التكذيب التركي لمذابح الأرمن

بعد موافقة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الأمريكي في أواخر السنة الماضية على المشروع المسمى ب"التطهير العرقي للأرمن في تركيا" ثم أحالته إلى الهيئة العامة للمجلس تصاعد التوتر بين تركيا وبين الولايات المتحدة على اعتبار أن مشروعاً بإدانة تركيا كان على وشك الصدور. ولكن الرئيس السابق كلينتون نجح في تجميد المشروع في اللحظة الأخيرة للحفاظ على المصالح الأمريكية في تركيا.

ما تم في الولايات المتحدة لم يحدث مثله في فرنسا فقد صدر قرار من الجمعية الوطنية الفرنسية على قانون يتضمن الاعتراف بوقوع مذبحة وتهجير جماعي للأرمن في الأناضول خلال الحرب العالمية الأولى عام 1915م. وصدر القرار بموافقة 51 نائباً كانوا جميع من حضر تلك الجلسة، علماً بأن عدد أعضاء الجمعية الوطنية 557 نائباً. أي أن القرار صدر معبراً عن أقل من 10% من النواب.

لماذا صدر هذا القرار؟

هناك آراء متعددة عند المحللين السياسيين:

1 فالبعض عزاه إلى اقتراب موعد الانتخابات المحلية والبرلمانية. وأن الغاية هي الفوز بأصوات الأرمن الذين يقرب عددهم من نصف مليون. وأن اللوبي الأرمني استطاع أن يستغل هذا الأمر استغلالاً جيداً. 2 مصادر أخرى تقدم تفسيراً آخر إذ ترى أن السبب هو وضع عائق جديد أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. أي أن أوروبا لا تريد في الحقيقة مثل هذا الانضمام، لذا تضع أمام تركيا شروطاً تعجيزية. فهي لا تريد أن يكتسح مئات الآلاف من الشباب التركي دول الاتحاد طالبين العمل فيها، ولا تريد أن تكون لتركيا "التي تقارب نفوسها 70 مليوناً" قوة كبيرة في برلمان الاتحاد الأوروبي. إضافة إلى أن هناك العديد من المؤسسات ومن السياسيين من يرى أن الاتحاد الأوروبي ليس إلا نادياً مسيحياً لا مكان لتركيا فيه. هذا هو الجانب السياسي للموضوع. ولكن ما الوجه الحقيقي للقضية الأرمنية؟ وما الحقائق التاريخية حولها؟


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

نبذة تاريخية

سكن الأرمن هذه المنطقة من شبه جزيرة الأناضول قبل عصور عدة وقبل مجيء الأتراك، فكانوا لذلك على طريق الفاتحين كالإسكندر الكبير وفي منطقة النزاع بين الإمبراطوريتين الكبيرتين آنذاك البيزنطية والفارسية، مما أدى إلى وقوعهم تارة تحت سيطرة هذه وتارة تحت سيطرة تلك. ويعزى تشتتهم مع قلة عددهم إلى هذا السبب. أي وقوعهم في منطقة الصدام بين الإمبراطوريتين، مما دفع البعض منهم للابتعاد عن منطقة القتال والتوجه إلى مناطق أخرى.

وقد شكل الأرمن في تاريخهم بعض الإمارات والدول التي كانت في الغالب تحت سيطرة الدول الكبرى، وقلما تيسرت لهم سبل الاستقلال. كما أنهم عانوا من اضطهاد الغالبين ومحاولتهم فتنتهم عن عقيدتهم. وقد استوى في هذه المحاولة الفرس المجوس والبيزنطيون النصارى. فقد حاول الفرس تحويلهم عن المسيحية، بينما حاول البيزنطيون تغيير مذهبهم وإدخالهم في المذهب الأرثوذكسي، ومحاربة لغتهم وثقافتهم.

بعد ظهور الإسلام وتوسع دولته، وتغلب المسلمين على الفرس والبيزنطيين أصبح الأرمن تحت حكم العرب المسلمين تارة وتارة تحت حكم البيزنطيين. وفي عهد معاوية أصبح الأرمن تابعين للحكم الأموي في عهد ملكهم "قسطنطين الثاني". ولكنهم كانوا يتمتعون بحكم ذاتي مع ضمان حرية عقيدتهم كدأب المسلمين في احترام عقائد الآخرين على مدار التاريخ. (انظر كتابي "السلطان عبدالحميد الثاني: حياته وأحداث عهده").


