الجواهر في تفسير القرآن الكريم

قال الزركلي: " في 26 جزءاً، نحا فيه منحى خاصاً، ابتعد في أكثره عن معنى التفسير، وأغرق في سرد أقاصيص وفنون عصرية وأساطير".اهـ (15) وذكره كحالة في معجمه.اهـ (16) وقال المرعشلي: " تفسير القرآن في (24)جزءاً ". (17) وقال في "معجم البابطين ": "وهو محاولة مبكرة لما عرف بعد ذلك بالتفسير العلمي، إذ تلمس الإعجاز في مقولات العلوم العصرية".اهـ (18)

وبعث علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن ناصر السعدي الحنبلي العنيزي القصيمي النجدي {1376:ت} رسالة إلى الشيخ رشيد رضا قال فيها:

من عنيزة إلى قاهرة مصر

في رجب سنة 1346

بسم الله الرحمن الرحيم

أبعث جزيل التحيات، ووافر السلام والتشكرات، لحضرة الشيخ الفاضلالسيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور، ووفقه وسددهفي كل أحواله آمين، أما بعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

فالداعي لذلك مااقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بهاالشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام والمسلمين، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم،وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة، وأنعم عليكم بنعمهالظاهرة والباطنية، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًاواسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة بل دعاءالضرورة إليه ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين وراج عليهم منأصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة بسبب روجان كثير منالكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ككتب ابن سينا وابن رشدوابن عربي ورسائل إخوان الصفا بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبههامن الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر،وإنكار ما عُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثيرمن الصحف المصرية بل رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي(19) قد ذكر فيمواضع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئًا من ذلك ككلامه على استخلاف آدم وعلىقصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصولالفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخيلات وضرب أمثال لا حقيقة لها، وأنهيمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير أنه مناقض لدينالإسلام وتكذيب لله ورسوله، وذهاب إلى معانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادهاوأن الله بريء منها ورسوله، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها،ويلومهم على إهمالها وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسببإهمال علمها وعملها.وَيْح من قال ذلك، لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التيأوهنت قوى المسلمين وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدةالفلاسفة، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ويتأولون ما فيالكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائدوالشرائع فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان فعبَّر عنهاالشرع بالملائكة كما أن الشياطين هي القوى الشريرة التي في الإنسان فعبَّر عنهاالشرع بذلك، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسله أجمعين، ويتأولون قصة آدموإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقةله، وإنما قصد به ضرب الأمثال، وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيهشيء من ذلك وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عنمثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونهابكثير، وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجردتصورها، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع، وأنه لا يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبدًا، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسولصار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن.

وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي:

التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلهاتخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ويلبسون على الناس بذلك ويتسترونبالإسلام، وهم أبعد الناس عنه كما ثبت أيضًا عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن باللهورسوله واليوم الآخر ويعظم الرسول وينقاد لشرعه وينكر على هؤلاء الفلاسفةويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولاشعور لعدم علمه بما تؤول إليه ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه، ولتقليدمن يعظمه وخضوعًا أيضًا، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لميوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوسًا بزعمهم فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل، فالأمل قد تعلق بأمثالكملتحقيق هذه الأمور وإبطالها فإنها فشت وانتشرت وعمت المصيبة بها الفضلاءفضلاً عمن دونهم، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون، وتقوم به الحجة على المعاندين، وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه والإشارة؛ لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم؛ لأنفيه الخطر العظيم على المسلمين، وإذا لم ير الناس لكم فيه كلامًا كثيرًا وتحقيقًا تامًافمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار ؟ والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لمايحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وسلم.

محبكم الداعي
عبد الرحمن بن ناصر السعدي (20)

وقال الشيخ رشيد عندما سئل عنه:

