اللا سلم واللا حرب

اللا سلم واللا حرب، هو مصطلح سياسي أطلقه محمد حسنين هيكل، في مقال بعموده بصحيفة الأهرام، في 14 يوليو 1972، ليصف الوضع العسكري بين إسرائيل ومصر في مطلع عهد الرئيس أنور السادات، بعد حرب الاستنزاف وقبل حرب أكتوبر 1973.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقال اللاسلم واللاحرب

تتردد في سمعى أحياناً، أصداء عبارة سمعتها منذ عدة شهور في لندن، التقطتها ذاكرتى فيما يبدو وسط حديث طويل، ثم احتفظت بها طافية فوق التفكير أحياناً، غاطسة تحته في أحيان أخرى - لكنها كما أتبين الآن لم تذهب مع النسيان إطلاقاً!

يومها كنت في أحد النوادى العتيقة في العاصمة البريطانية ضيف غداء على صديق عزيز هو في نفس الوقت واحد من ألمع نجوم الإستراتيجية والحرب في عصرنا، ثم أن تجربته الواسعة والعميقة أتاحت له أن يتصل عن قرب بمسرح الحوادث في الشرق الأوسط، وأن يظل متابعاً للمجرى العام للتطورات عليه.

وكان الحديث قد امتد بنا ساعات طويلة... ست ساعات تقريباً.

وفى نهاية الحديث، جاءت عبارته التى أعنيها والتى قلت أنها لم تذهب مع النسيان إطلاقاً من ذاكرتى.

قال لى مع رشفة أخيرة من فنجان القهوة التاسع أو العاشر في جلستنا الطويلة تلك... قال:

- هل تعرف؟... إننى فكرت وأفكر طويلاً في الصراع العربى - الإسرائيلى... وأكاد أصل إلى اقتناع مؤداه أن اللعبة السياسية التى تجرى بينكم وبينهم هناك هى أغرب الألعاب في السياسة الدولية المعاصرة.

إنها ليست لعبة واحدة... بل هى في الحقيقة لعبتان.

أنتم تلعبون لعبة... وهم يلعبون غيرها.

أنتم - العرب وإسرائيل - أمام بعضكم في صراع، ولكن الغريب أن كل طرف يلعب لعبة مختلفة.

إذا أردتنى أن أشبه بألعاب الشرق - إذن فأنتم أمامهم تلعبون الطاولة - النرد - ولكنهم أمامكم يلعبون الشطرنج.

وذلك هو صميم المأساة في صراع الشرق الأوسط.

لعبتكم السياسية: طاولة.

ولعبتهم السياسية: شطرنج.

ومع ذلك: فأنتم وهم على ناحيتى لعبة سياسية واحدة... صراع واحد.

- ولعبة الطاولة تحتاج إلى براعة، ولكنها في الأساس تعتمد على ضربة حظ يتمناها اللاعب وقد تقع له أو لا تقع.

ولعبة الشطرنج مسألة أخرى تماماً: أساسها قانون للعبة، وحساب، ثم حركة.

- في تصرفاتكم باستمرار، انتظار واعتماد على ذلك المجهول الغامض، ضربة الحظ التى تقع أو لا تقع، وبعدها تسعدون أو تحزنون... يتوقف الأمر على مهارة اللاعب أو خيبته... على يمن طالعه أو نحس ذلك الطالع.

وفى تصرفاتهم باستمرار لا يوجد شىء من ذلك..

الشىء الوحيد الموجود هو قانون اللعبة، والحساب، والحركة.

لن تهزموهم إذا استمرت لعبتكم السياسية أمامهم: طاولة.

وقد تهزمونهم إذا تحولت لعبتكم السياسية أمامهم إلى: شطرنج.

ولعلكم لا تنسون أنه برغم كل التطورات في علوم الحرب، فإن الشطرنج هو السلف الصالح للإستراتيجية العصرية!!".

كثيراً ما تذكرت هذه العبارة منذ سمعتها...

كانت تصويراً قريب الشبه من أسلوبنا في إدارة صراعنا مع العدو في معظم الأحيان!

وتحفظت "بأنه قريب الشبه" وتحفظت "بمعظم الأحيان" لأننا في بعض تجاربنا استطعنا - وبامتياز - أن نلعب لعبة القانون والحساب والحركة، وتركنا لعبة ضربة الحظ التى تقع أو لا تقع!

وربما ألحت على هذه العبارة الآن، فكتبتها بعد شهور طويلة من سماعها في لندن - لأسباب واضحة:

- في حالة السلام فإن لعبة القانون والحساب والحركة مهمة.

- وفى حالة الحرب فإن لعبة القانون والحساب والحركة أهم.

- وأما في حالة - أو جريمة - اللاسلم واللاحرب فإن لعبة القانون والحساب والحركة تصبح حيوية... تكاد تكون عاصماً وحيداً لا بديل له:

لأن حالة السلام فرصة متاحة للتجربة والخطأ.

ولأن حالة الحرب لقاء مباشر - ووجهاً لوجه - مع الخطر.

وأما حالة اللاسلم واللاحرب فهى نزيف مستمر، وإذا تركناه بغير نهاية فهى حياة بغير أمل... أو موت بغير بطولة، وذلك ما يستحيل علينا أن نرضى به.

وبعض الناس يزعجهم الحديث عن القانون والحساب والحركة، في الصراع السياسى.

يظنون أن القانون في الصراع السياسى: عجز.

ويظنون أن الحساب في الصراع السياسى: انهزامية.

ويظنون أن الحركة في الصراع السياسى: انتهازية.

وأظننى أختلف معهم، وقد يكون مناسباً أن أعطى بعض الأمثلة أشرح بها وجهة نظرى، مما نراه في العالم حولنا.