أعلام الأرمن العثمانيين

كما عاش الأرمن في سلام في ظل الحكم العثماني قروناً عديدة، وكانوا يتمتعون بحرية العقيدة. ولما كانوا معفيين من الخدمة العسكرية فقد انصرفوا إلى التجارة والصيرفة والصياغة والزراعة. وخلال مئات الأعوام أي حتى أواخر القرن التاسع عشر خلا تاريخهم من أي حركة عصيان مسلحة، حتى إن الأتراك أطلقوا عليهم لقب "الأمة المخلصة". وكانت أعلى الوظائف الحكومية مفتوحة أمامهم، فكان منهم الوزراء والأعيان والنواب والمدراء العامون والمستشارون. وندرج أدناه بعض من تقلد منهم مناصب رفيعة في الدولة العثمانية

الوزراء

  1. آغوب كازازيان باشا وزيراً للمالية.
  2. غارابيت آرتن داود باشا وزيراً للبريد والبرق.
  3. آندون تنغر ياور باشا وزيراً للبريد والبرق.
  4. أوسكان ماردكيان وزيراً للبريد والبرق.
  5. بردوس حلاجيان وزيراً للشؤون الاجتماعية.
  6. جريجور سينابيان وزيراً للشؤون الاجتماعية.
  7. جريجور يغاتون وزيراً للشؤون الاجتماعية.
  8. جبرائيل نورادونكيان وزيراً للشؤون الاجتماعية والخارجية.
  9. أوهانيس صاكيز باشا وزيراً للخزانة الخاصة.
  10. ميخائيل بورتقاليان باشا وزيراً للخزانة الخاصة.

الأعيان

  1. أوهانيس كيومجيان باشا.
  2. مانوك أزاريان.
  3. إبراهام أراميان باشا.
  4. جبرائيل نورادونكيان.


النواب

أ في المجلس النيابي لعام 1876 "المشروطية الأولى"

  1. أوهانيس الله ويردي: وكيل رئيس المجلس النيابي.
  2. صبوح ماقصوديان: نائب اسطنبول.
  3. روبن يازجيان: نائب أدرنة.
  4. ساهاك باورميان: نائب بورصة.
  5. هامازاسب بالاريان: نائب أرضروم.
  6. مانوك قارجيان: نائب حلب.
  7. ميخائيل آلتن طوب: نائب أنقرة.
  8. آغوب شاهنيان: نائب سيواس.
  9. تانيل قارجيان: نائب أرضروم.

ب في المجلس النيابي لعام 1908م "المشروطية الثانية"

  1. جريجور زوهراب نائب اسطنبول.
  2. بدروس حلاجيان نائب اسطنبول.
  3. آغوب بابكيان نائب تكرداغ.
  4. آغوب بوياجيان نائب تكرداغ.
  5. آرتين بوشكيزيان نائب حلب.
  6. الدكتور نزارات داغاواريان نائب سيواس.
  7. اسطيفان اسبارتاليان نائب أزمير.
  8. هاميرسوم بوياجيان نائب كوزان.
  9. كغام درغارأبديان نائب موش.
  10. جراجين باسترماجيان نائب أرضروم.
  11. واهان بابازيان نائب وان.

ولا ندرج هنا أسماء النواب في المجلس النيابي لعام 1914 تجنباً للإطالة.

وفي إحصائية أجريت عام 1912م تبين أن عدد التجار المسجلين في الغرفة التجارية والصناعية في اسطنبول يبلغ ثلاثين ألف تاجر 25% منهم من الأرمن، و45% من الروم، و15% فقط من الأتراك والباقي من قوميات أخرى.

القضية الأرمنية

إذن لماذا ومتى ظهرت "القضية الأرمنية"؟

نستطيع تقسيم القضية الأرمنية إلى مرحلتين تاريخيتين:

  1. مرحلة عهد السلطان عبدالحميد الثاني: وهي المرحلة التي ظهرت فيها هذه القضية للمرة الأولى على المسرح الدولي.
  2. مرحلة عهد الاتحاد والترقي: ويتركز النقاش حولها حالياً، وهي تصادف السنوات الأخيرة للدولة العثمانية قبل انهيارها.

