الحرافيش

أحمد صبحي منصور أحمد صبحي منصور[1]
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

الحرافيش أو العوام أو الزعر هي ألقاب أطلقها المؤرخون في بداية العصر المملوكي على المصريين سكان القاهرة من الطبقات الشعبية، خصوصا الحرفيين. وفي نهاية العصر المملوكي ساد لقب الحرافيش واستمر علما على الطبقات الشعبية حتى نهاية العصر العثماني. عمل أولئك المؤرخون خدما للسلطة المستبدة الغريبة عن الشعب المصرى سواء كانوا مماليك أو عثمانيين . أولئك المؤرخون لم يكن أكثرهم مصريين، بل وفدوا اليها بحكم المناصب التى كانوا يتولونها في خدمة السلطة في القضاء والتدريس والمناصب الادارية المختلفة، وهم بطبيعة عملهم كانوا منحازين للسلطة يشاركونها في الاستعلاء على الشعب المصرى من فلاحين في الريف و( زعر ) و( حرافيش ) في القاهرة. وفي هذا الشعور كانوا جميعا يشتركون، لا فارق بين مؤرخ مولود في مصرى أو قادم اليها.

أولئك المؤرخون خدم السلطان ولّوا وجوههم شطر السلطان يسجلون حركاته وسكناته ويسجلون تفصيلات الأمراء والطبقة الحاكمة، بل ويفسحون المجال للتأريخ لأنفسهم خلال طبقات العلماء والفقهاء .. الخ .. ولا يلتفتون إلى عوام الشعب المصرى الذين يكدّون في إنتاج الخير للغير . لا يسنحق المصريون المحكومون سطرا في التاريخ إلا إذا تعرضوا للقتل ،أى لا بد أن يموت المصرى قتلا حتى يلتفت اليه المؤرخون خدم السلطة. وحين يقوم الشعب بثورة على السلطان الظالم فيضطر المؤرخون لتسجيل ما يحدث ـ دون تعاطف في الأغلب.

2 ـ وقد حان الوقت للاحتفال بلقب ( الحرافيش ) و(الزعر ) وإعطاؤهما حقهما من الاحترام مخالفة للمؤرخين من خدم الظلمة السلاطين. أولئك ( الحرافيش ) و( الزعر ) أو الدهماء والعوام هم أجدادنا وهم ملح أرض مصر، وأصلها والمستمرون على الحياة فيها عشرات القرون. هم كما قالت (أم المصريين ) السيدة صفية زغلول كالرمال تتحمل السير فوقها، ولكن لو ثارت فهى تعصف بالظالم وتهلكه . يجب على كل مصرى أن يفخر بأجداده من الحرافيش والزعر، حين كانوا يثورون على الظلم على الاستبداد فيواجهون القمع والقتل ولا يجدون الإنصاف من المؤرخين.

أولئك الحرافيش والزعر الثائرون على الظلم العسكري في العصرين المملوكي والعثماني هم أجداد الثوار المصريين في أيامنا هذه في التحرير والاسكندرية والسويس والمنصورة والشرقية والبحيرة و الصعيد ، يكررون مسيرة الفخر والبطولة لأجدادهم الحرافيش. ومع اختلاف الظروف فإن ثوار مصر الأطهار في عصرنا يواجهون نفس استعلاء واستبداد العسكر، كما يواجهون مؤامرات وتجنى وتجاهل وعدم تعاطف الاعلام الرسمى الذى يكرر خطايا مؤرخى العصور الوسطى.

أولا : كحقيقة تاريخية نقرر إنه كان للحرافيش أو الزعر دور في الحياة السياسية في القاهرة المملوكية . وكان هذا الدور يعلو ويخفت حسب قوة السلطة المملوكية وحسب شخصية السلطان المملوكي ، والظروف التي تستدعي تحرك الحرافيش لإعلان رأيهم . ونعطى لمحات عنه :

1 ـ لم يرض حرافيش القاهرة ( الأحرار ) منذ بداية الدولة المملوكية أن يحكمهم سلطان كان رقيقا مملوكا من قبل ، وكان ذلك وضعا غريبا في وقتها ، يقول المؤرخ أبو شامة عن السلطان أيبك أول سلطان مملوكي " لما تسلطن أيبك التركماني لم ترض به أهل مصر ، فكان إذا ركب يسمعونه العوام ما يكره ويقولون له : نحن لا نريد إلا سلطانا رئيسا ولد على فطرة الإسلام" فكان أيبك يغدق على العوام العطايا الجزيلة حتى يسكتوا عنه. " !!