" إنني كنت رأيت الجزء الأول من هذا التفسير في دار صديق لي منذ بضع سنين، وقلبت بعض أوراقه في بضع دقائق فرأيته أحق بأن يوصف بماوصف به بعض الفضلاء تفسير الفخر الرازي بقوله: فيه كل شيء إلا التفسير، وقد ظُلم الرازي بهذا القول فإن في تفسيره خلاصة حسنة من أشهر التفاسير التيكانت منتشرة في عصره، مع بعض المباحث والآراء الخاصة به، كما أن فيهاستطرادات طويلة من العلوم الطبيعية والعقلية والفلكية والجدليات الكلامية التي بهاأعطي لقب ( الإمام ) لرواج سوقها في عصره. والأستاذ الشيخ طنطاوي مغرمبالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر،ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهملن يقووا ويثروا ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقهامع محافظتهم على عقائد دينهم وآدابه وعباراته وتشريعه، ويعتقد حقًا أن الإسلاميرشدهم إلى هذا، بل يوجبه عليهم، فألَّف أولاً كتبًا صغيرة في الحث على هذهالعلوم والفنون والتشويق إليها من طريق الدين وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثمتوسع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم،ومحبي العلم إلى هدي القرآن في الجملة والإقناع بأنه يحث على العلم، لا كمايدعي الجامدون من تحريمه له أو صده عنه؛ ولكن الأمر الأول هو الأهم عنده،فهو لم يعن ببيان معاني الآيات كلها وما فيها من الهدى والأحكام والحِكَم بقدر ماعني به من سرد المسائل العلمية وأسرار الكون وعجائبه ( ولهذا قلنا إنه أحق منتفسير الرازي بتلك الكلمة التي قيلت فيه ).

ولا يمكن أن يقال إن كل ما أورده فيه يصح أن يسمى تفسيرًا له، ولا أنهمراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا، إذ يصح أن يقال حينئذ إنهيمكن تفسير كلمة { رَبِّ العَالَمِينَ } ( الفاتحة: 2 ) بألف سفر أو أكثر من الأسفارالكبار تضعه جمعيات كثيرة كل جمعية تعنى بعالم من العالمين، فتدون كل ما يصل إليه علم البشر فيه، ولا يمكن أن يقال إنه لا يمكن انتقاده، بل الانتقاد على ما فيهمن التفسير ومن مسائل العلوم ممكن { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } ( يوسف: 76 )وقد قلنا إنه لم يعن بقسم التفسير منه كثيرًا ولا سيما التفسير المأثور، وأما هذهالعلوم فالبشر يتوسعون فيها عامًا بعد عام، فينقضون اليوم بعض ما أبرموا بالأمس،فليس كل ما دوَّنه أهلها صحيحًا في نفسه، فضلاً عن كونه مرادًا لله من كتابه، وإنما أُنزل الكتاب هدى للناس لا لبيان ما يصلون إليه بكسبهم من العلوموالصناعات؛ ولكنه أرشد إلى النظر والتفكر فيها ليزداد الناظرون المتفكرون إيمانًابخالقها ، وعلمًا بصفاته وحكمه .

وأما السؤال عن رضاء الله عنه وإثابته عليه فلا يقدر بشر على الجواب عنه بالتحقيق؛ لأن علمه عند الله تعالى وحده؛ وإنما نقول بحسب قواعد الشرع الإلهيإنه إذا كان قد ألَّفه لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته فإن الله تعالى يثيبه عليه، فماأصاب فيه فله عليه أجران، أجر الإصابة وأجر الاجتهاد وحسن النية، وما أخطأ فيه فله عليه الأجر الثاني مع رجاء العفو عن الخطأ، وهذا ما نظنه فيه.

وجملة القول إن هذا الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذاالجواب، وصاحبه جدير بالشكر عليه والدعاء له؛ ولكن لا يُعوَّل عليه في فهمحقائق التفسير وفقه القرآن لمن أراده؛ فإنه إنما يذكر منه شيئًا مختصرًا منقولاً منبعض التفاسير المتداولة، ولا يُعتمد على ما يذكره فيه من الأحاديث المرفوعة والآثار لأنه لا يلتزم نقل الصحيح، ولا ذكر مخرِّجي الحديث ليُرجع إلى كتبهمفلابد من مراجعتها في مظانها، وما ينفرد به من التأويلات فهو يعلم أنه يخالف فيهجماهير العلماء وهم يخالفونه؛ وإنما راجعت بعضه في أثناء كتابة هذا الجوابفزادني ثقة بما قلته فيه من قبل، والله أعلم ".اهـ (21)

قال في معجم المفسرين: " تفسيره نحا فيه منحاً خاصاً، ابتعد أكثره عن معنى التفسير وأغرق في سرد أقاصيص وفنون عصرية وأساطير ".اهـ (22)

