التنوير البولندي

كان على بونياتوفسكي أن يختار الآن بين روسيا وبروسيا حامياً له وسيداً عليه. فاختار روسيا، لأنها أكثر بعداً، ولأن روسيا دون غيرها تستطيع منع فردريك من الاستيلاء على دانتزج وتورن. وكانت كاترين تواقة إلى الحيلولة دون مزيد من توسع بروسيا، التي كان جيشها العقبة الكؤود في طريق التوسع الروسي غرباً. لذلك أمرت سفيرها في وارسو بأن يقدم العون لبونياتوفسكي بكل طريقة تتفق ومصالح روسيا، وأرسلت إلى الملك المقترحات التي وضعها بنين من قبل لدستور بولندي أيسر نفيذاً. وقد احتفظ هذا الستور بنظام الملكية الانتخابية وحق النقض المطلق، ولكنه دعم قوة الملك بأن أقام برآسته، وكأداته التنفيذية، مجلساً دائماً من ستة وثلاثين عضواً، ينقسم إلى وزارات للشرطة والعدل والمالية والشئون الخارجية والحرب؛ ثم نص على إنشاء جيش نظامي من ثلاثين ألف مقاتل. وخاف النبلاء أن يهدد الجيش كهذا سيطرتهم على الملك، فخفضوا العدد إلى ثمانية عشر ألفاً، على أن الديت الذي انعقد في 1775 صدق على الدستور الجديد مع هذا الاستثناء واستثناءات صغيرة أخرى، وأصبح في وسع بونياتوفسكي الآن أن يشرع في رد شيء من العافية على الأمة.

واستمر الفساد ولكن الفوضى قلت، فأمكن التغلب على عصابات قطاع الطرق، ونما الاقتصاد القومي. وعمقت الأنهار لتسمح بمرور السفن الكبيرة، وشقت الترع لتصل بين الأنهار، وأكملت في 1783 "قناة ملكية" تربط البحرين البلطي والأسود. وازداد سكان بولندة بين عامي 1715 و1773 من 6.500.000 إلى 7.500.000، وتضاعف دخل الدولة. وتقرر نظام للمدارس القومية، وأعدت الكتب المدرسية وزود بها التلاميذ، ومنحت الهبات من جديد لجامعتي كراكاو وفلنو وبعث فيهما النشاط، وأسست الدولة كليات لتخريج المعلمين ومولتها. وكان يونياتوفسكي يحب أن يحيط نفسه بالشعراء والصحفيين والفلاسفة. كتب كوكس يقول "إن الملك يولم كل خميس للأدباء المشهورين بعلمهم وقدراتهم، وجلالته يترأس بنفسه المائدة"(43). ويقود النقاش في الكتب والأفكار. وقد استضاف ثلاثة مؤلفين ليعيشوا معاً، ورفع دخل مؤلفين آخرين في صمت(44). وكان آلاف البولنديين، مع تقديمهم فروض الإجلال للكنيسة-يقرءون لوك ومونتسكيو وفولتير وديدرو ودالامبير وروسو. وهكذا أرسيت أسس التنوير البولندي أو الستانسلافي.

وقد اجتذب يسوعي يدعى آدم ناروشفتش أذن الملك بشعره؛ فرقي أسقفاً، ولكنه واصل نظم الشعر العاطفي للطبيعة، وما زال "ترنيمته للشمس" و "فصوله الأربعة" تحبب فيه من يستطيعون قراءته في الأصل. وقد استعملت "قصائده الهجاءة" ألفاظاً شعبية رابيلية الطابع أحياناً أو نابية. وطلب إليه ستانسلاس أن يكتب تاريخاً لبولندة يجمع بين السهولة والعمق. فأنفق الشاعر في هذا العمل تسع سنين، وأخرج في ستة مجلدات (1780-86) أثراً يمتاز بتوثيقه الدقيق. ولكن حماسته فترت بعد التقسيم الثاني، وأصيب بالاكتئاب، ولم يعمر أكثر من سنة بعد التقسيم الأخير(45).