ويقول المؤرخ المملوكى الأصل أبو المحاسن بن تغرى بردى إن أهل مصر – يقصد حرافيش القاهرة – لم يرضوا بسلطان مملوكى مسّه الرق، وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهم يسمعونه ما يكره ، حتى في وجهه إذا ركب ومر في الطرقات ). وترتب على ذلك أن أشتد المماليك في بداية عهدهم في القسوة على الحرافيش ليخضعوهم لسيطرتم، حتى أن المقريزي وأبا المحاسن ذكرا أن الصليبين لو حكموا مصر في ذلك الوقت ما فعلوا بالمصريين مثلما فعله بهم المماليك !! وهذه عبارة موجزة وفظيعة لمن يتأملها ، ولو قام مؤرخو العصر بعرض تفاصيلها لعرفنا حمامات دم مجهولة غطت شوارع القاهرة . والنتيجة أنه بسبب ذلك القهر والعسف اضطر الحرافيش إلى الرضى بالأمر الواقع وقبول الممالك سلاطين عليهم !! المفهوم هنا أن أهل القاهرة ( الحرافيش ) أظهروا علنا مقتهم وكراهيتهم لتولى سلطان كان مملوكا من قبل وهم أحرار، إذ لا يصح من كان رقيقا أن يحكم شعبا حرا ، وهى حجة لم يلتفت اليها المؤرخون والفقهاء من خدم السلطة . وبينما سكت الفقهاء ورضوا بخدمة السلطان الجائر فقد اعلن (العوام والزعر والحرافيش ) إعتراضهم وواجهوا به السلطان المملوكى أيبك وظلوا يسبونه في مواكبه برغم انتقامه منهم الى أن سلّط عليهم آلاته في القتل فاضطروا الى الرضى بالأمر الواقع . ولا ننسى إن هذا العهد شهد انتصار المماليك على الحملة الصليبية التى قادها لويس التاسع وقد وقع لويس التاسع أسيرا في يد المماليك، ولكن هذا النصر مع أهميته فلم يكن كافيا للمصريين لأن يرضوا بسلطان (مسّه الرق ) على حد قول أبى المحاسن .

2 ـ وعلى عكس المصريين كان المماليك لا يدينون بالولاء لسلطان منهم إلا إذا كان مملوكا في الأصل ، أى جىء به من بلاده الأصلية صغيرا مملوكا وبيع لأمير في مصر ثم بمهارته في القتال وقدرته على التآمر يعتقه سيده وتتفتح أمامه أبواب الترقى في السلطة العسكرية ، الى أن يصل ويترقى بالدهاء والتآمر الى أن يصبح من كبار الأمراء ، حيث يكون مؤهلا للتنافس على السلطنة . هذه هى (السى في ) أو (سيرة الحياة) التى تجعل الأمير المملوكى صالحا للتنافس على السلطنة ـ لو ظل وبقى حيا الى هذه المرحلة . عدا ذلك لم يكن المماليك يخضعون لابن السلطان القائم الذي ولد حرا في فمه معلقة من ذهب ، يجعله أبوه السلطان أميرا ووليا للعهد من بعده ، ثم يرث الحكم عن أبيه. لا بد لهذا السلطان (الحرّ ) أن يثبت جدارته في فنّ التآمر وقوة البطش وشدة الشكيمة في غابة المماليك ، وإلا فسرعان ما يخلعه أقرب الناس اليه من كبار الأمراء .

3ـ السلطان الناصر محمد بن قلاوون كان أبرز مثل على ذلك ، فقد ورث السلطنة بعد أخيه وتولاها سنة 693 هـ . وسرعان ما عزله الأمير كتبغا وتولى مكانه سنة 694 ، وتولى بعده المنصور لاجين، وبعد مقتله عاد الناصر محمد للسلطنة للمرة الثانية سنة 698 هـ ثم عزله بيبرس الجاشنكير وتولى بيبرس الجاشنكير مكانه باسم السلطان المظفر سنة 708 هـ . وأحس الحرافيش بالتعاطف مع السلطان المعزول الناصر محمد الذي عزله مماليكه مرتين . وحدث سنة 709 أن توقف النيل عن الزيادة فاعتبروا السلطان ركن الدين المظفر الجاشنكير شؤما ، واعتبروا نائبه الأمير سلار شؤما مثله ، وألفوا أغاني يتندرون بها على السلطان ونائبه ، يقول المؤرخ ابن دقماق عن توقف النيل في ذلك العام " إن أهل مصر صنفوا كلاما ولحنوه وصاروا يغنون به العوام في أماكن المفترجات وغيرها ، وهذا هو:

سلطاننا ركين ونايبه دقين ...يجينا الماء من وين

هاتوا لنا الأعرج .... يجي الماء ويدحرج .