قال في الموسوعة الميسرة: " من يلاحظ تفسيره وما وضع فيه من الخزعبلات والخرافات وترك الموضوع الرئيسي ألا وهو تفسير القرآن، وبدأ يسرد القصص وأنواع العلوم والفنون والاكتشافات العصرية الكبيرة والمعجزات الكثيرة الموجودة في القرآن وغير ذلك، ووضع في تفسيره الصور واللوحات وخصص جزءاً قليلاً إلى التفسير الفعلي للآيات، أو ما يسمى التفسير اللغوي لها، وقد نقلنا بعض المواضع التي تغني عن الكثير حيث كان يستخدم التأويل أو المجاز، ولا يثبت لله سبحانه اليد أو السمع أو البصر أو غيرها وإليك بعض المواضع التي نقلنها من تفسيره المسمى الجواهر في تفسير القرآن حيث قال في تفسير القرآن الكريم: حيث قال في تفسير { استوى على العرش } [يونس:4ـ6] " استعلى بالقهر والغلبة كما جاء في الآية الأخرى:

{ وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكرا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } والعرش إما بمعنى البناء، فكل بناء يسمى عرشاً وبانيه يسمى عارشاً ". وقال في تفسير سورة هود ( 6/128):" {كان عرشه على الماء } وقد تقدم تفسير هذا في أول سورة يونس بأن الماء العلم: أي وكان ملكه قائماً على العلم ولايزال كذلك وإنما خلق السموات والأرض ليربي ذوي الأرواح فيهما بالخير والشر ".

وقال في تفسير سورة البقرة (1/114): " {فأينما تولوا وجهكم فثم وجه الله }: أي جهة رضاه وليس الله مختصاً بمكان، بل هو (واسع) الفضل ( عليم ) بتدبير خلقه ". وفي تفسير سورة المائدة (3/196):" {قالت اليهود يد الله مغلولة } فهو مجاز إما عن البخل أو الفقر... { بل يداه مبسوطتان } ثنى اليد مبالغة في نفي البخل وإثبات الجود.اهـ (23) وقال الباحث أنور يوسف في رسالته " طنطاوي جوهري، ومنهجه في التفسير:

" بعد أن وقفنا طويلاً على تفسير الجواهر ومضامينه، وعشنا بين جنباته وصفحاته، وأفكاره وآرائه، صار لزاماً علي أن أقول رأيي فيه، وكم ترددت في ألاّ أصدر حكماً أراه الأخير في هذا البحث، لكن خطورة وأهمية الموضوع والأمانة الشرعية فرضت عليّ أن أذكر قناعاتي المتواضعة اتجاه هذا التفسير، والله من وراء القصد. أولاً: لقد كان تفسير الجواهر نتاج مرحلة قلقة عاشت الأمة الإسلامية، وظروف قاسية هيمنت على جل العالم الإسلامي ومنه مصر، لذلك حاول الشيخ طنطاوي أن يمد يد العون، حتى يرفع شأن الأمة ما استطاع، وقد أوصله اجتهاده إلى، العلم طريق الخلاص، لكنه أخطأ الطريق حينما سخر القرآن الكريم من أجل نشر العلم وتعليم المسلمين.

وفي رأيي أنه لم يوفق في الوصول إلى هدف القرآن، كما أنه لم يوفق في تحديد الوسيلة المناسبة لعرض آرائه وأفكاره، وكنا نود لو أنه صنف كتاباً أو كتباً خاصة تتضمن هذه الآراء والأفكار.

ثانياً: إن تفسير الجواهر يمثل اتجاهاً موازياً لمدرسة فكرية قديمة ، كان روادها من الفلاسفة الذين حالوا التوفيق بين الدين والفلسفة ، على أثر انبهار أولئك من الفلسفة اليونانية حينما ترجمت كتبها إلى العربية وغزت العالم الإسلامي .

وهكذا يعيد التاريخ نفسه، فحينما ذهل المسلمون من التفوق العلمي الذي نهض في أوربا راحوا يسعون إلى التوفيق بين الدين والعلم، وبهذا يكون العلم الحديث قد حلّ مكان الفلسفة في الاتجاه المعاصر.

ثالثاً: يلاحظ أن تفسير الجواهر جاء يخاطب عصره لا أكثر، لأنه محمّل بطبيعة ذلك العصر وأحواله ومشكلاته، ولقد أضعف ذلك صلاحية التفسير لزمن تجاوز زمن المؤلف أو تجاوز المشكلات التي ذكرها بعد أن تمّ حلها. ولئن كان للجواهر شهرة في عصره أو كان ذا تأثير قوي ـ بخاصة ـ خارج مصر؛ فإننا نلمح فعاليته تكاد تتلاشى في هذا الزمن الذي تجاوز دعوة الشيخ، ولعل من دلائل ما أقول انصراف العلماء والناس عنه إلى حد بعيد.

