكومة الأثيوبية لم تستعمل البنك كما كان متوقعا فهي لم تضع دخلها القومي المتراكم في البنك ولكنه كان يخبأ في القصر الامبراطوري (61).

وساعد على بطء تقدم هذا البنك عدم اكتمال بناء الخط الحديدي ومده الى أديس أبابا، وبالتالي تفرعه الى المدن والاقاليم المجاورة مما يؤدي إلى وجود شبكة مواصلات جيدة تساعد على رواج التجارة فتزداد معاملات التجارة مع البنك، هذا بالاضافة الى أن الأثيوبي لا يعرف ولا يفهم معنى التجارة، ولذلك فقد كانت الأعمال التجارةي يقوم بها الأوروبيون والهنود واليمنيون والعرب، وكان عدد الأوربيين قليلا والفئات الأخرى لها عاداتها التجارية المستقلة عن البنوك (62). لذلك كان التقدم في هذه الظروف بطيئا، فلم تحصل أرباح مجزية حتى سنة 1914، اذ كان السهم يدر عائدا وقف عند 4 أو 5 شلن فقط، الا أنها قفزت في السنة المذكورة الى 10 شلن وبعد ذلك الى 40 شلن، وكان السبب وراء ذلك تدهور الفرنك الفرنسي نتيجة الحرب العالمية الأولى، على أنه بعد انتهاء الحرب بدأ البنك يعطي عائدا 3.5 % لحاملي أسهمه، تزايدت بعد ذلك الى 4.5% واستمرت هذه الزيادة ، نتيجة لازدياد أعمال البنك المالية وتطورها وذلك حتى سنة 931 سنة التأميم (63).

وقد ظل هذا البنك خاضعها للبنك الأهلي المصري طوال هذه المدة (19.6-1931) في ادارته وتوجيه سياسته، وكانت جمعيته العمومية تعقد في مصر سنويات بمقر البنك الأهلي المصري بالقارة، حيث ينظر في تقرير مجلس ادارة بنك الحبشة وتقرير مراقبي الحسابات، والحسابات الختامية للعام السابق، وتعيين مراقبين للعام الالي، وتقدير المكافأة التي تمنح لهم. وكان لكل مساهم في البنك يحمل على الأقل خمسة أسهم، الحق في أن يحضر هذه الجلسة، وذلك بشرط ايداعها باحدى المراكز التي يحددها البنك الألي المصري سواء في مصر أو في الخارج وذلك قبل عقد الجلسة بخمسة أيام على الأقل يحصل بعدها على تذكرة تسمح له بحضور الجلسة (64)، وظل هذا التقليد ساريا حتى بطل بانتقال ملكية بنك الحبشة الى الحكومة الأثيوبية (65).


تصفية بنك الحبشة

منذ أن وصل الرأس تفري الى الحكم في سنة 1917 وهو يعمل على تطوير إثيوبيا وتحديثها لذلك فقد كان هو وأتباعه وراء حركة المعارضة التي ظهرت منذ سنة 1882، لاستمرار وجود مؤسسة مصرفية أجنبية تستغل بلادهم وتحقق ربحا كبيرا لصالحها. وقد تزايدت هذه المعارضة خصوصا بعد أن عبر أحد الماليين البلجيكيين من الكونجو عن أمانيه في التعاون في اقامة بنك تملكه الحكومة الأثيوبية (183). وعلى ذلك أرسل الامبراطور هيلاسلاسي بعد أن توفيت الامبراطورة زوديتو وفدا الى القاهرة مكونا من أتو ماكونن وهو من كبار مجلس أديس أباب البلدي، لمفاوضة البنك الأهلي المصري الذي يملك "بنك الحبشة" تمهيدا لشرائه (184).

وكانت الحكومة الاثيوبية قد استعدت لشراء بنك الحبشة، بأن فرضت ضريبة فادحة على جميع الواردات ما عدا مواد البناء والماكينات والسيارات والبنزين، ومن حصيلة هذه الضرائب تحصل على الأموال اللازمة لشراء البنك ولادخال نظام ثابت للعملة الذهبية واصلاح نظام النقد في البلاد (185).