وكان الأمير سلار النائب أجرود ليس له لحية فأطلقت عليه العوام لقب دقين ، وكان الناصر محمد به بعض عرج فسمته العوام "الأعرج"، وكان السلطان بيبرس الجاشنكير يتلقب بركن الدين فسمته العوام ركين أحتقاراً. وهذه لمحة عن الطبيعة المصرية الأصيلة في السخرية السياسية من الحاكم، وهي التى ظهرت في أروع درجاتها في مظاهرات التحرير ضد مبارك قبيل عزله. ونعود الى المؤرخ ابن دقماق ( المملوكي الأصل ) وهو يصف تأثير تلك الحملة الساخرة على السلطان بيبرس الجاشنكير ، يقول ابن دقماق إن ذلك الكلام انتشر بين الناس فانزعج السلطان وقبض على زعماء العوام وكان عددهم ثلاثمائة ، فضرب جماعة منهم بالمقارع وجرسهم في القاهرة ، وأمر بقطع ألسنة جماعة منهم ، حتى يكفوا عنه .

وكعادة المؤرخين وقتها فكل ما استحقه أولئك المصريون الأحرار ـ وعددهم ثلثمائة ـ هى بضع سطور من المؤرخ المملوكى ابن دقماق ، فلم يسعفنا بتفصيلات ضرورية ، مثل أسماء من قطع السلطان ألسنتهم ، ومن ضربهم بالمقارع وأمر بتجريسهم في الشوارع . ولم يتوقف بالتأريخ لرد الفعل عند الحرافيش والذى ظهر فيما بعد حين قام حرافيش مصر والقاهرة بثورة شعبية أسقطت ذلك السلطان الغاشم بيبرس الجاشنكير.

4 ـ من الظلم البيّن لهذه الثورة الشعبية الفريدة أنها لم تأخذ حقها من التسجيل من المؤرخين المعاصرين لها من خدم السلطة المملوكية العسكرية. وقبل أن نستغرق في الاحتجاج علي أولئك المؤرخين فيجب ألاّ ننسى شيئين : أن الاعلام المصرى الرسمى الحالى لا يزال يسير على نفس الطريقة في تعامله مع الثورة الشعبية المصرية الحالية ، كما لا ننسى ما هو أخطر وأهم ، وهو أن مناهج التاريخ في التعليم المصرى لها عادة سيئة هى إهمال التاريخ المصرى الحقيقى ، وهي تحتقر ـ أصمم على استعمال كلمة تحتقر ـ ما يمتّ للشعب المصرى بصلة في العصور الوسطى خصوصا بعد الفتح العربى لمصر . مناهج التاريخ تذكر الفتح العربى لمصر على يد عمرو بن العاص، وتتجاهل دور المصريين في مساعدته، وهو الذى لا يعرف طرق مصر وعمرانها وحصونها ولولا مساعدة المصرين لفشل. وتكيل المدح لعمرو وتتجاهل سرقاته للتروة المصرية وعسفه بأهلها، ويستمر التجاهل لثورات المصريين ضد الاحتلال العربى في العصرين الأموى والعباسي، وقسوة الأمويين والعباسيين في إخماد تلك الثورات ، مع أن أنباء تلك الثورات مسجلة في مصادر التاريخ، وخصوصا (النجوم الزاهرة في محاسن مصر والقاهرة) لأبى المحاسن ابن تغري بردي. يتجاهل التعليم المصرى سائر الحركات المصرية التحررية والنشاط الايجابى للشعب المصرى، صحيح إنها مبعثرة بين سطور التاريخ المصري، ولكنه تاريخ ممتد وطويل وموصول ومدون، وتتبع تاريخ الشعب المصرى بنفس تتبع تاريخ حكامه الأغراب ليس عسيراً، بل سيعطى ثروة تاريخية تزود أبناءنا في التعليم بقبس من عظمة أجدادهم من الناس العاديين. ولكن الحادث الآن هو أنه بعد ثلاثين عاما من فساد التعليم في عصر مبارك فقد ساد الجهل بالتاريخ المصرى الحقيقى حتى بين المتخصصين ممن يحصلون على درجات الدكتوراة. ومن هنا يفاجأ القارىء المصرى لهذا المقال بأسماء سلاطين وأحداث تاريخية لم يكن له علم بها، مع أنه تاريخ بلده الذى أهملته وزارات التعليم والاعلام والثقافة والأزهر.