أما أبرز كتاب العهد البولنديين فهو اجناتسي كراسيكي. وقد اكتسب في رحلاته صداقة فولتير وديدرو(46) وأصبح قسيساً، ثم رئيساً للأساقفة آخر الأمر، ولكن ستانسلاس حثه على إطلاق العنان لمواهبه الشعرية. فكتب ملحمة هازلة سماها "ملحمة الفيران، انتقد فيها نقداً لاذعاً حروب جيله وصورها معارك بين الجرذان والفيران. وفي قصيدته "هوس الرهبنة" (1778) هزأ بالخصومات الديرية وأسلحتها الفتاكة هي الكتب اللاهوتية. ثم اتجه إلى النثر، فروى في "مغامرات السيد نيقولا المكتشف" (1776) كيف اكتشفت نبيل بولندي شاب، مزود بكل حصيلة العصر وعواطفه، تحطمت به السفينة على جزيرة غربية، إن الرجال والنساء يمكن أن يكونوا مجدين فضلاء رغم جهودهم في "حالة الفطرة". وقد اقتفى خطر هومر وسويفت وديفو في أعماله هذه، ثم اقتبس أسلوب أديسون وأخرج سلسلة من صور الحياة اليومية، منها "بان بود ستولي" (1778 وما بعدها) التي تصف حياة جنتلمان ومواطن مثالي. وفي "قصص خرافية وأمثال (1779) تحدى فيدروس ولافونتين، وهاجم في تهكم لاذع خراب الذمة والوحشية المستشرية من حوله. وكانت آخر نصيحة له هوراسية النزعة، "التمس لك ركناً هادئاً، ودع السعادة تأتيك خلسة"(47).

ومع أن تأثير التنوير الفرنسي على ناروشفتش وكراسيكي قد حاد منه سلطان الدين، إلا أنه ظهر بشكل قاطع في ستانسلاس ترمبيكي، الذي لم يذكر الدين قط إلا بروح العداء. وقد مجد شعره الطبيعة، ولكن ليس في تلك المظاهر السارة التي كثيراً ما تحرك العواطف الرقيقة؛ فقد آثر جوانبها الأكثر جموحاً ووحشية، إسرافها المجنون في إنتاج النبات والحيوان، عواصفها وسيولها، صراع الحياة مع الحياة والمأكول مع الآكل؛ واقتبست خرافاته شكلها من لافونتين ولكن روحها منقول عن لوكريتيوس. وقد أكسبته قوة شعره ورهافته وصقله مكانة مرموقة في هذا الازدهار الأدبي. وسانده بونياتوفسكي في جميع محنه، وعند خلع الملك رافقه الشاعر في المنفى، ومكث معه حتى مات.

وكان هناك شعر ديني كثير، لأن الدين كان العزاء الأخير للبولنديين في خطوبهم الشخصية والقومية. وقصائد فرانتشيشيك كارينسكي المسماة "أغنية الصباح" و "أغنية المساء" و "ولادة المسيح" أدب كما أنها تعبد. أما فارنتشيشيك كثيازنين فكان يتنقل في غير عناء بين هذين العدوين القديمين، الدين والجنس، فحين أشرف على دخول القسوسية اكتشف أناكريون والحب؛ ونشر قصائد غزلية" إيروتيكا" (1770)، ونشد سعادة الدنيا، ثم عاد إلى الدين، ومات مجنوناً. إن محاولة التوفيق بين النقيضين قد تفضي إلى الجنون كما تفضي إلى الفلسفة.

أما في مضمار الدراما فإن أبرز رجالها هو فويتسيش بوجوسلافسكي، الذي يكرم وطنه ذكراه باعتباره "أبا المسرح البولندي"؛ ويجوز لنا أن نسميه "جاريك" بولندة، ولكن البولنديين لو سئلوا لوصفوا جاريك بأنه بوجوسلافسكي إنجلترة. وكان فيما يبدو أول بولندي كرس حياته كلها للمسرح، ممثلاً، وكاتباً مسرحياً، ومخرجاً، ومديراً لمسارح دائمة في وارسو ولفوف، ومديراً لشركات نشرت تذوق الدراما في طول البلاد وعرضها ووراء الحدود. قدم شكسبير وشريدان مترجمين، وألف هو نفسه كوميديات ما زال بعضها يمثل على المسرح البولندي. وكانت أفضل تمثيليات هذه الفترة هي "عودة النائب" بقلم جوليان أورسين نيمتشفتش الذي كان هو نفسه نائباً، فقد صور جانبي الأزمة السياسية تصويراً درامياً في حب نائب من دعاة الإصلاح لفتاة يدافع أبواها عن امتيازات الأقطاب وأساليب العيش في الماضي.

وآخر رجال التنوير البولنديين وأعظمهم هو هوجر كوللونتاج. نقل إليه تعليمه عدوى أفكار جماعة الفلاسفة، ولكنه ستر هرطقاته ستراً كافياً حتى حصل على وظيفة كاهن مريحة في كراكاو. وعينه يونياتوفسكي (1773) عضواً في لجنة للتعليم، وضع لها كوللونتاج وهو لا يزال في الثالثة والعشرين برنامجاً لإصلاح تعليمي يتفق وخير برامج جيله. وحين ناهز السابعة والعشرين وكل بإعادة تنظيم جامعة كراكاو، وأنجز المهمة في بضع سنين، ثم بقي في الجامعة مديراً لها. وفي "خطابات من كاتب مجهول إلى رئيس الديت" (1788-89)، وفي "القانون السياسي للأمة البولندية" (1790) قدم مقترحات أصبحت أساساً لدستور 1791.