... فيما يتعلق بالقانون: فلست واحداً من الذين يعتبرون أن قبول بريجنيف - مثلاً - باستقبال نيكسون في الكرملين بينما فيتنام الشمالية تُضرب بقسوة لم تحدث في يوم من الأيام وبينما موانيها تحت الحصار بالألغام وهو ما لم يحدث في يوم من الأيام - ظاهرة عجز من جانب بريجنيف.

إن الاتحاد السوفيتى في هذا الموقف لم يكن عاجزاً، وإنما كان واعياً بالقانون الذى يحكم العلاقات الدولية في هذه المرحلة من الصراع العالمى.

إن بريجنيف برغم الضرب الجوى والحصار البحرى استقبل نيكسون في الكرملين واستقبله بحرارة ورفع معه كئوس الشمبانيا المثلجة لأنه كان يدرك أن ذلك هو البديل المنطقى لاستمرار التصاعد الخطر في التوتر بين القوتين الأعظم بما يمكن أن يجرهما إلى صدام مباشر معاً، وهو ما لا يسمح به قانون العصر بروادعه النووية.

... وفيما يتعلق بالحساب: فلست واحداً من الذين يعتبرون أن قبول فيتنام الشمالية - مثلاً - بالعودة إلى مائدة المفاوضات في باريس - وقد عادت إليها بالفعل أمس - ظاهرة انهزامية.

إن فيتنام الشمالية أدت حساباتها بدقة ليس فقط على أرض ميدان القتال في فيتنام نفسها، وإنما - وربما بالدرجة الأولى - على ساحة المسرح الداخلى للسياسة الأمريكية.

... مع بدء انتخابات معركة الرئاسة في الولايات المتحدة بدأت هجوم الربيع.

والذى يستوقف النظر هو أن فيتنام الشمالية رضيت بالموعد الذى اقترحه نيكسون للعودة إلى مائدة المفاوضات في باريس وهو يوم 13 يوليو - أمس - والذى يوافق موعد انتهاء مؤتمر الحزب الديمقراطى الذى ينعقد في فلوريدا ليختار منافس نيكسون الديمقراطى في الانتخابات المقبلة.

إن فيتنام الشمالية لم تشعر بأى حرج وهى تقبل هذا الموعد المقترح.

قبلته وفى حسابها أنها تعطى لنيكسون نقطة في الفوز بمدة جديدة في رئاسة الولايات المتحدة.

كانت على استعداد - إزاء الحسابات في مواقف القوى الأعظم - أن تعطى له نقطة في واشنطن لكى تأخذ منه نقطة بدلها في سايجون.

... وفيما يتعلق بالحركة: فلقد نتذكر أننا كنا في مراحل عديدة من صراعنا نموذجاً مشهوداً له في هذا المجال.

والحركة في السياسة ولكى يكون ما أقوله محدداً: هى الاستجابة السريعة للمتغيرات مع المحافظة دائماً على المبدأ.

- ولقد سجلت سياستنا في عدم الانحياز - مثلاً - نجاحاً كبيراً وكان ذلك دليل استيعاب كامل للقدرة على الحركة.

إن سياسة عدم الانحياز، كانت - وما تزال - موقفاً سياسياً محفوفاً بالمخاطر.

أسهل منها وأكثر أماناً أن يقبع من يريد في حضن واحدة من القوتين الأعظم ويصبح ذليلاً أو تابعاً يدور في فلكها.

لكننا ومعظم الشعوب الحرة في العالم النامى رفضنا ذلك الأمان الذليل ورحنا نشارك في قضايا السلم والحرب في العالم... في قضايا التقدم والتخلف في العالم... وكنا نتخذ مواقفنا في كل قضية بغير التزام مسبق... إلا التزام المبدأ وحده.

كان ذلك جوهر سياسة عدم الانحياز.

وهو في صميم الصميم منه: حركة... وحركة يقظة... وحركة دائمة.

ولقد فعلنا ذلك أيام السلام... وفعلناه أيضاً في وسط الحرب.

- وكمثال حى فإن جمال عبد الناصر بعد زيارته السرية إلى الاتحاد السوفيتى في يناير 1970، وبعد أن حقق في هذه الزيارة تواجداً عسكرياً سوفيتياً على الأرض المصرية، ورفع بالتالى درجة حرارة الأزمة دولياً - لم يتردد في المبادرة بالحركة.

- في شهر مارس سنة 1970 كانت كتائب الصواريخ السوفيتية تصل إلى مصر.

- وفى شهر أبريل كان جمال عبد الناصر في القاهرة يستقبل جوزيف سيسكو.

- وفى شهر يونيو سنة 1970 كانت كتائب الصواريخ السوفيتية تتمركز في المواقع المخصصة لها في العمق.

- وفى شهر يوليو سنة 1970 كان جمال عبد الناصر يعطى موافقة على مشروع روجرز.

ولعلى أزعم أننا لم نكن قط قريبين من حل معقول للأزمة مما كنا في ذلك الوقت الحافل بالمتغيرات وبالحركة استجابةً لها - لولا انفعالات عربية غير محسوبة، ولولا مذابح سبتمبر في عمان، ولولا رحيل عبد الناصر، ولولا انهيار الجبهة الشرقية نتيجة لذلك كله!

- وفى نموذج قريب فإن أنور السادات استطاع بالحركة أن يفرض عزلة دولية كاملة على إسرائيل طوال صيف وخريف سنة 1971، وقد فعل ذلك برغم الانفعالات العربية غير المحسوبة وبرغم مذابح سبتمبر وبرغم رحيل عبد الناصر وبرغم انهيار الجبهة الشرقية.


انظر أيضاً