5 ـ نعود للثورة المصرية المجهولة عام 709 هجرية والتى أسقطت السلطان الغشوم ( المجهول أيضا ) بيبرس الجاشنكير، وعندما نبحثها لا نجد ما يشفي الغليل . مفهوم أنه أصبح هناك ثأر بين ذلك السلطان الجاشنكير والحرافيش. ولكن توازن القوى بينهما مضحك ومؤلم ؛ هو يملك الجيش ( والمجلس العسكرى ) والثروة والسلطة والفقهاء والشيوخ وارباب السيف والقلم أما الحرافيش المصريون الأحرار فكانوا لايملكون سوى صدورهم العارية ، وألسنتهم التى لم يقطعها السلطان العسكرى بعد . والمفهوم أيضا إن أصرار الحرافيش على التصدى واستمار الثورة برغم العسف الذى ألحقه بهم جند السلطان قد أربك الحياة في القاهرة بل وجعل جند السلطان نفسه يتمردون على أوامره بل وينضمون للحرافيش الأبطال .

هذا الذى نفهمه هو الذى أهمل مؤرخو السلطة كتابته وتوضيحه وتفصيله ، لأنه بعد هذه الفجوة المنسية والمسكوت عنها عمدا نجد المؤرخين يذكرون أنه قد اضطربت أحوال القاهرة وأحوال السلطان بيبرس الجاشنكير وانضم أكثر جنده للسلطان السابق الناصر محمد المعزول والمنفي في الأردن، واضطر السلطان بيبرس الجاشنكير للهرب من القاهرة فنزل من القلعة يوم الأربعاء 16 رمضان سنة 709 هـ، وذلك بعد العشاء، وحاول أن يتسلل سراً في ظلام الليل، ولكن جموع الحرافيش كانت تترصده، فلما عرفوا بهربه من القلعة طاردوه فهرب منهم، ولكنهم كانوا قد استعدوا له بالحجارة والمقاليع وأخذوا يرجمونه ويسبونه سبا قبيحا، وهو يهرب منهم من شارع الى حارة، ولمأ أيقن بوقوعه في أيديهم تخلّى عن أمواله وجواهره وذهبه، يقول المؤرخون إنه أخذ ينثر عليهم الأموال والذهب والفضة فانشغلوا بجمعها وتمكن بذلك من الهرب. ولكن بعدها عثروا عليه، وقبض عليه أعوان السلطان الجديد القديم الناصر محمد الذى عاد الى السلطنة بفضل تلك الثورة الشعبية المصرية، وقام الناصر محمد بن قلاوون بقتل غريمه بيبرس الجاشنكير بعد ذلك.

هذا كل ما ذكره المؤرخون عن تلك الثورة الشعبية المصرية المجهولة والمسكوت عنها. ونحن هنا ننفض عنها التراب لنهديها للثورة المصرية الحالية المجيدة.

6 ـ ويبدو وجه شبه آخر بين الثورة المصرية الشعبية الراهنة ـ التى يتهددها ركوب السلفيين موجتها ـ وما حدث بعد الثورة المصرية التى أعادت السلطان الناصر محمد بن قلاوون للحكم. فكالعادة لم يستفد الثوار النبلاء بالثورة الى قاموا بها وضحّوا من أجلها، إذ يسارع كلاب الصيد باقتناصها وركوب موجتها . فالشيوخ الذين كانوا خدما للسلطان السابق بيبرس الجاشنكير ووقفوا معه في ظلمه للسلطان لسابق محمد بن قلاوون سرعان ما رقصوا في مواكب السلطان محمد بن قلاوون حين عاد للسلطة وتخلوا عن بيبرس الجاشنكير وهم يشهدون اعتقاله واعدامه. وبينما عاد الحرافيش الابطال الى بيوتهم بعد تحقيق الهدف من ثورتهم وانتقامهم من عدوهم الجاشنكير وعودة سلطانهم الحبيب محمد بن قلاوون فإن الساحة قد خلت للشيوخ ينعمون بالنفوذ كالعادة، بل بالغ بعضهم فحاول أن يقطف ثمرة جهد الحرافيش في الثورة ويجعل لنفسه سلطة داخل سلطان الناصر محمد بن قلاوون.

تحت الرماد المصرى وقتها كانت هناك رفات حركة شيعية صوفية لم يكتب لها النجاح حيث أخمدها من قبل الظاهر بيبرس البندقدارى، وقد عرضنا لها في كتابنا ( السيد البدوى بين الحقيقة والخرافة ). انتهز زعماء تلك الحركة الفاشلة فرصة الصيت والنفوذ الذى اصبح للشيوخ في سلطنة الناصر محمد الثالثة فأشعلوا مصر بفتنة طائفية، إذ قام بعض المجاذيب بإحراق الكنائس المصرية فقام بعض الأقباط بحرق المساجد ردا على حرق كنائسهم، وحدثت تلك الكارثة سنة 721 هـ. وأدى احراق المساجد والعثور على بعض الرهبان متلبسين الى شيوع التعصب لدى الحرافيش فأخذوا يهاجمون النصارى، وخاف السلطان الناصر محمد أن يخرج الأمر من يديه فأمر السلطان بقتل وصلب بعض الحرافيش كيفما اتفق ليخيف الباقين وليضبط الشارع المصري، ولكن استمرت الحرائق، وقامت مظاهرة من الحرافيش واجهت السلطان دون خوف فاضطر السلطان للخضوع لهم، وأخذ إجراءات صارمة وظالمه بحق المسيحيين فهدأت الأمور.

7 ـ وحدث موقف آخر للحرافيش سنة 770 هـ في سلطنة الأشرف شعبان حفيد الناصر محمد بن قلاوون. إذ كان الأمير علاء الدين بن كلبك والي القاهرة مشهورا بالظلم والشدة، وقد أعتقله السلطان، وأراد الحرافيش أن يتسلموه ليأخذوا ثأرهم منه، فوقفت جموعهم تحت القلعة يطلبون تسليمه، ومنعوا الأمراء المماليك من الصعود للقلعة، وصاروا يرجمون المماليك، فأرسل السلطان إليهم بعض الأمراء يفاوضونهم فصمموا على أن يسلمهم السلطان غريمهم علاء الدين بن كلبك، واستمروا يحاصرون القلعة حتى العصر فأمر السلطان جنود القلعة برمي النشاب والسهام عليهم فقتلوا جماعة منهم وهرب الباقون وأغلقوا الأسواق، واعتقل المماليك زعماء الحرافيش ، ثم خمدت الفتنة ونودي بعدها بالأمان.

8 ـ وفي سلطنة الأشرف إينال حدث تزييف العملة الفضية التي أصدرها السلطان، وعقد مجلس سلطاني في صفر سنة 861 وثبت للسلطان أن العملة التي أصدرها أكثر من العملات التي سبقتها في الغش والفساد، وكان الحرافيش قد قاموا بمظاهرة صاخبة أمام القلعة قبيل عقد ذلك المجلس السلطاني، ويقول المؤرخ الأرستقراطي أبو المحاسن يصف تلك المظاهرة " اضطرب الناس وأبطل السلطان موكب ربيع الأول من القصر، وجلس بالحوش ودعا القضاة الأربعة والأمراء والأعيان، ووقف العامة أجمعون في الشارع الأعظم من باب زويلة إلى داخل القلعة ، وأجتاز بهم قاضي القضاة علم الدين البلقيني وهو طالع إلى القلعة فسلم على بعضهم بباب زويلة فلم يرد عليهم أحد السلام، بل انطلقت الألسن بالسب له وتوبيخه من كل جانب لكونه لا يتكلم في مصالح المسلمين، واستمر على هذه الصورة إلى أن طلع إلى القلعة، وقد انفض المجلس بدون طائل، ونودي في الناس بعدم معاملة " الزغل " أي بعدم التعامل بالنقود المغشوشة. ويقول المؤرخ أبو المحاسن : ( فلم يسكن ما بالناس من الرهج ولهجوا بقولهم " السلطان من عكسه أبطل نصفه " ) ، أي أن السلطان من شؤمه أبطل التعامل بالعملة التي أصدرها وهي النصف الإينالي ، ( وقالوا أيضا " إذا كان نصفك إينالي لا تقف على دكاني " ) أى إذا كانت العملة التى معك هى الدرهم الذى اصدره السلطان إينال فلا تقف على دكانى . ويقول أبو المحاسن ( إنهم ألفوا عبارات أخرى ، وأشياء أخرى من هذا من غير مراعاة وزن ولا قافية) أى قاموا بتأليف شعارات بعضها موزون وله قافية والآخر بدون وزن وقافية . وهي نفس العادة المصرية المتمكنة في فنّ تأليف الشعارات في المظاهرات .

ونرجع للمؤرخ أبى المحاسن وهو يصف تلك المظاهرة الفريدة التي ثار فيها شعب القاهرة على السلطان الفاسد إينال وبطانته من الشيوخ والفقهاء و(المجلس العسكرى): ( وانطلقت الألسن بالوقيعة في السلطان وأرباب الدولة ) أي انطلقوا في مظاهراتهم يلعنون السلطان وأرباب دولته فأضاعوا حرمته وانتهكوا مكانته، وبالتالى خشي السلطان من جرأة مماليكه عليه، خصوصا المماليك الجلبان، أي المماليك الذين كان يؤتى بهم كبارا وليس من مرحلة الطفولة، أي كانوا يتطوعون بالوقوع في الاسترقاق ليؤتى بهم الى مصر فيصيروا فيها مماليك ولديهم أمل بالوصول إلى مصاف كبار القادة والحكم. يقول ابو المحاسن عن محنة السلطان اينال بعد أن أضاعت مظاهرات الحرافيش مكانته وحرمته وهيبته: ( وخاف السلطان من قيام المماليك الجلبان بالفتنة وأن تساعدهم العامة وجميع الناس فرجع عما كان قصده) أي كان يريد ان يستخدم المماليك الجلبان ضد الحرافيش فخاف أن يتحد ضده الحرافيش والجلبان، وبهذا تطورت المظاهرات ضد السلطان. ووجد المتظاهرون فرصتهم الكاملة في سبّ وتحقير أعوان السلطان ممن كان يقوم بالسلب والنهب والمصادرات باسم السلطان، يقول مؤرخنا أبو المحاسن: ( وقد أفحش العامة في سباب ناظر الخاص ورجموه وكادوا يقتلونه،) واضطر الى الفرار من أمامهم ومعه أعوانه وفرق حراسته. يقول ابو المحاسن باستعلاء وحقد يصف انتصار المصريين الحرافيش: ( وعظمت الغوغاء فأرسل إليهم ابن السلطان فسألهم عن غرضهم فقالوا: النداء بأن كل شيء على حاله، فقال لهم: غداً أكلم السلطان ويفعل قصدكم، فأبوا وصمموا على النداء في هذا اليوم فأرسل لأبيه فتردد ثم أجاب، وجعل بالنداء غاية الوهن في المملكة وطغى العامة وتجبروا". وأوضح أن المؤرخ الأرستقراطي المملوكي الأصل أبا المحاسن لم يسترح إلى رضوخ السلطان إينال للحرافيش . أخيراً.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

عبر للوقت الراهن

هل اختلف الحال كثيرا عن العصر المملوكي؟

1 ـ العسكر هم العسكر، وخدم العسكر من الفقهاء والكتبة هم هم .. والثوار النبلاء هم هم ، الظلم هو هو والبغي هو هو، والتحالف هو هو بين من يلبس الكاب ومن يلبس العمامة. وأنصاف الرجال وأشباه البشر من خدم الاستبداد في التعليم والإعلام والمساجد هم هم من العصر المملوكي إلى يومنا. 2 ـ إلى متى يستمر هذا المسلسل المشين الذى لا يليق بمصر ونبلائها وأحرارها ؟ ألا يكفيه عشرة قرون؟ لكي نلغيه لا بد من استمرار الثورة بكل زخمها حتى يؤمن العسكر أنهم خدم للشعب المصرى وليسوا سادة له.


المصادر

  1. ^ أحمد صبحي منصور (2011-07-25). "لمحة عن ثورات الحرافيش ضد العسكر المملوكى : هدية لثوار مصر في التحرير". الحوار المتمدن.