رابعاً: لقد قضى الشيخ الطنطاوي ـ رحمه الله ـ سنوات من عمره في تحضير وتحبير تفسيره، ربما ضاع معظمها سدى ـ والأجر من الله ـ لأنه لم يأت بجديد على تفسير الأولين، بل خرج عن مناهج السلف في تفسير كتاب الله تعالى. ولأن الجديد الذي فيه من العلوم هي علوم موجودة في كتب العلم لم يخترعها الشيخ ولا أبدع فيها، و إنما ساقها إلى غير أماكنها المعهودة في كتاب الله الذي لم يأت موسوعة للعلم ونظرياته وتجاربه، ولم يكنـ ولن يكون ـحقلاً للعلوم البشرية المضطربة.

خامساً: إن طنطاوي لم يقدم لنا تفسيراً كاملاًَ للقرآن بجهده وفكره، ولو أنه جعل من تفسير آيات العلوم التي رآها كتاباً سماه مثلاً تفسير آيات العلوم أو أي اسم يشابه ذلك لكان أولى.

سادساً: أرى أنه لا يمكن اعتماد تفسير الجواهر على أنه تفسير يعتد بما فيه لأنه ترك التفسير بالمأثور، وغالى في الاعتماد على العقل فأكثر من التفسير برأيه وخالف قواعد التفسير. لكنّه يصلح أن تؤخذ منه بعض اللطائف الجيدة ـ بعد التأكد من صحتها ـ وبعض الموضوعات التي أجاد فيها.

سابعاً: يظهر لي من خلال دراسة شخصية طنطاوي وآثاره أنه كان حسن النية فيما ذهب إليه، وأن تفسيره كان اجتهاداً اجتهده، ورأيا رآه وأجره عند ربه. لكن طيب النية ـ التي مجالها الآخرة ـ لا يغير شيئاً مما أخذه العلماء على تفسيره، أو مما نقدته به".اهـ(24)

وقال فيه د. محمد حسين الذهبي ـ رحمه الله ـ: " لقد وضع المؤلف في تفسيره هذا ما يحتاجه المسلم من الأحكام، والأخلاق، وعجائب الكون، وأثبت فيه غرائب العلوم وعجائب الخلق، مما يَشوِّق المسلمين والمسلمات - كما يقول - إلى الوقوف على حقائق معانى الآيات البيِّنات في الحيوان والنبات، والأرض والسموات.

هذا.. وإن المؤلف - رحمه الله - ليقرر في تفسيره أن في القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة وخمسين آية، في حين أن علم الفقه لا تزيد آياته الصريحة على مائة وخمسين آية، كما يقرر " أن الإسلام جاء لأُمم كثيرة، وأن سور القرآن متممات لأُمور أظهرها العلم الحديث". وكثيراً ما نجد المؤلف - رحمه الله - في تفسيره يهيب بالمسلمين أن يتأملوا في آيات القرآن التي ترشد إلى علوم الكون، ويحثهم على العمل بما فيها، ويندد بمن يُغفل هذه الآيات على كثرتها، وينعى على مَن أغفلها من السابقين الأوَّلين، ووقف عند آيات الأحكام وغيرها مما يتعلق بأُمور العقيدة.

نجد المؤلف يكرر هذه النغمة في كثير من مواضع الكتاب فيقول في موضع منه: "يا أمة الإسلام؛ آيات معدودات في الفرائض اجتذبت فرعاً من علم الرياضيات، فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيها عجائب الدنيا كلها.. هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الإسلام، هذا زمان رقيه، يا ليت شعري.. لماذا لا نعمل في آيات العلوم الكونية ما فعله آباؤنا في آيات الميراث؟ ولكني أقول: الحمد لله... الحمد لله، إنك تقرأ في هذا التفسير خلاصات من العلوم، ودراستها أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد في معرفة الله وهى فرض عَيْن على كل قادر... إن هذه العلوم التي أدخلناها في تفسير القرآن، هي التي أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء في الإسلام، فهذا زمان الانقلاب، وظهور الحقائق، والله يهدى مَن يشاء إلى صراط مستقيم".

فمثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في الآية [61] من سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}... الآية، نجده يقول: "الفوائد الطيبة في هذه الآية" ثم يأخذ في بيان ما أثبته الطب الحديث من نظريات طبية، ويذكر مناهج أطباء أوروبا في الطب، ثم يقول: "أَوَ ليست هذه المناهج هي التي نحا نحوها القرآن؟ أَوَ ليس قوله: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} رمزاً لذلك؟ كأنه يقول: العيشة البدوية على المن والسلوى... وهما الطعامانالخفيفان اللذان لا مرض يتبعهما، مع الهواء النقي والحياة الحرة، أفضل من حياة شقية في المدن بأكل التوابل، واللحم، والإكثار من ألوان الطعام، مع الذلة، وجور الحكام، والجبن، وطمع الجيران من الممالك، فتختطفكم في حين غفلة وأنتم لا تشعرون. بمثل هذا تُفسِّر هذه الآيات. بمثل هذا فليفهم المسلمون كتاب الله".

ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في الآيات [67] وما بعدها من سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً}.... الآيات إلى آخر القصة، نجده يعقد بحثاً في عجائب القرآن وغرائبه، فيذكر ما انطوت عليه هذه الآيات من عجائب، ويذكر - فيما يذكر - علم تحضير الأرواح فيقول: ".. وأما علم تحضير الأرواح فإنه من هذه الآية استخراجه، إن هذه الآية تُتلى، والمسلمون يؤمنون بها، حتى ظهر علم الأرواح بأمريكا أولاً، ثم بسائر أوروبا ثانياً".. ثم ذكر نُبذة طويلة عن مبدأ ظهور هذا العلم، وكيف كان انتشاره بين الأمم، وفائدة هذا العلم، ثم قال أخيراً: "ولما كانت السورة التي نحن بصددها قد جاء فيها حياة للعزير بعد موته، وكذلك حماره، ومسألة الطير وإبراهيم الخليل، ومسألة الذين خرجوا من ديارهم فراراً من الطاعون، فماتوا ثم أحياهم.. وعلم الله أننا نعجز عن ذلك، جعل قبل ذكر تلك الثلاثة في السورة ما يرمز إلى استحضار الأرواح في مسألة البقرة، كأنه يقول: إذا قرأتم ما جاء عن بنى إسرائيل في إحياء الموتى في هذه السورة عند أواخرها. فلا تيأسوا من ذلك، فإني قد بدأت بذكر استحضار الأرواح، فاستحضروها بطرقها المعروفة، واسألوا أهل الذِكر إن كنتم لا تعلمون، ولكن ليكن المُحَضِّر ذا قلب نفى خالص على قدم الأنبياء والمرسلين، كالعزير، وإبراهيم، وموسى، فهؤلاء لعلو نفوسهم أريتهم بالمعاينة، وأنا أمرت نبيكم أن يقتدى بهم فقلت: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}. ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في أول سورة آل عمران: {آلم} نجده يعقد بحثاً طويلاً عنوانه: "الأسرار الكيميائية، في الحروف الهجائية، للأمم الإسلامية، في أوائل السور القرآنية" وفيه يقول: "انظر رعاك الله - تأمل - يقول الله: {أ.ل.م}، {طس}، {حم} .. وهكذا يقول لنا: أيها الناس؛ إن الحروف الهجائية، إليها تحلل الكلمات اللُّغوية، فما من لغة في الأرض إلا وأرجعها أهلها إلى حروفها الأصلية، سواء أكانت اللُّغة العربية أم اللُّغات الأعجمية، شرقية وغربية، فلا صرف، ولا إملاء، ولا اشتقاق إلا بتحليل الكلمات إلى حروفها، ولا سبيل لتعليم لغة وفهمها إلا بتحليلها، وهذا هو القانون المسنون في سائر العلوم والفنون.

ولا جرَمَ أن العلوم قسمان: لُغوية وغير لُغوية، فالعلوم اللُّغوية مقدمة في التعليم، لأنها وسيلة إلى معرفة الحقائق العلمية من رياضية وطبيعية وإلهية، فإذا كانت العلوم التي هي آلة لغيرها لا تُعرف حقائقها إلا بتحليلها إلى أصولها، فكيف إذن تكون العلوم المقصودة لنتائجها المادية والمعنوية؟ فهي أولى بالتحليل وأجدر بإرجاعها إلى أُصولها الأوَّلية التي لا تعرف الحساب إلا بمعرفة بسائط الأعداد، ولا الهندسة إلا بعد علم البسائط والمقدمات، ولا علوم الكيمياء إلا بمعرفة العناصر وتحليل المركبات إليها، فرجع الأمر إلى تحليل العلوم".

ومثلاً نراه يعرض لقوله تعالى في الآية [24] من سورة النور: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

وقوله في الآيات [20 - 22] من سورة فُصِّلت: {حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ}. وقوله في الآية [65] من سورة يس: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.