وقد نجحت المفاوضات بين مندوبي أثيوبيا والبنك الأهلي المصري، واتفق الطرفان على أن تأخذ أثيوبيا البنك بشروط يراعا مجلس ادارته أنها في مصلحة المساهمين، وعرضت هذه الشروط على جمعية عمومية للمساهمين عقدت في القاهرة في شهر سبتمبر 1930 وذلك لاقرارها (186). وبالفعل فقد وافق أغلب المساهمين، وتنازلت الجمعية العمومية عن الادارة وعن امتيازه وممتلكاته وجميع حقوقه مقابل ما تدفعه الحكومة لها نقدا من الذهب يساوي تلك الممتلكات والمباني والحقوق هذا علاوة على مكافأة مالية لا تقل عن أربعين ألف جنيه. وقد دفعت الحكومة الأثيوبية حتى أواخر سنة 1839 0 125 ألف جنيه ذهبيا والباقي يدفع قبل أواخر العام التالي (187).

وعندما تمت تصفية أعمال البنك القديم، أعلن ذلك في 10 اكتوبر 1931 وكتبت ادارة هذا البنك المصفى الى عملائه بأن يستردوا ودائعهم وأوراقهم منه اذا شاءوا أو يرخصوا بنقلها الى البنك الأهلي الإثيوپي (188). وقد صدر مرسوم في القاهرة بتاريخ 29 أغسطس 1931 بتصفية بنك الحبشة واحلال البنك الأهلي الاثيوبي محله ليقوم بالأعمال التي كان يقوم بها "بنك الحبشة"، وان كان اختلف عنه في أنه أصبح بنكا وطنيا في كل أعماله محافظ بنك الحبشة المصفى نائبا للرئيس، وكان أغلبية مجلس الادارة للأثيوبيين وان استمر الموظفون في البنك المصري يعملون في البنك الجديد، الذي شغل نفس مقاره سواء في أديس أباب أو في فروعه الأخرى في أنحاء أثيوبيا وخارجها. كما أن الحكومة الاثيوبية تملك 60% من رأس ماله وطرح الباقي للاكتتاب العام (189).

على أن تصفية بنك الحبشة وانشاء بنك وطني أثيوبي لا يعني أن العلاقات التجارية قد انتهت بل استمرت ولكنها كانت محدودة جدا، وتحت البحث والدراسة من كلا البلدين لمعرفة امكانية التوسع التجاري بينهما (190). ومع ذلك فقد عقد اتفاق تجاري مؤقت بين البلدين في أواخر شهر ديسمبر 1920. وكان هذا الاتفاق قد اعتمد على خطابين متبادلين بين قنصل مصر في أديس أبابا ووزير الخارجية الأثيوبي. وبموجب هذا الاتفاق تقبل الحكومة المصرية تطبيق معاملة الدولة الأكثر امتيازا على جميع الحاصلات والمصنوعات المنتجة أصلا في أثيوبيا والتي تستورد الى مصر للاستهلاك المحلي فيها أو تصدر منها أو تعبرها الى بلاد أخرى. وتطبق هذه المعادلة بصفة مؤقتة على الوارد من هذه المنتجات الى مصر عن طريق بلاد لم تعقد مع مصر اتفاقات تجارية. وهذه المعاملة تقوم على شرط المعاملة التامة بالمثل مع استثناء المعاملة الخاصة بالحاصلات السودانية والتي قد تطبق على حاصلات البلاد المتاخمة بمقتضى اتفاقات محلية خاصة بها. وقد وافقت الدولتان مصر وأثيوبيا على أحكام هذه الاتفاقية وبدأ العمل بها من 29 ديسمبر سنة 1930 (191).

وبالرغم من ذلك، فقد ظلت الحركة التجارية محدودة بين البلدين، بدليل أن واردات مصر من أثيوبيا لم تكن تقارن بما تصدره مصر اليها، فقد بلغت واردات مصر من أثيوبيا في سنة 1933 (85) جنيها مصريا تقريبا، وتتمثل هذه الواردات في الماشية والدجاج والبن والجلود وغيرها، أما صادرات مصر الى أثيوبيا في نفس العام فكانت 1932 جنيها مصريا، وتتمثل هذه الصادرات في البصل والثوم والصودا الكاوية والأحذية والجلود وخيوط الحرير الطبيعي والمنسوجات الحريرية (192). وعندما اكتمل تبادل التمثيل القنصلي بين البلدين في أواخر سنة 1934 بدأ القنصل الأثيوبي الجديد في مصر يدرس امكانيات تجارية بينهما (193)، على أن هذا القنصل لم يستمر طويلا في منصبه اذ سرعان ما نقل، وحل محله قنصل آخر (194)، ثم تأزمت الأمور بين ايطاليا وأثيوبيا أدت بعد ذلك الى قيام الحرب بينهما واحتلال الأولى للثانية. وبذلك لم تتطور العلاقات التجارية عن ذلك.