أ القضية في عهد السلطان عبدالحميد الثاني

بعد سير الدولة العثمانية نحو الضعف والتدهور ظهرت أطماع الدول الكبرى مثل روسيا وإنجلترا وفرنسا لالتهام أجزاء من هذه الدولة الضعيفة المترامية الأطراف. وقد نجحت بالفعل، لكن هذه الدول في أثناء سباقها ذاك كانت تجد أنفسها وجهاً لوجه أمام بعضها بعضاً. وهذا هو جوهر ما سمي في التاريخ ب"المسألة الشرقية". ومن أهم وسائل تدخل الدول الكبرى في المسائل الداخلية للدولة العثمانية إثارة الأقليات الدينية والعنصرية في الدولة التي كانت تضم مختلف العقائد والمذاهب والقوميات والعناصر. وقد اختارت روسيا إثارة الأرمن القاطنين قرب الحدود الروسية العثمانية، فبدأت بتحريضهم وإمدادهم بالمال والسلاح وتدريبهم في أراضيها وتشكيل الجمعيات الإرهابية المسلحة من أمثال "خنجاق" ومعناه: صوت الناقوس. و"طشناق" ومعناه: العلم. اللافت للنظر أن قادة هذه الجمعيات الإرهابية كانوا من أرمن روسيا فقط وتحت إمرة المخابرات الروسية. وكانت روسيا تحرض الأرمن على طلب تشكيل دولة أرمنية في الولايات الستة شرق الأناضول، مع أن الأرمن لم يكونوا يشكلون أكثرية في أي ولاية من هذه الولايات لسببين:

الأول : قلة عددهم، إذ كان عدد الأرمن حسب الإحصائيات العثمانية والأجنبية يتراوح بين 1.2 مليون إلى 1.5 مليون فقط في جميع أراضي الدولة العثمانية.

الثاني: أنهم كانوا مبعثرين في ولايات ستة أي في مساحة كبيرة مما أدى إلى عدم تشكيلهم أكثرية في أي ولاية. لذا كان المطلب الأرمني خيالياً، ويستحيل على الدولة العثمانية قبوله، لأن هذه الولايات الستة كانت في قلب الدولة العثمانية، وكان قبول إقامة مثل هذه الدولة في مركز الدولة العثمانية وقلبها، وفي ولايات يشكل المسلمون فيها الأكثرية بمثابة عملية انتحارية للدولة العثمانية. لذا وقف السلطان عبد الحميد الثاني بكل صلابة أمام مطالب الدول الكبرى في هذا الخصوص ولم يعبأ حتى بتهديد إنجلترا وبإرسال أسطولها إلى "جنق قلعة" كورقة ضغط وتهديد. ولم يتوان في عقاب الأرمن المتورطين في الحركات الإرهابية واتخاذ كافة التدابير الضرورية لحماية الدولة من مؤامرات الدول الكبرى. ولم يكن من المنتظر طبعاً من السلطان القيام بالخضوع لمطالب جمعيات إرهابية تحركها مخابرات الدول الكبرى، وقبول استقطاع مساحة كبيرة من قلب الدولة وتقديمها لها. لذا فقد أطلق الأرمن عليه لقب "السلطان الأحمر".

اتبعت الجمعيات الأرمنية الإرهابية وسائل الإرهاب والقتل تجاه الأرمن الذين لم يكونوا يرغبون في التعاون معها أو التبرع بالمال لها، فقتلت عدداً كبيراً منهم في أزمير واسطنبول وفي الولايات الستة. بل رتب الأرمن محاولة لاغتيال السلطان عبدالحميد الثاني عام 1905م المجتمع ففجَّروا عربة محملة بالديناميت أمام الجامع الذي كان يصلي فيه صلاة الجمعة ووقتوا التفجير قرب خروج السلطان من الجامع. ولكن السلطان نجا من المحاولة التي خلفت وراءها 26 قتيلاً وعشرات الجرحى. وقد ألقي القبض على الجاني، ولكن السلطان عفا عنه.

قلنا إن بريطانيا تبنت المسألة الأرمنية بعد أن نفضت روسيا يدها منها، وذلك كورقة تهديد للدولة العثمانية، ولكي تشكل من الدولة الأرمنية المزمع إقامتها حاجزاً يحول بين روسيا وبين الوصول إلى الخليج العربي. ولا نطيل في هذا الموضوع ولكن نشير إلى أن هذا الأمر كان واضحاً ومفهوماً في مسرح السياسة الدولية آنذاك حتى إن الزعيم المصري مصطفى كامل أشار إلى ذلك في كتابه "المسألة الشرقية":

"... فالذين ماتوا من الأرمن في الحوادث الأرمنية إنما ماتوا فريسة الدسائس الإنجليزية"، كما أشار هرتزل في مذكراته إلى مساعدة بريطانيا للحركات الأرمنية.

ب القضية في عهد الاتحاد والترقي

عندما أعلنت الحرب العالمية الأولى ودخلت الدولة العثمانية في أتونها بقرار أهوج من قبل جمعية الاتحاد والترقي القابضة على الحكم فيها اخترقت الجيوش الروسية الحدود الشرقية للدولة العثمانية لتفوقها على القوات العثمانية في العدد والعدة بنسبة ثلاثة أضعاف في الأقل. وقامت بمذابح وحشية في القرى الحدودية والمناطق التي استولت عليها، فهاجر مئات الآلاف من الأهالي من مدنهم وقراهم ومات منهم خلق كثير في ذلك الشتاء القاسي من البرد والجوع والمرض.

في أثناء هذه المآسي الإنسانية المروعة قام الأرمن القاطنون في تلك المناطق الحدودية بالتعاون مع جيش الاحتلال الروسي ضد أهالي القرى الذين عاشوا معهم عصوراً عديدة ولم يروا منهم سوى المحبة... تعاونوا مع جيش الاحتلال الروسي لأنهم وجدوا أن الحرب ودخول الجيوش الروسية أراضي الدولة العثمانية فرصة ثمينة لا يجب أن يضيعوها.. فرصة إقامة دولتهم بمساعدة الجيش الروسي المحتل. وقام الجيش الروسي بتجنيدهم في صفوفه وتشكيل مليشيات مسلحة منهم تعاونه في الحرب.

بدأ الأهالي المسلمون يتسلحون أيضاً للدفاع عن أنفسهم، ويقابلون هجوم الأرمن بهجوم مثله. وبعد أن بدأ الأرمن بقتل الأطفال الأسرى من المسلمين ثأر المسلمون بقتل أطفال الأرمن الأسرى. وفي إحدى المرات تجمع آلاف من أسرى الأطفال الأرمن في المنطقة التي كان العالم الإسلامي المشهور "سعيد النورسي" موجوداً فيها. وعندما سمع بنية قتل هؤلاء الأطفال منعهم مذكراً إياهم بأن الشرع الإسلامي لا يسمح بهذا مطلقاً ثم أمر بإطلاق سراحهم وسمح لهم بالذهاب إلى المعسكر الروسي حيث التحقوا بأهاليهم خلف الخطوط الروسية. وقد كان لهذا التصرف أثر كبير في نفوس زعماء الأرمن فعندما استولوا على بعض القرى المسلمة تركوا عادة ذبح الأطفال.

وهناك كتاب وثائقي فرنسي بعنوان "المظالم الروسية الأرمنية" يوثق ذلك فليرجع إليه من أراد التفصيل. أي أن الأرمن وقفوا بجانب الجيوش المحتلة وخانوا بلدهم وأصبحوا لعبة في يد الدول الكبرى، ولم يكتفوا بهذا بل أوقعوا مذابح وحشية بين المسلمين لتهجيرهم عن قراهم وأماكنهم ليتسنى لهم تشكيل دولتهم فيها. وهناك الآلاف من الوثائق التاريخية العثمانية حول هذه المذابح كما تم اكتشاف المئات من القبور الجماعية في تلك المناطق كان آخرها المقبرة الجماعية التي اكتشفت عام 1980م وكانت تضم عظام "280" ضحية. ويقول المؤرخ التركي البروفيسور "أنور كونوكجو": "يندر وجود قرية في شرقي الأناضول لم تتعرض لمذبحة أرمنية". كان من الطبيعي تولد عداوة كبيرة بين أهالي تلك المنطقة ضد أولئك القتلة من الأرمن فلم يبقوا مكتوفي الأيدي يتفرجون فقط على المذابح، بل تسلحوا وبدأوا يهجمون على القرى الأرمنية ويقتلونهم.


الحل في التهجير

لم تستطع الحكومة العثمانية آنذاك حل المشكلة إلا بتهجير الأرمن من تلك المناطق الحدودية لتقطع الصلة بين الأرمن والجيوش الروسية. فقامت بعملية تهجير واسعة وكبيرة إلى سورية ولبنان والموصل. كان عدد المهجرين كبيراً "600 ألف" تقريباً، ونظراً لضخامة العدد وعدم توافر الإمكانات والوسائل الكافية لدى الدولة العثمانية لتنفيذ هذه العملية في ظل فقر الدولة وأهوال الحرب العالمية الأولى، فقد تم التهجير بطرق بدائية جداً. فمات من هؤلاء أعداد كبيرة من البرد والجوع والمرض. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن عملية التهجير هذه كانت مأساة إنسانية كبيرة. كما تعرضت قوافل المهجرين إلى غارات من قبل الأهالي الغاضبين الذين فقدوا أحباءهم في المذابح العديدة التي انتشرت نتيجة ظروف الحرب.

لم تكن الهجرة الأرمنية وحدها مأساة إنسانية، بل إن الحكومة العثمانية أصدرت أمراً إلى الأهالي القاطنين قرب الحدود الروسية بالنزوح والهجرة من أماكنهم بعد أن اخترقت الجيوش الروسية الحدود الشرقية للدولة. في هذه الهجرة أيضاً وقعت مآس كبيرة يشيب من هولها الولدان. ونقرأ من مذكرات العلامة سعيد النورسي وصفاً لعملية تهجير المسلمين حيث يقول:

"... كانت الثلوج قد تراكمت بارتفاع ثلاثة وأربعة أمتار، وبدأ الأهالي بالاستعداد لترك المدينة والهجرة منها بأمر الحكومة، والعوائل التي كانت تملك ستة أو سبعة من الأطفال كانوا لا يستطيعون سوى أخذ طفل أو طفلين فقط، ويضطرون إلى ترك الأطفال الباقين على الطرق الرئيسة وتحت أقواس الجسور مع قليل من الطعام... وبين دموع الأطفال وصراخهم وبكاء الأمهات يتم مشهد فراق يفتت أقسى القلوب...". هكذا تم تهجير المسلمين كذلك... أي أن الجميع اكتووا بنار الحرب وقاسوا من قلة إمكانات الدولة في توفير وسائل التهجير، ولم يكن الأمر مقتصراً على الأرمن.

وكما تبين لم تكن القضية قضية تطهير عرقي للأرمن، ولم تكن هناك أي نية في إيقاع المذابح بهم. لقد قاسى الأرمن ما قاسوه نتيجة تعاونهم مع جيوش الاحتلال وكونهم آلة في ألاعيب السياسة العالمية، من جهة، ثم قلة إمكانات الدولة في ظروف الحرب وهي تقاتل في سبع جبهات. وأكبر دليل على ما نقول أن أحداً لم يلمس الأرمن الموجودين في اسطنبول أو إزمير أو المدن الأخرى بأي أذى. ولو كان الأمر تطهيراً عرقياً لما سلموا. يقول الأرمن إن عدد الضحايا يتراوح بين مليون إلى مليون ونصف. ولاشك أن هذا العدد مبالغ فيه كثيراً، لأن عدد الأرمن في جميع أراضي الدولة العثمانية كان بالكاد يبلغ المليون ونصف المليون. أما عدد المهجرين فكان 600 ألف تقريباً، سلم أكثر من نصفهم حيث وصلوا إلى سورية ولبنان والموصل وذهب قسم منهم إلى إيران والقوقاز، أي أن عدد الضحايا يقل عن 300 ألف، بينما يقول بعض المؤرخين الأتراك إن عدد الضحايا من المسلمين في المذابح الأرمنية يقارب المليون، وقد يكون في هذا الرقم أيضاً بعض المبالغة.

أدلة تاريخية : عندما دخل الإنجليز إلى اسطنبول محتلين في 13 نوفمبر من عام 1919م، أثاروا القضية الأرمنية فألقوا القبض على 140 شخصاً من السياسيين والمفكرين الأتراك بتهمة مسؤوليتهم عن القضية ونفوهم إلى جزيرة مالطة تمهيداً لمحاكمتهم باعتبارهم من مجرمي الحرب. ولكن كان من الضروري العثور على الوثائق والأدلة فأرسل الأميرال الإنجليزي "ويب" برقية إلى حكومته قال فيها:

"يجب إعدام جميع الأتراك كي تشمل العقوبة جميع من ظلموا الأرمن، ويجب أن تكون العقوبة عقوبة للأمة عن طريق تمزيق الإمبراطورية التركية، وعقوبة للأشخاص عن طريق محاكمة كبار المسؤولين كي يكونوا عبرة لمن اعتبر". ولكن حكومة اسطنبول برئاسة توفيق باشا بادرت بالطلب إلى الحكومة البريطانية أن تجري المحاكمة أمام محكمة دولية يكون حكامها من الدول المحايدة مثل إسبانيا وسويسرا.

قلقت بريطانيا من هذا الطلب فأجرت وهي الدولة العظمى المنتصرة آنذاك ضغوطاً سياسية على الدول المحايدة التي اضطرت في النهاية للامتناع عن ترشيح حكام منها للمحكمة المقترحة. ثم قامت بريطانيا بخطوة ثانية وهي إضافة الحكم الآتي إلى المادة رقم 230 من معاهدة سيفر:

"تتعهد الحكومة العثمانية بتسليم المسؤولين عن المجزرة إلى الحلفاء. وإن اختيار الحكام من صلاحيات الحلفاء، والحكومة العثمانية ملزمة بالاعتراف بهذه المحكمة". كان هذا هو منطق القوة التي تملي شروطها على المغلوب.

شكلت محكمة عسكرية بريطانية في باطوم لمحاكمة المتهمين. ولكنها لم تستطع إصدار أي حكم لعدم وجود أي دليل أو وثيقة تدينهم، أو تشير إلى وقوع عملية التطهير العرقي ضد الأرمن. وبينما كانت الحكومة البريطانية تبذل كل ما في وسعها للعثور على دليل قامت البطريركية الأرمنية في اسطنبول بتقديم ملف لهذه المحكمة حول "مائة من المجرمين الأتراك" ولكن بعد التدقيق تبين أن هذا الملف لا يحوي دليلاً واحداً ضد الأتراك. ثم قلَّب البريطانيون الأرشيف العثماني في اسطنبول ودققوا فيه للعثور على الأدلة المطلوبة فلم يصلوا إلى شيء. ثم راجعوا دور الوثائق البريطانية فواجههم الفشل مرة أخرى. وخطر على بال الحاكم العام البريطاني الاستفادة من الوثائق الأمريكية فكتب إلى اللورد كرزون في لندن قائلاً: "لا شك أن بحوزة الحكومة الأمريكية أعداداً وافرة من الوثائق حول المجزرة".

أرسل الطلب إلى الحكومة الأمريكية، وبعد بحث وتمحيص جاء الجواب من السفارة البريطانية في واشنطن مخيباً لآمالهم: "لم يعثر على أي أدلة ضد الأتراك في دوائر الوثائق الأمريكية". بعد هذا الفشل أرسل المدعي العام الأول البريطاني الخطاب الآتي في 29-9- 1921م: "ليس لدينا أي حظ في إمكانية الحكم على المنفيين في مالطة".

في هذه الأثناء كانت حرب الاستقلال التي دخلت فيها تركيا قد دارت لصالح الأتراك، فأرسلت حكومة أنقرة طلباً إلى الحكومة البريطانية لإطلاق سراح المنفيين إلى مالطة مقابل إطلاق سراح بعض الأسرى البريطانيين عندها. وتم التوقيع فعلاً على اتفاقية بهذا الخصوص، حيث أطلق سراح هؤلاء.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الوثائق الروسية

وقد جاء في دائرة المعارف الكبيرة للاتحاد السوفييتي "طبعة 1926" تي حول هذه القضية: "إذا نظرنا للمشكلة الأرمنية من المنظور الخارجي رأينا أنها ليست سوى محاولة من القوى الكبرى لإضعاف تركيا وذلك بمعاونة ومساعدة القوى الانفصالية فيها لكي تتيسر لها سبل استغلالها وامتصاص خيراتها. هذه القوى الكبرى كانت عبارة عن الدول الأوروبية الكبرى وروسيا القيصرية. ولم تكن الحوادث التي جرت عبارة عن مذبحة، بل مجرد قتال بين الطرفين".


رأي المؤرخين المعاصرين

والآن ما رأي المؤرخين المعاصرين حول القضية؟ هل كانت هناك حركة تطهير عرقي ضد الأرمن؟ في عام 1985م نشر "اتحاد الجمعيات التركية الأمريكية" Assembly of Turkish American Associotions بياناً في جريدتي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" موقعاً عليه من قبل 69 مؤرخاً ومختصاً في التاريخ العثماني وشؤون الشرق الأوسط نفوا فيه وقوع أي عملية تطهير عرقي للأرمن من قبل الأتراك خلال أعوام 1915 1923م وكان من ضمن الموقعين على البيان:

أساتذة الجامعة برنارد لويس، وهيث لوري، وجوستن ماك آرثي وآلان فيشر، ورودريك داوفسين وكل من دانكوودت روستو، تيبور هالاسيكون، ستانفورد شو، فرانك تاجو، بيير أوبرلنك... وغيرهم من أشهر العلماء والمؤرخين. ولكن الأرمن قاموا بعد الإعلان بحملة تهديد وإرهاب ضد هؤلاء العلماء وهددوهم بالقتل وقدموا بعضهم للمحاكم "مثل برنارد لويس". ونجحت الحملة في إرهاب معظم هؤلاء فلم يعودوا يتطرقون إلى الموضوع. وإن بقي بعضهم لا يخشى من سرد آرائه مثل جوستن ماك آرثي وبرنارد لويس. والمؤرخ البريطاني أندرو مانكو.

وحسب بعض الإحصائيات قام الأرمن خلال ثمانين عاماً بكتابة ما يقارب "26" ألف كتاب بمختلف اللغات حول ما أطلقوا عليه اسم "التطهير العرقي الذي تعرض له الأرمن من قبل الأتراك". أي قاموا بعملية غسل دماغ ناجحة جداً في أوروبا وأمريكا.

ومع أن المكان الطبيعي لمناقشة مثل هذه الأمور هو محكمة لاهاي الدولية، حيث يمكن هناك تقديم القضية مع أدلتها التاريخية إن كانت موجودة فإن الأرمن يتهربون دائماً من هذا الخيار ويتجنبونه، لأنهم يعلمون أنهم لا يملكون أي وثيقة تاريخية، لذا نراهم يفضلون القيام بالضغط السياسي في المجالس البرلمانية من قبل اللوبيات الأرمنية القوية في الولايات المتحدة وأوروبا، وهذه ليست أماكن لحسم القضايا التاريخية أوتقدم فيها الوثائق والأدلة. وليس النواب مؤهلين أو مختصين لمناقشة التاريخ وإصدار الأحكام حول حوادثه، وقد تبين هذا الأمر بكل وضوح في النقاش التلفازي الحي الذي جرى يوم 25-1-2001 في إحدى القنوات التركية بين مؤرخين ومفكرين أتراك وأربعة من النواب الفرنسيين الذين ساندوا قرار الاعتراف بوقوع تطهير عرقي للأرمن واستمر النقاش ما يقارب خمس ساعات، وقد تبين أن أولئك النواب يجهلون التاريخ وأن معلوماتهم عنه سطحية. وعندما طلب المذيع أن يبرز أي واحد منهم وثيقة تاريخية حول وقوع التطهير العرقي عجزوا عنه وبرروا العجز بأنهم ليسوا مؤرخين.

الهامش