ثم يقول: "أو ليس الاستدلال بآثار الأقدام، وآثار أصابع الأيدي في أيامنا حاضرة، هو نفس الذي صرَّح به القرآن، وإذا كان الله يعلم ما في المواطن بل هو القائل للإنسان: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً}، والقائل: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}، أفلا يكون ذكر الأيدي والأرجل والجلود وشهادتها يوم القيامة ليلفت عقولنا إلى أن من الدلائل ما ليس بالبيِّنات المشهورة عند المسلمين؟ وأن هناك ما هو أفضل منها؟ ... وهى التي يحكم بها الله فاحكموا بها. ويكون ذلك القول لينبهنا ويفهمنا أن الأيدي فيها أسرار، وفى الأرجل أسرار، وفى النفوس أسرار: فالأيدي لا تشتبه، والأرجل لا تشتبه، فاحكموا على الجانين والسارقين بآثارهم.. أوَ ليس في الحق أن أقول: إن هذا من معجزات القرآن وغرائبه؟ وإلا فلماذا هذه المسائل التي ظهرت في هذا العصر تظهر في القرآن بنصها وفصها". ومثلاً عندما تعرَّض لقوله تعالى في الآيتين [5، 6] من سورة طه: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}.. نجده يقول: ".. قوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} دخل في ذلك عوالم السحاب والكهرباء وجميع العالم المسمى "الآثار العلوية" وهو من علوم الطبيعة قديماً وحديثاً، وقوله {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} يشير لعلمين لم يُعرفا إلا في زماننا، وهما علم طبقات الأرض، المتقدم مراراً في هذا التفسير، وعلم الآثار، المتقدم بعضه في سورة يونس.. فالله هنا يقول: {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} ليحرص المسلمون على دراسة علوم المصريين التي تظهر الآن تحت الثرى".

ومثلاً عند قوله تعالى في الآية [30] من سورة الأنبياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُو?اْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً}.... الآية، يقول: "ها أنت قد اطلعت على ما أبرزه القرآن قبل مئات السنين، من أن السموات والأرض - أي الشمس والكواكب وما هي فيه من العوالم - كانت ملتحمة ففصلها الله تعالى، وقلنا: إن هذه معجزة، لأن هذا العلم لم يعرفه الناس إلا في هذه العصور، ألا ترى أن كثيراً من المفسِّرين قالوا: إن الكفار في ذلك الوقت ليس لديهم هذا العلم. فكان جوابهم على ذلك أنهم أخبروا به في نفس هذه الآية، فكأن الآية تستدل عليهم بنفس ما نزلت به، وذلك أن هذه الأمور لم تُخلق. وقد أخذ العلماء يُؤوِّلون تأويلات شتَّى لفرط ذكائهم وحرصهم رحمهم الله، وها نحن أُولاء نجد هذه العوالم المكنونة المخزونة قد أبرزها الله على أيدي الفرنجة، كما نطق القرآن هنا، كأنه يقول: سيرى الذين كفروا أن السموات والأرض كانت مرتوقة ففصلنا بينهما، فهو وإن ذكرها بلفظ الماضيفقد قصد منه المستقبل كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}.. وهذه معجزة تامة للقرآن، وعجيبة من أعجب ما يسمعه الناس في هذه الحياة الدنيا".

ومثلاً عند قوله تعالى في الآية [15] من سورة الرحمن: {وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ}.. نجده يقول: "والمارج المختلط بعضه ببعض، فيكون اللَّهب الأحمر والأصفر والأخضر مختلطات، وكما أن الإنسان من عناصر مختلفات هكذا الجان من أنواع من اللَّهب مختلطات، ولقد ظهر في الكشف الحديث أن الضوء مركّب من ألوان سبعة غير ما لم يعلموه. فلفظ المارج يشير إلى تركيب الأضواء من ألوانها السبعة، وإلى أن اللهب مضطرب دائماً، وإنما خُلِق الجن من ذلك المارج المضطرب، إشارة إلى أن نفوس الجان لا تزال في حاجة إلى التهذيب والتكميل. تأمل في مقال علماء الأرواح الذين استحضروها إذ أفادتهم أن الروح الكاملة تكون عند استحضارها ساكنة هادئة، أما الروح الناقصة فإنها تكون قلقة مضطربة".

وعند قوله تعالى في الآية [35] من السورة نفسها: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ}.. يقول: "إنه عبَّر هنا بـ {شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} وفيما تقدم بقوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ}، والشواظ والمارج كلاهما اللَّهب الخالص، فلماذا جعل الجان مخلوقاً من مارج ولم يقل من شواظ؟ فاعلم أن المارج فيه معنى الاضطراب كما تقدم. وقد أثبتذلك هناك، وهذا الاضطراب يفيد اضطراب الروح كما تقدم في علم الأرواح، وأيضاً اختلاط الألوان الآن معروف في التحليل فهو من هذا القبيل.. وهذه الفكرة لم تُعرف قط إلا في زماننا هذا، فإن تحليل الضوء والعلم بأنه مختلط، والاطلاع على عالم الأرواح الناقصة وأنها مضطربة، لم يكن إلا في زماننا، وهذا من أعاجيب القرآن التي لا تُدرك إلا بقراءة العلوم، وليس يعقلها الناس بفن البلاغة المعروف، فلا أصحاب المعلقات يدركونها، ولا الذين بعدهم يعلمونها، فهل لمثل امرىء القيس، أو لأبى العلاء، أو المتنبي أن يتناولوا هذه المعاني في أقوالهم؟ كلا .. فهذه البلاغة لا تخطر ببالهم، وأنَّى لهم علم الروح حتى يخصصوها بلفظ مارج؟ وعند إنزال العذاب يذكرون الشواظ".

ومثلاً في سورة الزلزلة نجده يُفسِّرها تفسيراً لفظياً مختصراً، ثم يذكر ما فيها من لطائف، مستعرضاً ما وقع من حوادث الزلزال في إيطاليا، وما وصل إليه العلم الحديث من استخراج الفحم والبترول من الأرض، وما كثر في هذا الزمان من استخراج الدفائن من الأرض، مثل ما كُشِف في مصر من آثار قدمائها، ثم يقول - بعد ما يفيض في هذا وغيره: "ألست ترى أن هذه السورة - وإن كانت واردة لأحوال الآخرة - تشير من طرف خفى إلى ما ذكرنا في الدنيا؟ فالأرض الآن كأنها في حالة زلزلة، وقد أخرجت أثقالها، كنوزها وموتاها وغيرها، والناس الآن يتساءلون، وها هم أُولاء يُلهمون الاختراع، وها هم أُولاء مقبلون على زمان تنسيق الأعمال بحيث تكون كل أمة في عمل يناسبها، وكل إنسان في عمله الخاص به وينتفع به".

ومثلاً نجده بعد أن يفرغ من تفسير سورة الكوثر، وسورة الكافرون، وسورة النصر، يذكر لنا بحثاً مستفيضاً عنوانه: "تطبيق عام على سورة الكوثر والنصر وما بينهما" وفيه نجده يتأثر بنزعته التفسيرية العلمية إلى درجة جعلته يُحَمِّل نصوص الشارع من المعاني الرمزية ما يُستبعد أن يكون مراداً لها. وذلك أنه يقرر أولاً أن هذه السور لم تكن خاصة بزمان النبوة، ولا بفتح مكة ونصر جيشها، لأن هذه الأمة كانت عند نزول هذه السور في أول عمرها، وسيطول إن شاء الله، وكم سيكون لها من فتوح وانتصارات.

ثم قال: "وإذا كان الأمر كما وصفنا ونحن أبناء العرب، وورثة النبي الذي جاء منا - صلى الله عليه وسلم، ولغتنا في مصر، والشام، والعراق، وشمال إفريقيا، هي لغة القرآن فلنبين للناس بعدنا سر هذه السور، فقد كان العلماء قبلنا يكتمونها، خوفاً من أهل زمانهم، ولكنَّا الآن يجب علينا إبرازه وإظهاره، لتأخذ هذه الأمة بعدنا حظها من الحياة، وحصتها من الإصلاح".

ثم أخذ يُبيِّن لنا الكوثر، وأوصاف كيزانه، وطيره، وأوصاف مَن سيرد عليه من المسلمين، بما جاء في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ثم قال - بعد هذا كله: "اعلم أن هذه الأحاديث وردت لغاية أرقى مما يراها الذين لا يفكرون، كم أُمم جاءت قبلنا وجاء فيهم مصلحون، فماذا فعلوا؟ ألقوا إليهم العلم بهيئة جميلة، وصورة مفرحة، وبهجة وجمال. ولا نزال نرى كل أمة حاضرة كفائتة. جميعهم يصيغون ما يريدون من الجمال، والحكمة، والعلم، ورقى الأُمة بهيئة تسر الجمهور". ثم يقول: "الجاهل يسمع الدُّر والياقوت، وشراباً أحلى من العسل، فيفرح ويعبد الله ليصل إلى هذه اللَّذت التي تقر بها عينه.. والعالم ينظر فيقول: إن هذا القول وراءه حكمة ووراءه علم، لأني أرى في خلال القول عجائب. فلماذا يذكر أن الكيزان أو الأباريق أو نحو ذلك عدد نجوم السماء! وأي دخل لنجوم السماء هنا؟ ولماذا عبَّر به"؟.. ثم يقول: "لماذا ذكر أن الذين يردون الحوض عليهم آثار الوضوء؟ ولِمَ؟ ... ولِمَ؟ .. الحق أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يريد أمرين: أمراً واضحاً جلياً يفرح به جميع الناس، وأمراً يختص بالقُوَّاد والعظماء. إن النبوة بأمر الله، والله جعل في أهل الأرض فلاحين لا يعرفون إلا ظواهر الزرع، وجعل أطباء يستخرجون منافع من الحب والشجر، وحكماء يستخرجون علوماً، وكُلٌ لا يعرف إلا علمه، فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. فالطبيب يشارك الفلاح في أنه يأكل، ولكنه يمتاز عنه بإدراك المنافع الطبية. هكذا حكماء الأمة الإسلامية يشاركون الجهلاء في أنهم يفهمون الحوض كما فهموه، ويردونه معهم كما يردونه، ولكن هؤلاء يمتازون بأنهم قُوَّاد الأُمة الذين يقودونها. فماذا يقولون؟ يقولون إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يريد معانى أرقى. إن الجنة فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، فليس الماء الذي هو أحلى من العسل وأبيض من الثلج كل شيء هناك، ثم إن الجنة لا ظمأ فيها، وأي شيء عدد نجوم السماء؟ ولماذا اختُصَّت النجوم بالعدد والوضوء بالأثر؟ والذي نقوله: إن الحوض يُرمز به للعلم مع بقائه على ظاهره، فلا المسك الأذفر، ولا أنواع الجواهر النفسية من دُّرٍّ وياقوت، ولا حلاوة العسل الذي في ذلك الماء، ولا اتساع الحوض إلا أفانين العلم ومناظر بدائعه المختلفة المناهج، العذبة المشارب، السارة للناظرين..."، ثم يخلص من هذا كله إلى الاستدلال على أن ما ذهب إليه من قبيل الكناية التي هي لفظ أُطلق وأُريد به لازم معناه مع جواز إرادة المعنى الأصلي، ثم يقول - بعد بيان هذه الكناية: ".. هنا يكون النصر ولا يكون إلا بعد أن يتجافى الناس عن أفعال الملحدين والكفرين، وجعل العلوم مرتبطة بالربوبية كما تشير إليه سورة الكافرون. هنا يكون نصر الله والفتح، ويدخل الناس في هذه العلوم الحقيقية أفواجاً. وعلى حكماء المسلمين الذين بعدنا متى نشروا هذه الآراء العلمية وأمثالها، ورأوا المسلمين تقدَّموا ونصروا العلم على الجهل في العالَم الإنساني، وأصبح المسلمون قائمين بما وعدهم ربهم من أنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم رحمة للعالمين، متى رأى العلماء ذلك فيعلموا أن هذا هو النصر في زماننا، وهو الفتح، وإذن فعلى القائمين بذلك أن يحمدوا ربهم ويستغفروه".. إلخ.

هذا هو تفسير الجواهر، وهذه نماذج منه وضعتها أمام القارئ، ليقف على مقدار تسلط هذه النزعة التفسيرية على قلم مؤلفه وقلبه.

والكتاب - كما ترى - موسوعة علمية، ضربت في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، مما جعل هذا التفسير يُوصف بما وُصِف به تفسير الفخر الرازي، فقيل عنه: "فيه كل شيء إلا التفسير" بل هو أحق من تفسير الفخر بهذا الوصف وأولى به، وإذا دلَّ الكتاب على شيء، فهو أن المؤلف رحمه الله كان كثيراً ما يسبح في ملكوت السموات والأرض بفكره، ويطوف في نواح شتَّى من العلم بعقله وقلبه، ليُجلى للناس آيات الله في الآفاق وفى أنفسهم، لم ليُظهر لهم بعد هذا كله أن القرآن قد جاء متضمناً لكل ما جاء ويجيء به الإنسان من علوم ونظريات، ولكل ما اشتمل عليه الكون من دلائل وأحداث، تحقيقاً لقول الله تعالى في كتابه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}.. ولكن هذا خروج بالقرآن عن قصده، وانحراف به عن هدفه، وقد عرفت رأينا في المسألة فلا نعيده.