وكافحت بولندة، بفضل حث شعرائها ومعلقيها، لتنير نفسها وتصبح دولة قوية قادرة على الدفاع عن ذاتها. وحانت الفرصة حين عرض فردريك وليم الثاني-خلف فردريك الثاني-على "دايت السنين الأربع" الذي استمر انعقاده من 1788 إلى 1792 تحالفاً تتعهد فيه بروسيا بأن يحمي جيشها القوي بولندة من أي تدخل أجنبي. وكانت روسيا في شغل بحربها مع تركيا والسويد، فالآن قد تستطيع بولندة أن تعتق نفسها من خنوعها الطويل لكاترين، وتتخلص من أعمال السلب والنهب التي اقترفها الجنود الروس على الأرض البولندية طوال السنوات الخمس والعشرين الأخيرة. وحل الديت مجلس بونياتوفسكي الدائم رغم احتجاجاته، ووافق على أن يجند بإذن الديت جيش من 100.000 مقاتل، وأمر الجيش الروسي بالرحيل عن بولندة فوراً (مايو 1789)، إما كاتربن التي كانت في حاجة لجميع قواتها في مواقع أخرى فلم تقاوم، ولكنها أقسمت على الانتقام. وفي 29 مارس 1790 أبرم الديت تحالفاً مع بروسيا.

وكان بونياتوفسكي هو أيضاً قد ثمل الآن بجو الحرية. فنبذ ولاءه لكاترين وتزعم صياغة دستور جديد. وقد نصت شروطه على جعل الملكية وراثية، ولكنها ضمنت وراثة البيت المالك السكسوني للعرش بعد موت بونياتوفسكي الذي لم يعقب. وتقرر أن توسع سلطات التاج التنفيذية بإعطاء الملك حق النقض المعلق-أي حق منع قرار وافق عليه دايت من أن يصبح قانوناً حتى يؤكده الدايت التالي. ونص على أن يعين الملك وزرائه والأساقفة، وأن يتولى قيادة الجيش، وعلى أن ينتخب عددصغير من المواطنين وغيرهم من أهل المدن نواباً. أما الديت فيتألف من مجلسين؛ مجلس للنواب له وحده الحق في وضع القوانين، ومجلس للشيوخ-يتألف من الأساقفة وحكام الأقاليم ووزراء الملك-تشترط موافقته على أي قانون. أما حق النقض المطلق فتحل محله قاعدة الأغلبية. ويعترف بالمذهب الكاثوليكي الروماني ديناً سائداً للأمة، ويعد الارتداد عنه جريمة، وفيما عدا ذلك فحرية العبادة مكفولة للجميع. وبقيت القنية، ولكن للفلاحين الآن أن يستأنفوا دعاواهم من المحكمة الوراثية إلى محكمة إقليمية أو قومية. وكان تأثير الدستور الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية (1787-98) واضحاً في هذه التوصيات. ذلك أن البولنديين الذين حاربوا دفاعاً عن المستعمرات الأمريكية كانوا قد هيأوا ذهن بونياتوفسكي، ولم يكن قد نسي قراءته للوك ومنتسكيو وجماعة الفلاسفة.

ورغبة في ضمان التصديق على مقترحاته لجأ بونياتوفسكي إلى الحيلة. ذلك أن كثيراً من أعضاء الديت ذهبوا إلى مواطنهم لقضاء عطلة عيد القيامة عام 1791، فدعاه الملك للانعقاد في 3 مايو، وهو تاريخ أبكر من يتيح للأعضاء البعيدين العودة إلى وارسو لحضور الافتتاح الجديد؛ أما النواب القريبون الذين وصلوا في الميعاد فكان أكثرهم أحرار النزعة يمكن الاعتماد عليهم في تأييد الدستور الجديد. وعرض عليهم في القصر الملكي بمجرد اجتماعهم، فقوبل بتصفيق جارف، وصدق عليه بأغلبية كبيرة. وقد تذكر البولنديون الوطنيون ذلك اليوم، الثالث من مايو 1791، في فخر واعتزاز، وخلدوه في الأدب والفن والأغاني البولندية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مؤسسات هامة في التنوير البولندي


شخصيات هامة في التنوير البولندي

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

الكلمات الدالة: