الانحلال الأخلاقي في عصر النهضة

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

منابع الفساد الخلقي وأشكاله

ليس ثمة ميدان يمكن أن يتعرض فيه المؤرخ لتأثير أهوائه وميوله فيضل ويصدر حكاماً خاطئة، كالميدان الذي يطرقه حين يريد التحقق من المستوى الأخلاقي لعصر من العصور- اللهم إلا إذا كان هذا الميدان هو ميدان البحث في أسباب ضعف العقيدة الدينية، وهو ميدان وثيق الصلة بميدان الأخلاق، ففي كلتا الحالتين يكون أكثر ما يسترعي نظره هو الاستثناء غير المألوف الذي يؤثر في النفس بمظهره فيصرف الإنسان عن الأحوال المألوفة التي لا تسجلها صفحات التاريخ. وإذا ما أقبل على المشكلة التي أمامه ولديه فكرة يريد أن يثبتها كالفكرة القائلة إن التشكك في أمور الدين يؤدي إلى انحلال الأخلاق- نقول إنه إذا أقبل على المشكلة بهذه الفكرة زادت الحقائق انطماساً فيعجز عن تبين الحقيقة كاملة. هذا إلى أن الحادثات المسجلة قد تفسر بالنقيضين، ويكاد يستطيع قارئها أن يثبت بها أي شيء حسب ما يختاره من تلك الحادثات مدفوعاً إلى ذلك بميله وهواه. ففي وسعه مثلا أن يوجه اهتمامه إلى مؤلفات أريتينو Aretino وسير تشيليني Cellini الذاتية، ورسائل مكيفلي وفتوري ليشتم منها رائحة الانحلال، كما أن في مقدوره أن ينقل من رسائل إزبلا وبيتريس دست، ورسائل إلزبتا جندساجا وألسندرا استرتسى ما يصور به الحنان الأخوي والحياة البيتية المثالية. ولهذا ينبغي لقارئ التاريخ أن يكون على حذر.

وكان ثمة عوامل كثيرة سبب ذلك الانحلال الخلقي الذي صاحب ما كان في النهضة من رقي فكري عظيم. وأكيد الظن أن العامل الأساسي في هذا الانحلال هو زيادة الثراء الناتج من موقع إيطاليا الهام في ملتقى الطرق التجارية بين أوربا الغربية وبلاد الشرق، ومن تدفق العشور وغيرها من القروض التي كانت ترد إلى روما من ألف مجتمع مسيحي. وزاد انتشار الإثم بازدياد المالي الذي تتطلبه نفقاته، وأضعف انتشار الثراء اتخاذ الزهد مثلا أعلى للحياة: فقد أصبح النساء والرجال يشمئزون من المبادئ الأخلاقية التي قامت على الفقر والخوف، والتي أضحت الآن تتعارض مع غرائزهم ووفرة مالهم. وأخذوا يستمعون بعطف متزايد إلى آراء أبيقور القائلة إن على الإنسان أن يستمتع بالحياة، وإن كل الملذات يجب أن تعد بريئة حتى يثبت جُرمها. وغلبت مفاتن النساء أوامر الدين ونواهيه.

وربما كان العامل الثاني الذي يلي الثراء في إفساد الأخلاق هو ما كان في ذلك العصر من تقاتل سياسي. ذلك أن تطاحن الأحزاب والشيع المتعادية، وكثرة الحروب، وتدفق مرتزقة الجنود الأجانب، وما حدث بعد ذلك من غزو الجيوش الأجنبية أرض إيطاليا، وهي جيوش لم تكن تراعى في تلك الأرض أي قيد من القيود الخلقية، واضطراب أحوال الزراعة والتجارة بسبب ويلات الحرب وتخريبها، وقضاء الحكام المستبدين على الحرية واستبدالهم القوة الغاشمة بالسلم والقانون: كل هذه الظروف أشاعت الاضطراب في حياة لإيطاليا وحطمت العادات التي كان الأهلون يعتزون بها ويحافظون عليها، وهي في العادة الحارس الأمين على الأخلاق. ووجد الناس أنفسهم يضربون على غير هدى في بحر عجاج من العنف والجبروت، بدا لهم فيه أن الدولة والكنيسة كلتيهما عاجزتان عن حمايتهم فتولوا هم أنفسهم تلك الحماية بأحسن ما يستطيعون، بالسلاح وبالخداع؛ حتى أصبح الخروج على القانون هو السنة المتبعة والشريعة المقررة. وانغمس الحكام الطغاة في الملذات جميعها بعد أن وجدوا أنفسهم فوق القانون يحيون حياة قصيرة ولكنها حياة مثيرة، وحذت حذوهم أقلية الأهلين ذات الثراء.

وإذا شئنا أن نقدر أثر التحلل من الدين في تحلل بني الإنسان الفطري من القيود الخلقية، وجي علينا أن نبدأ بالتفرقة بين تشكك القلة المتعلمة، وتقوى الكثرة التي تعض على تقواها بالنواجذ. إن الاستنارة على الدوام من مزايا الأقليات، والتحرر من صفات الأفراد، لأن العقول لا تتحرر جماعات... فقد يحتج عدد قليل من المتشككة على المخلفات الزائفة، والمعجزات المزورة، وصكوك الغفران التي تعرض تعهدا بالأداء الآجل نظير ثمن عاجل؛ ولكن جمهرة الشعب تقبل هذه كلها في رهبة وخشوع وأمل. وقد حدث في عام 162 أن ذهب البابا العالم بيوس الثاني وجماعة من الكرادلة إلى ملقى ليستقبلوا رأس الرسول أندرو المحمول من بلاد اليونان، وألقى الكردنال العالم بساريون Bessarion خطبة رهيبة حين وضع الرأس الموهوم الثمين في كنيسة القديس بطرس. وكان الشعب يحج إلى لوريتو وأسيسي، ويهرع إلى روما في سني الأعياد، ويطوف بمواضع الصليب من كنيسة الى كنيسة، ويصعد وأفراده ركع على الدرج المقدسة Seale Sanla التي قيل لهم إنها هي الدرج التي صعد عليها المسيح إلى محكمة بيلاطس. وقد يخسر الأقوياء من هذا له وهم أصحاء، ولكن قلما كان يوجد إيطالي في عصر النهضة لا يطلب القربان المقدس وهو على فراش الموت. فها هو ذا فيتيلتسو فيتيلي Vitelozze Vitelli الزعيم المغامر المستأجر الذي حارب الإسكندر السادس، وسيزارى بورجيا يتوسل إلى رسول أن يذهب إلى روما ليسأل البابا أن يغفر له قبل أن يشد جلاد سيزارى الحبل حول عنقه؛ وكانت النساء على الأخص يعبدن مريم؛ ولم تكد قرية من القرى تخلو من صورة لها تصنع المعجزات؛ وأضحت المسبحة وقتئذ (ولعل ذلك كان في عام 1524) الأداة المحببة للتسبيح والصلاة. وكان في كل بيت محترم صليب؛ وصورة مقدسة أو صورتان، وأمام الصورة أو الصورتين في كثير من البيوت مصباح يظل موقداً على الدوام. وكانت ميادين القرى وشوارع المدن تزدان أحياناً بتمثال للمسيح أو العذراء موضوع في صندوق خاص أو كوة في جدار. وكانت أعياد التقويم الديني يحتفل بها في أبهة وفخامة تخفف عن عامة الشعب كدحهم وتدخل السرور على نفوسهم، وكان تتويج البابا كل عقد من السنين أو نحوه تعرض فيه المواكب والألعاب، تذكر عارفي التاريخ القديم بما كان يجري في روما القديمة. ولم يكن قط دين من الأديان أجمل مناظر من الدين المسيحي حين أقام فنانو النهضة ونحتوا أضرحة، وصوروا أبطال هذا الدين وقصصه، وحين اجتمعت المسرحيات والموسيقى والشعر، والبخور في عبادة اللّه، وازدانت العبادة بما كان فيها من ألوان رائعة؛ وروائح ذكية، ومناظر فخمة.

ولكن هذا لم يكن إلا جانباً واحداً من جوانب المنظر فيه من الاختلاف والتناقض ما لا يليق معه وصفه بإيجاز. لقد كان كثير من كنائس المدن يخلو نسبياً من المصلين، كما هي حالها في هذه الأيام(1). أما في الريف فلنستمع إلى ما يقوله أنطونيو كبير أساقفة فلورنس في وصف فلاحي أسقفيته حوالي عام 1430:

"وفي الكنائس نفسها كانوا أحياناً يرقصون، ويقفزون، ويغنون مع النساء. وفي أيام الأعياد لم يكونوا يقضون في الصلاة أو في سماع القداس إلا وقتاً جد قصير؛ أما معظم الوقت فيقضونه في الألعاب، أو في الحانات، أو في النزاع عند أبواب الكنائس. وهم يجدفون في حق اللّه وأوليائه الصالحين، أو ينطقون بأقوال مثيرة أقل من هذه قبحاً. تنطق ألسنتهم بالكذب والخبث بالعهود وقول الزور؛ ولا يؤنبهم ضميرهم على الفسق والفجور وما هو أسوأ من هذا وذاك. وما أكثر من لا يعترفون منهم بذنوبهم ولو مرة واحدة في العام. وما أقل من يتناولون القربان المقدس... و لا يكادون يفعلون شيئاً يربون به أبنائهم كما يفعل الصالحون المؤمنون. ويستخدمون الرقى والتعاويذ لأنفسهم وحيوانهم، ولكنهم لا يفكرون أبداً في اللّه ولا في سلامة أرواحهم... أما قساوسة الأبرشيات فلا يعنى منهم أحد بالقطيع الذي يرعونه، بل كان ما يعنون به هو أصواف ذلك القطيع وألبانه، فلا يهدونه بالمواعظ العامة والاعترافات أو بالتحذير الفردي؛ بل يرتكبون نفس الخطايا التي يرتكبها من يرعونهم، ويسيرون سيرتهم الفاسدة(2)".

ومن حقنا أن نستدل من حياة رجال أمثال بمبونتسي ومكيفلي، ومن موتهم الطبيعي، على أن شطراُ كبيراُ من الطبقات المتعلمة في إيطاليا عام 1500 قد فقد إيمانه بالمسيحية الكاثوليكية؛ ولنا أن نفترض، في حذر أكثر من هذا، أن الدين حتى بين الطبقات غير المتعلمة، قد فقد بعض ما اكن له من سلطان على الحياة الأخلاقية. وكانت نسبة متزايدة من السكان قد نبذت العقيدة القائلة بأن القانون الأخلاقي موحى به من عند اللّه. وما كاد يبدو للناس أن الوصايا العشر من وضع البشر، وما كادت تجرد مما فيها من نعيم في الجنة وعذاب ي النار، حتى فقد ذلك القانون الأخلاقي ما كان له من رهبة وقوة، فلم يعبأ أحد بالمحرمات، وحل محلها قانون جر المغانم وانتهاب اللذات؛ وضعف شعور الناس بالخطيئة، والرهبة من الجريمة؛ وتحرر ضمير الناس من القيود أو كاد، وأخذ كل إنسان يفعل ما يبدو له ميسراً ولو لم يكن ما اعتاد الناس أن يروه حقاً. ولم يعد الناس يرغبون في أن يكونوا صالحين، بل كان ما يريدونه أن يكونوا أقوياء. ومارس كثيرون من الناس، قبل مكيفلي بزمن طويل، امتيازات القوة، والغش والخداع- أي المبدأ القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة- التي يجيزها ذلك السياسي لحكام الدول. ولعل قانونه الأخلاقي لم يكن إلا صورة تمثلت له بعد أن شهد ما حوله من أخلاق وعادات. وقد عزا بلاتينا Platina لبيوس الثاني قوله إنه "حتى إذا لم يكن الدين المسيحي مؤيداً بالمعجزات، فإن من الواجب مع ذلك أن يتقبل لما فيه من حث على الأخلاق الكريمة"(3). ولكن الناس لم يكونوا يتبعون هذه الفلسفة في تفكيرهم؛ بل كل ما كانوا يقولونه: إذا لم تكن ثمة نار ولا جنة، فإن من واجبنا أن نمتع أنفسنا على ظهر الأرض، ونترك العنان لشهواتنا، دون أن نخشى عقابا بعد الموت. ولم يكن شيء يستطيع أن يحل محل العقوبات السماوية الضائعة إلا رأي عام قوي مفكر؛ ولكن رجال الدين، والكتاب الإنسانيين، ورجال الجامعات لم يرقوا إلى المستوى الذي يستطيعون معه أداء هذا الواجب.

ذلك أن الكتاب الإنسانيين لم يكونوا أقل فساداً من رجال الدين الذين يوجهون هم لهم سهام النقد. نعم إنه كان من بينهم قلة شاذة من العلماء النابهين الذين يرون الاحتشام والوقار مما يتفق مع التحرر العقلي- أمثال أمبروجيو ترافير سارى Ambrogio Traversari، وفيتوريو دا فيلترى Vitoiro da Feltre ومرسليو فيتشينو Mersilio Vicino، وألدس مانوتيس Aldus Manutius... ولكن أقلية كبيرة من الرجال الذين بعثوا الآداب اليونانية والرومانية كانت تعيش كما يعيش الوثنيون الذين لم يسمعوا قط شيئاً عن المسيحية. وكان تنقل أفرادها سبباً في اقتلاعهم من كل بيئة وجدوا فيها؛ فقد كانوا ينتقلون من مدينة إلى مدينة، يطلبون في كل منها المجد أو المال، ولا يستقرون في واحدة منها. وكانوا مولعين بالمال ولع المرابي أو زوجته، مزهوين بعبقريتهم، ومكاسبهم، وملامحهم، وثيابهم، غلاظاً وقحين في ألفاضهم، غير كريمين حقيرين في أحاديثهم، غير أوفياء في صداقتهم، متقلبين في حبهم، وهاهو ذا أريستو، كما قلنا من قبل، لم يجرؤ على أن يعهد بابنه إلى معلم من الكتاب الإنسانيين خشية أن تصيبه عدوى المعلم الخلقية. وأكبر الظن أنه لم ير من الضروري أن يحرم على ولده قراءة قصة أورلندو فيوريوسو Orlando Furioso التي كانت تتخللها بعض العبارات الوقحة الحلوة النغمة. وقد كشف فلا، وبجيو وبيكاديلي Becadelli، وفيليفو بإيجاز يبلغ في حياتهم المستهترة عن إحدى المسائل الأساسية في علم الأخلاق وفي الحضارة بوجه عام: ونعنى بها "هل ينبغي أن يكون القانون الأخلاقي، إذا أريد أن يكون ذا أثر في النفوس، مؤيداً من قوة غير قوة بني الإنسان- وهل لابد لأن يكون له ذلك الأثر أن يؤمن الإنسان بحياة غير هذه الحياة الدنيا أو يعتقد أن هذا القانون الأخلاقي منزل من عند اللّه؟


أخلاق رجال الدين

لقد كان بوسع الكنيسة ان تحتفظ بحقوقها القدسية المستمدة من الكتب المقدسة العبرية والتقاليد المسيحية لو أن رجالها تمسكوا بأهداب الفضيلة والورع. ولكن كثرتهم الغالبة ارتضت ما في أخلاق زمانها من شر وخير، وكانوا هم أنفسهم مرآة تنعكس عليها ما في سيرة غير رجال الدين من أضداد. فقد كان قس الأبرشية خادماً ساذجاً، لم يؤت في العادة إلا قسطاً ضئيلاُ من التعليم، ولنه غالباً ما يعيش معيشة يقتدى بها(4) (وإن خالفنا في هذا رأي الراهب الصالح أنطونيو)، لا يعبأ به رجال الفكر، ولكن يرحب به الشعب. وكان بين الأساقفة ورؤساء الأديرة بعض من يحيون حياة منعمة، ولكن كان منهم كثيرون من الرجال الصالحين، ولعل نصف مجمع الكرادلة كانوا يسلكون مسلك أتقياء المسيحيين المتدينين الذي يخزي مسلك زملائهم الدنيوي المرح(5).

وانتشرت في جميع أنحاء إيطاليا المستشفيات، وملاجئ اليتامى، والمدارس، وبيوت الصدقات، ومكاتب القرض وغيرها من المؤسسات الخيرية يديرها رجال الدين. واشتهر الرهبان البندكتيون، والفرنسيس المتشددون، والكرثوزيون بمستوى حياتهم الخلقي الرفيع إذا قيس إلى أخلاق أهل زمنهم. وواجه المبشرون مئات الأخطار وهو يعملون لنشر الدين في أراضي "الكفار" وبين الوثنين المقيمين في العالم المسيحي. واختفى المتصوفة عن أعين الناس وابتعدوا عما كان في زمانهم من عنف، وأخذوا يعملون للاتصال القريب بالخالق جل وعلا. وكان بين هذا التقي والورع الكثير من التراخي في الأخلاق بين رجال الدين، نستطيع أن نثبته بما نضربه من مئات الأمثال. فها هو ذا بترارك نفسه الذي بقي مخلصاً لدين المسيح إلى آخر أيام حياته، والذي صور ما في دير الكرثوزيين، الذي كان يعيش فيه أخوة، من نظام وتقى في صورة طيبة مستحبة، ها هو ذا يندد أكثر من مرة بأخلاق رجال الدين المقيمين في أفنيون. وإن الحياة الخليعة التي كان يحياها رجال الدين الإيطاليون، والتي نقرأ عنها في روايات بوكاتشيو المكتوبة في القرن الرابع عشر إلى روايات فلتشيو في القرن الخامس عشر، إلى روايات بنديتلو في القرن السادس عشر، إن هذه الحياة الخليعة موضوع يتكرر وصفه في الأدب الإيطالي فبوكاتشيو يتحدث عما في حياة رجال الدين من دعارة وقذارة ومن انغماس في الملذات طبيعية كانت أو غير طبيعية(6). ووصف ماستشيو الرهبان والإخوان بأنهم "خدم الشيطان". منغمسون في الفسق واللواط، والشره، وبيع الوظائف الدينية، والخروج على الدين، ويقر بأنه وجد رجال الجيش أرقى خلقاً من رجال الدين"(7).

وها هو ذا أريتينو الذي لم يتورع عن أية قذارة يسخر من الطابعين بقوله إن أخطاءهم لا تقل عن خطايا رجال الدين؛ ويزيد على ذلك قوله: "والحق أنه لأسهل على الإنسان أن يعثر على روما مستفيقة عفيفة من أن يعثر على كتاب صحيح"(8) وديكا بجيو Poggio يفرغ كل ما عرفه منن ألفاظ السباب في التشنيع على فساد أخلاق الرهبان والقسيسين، ونفاقهم، وشرههم، وجهلهم وغطرستهم(9). وبقص فولينجو Folengo في كتاب أرلندينو Oriandino هذه القصة نفسها؛ ويبدو أن الراهبات، ملائكة الرحمة في هذه الأيام؛ كان لهن نصيب، في هذا المرح، أو أنهن كن مرحات رشيقات في البندقية بنوع خاص حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قرباً يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين إلى حين في فراش واحد. وتحتوي سجلات الأديرة على عشرين مجلداً من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسي بين الرهبان والراهبات(10). ويتحدث أريتينو عن راهبات البندقية حديثاً لا تطاوع الإنسان نفسه على أن ينطق به(11)؛ وجوتشيارديني، الرجل الرزين المعتدل عادة، يخرج عن طوره ويفقد اتزانه حين يصف روما فيقول: "أما بلاط روما فإن المرء لا يستطيع أن يصفه بما يستحق من القسوة، فهو العار الذي لا ينمحى أبد الدهر، وهي مضرب المثل في كل ما هو خسيس مخجل في العالم".

ويبدو أن هذه شهادات مبالغ فيها، وقد تكون غير نزيهة، ولكن استمعوا إلى قول القديسة كترين السيانية:

"إنك أينما وليت وجهك- سواء نحو القساوسة أو الأساقفة أو غيرهم من رجال الدين، أو الطوائف الدينية المختلفة، أو الأحبار من الطبقات الدنيا أو العليا، سواء كانوا صغاراُ في السن أو كباراُ- لم تر إلا شراُ ورذيلة، تزكم أنفك رائحة الخطايا الآدمية البشعة. إنهم كلهم ضيقوا العقل، شرهون، بخلاء... تخلوا عن رعاية الأرواح... اتخذوا بطونهم إلهاً لهم، يأكلون ويشربون في الولائم الصاخبة، حيث يتمرغون في الأقذار ويقضون حياتهم في الفسق والفجور... ويطعمون أبنائهم من مال الفقراء... ويفرون من الخدمات الدينية فرارهم من السجون"(13).

وهنا أيضاً يجب أن نسقط بعض ما يحتويه هذا الوصف من مبالغة، إذ ليس في وسع الإنسان أن يثق بأن الولي الصالح يتحدث عن سلوك الآدميين وهو غير غاضب. ولكن في وسعنا أن نصدق هذه الخلاصة التي يعرضها مؤرخ كاثوليكي صريح:

"وإذا كانت هذه هي حال الطبقات العليا من رجال الدين فإن المرء لا يعجب إذا كان من دونهم من الطبقات ومن القساوسة قد انتشرت بينهم الرذيلة على اختلاف أنواعها وأخذ انتشارها على مدى الأيام. إلا أن الحياء قد زال من العالم... ولقد كان أمثال أولئك القساوسة هم اللذين دفعوا إرزمس ولوثر إلى وصفهما المبالغ فيه لرجال الدين حين زارا رومة في أيام يوليوس الثاني. غير أن من الخطأ أن يظن المرء أن القساوسة كانوا في روما أكثر فساداً منهم في غيرها من المدن. ذلك أن لدينا من الوثائق ما يثبت بالدليل القاطع فساد أخلاق القسيسين في كل مدينة تقريباً من مدن شبه الجزيرة الإيطالية. بل إن الحال في كثير من الأماكن-كالبندقية مثلا- كانت أسوأ كثيراُ منها في روما. فلا عجب والحالة هذه إذا تضاءل نفوذ رجال الدين كما يشهد بذلك مع الأسف الشديد الكتاب المعاصرون، وإذا كان المرء لا يكاد يجد في كثير من الأماكن أي احترام يظهره الشعب للقسيسين. ذلك أن الفساد قد استشرى بينهم إلى حد بدأنا نسمع معه آراء تحبذ زواجهم... ولقد كان الكثير من الأديرة في حال يرثى لها. وأغفلت في بعضها الأيمان الثلاث الأساسية بالتزام الفقر، والعفة، والطاعة إغفالا يكاد يكون تاماً... ولم يكن النظام في كثير من أديرة النساء أقل من هذا فساداً(14).

وإذا ما عفونا عن بعض هذا الشذوذ الجنسي والانهماك في ملاذ المأكل والمشرب فإنا لا نستطيع أن نعفو عن أعمال محاكم التفتيش، وإن كانت هذه المحاكم قد اضمحل شأنها في إيطاليا اضمحلالاً كبيراً أثناء القرن الخامس عشر. مثال ذلك أن أماديو ده لاندى Amadeo de' Landi، أحد علماء الرياضة، حوكم في عام 1440 لأنه اتهم بالمادية وصدر الحكم ببراءته؛ وحدث في عام 1478 أن حكم بالإعدام على جاليتو مارتشيو Galeotto Marcio لأنه كتب يقول إن أي إنسان يحيا حياة صالحة يكون مصيره الجنة أيا كان دينه، ولكن البابا سكستس الرابع نجاه من الموت(15)؛ وفي عام 1497 حمى مرضى جبريلي دا سالو Gabriele de Salo هذا الطبيب من محكمة التفتيش مع أنه قال إن المسيح ليس إلها، بلى هو ابن يوسف ومريم، حملت به أمه بنفس الطريقة السخيفة التي تحمل بها كل أم، وإن جسم المسيح لا يحتويه العشاء الرباني، وإنه لم يفعل المعجزات بقوة إلهية بل بتأثير النجوم(17)؛ وهكذا تنفي كل أسطورة غيرها من الأساطير، وفي عام 1500 أحرق جيورجيو نافارا Giorgio da Navara في بولونيا لأنه، على ما يظهر، أنكر ألوهية المسيح، ولم يكن له من يحميه من الأصدقاء أصحاب النفوذ. وفي ذلك العام نفسه أعلن أسقف أرندا Aranda أن ليس ثمة جنة ولا نار، وأن صكوك الغفران ليست إلا وسيلة لجمع الأموال، ولم يوقع عليه مع ذلك أي عقاب(18). وفي عام 1510 أراد فردناند الكاثوليكي أن يدخل محاكم التفتيش في نابلي، ولكنه لقى مقاومة عنيفة من جميع السكان على اختلاف طبقاتهم اضطر معها إلى التخلي عن هذه المحاولة(19).

وكان في وسط هذا الانحلال الكنسي عدة مراكز للإصلاح الطيب من ذلك أن البابا بيوس الثاني أبعد أحد رؤساء الرهبان الدومنيكيين من مركزه، وأدخل النظام في أديرة البندقية، وبرتشيا، وفلورنس، وسينا وفي عام 1517 أنشأ سادوليتو، وجيبيرتي Geberti، وكارفا Caraffa وغيرهم من رجال الكنيسة "محراب الحب القدسي" ليكون مركزاً لأتقياء الرجال الذين يريدون ملجأ مما في روما من انهماك وثني في مفاتن الدنيا. وفي عام 1523 أنشأ كارفا طائفة الثياتين Theatines، التي يعيش فيها القساوسة غير المنتمين إلى طوائف الرهبان معيشة يستمسكون فيها بقواعد الرهبنة، من عفة، وطاعة، وفقر. ونزل الكردنال كارفا عن كل مرتباته ووزع جميع أملاكه على الفقراء؛ وحذا حذوه القديس جيتانو Saint Gaetano وهو أيضاً من مؤسسي طائفة الثياتين. وكان كثيرون من هؤلاء الأتقياء الصالحين رجالا كرام المحتد، عظيمي الثراء، وقد أدهشوا روما باستمساكهم الشديد بالقواعد التي فرضوها على أنفسهم، وبزياراتهم لضحايا الطاعون دون أن يخشوا الموت. وفي عام 1533 أنشأ أنطونيو ماريا زكريا Antonio Maria Zaccaria طائفة مماثلة لهذه من القساوسة في ميلان، سمى أفرادها أولا قساوسة القديس بولس النظاميين، ولكنهم لم يلبثوا أن تسموا باسم البرنابيين Barnabites نسبة إلى كنيسة القديس برنابا St. Barnabas. ووضع كارفا برنامجاً طيباً لإصلاح رجال الدين في البندقية، وحاول جيبرتي إدخال إصلاحات مثلها في أقفية فيرون (1531-1528). وأصلح إجيديو كانيسيو Egidio Canisio أحوال النساك الأوغسطينيين، وكذلك أدخل جريجريو كرتيزى Gregoreo Cortese إصلاحات شبيهة بإصلاحاته بين الرهبان البنديكتيين في بدوا.

وكان أكبر ما بذل من الجهود لإصلاح الأديرة في ذلك العصر هو تأسيس طائفة الكابوتشين Capuhin Order. فقد خيل إلى ماتيو دي بسي Matteo di Bassi أحد الرهبان الفرنسيس المتزمتين من مونتى فلكونى Montefalcone أنه رأى القديس فرانسس في رؤيا وأنه سمعه يناديه بقوله: "أحب أن تتبع قاعدتي بنصها، بنصها، بنصها". وعرف أن القديس فرانسس كان يلبس قلنسوة مستدقة ذات أربعة أركان، فاتخذ مثلها غطاء لرأسه. وسافر إلى روما وحصل من البابا كلمنت السابع (1528) على إذن بانشاء فرع جديد من طائفة الرهبان الفرنسيس يمتازون من غيرهم بقلانسهم، وبالتزامهم القاعدة الأخيرة من قواعد القديس فرانسس. وكانوا يلبسون أخشن الثياب، ويمشون حفاة طول العام، ويعيشون على الخبز، والخضر، والفاكهة، والماء؛ ويراعون فروض الصيام الدقيق، وينامون في صوامع ضيقة في أكواخ فقيرة مقامة من الخشب والطين، ولا يسافرون قط إلا راجلين. ولم يكن عدد أفراد الطائفة الجديدة كبيراُ ولكنها كانت مثلا حافزاً للإصلاح الواسع الانتشار الذي تسرب إلى طوائف رهبان الأديرة والرهبان المتسولين في القرنين السادس عشر والسابع عشر(20).

وقد بدأت بعض هذه الإصلاحات استجابة إلى دعوة الإصلاح البروتستنتي؛ لكن كثيراً منها قد نشأ من تلقاء نفسه، وكان شاهداً على ما في المسيحية والكنيسة من قوة حيوية كانت سبباً في نجاتهما.


الأخلاق الجنسية

ولننتقل بعدئذ إلى أخلاق غير رجال الدين، ونبدأ بالعلاقة بين الرجال والنساء، ونذكر من بادئ الأمر أن الإنسان بفطرته ينزع إلى تعدد الأزواج، وأن لا شيء يستطيع أن يقنعه بالزوجة الواحدة إلا أقسى العقوبات، ودرجة كافية من الفقر والعمل الشاق، ومراقبة زوجته له مراقبة دائمة. ولسنا واثقين من أن الزنا كان في العصور الوسطى أقل انتشاراً مما كان في عصر النهضة؛ وكما أن الزنا في العصور الوسطى كانت تخفف من مساوئه روح الفروسية وما فيها من شهامة، كذلك كان يخفف من هذه المساوئ بين الطبقات المثقفة التقدير المثالي لرقة المرأة المتعلمة ومفاتنها الروحية. وساعدت زيادة التكافؤ بين الجنسين في التعليم والمركز الاجتماعي على خلق رفقة عقلية جديدة بين الرجال والنساء؛ فكانت الحياة في مانتوا، وميلان، وأربينو، وفيرارا، ونابلي تزدان وتزداد حمية بظهور النساء الفاتنات المثقفات.

وكانت فتيات الأسر العريقة يحتجبن إلى حد ما عن الرجال من غير أسرهم. وكن يلقنَّ على الدوام دروساً في مزايا الاستعفاف قبل الزواج؛ وكان هذا التلقين يلقى أحياناً من النجاح درجة نسمع معها أن فتاة أغرقت نفسها بعد أن أعتدي على عفافها، وإن كان هذا بلا شك فعلاً شاذاً بدليل أن أسقفا اقترح أن يقام لهذه الفتاة تمثال(21)، وفي المقابر الرومانية امرأة عريقة النسب خنقت نفسها لتنقذ شرفها، وحمل جسمها في موكب نصر مخترقاً شوارع روما وعلى رأسها إكليل من الغار(22). بيد أنه كانت هناك بلا شك مغامرات كثيرة من فتيان وفتيات قبل الزواج؛ ولولا هذا لما استطعنا أن نفسر وجود ذلك العدد الجم من الأبناء غير الشرعيين في كل بلد من بلاد إيطاليا في عصر النهضة. لقد كان من ليس له أبناء غير شرعيين من الرجال والنساء يعد شخصاً ممتازاً يحق له أن يفخر على غيره، ولكن وجود أولئك الأبناء لم يكن يجلل أبويهم عاراً كبيراً؛ وكان الرجل إذا تزوج يستطيع في العادة أن يقنع زوجته بأن تقبل انضمام أبنائه غير الشرعيين إلى أسرته لكي يربوا مع أبنائها منه، ولم تكن حال الابن غير الشرعي عقبة كأداء في سبيله؛ ويكاد المجتمع لا يلقى بالاً مطلقاً إلى هذه الوصمة الاجتماعية. وكان في وسع النغل أن يعد ابناً شرعياً بهبة ينقحها لرجال الكنيسة. كما كان في وسعه أن يرث أملاك أبويه، وأن يرث العرش نفسه إذا لم يكن له أخ شرعي يليق بهذه الوراثة، أو لم يكن له أخ شرعي على الإطلاق. مثال ذلك أن فيرانتي الأول خلف ألفنسو الأول على عرش نابلي، وأن ليونلو دست خلف نقولو الثالث على عرش فيرارا. ولما أن قدم بيوس الثالث إلى فيرارا في عام 1495 استقبله سبعة من الأمراء كلهم أبناء غير شرعيين(23). وكان التنافس بين الأبناء الشرعيين وغير الشرعيين مصدر كثير من حوادث العنف في عصر النهضة؛ كما كانت نصف الروايات تدور حول إغواء النساء، وكانت النساء يقرأن في العادة هذه القصص أو يستمعنها، وكل ما يظهرنه من دلائل الحياء أن يطرقن بأبصارهن لحظات قصاراً. وقد وصف ربرت أسقف أكوينو في أواخر القرن الخامس عشر أخلاق الشبان في أسقفيته بأنها فاسدة، وقال إن أولئك الشبان لا يستحون من هذا الفساد. ويروى أنهم كانوا يقولون له أن الفسق ليس من الخطايا، وإن العفة من الأوامر التي عفا عليها الزمان، وإن عادة احتفاظ البنات بعذرتهن آخذة في الزوال(24). وحتى مضاجعة المحارم كان لها من يحبذونها ويتباهون بها.

أما اللواط فقد كاد يصبح من مستلزمات بعث الحضارة اليونانية. وكان الكتاب الإنسانيون يكتبون عنه بما يشبه الاعتزاز العلمي، ويقول أريستو إنهم كلهم كانوا منغمسين فيه. وكان بولتيان، وفليو، واستروتسي وسنودو Sanudo صاحب اليوميات يتهمون بهذه العادة اتهاماً له ما يبرره(25). كذلك اتهم بها ميكل أنجيلو، ويوليوس الثاني، وكلمنت السابع، وإن لم يبلغ هذا الاتهام من القوة والإقناع مبلغه في الحال السالفة الذكر. وقد وجد القديس برنردينو هذه العادة منتشرة في نابلي انتشاراً لم يسعه معه إلا أن ينذر هذه المدينة بأنها سيصيبها ما أصاب سدوم وعمورة(26). ويقول أرتينو إن هذا الشذوذ الجنسي كان شائعاً واسع الانتشار في روما(27)؛ وإنه هو كان يطلب إلى دوق مانتوا أن يبعث إليه بين كل خليلة وأخرى فتى وسيما(28)، وتلقى مجلس العشرة في مدينة البندقية في عام 1455 مذكرة رسمية تصف "انتشار رذيلة اللواط انتشاراً واسع النطاق في هذه المدينة"، وأراد المجلس "أن يتقي غضب اللّه" فعين رجلين في كل حي من أحياء البندقية مهمتهما القضاء على هذه العادة(29). وعرف المجلس أن بعض الرجال قد اعتادوا لبس أثواب النساء، وأن بعض النساء قد أخذن يرتدين ملابس الرجال، وقد سمى هذا العمل "ضرباً من اللواط"(30). وأدين رجل من الأشراف وآخر من رجال الدين في عام 1492 بممارسة اللواط، فأعدما في الميدان العام وأحرق رأساهما أمام الجماهير(31). ولقد كانت هذه حالات شاذة بطبيعة الحال لا يليق بنا أن نتخذها أساساً لحكم عام؛ ولكن لنا أن نفترض أن اللواط كان منتشراً انتشاراً أكثر من العادة في إيطاليا أثناء عصر النهضة وأنه ظل منتشراُ فيها حتى قامت حركة الإصلاح المعارضة.

وفي وسعنا أن نقول هذا القول نفسه عن الدعارة. فإذا أخذنا بقول إنفسورا- الذي كان يميل إلى المبالغة فيما يورده من الإحصاءات عن روما في عهد البابوات- قلنا إنه كان في روما 6.800 من العاهرات مسجلات في عام 1490، بخلاف العاهرات اللاتي يمارسن هذه الحرفة خفية، وذلك بين سكان البلد البالغين 90.000 نسمة(32) ويقدر التعداد الذي أجري في البندقية عام 1509 عدد العاهرات بـ 11.654 عاهراً من بين سكانها البالغ عددهم نحو 300.000(33). وقد نشر طابع مغامر "سجلاً بأشهر المحاظى وأشرفهن في البندقية احتوى اسمائهن، وعناوينهن، وأجورهن". وكن في الطرق يترددن على الحانات، وفي المدن ينزلن عادة في ضيافة الفتيات اليافعين، والفنانين المتلهفين. ويصف لنا متشيليني ليلة قضاها مع حظية له كأنها حادث عادي غير ذي بال، كما يصف عشاء الجماعة من الفنانين من بينهم جوليو رومانو وهو نفسه، وقد طلب إلى كل واحد من الحاضرين أن يأتي بامرأة غير متمنعة، وفي مأدبة أخرى أرقى من هذه درجة أقامها لورندسو استروتسي لمصرفي في عام 1519 لأربعة عشر شخصاً من بينهم أربعة كرادلة وثلاث نساء من الخليعات(35).

ولما ازداد الثراء وازدادت الرغبة في التنعم بدأ الأثرياء المنعمون يطلبون المحاظي اللائي يتمتعن بقسط من التعليم والمفاتن الاجتماعية، وكما أن طائفة الخليلات قد نشأت في أثينة أيام سفكليز للوفاء بهذا المطلب، كذلك نشأت في روما في أواخر القرن الخامس عشر وفي البندقية في القرن السادس عشر طبقة من الخليلات المهذبات ينافسن أظرف السيدات في ثيابهن، وآدابهن، وثقافتهن، بل وفي تقاهن وترددهن على الكنائس في أيام الآحاد. بينما كانت العاهرات العموميات يمارسن حرفتهن في المواخير، كانت الخليلات الرومانيات السالفات الذكر يقمن في بيوتهن، وينفقن بسخاء كبير على المآدب، ويقرأن الكتب، ويقرضن الشعر، ويغنين، ويعزفن على الآلات الموسيقية، ويشتركن في الأحاديث مع الطبقة المثقفة المتعلمة؛ ومنهن من كن يجمعن الصور والتماثيل، والطبعات النادرة من الكتب وآخر ما صدر منها؛ ومنهن من كن يعقدن الندوات الأدبية. وأردن أن يحتفظن بمقامهن لدى الكتاب الإنسانيين فتسمت الكثيرات منهن بأسماء لاتينية- كاميليا، يولكسينا، وينثسيليا Penthesilea، وفوستينا Faustina، وإمبيريا Imperia، وتوليا Tullia. وكتب أحد الظرفاء الأفاكين، في أيام البابا اسكندر السادس مجموعة من النكت الشعرية بدأها بطائفة منها في مدح العذراء والقديسين ثم اتبعها بلا حياء بطائفة أخرى في الثناء على العشيقات في أيامه(36). ولما ماتت إحدى أولئك العشيقات حزن عليها نصف سكان روما، وكان ميكل أنجيلو من الكثيرين الذين أنشئوا الأغاني تخليداً لذكراها(37).

وأشهر هاته الخليلات المهذبات إمبيريا ده كنياتس Imperia de Cugnatis. وقد أثرت هذه السيدة مما كان يغدقه عليها نصريها وحاميها أجستينو تشيجي Agostino Chigi، فزينت بيتها بالأثاث المترف الوثير والتحف النادرة، وجمعت حولها طائفة كبيرة من العلماء، والفنانين، والشعراء، ورجال الدين، وحتى سادوليتو Sadoleto النقي نفسه كان يتغنى بمديحها(38). وأكبر الظن أن أمبيريا هذه هي التي اتخذها رافائيل نموذجاً لسابفو في صورة البرناسوس Barnassus. وماتت في ريعان شبابها ونضرة جمالها ولم تتجاوز السادسة والعشرين من عمرها (1511)؛ وكزمت بعد موتها بأن دفنت في كنيسة سان جريجوريو San Gregorio، وأقيم لها قبر من الرخام محفور أجمل حفر ومصقول أحسن صقل؛ ورثاها مائة شاعر بأفخم المراثي(39). (وجدير بالذكر أن ابنتها آثرت الانتحار على التفريط في عرضها(40). ولا تقل عنها هرة توليا الأرغونية Tullia d' Aragona ابنة كردينا أرغونة غير الشرعية. وكان أهل زمانها يعجبون بشعرها الذهبي وعينيها البراقتين، وسخائها، وعدم اهتمامها بالمال، ورشاقة قوامها، وسحر حديثها، واستقبلت في نابلي، وروما، وفلورنس، وفيرارا استقبال الأمراء الزائرين. وقد وصف سفير مانتوا في فيرارا دخولها المدينة في رسالة غير دبلوماسية بعث بها إلى إزبلادست عام 1537 قال فيها:

أرى من واجبي أن أسجل مقدم سيدة ظريفة تبلغ من تواضعها في سلوكها وافتتان الناس بأدبها لا يسعنا معه إلا أن نصفها بأنها ربانية. وهي تغني ارتجالا جميع النغمات والألحان... وليس في فيرارا كلها سيدة واحدة، ولا فكتوريا كولونيا Victoria Colonna دوقة بسكارا Pescara يمكن أن تقارن بتوليا(41).

وقد رسم مورتو ده بريشيا Moretto de Brescia صورة ساخرة لها تبدو فيها بريئة براءة الراهبة الحديثة العهد بالرهبنة. وقد أخطأت إذ عاشت بعد أن زالت مفاتنها، وماتت في كوخ حقير قريب من نهر التبر؛ وبيع كل ما تمتلكه بالمزاد فلم يزد ثمنه على اثني عشر كروناً (150؟ دولاراً) ولكنها احتفظت رغم فقرها بعودها ومعزفها إلى آخر أيام حياتها. وتركت وراءها أيضاً كتاباً ألفته في خلود الحب الكامل(42).

وما من شك في أن هذا العنوان يدل على الطراز الذي كان يتحدث به المتحدثون ويكتب به للكتاب عن الحب العذري في عهد النهضة. فإذا لم تسمح امرأة لنفسها أن تزني في تلك الأيام، فقد كان يسمح لها على الأقل بأن تثير في الرجل نوعاً من الغرام الشعري، فتهدى اليها القصائد والمجاملات الأدبية والمؤلفات. ونشأت في تلك الأيام هيام شعراء الفروسية الغزليين، والحياة الجديدة لدانتي، وأحاديث أفلاطون عن الحب الروحي في عدد قليل من الجماعات عاطفة رقيقة من الهيام بالمرأة- كانت عادة زوج رحل غير المستهام بها. على أن الكثيرة الغالبة من الناس لم يكونوا يعنون قط بهذه الفكرة ويفضلون على هذا الحب العذري الحب الشهواني الصريح؛ فكانوا يكتبون الأغاني ولكن همهم الوحيد كان هو الاتصال الجنسي، وقلما كان هذا الحب ينتهي بالزواج إلا في حالات جد نادرة لا تتجاوز واحداً في المائة وذلك على الرغم مما يكتبه الكتاب في رواياتهم الغرامية.

ذلك أن الزواج في تلك الأيام كان مسألة مال، وكان جمع المال مستطاعاً دون حاجة إلى نزعات الشهوة الجسمية، وكانت خطبة الزواج تنظم في مجالس الأسر، ويقبل معظم الشبان والفتيات دون احتجاج ذي أثر من يختار زوجاً له أو لها. وكان من المستطاع خطبة البنت وهي في الثالثة من عمرها، وإن كان الزواج يؤجل في العادة حتى تتم الثانية عشرة. وكانت البنت في العصور الوسطى، إذا بقيت حتى الخامسة عشرة دون زواج، تجلل أسرتها العار. ثم أجلت تلك السن التي تجلب العار على الأسرة حتى السابعة عشرة في القرن السادس عشر، وذلك لكي يترك للفتاة من الوقت ما تستطيع معه الحصول على قسط من التعليم العالي(43). أما الرجال الذين يستمتعون بجميع ميزات الاختلاط الجنسي دون زواج ولا يجدون أية صعوبة في هذا الاختلاط، فلم يكن يستطاع إغراؤهم بالزواج إلا إذا جاءت الزوجة معها ببائنة قيمة. ومن أجل هذا وجدت في أيام سفنرولا Savonarola كثيرات من البنات الصالحات لأن يكن زوجات واللائي عجزن عن أن يجدن أزواجاً لحاجتهن إلى البائنات. ولهذا أيضاً أنشأت فلورنس نوعاً من التأمين الذي يقضى بأن تقوم الدولة بأداء البائنات لمن هن في حاجة إليها وأطلق على هذا النظام اسم: مال العذارى Motne delle faucille وكانت البنات يحصلن منه على بائناتهن إذا أدين قسطاً سنوياً قليلا(44). وفي سينا بلغ عدد الشبان العزاب من الكثرة ما اضطر المشرعين إلى فرض عقوبات قانونية عليهم؛ وفي لوقا صدر في عام 1454 مرسوم يقضي بحرمان كل العزاب ما بين سن العشرين والخمسين من الوظائف العامة. وكتبت السندرا إسترتسى Alessandra Strozzi في ذلك الوقت (1455) تقول: "إن تلك الأيام غير ملائمة للزواج(45). ورسم رافائيل نحو خمسين صورة للعذارى ولكنه لم يرسم قط صورة زوجة، وكان هذا هو الشيء الوحيد الذي اتفق معه ميكل أنجيلو فيه، وكانت حفلات الزفاف نفسها تستنفذ مبالغ طائلة من المال؛ وها هو ذا ليوناردو بروني Leonardo Bruni يشكو من أن زواجه قد ذهب بميراثه(46). وكان الملوك والملكات، والأمراء والأميرات، ينفقون ما يعادل مليون دولار على حفلة زفاف بينما كان القحط يقضي على حياة أبناء الشعب(47). وأعد ألفنسو العظيم Alfonso the Magnificent صاحب نابلي مأدبة عشاء لثلاثين ألفاً على ساحل الخليج. وكان أجمل من هذا وأفخم الحفل الذي أقامه أربينو لاستقبال الدوق جويلدو حين جاء من مانتوا بعروسه إلزبتا جندساجا: فقد اصطفت على سفح أحد التلال نساء المدينة في أبهى الحلل، واصطف أمامهن أطفالهن يحملون أغصان الزيتون؛ ومن ورائهم منشدون على ظهور الجياد في أشكال بديعة يرددون أغاني وضعت لهذه المناسبة خاصة، وقدمت سيدة جميلة تمثل إحدى الإلهات إلى الدوقة الجديدة ولاء أهل المدينة وعظيم حبهم(48).

وكانت المرأة بعد الزواج تحتفظ عادة باسمها الخاص، فها هي ذي زوجة لورنسدو ظلت تسمى السيدة كلارتشي أرسيني Clarice Orsine، على أنه كان يحدث أحياناً أن تضيف الزوجة إلى اسمها اسم زوجها- مثل مارسا سلفياني ده ميديتشي Maria Salviati de Medici وكان ينتظر حسب نظرية الحب في العصور الوسطى أن ينشأ الحب بين الرجل وزوجته أثناء اشتراكهما خلال الزواج في الأفراح والأتراح، والرخاء والشدة، ويلوح أن هذا هو الذي كان يحدث في معظم الحالات. ولسنا نعرف حباً نشأ بين فتى وفتاة أعمق أو أصدق من الحب الذي نشأ بين فيكتوريا كولنا والمركيز بيسكارا Pescara وقد خطبت له وهي في الرابعة، كما لا نعرف إخلاصاً أعظم من إخلاص إلزبتا جندساجا التي صحبت زوجها المقعد في جميع ما أصابه من محن ونفي، وظلت وفية لذكراه حتى توفيت.

ومع هذا فإن الزنا كان واسع الانتشار(49). وإذ كانت معظم الزيجات التي تعقد بين أفراد الطبقات العليا زيجات دبلوماسية تبتغي بها المصالح الاقتصادية أو السياسية، فقد كان كثيرون من الأزواج يرون أن من حقهم أن تكون للواحد منهم عشيقة؛ وكانت الزوجة في العادة تغمض عينيها عن هذه الإساءة أو تطبق شفتيها فلا تنطق بشيء مما تشعر به من أسى نتيجة لهذا التصرف. وكان رجال الطبقات الوسطى يدعون أن الزنا من الملاهي المشروعة. ويلوح أن مكيفلي وأصدقاءه لم يكونوا يتحرجون عن تبادل الرسائل المفصحة عن خياناتهم لزوجاتهم. وإذا ما ثأرت الزوجة لنفسها من زوجها فاقتدت به كان الزوج من الأحيان يتجاهل فعلها هذا ويحمل قرنيه راضياً(50). لكن تدفق الأسبان على إيطاليا عن طريق نابلي وبتشجيع الإسكندر السادس وشارل الخامس جاء إلى الحياة الإيطالية بالغيرة على العرض والشرف، فكان الزوج في القرن السادس عشر يرى من واجبه أن يعاقب زوجته بالموت إذا زنت في الوقت الذي يحتفظ فيه هو بميزاته الفرية الكاملة غير منقوصة. وكان في وسع الزوج أن يهجر زوجته وأن ينعم مع ذلك بالحياة؛ أما الزوجة إذا هجرها زوجها فلم يكن أمامها إلا أن تطالب برد بائنتها، ثم تعود إلى بيت أهلها، وتعيش عزبة لأنها لم يكن يسمح لها بأن تتزوج مرة أخرى. وكان في وسعها أن تدخل الدير، ولكنه كان ينتظر منها في هذه الحال أن تهبه جزءاً من بائنتها(51). ويمكن القول بوجه عام إن الزنا كان يتخذ سلوى يستعاض بها عن الطلاق.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الرجل في عصر النهضة

كان اجتماع التحرر الفكري والتحلل من القيود الخلقية هو الذي أوجد "رجل النهضة"؛ غير أنه لم تكن له من الخواص ما يجعله خليقاً بذلك اللقب. فقد كان في ذلك العصر كما كان في غيره من العصور أكثر من عشرة أنماط. وكل ما كان له من ميزة أنه كان ممتعاً طريفاً، ولعل سبب ذلك أنه كان من طراز شاذ غير مألوف. وكان فلاح النهضة هو الفلاح بعينه في جميع العهود إلى أن جعلت آلات الزراعة صناعة. وكان دهماء المدن الإيطالية في عام 1500 كما كانوا في روما في عهد القياصرة أو في أيام مسوليني، ذلك أن المهنة هي التي تطبع الرجل بطابعها، كذلك كان رجل الأعمال في عصر النهضة شبيهاً بأمثاله في الماضي والحاضر. أما القس في ذلك العصر فكان يختلف عن قس العصور الوسطى أو قس هذه الأيام؛ فقد كان أقل إيماناً منهما بالدين وأكثر استمتاعاً بالدنيا، وكان في وسعه أن يعشق ويحارب. ثم حدث في هذه الأنماط تغير فجائي يستلفت النظر، أدى إلى انحراف في النوع وفي طراز العصر، ونشأ عنه الرجل الذي ترتسم صورته في ذهننا حين نقول إن رجل النهضة طراز فذ في التاريخ، وإن كان ألقبيادس إذا رآه أحس بأنه طراز قديم ولد من جديد.

وكانت خصائص هذا الطراز تدور حول بؤرتين: الجرأة الفكرية والخلقية. كان حاد الذهن، يقظاً، متعدد الكفاءات، مستعداً لقبول كل مؤثر وكل فكرة، مرهف الحس بالجمال، حريصاً على نيل الشهرة. وكانت له روح ذات نزعة فردية جريئة عديمة المبالاة، تعمل على تنمية جميع المواهب الكامنة فيها، روح مزهوة فخورة تسخر من الذلة المسيحية، وتحتقر الضعف والجبن، وتتحدى العرف، والتقاليد والأخلاق، والمحرمات، والبابوات، بل تتحدى الله نفسه في بعض الأحيان. وكان في وسع هذا الرجل أن يقود حزباً ثائراً في المدينة؛ أو جيشاً في الدولة؛ فإذا كان من رجال الكنيسة فقد كان يسعه أن يجمع مائة منصب تحت مسوحه، وأن يستخدم ثروته في الوصول إلى السلطان. وفي الفن لم يعد هذا الرجل صانعاً يعمل مغموراً مع غيره في مشروع جماعي كما كان يعمل نظيره في العصور الوسطى؛ لقد كان شخصاً "منفرداً منفصلا عن غيره" يطبع أعماله بطابعه، ويوقع باسمه على ما يرسمه من الصور، بل كان من حين إلى حين على ما يصنعه من تماثيل كما حفر ميكل أنجيلو اسمه على تمثال العذراء وهي تندب طفلها. ومهما تكن الأعمال التي يقوم بها رجل النهضة هذا فقد كان في حركة دائمة، ساخطاً، متأففاً من القيود، تواقاً لأن يكون "رجلاً عالمياً"- جريئاً في تفكيره، حاسماً في أفعاله، فصيحاً في أقواله، ماهراً في فنه، ملماً بالأدب والفلسفة، ليس غريباً على النساء في القصور ولا عن الجند في المعسكرات.

ولم يكن فساد خلقه إلا جزءاً من نزعته الانفرادية. وإذ كان هدفه هو أن ينجح في التعبير عن شخصيته، وكانت بيئته لا تفرض عليه أية معايير يتقيد بها فلا يجد قدوة يقتدى بها بين رجال الدين، ولا يجد ما يرهبه في العقيدة الربانية، فإنه يجيز لنفسه أن يسلك أية وسيلة تبلغه غايته، ويستمتع بكل لذة تصادفه في الطريق. لكنه رغم هذا كله كانت له فضائله. لقد كان رجلا واقعياً، قلما ينطق بتافه القول إلا لامرأة برمة. وكان مؤدباً إذا لم يكن يقتل، وحتى في هذه الحال كان يفضل أن يقتل في غير قسوة. وكان ذا نشاط، وقوة في الخلق، وذا إرادة موجهة موحَّدة؛ وكان يقبل المعنى الذي يفهمه الرومان الأقدمون من لفظ الفضيلة وهو "الرجولة"؛ ولكنه كان يضيف إلى هذا المعنى الحذق والذكاء. ولم يكن مسرفاً في القسوة من غير داع، وكان يمتاز عن الرومان الأقدمين باستعداده لأن يكون تقياً صالحاً. وكان معجباً بنفسه، غير أن هذا الإعجاب لم يكن إلا وليد إحساسه بالجمال وحسن الشكل. وكان تقديره للجمال في المرأة والطبيعة، وفي الفن والجريمة. هو المصدر الأساسي للنهضة. وقد استبدل حاسة الجمال بالحاسة الخلقية؛ ولو أن هذا الطراز من الرجال قد تضاعف وغلب على غيره لحلت أرستقراطية في الذوق لا تبهظها تبعات محل أرستقراطية المولد أو للثروة.

لكننا نقول مرة أخرى إنه لم يكن غير نوع واحد من أنواع كثيرة من رجل النهضة. ألا ما أعظم الفرق بين بيكو ذي النزعة المثالية واعتقاده بقدرة بني الإنسان على أن يبلغوا بأخلاقهم درجة الكمال، وبين سفنرولا الصارم الذي لا تبصر عينه الجمل، والمنهمك في التقى والاستقامة، وبين رافائيل الظريف الرشيق الذي ينشر الجمال من حوله بسخاء، وميكل أنجيلو ذي الجنة، الذي طغى على عقله التفكير في يوم الحساب قبل أن يصوره، وبوليتيان صاحب النغم الحلو الذي ظن أن الرحمة موجودة حتى في الجحيم، وفنورينودا فلترى الأمين الذي نجح أيما نجاح في المجمع بين زينون والمسيح؛ وجوليانو ده ميديتشي الثاني الذي بلغ من رحمته في عدالته درجة رأى معها أخوه البابا أنه لا يصلح للقيام بأعباء الحكم! ما أعظم الفرق بين هؤلاء مع أنهم جميعاً من رجال النهضة. وإنا لندرك رغم ما نبذله من الجهد في اختصار البحث، وصياغة القواعد العامة، أنه لم يكن ثمة رجل يصح أن يطلق عليه اسم "رجل النهضة". لقد كان في ذلك العصر رجال لا يتفقون إلا في شيء واحد! وهو أن الحياة لم تبلغ من الشدة ما بلغته في تلك الأيام. لقد كانت العصور الوسطى تقول- أو تدعي القول- لا للحياة؛ أما النهضة فكانت تقول لها نعم بقلبها، وروحها، وبكل ما كان فيها من قوة.


المرأة في عصر النهضة

كان ظهور المرأة في المجتمع من أبهج مظاهر ذلك العصر؛ وكانت مكانتها في التاريخ ترتفع في العادة كلما زاد الثراء وإن استثنينا من ذلك حالها في البلاد الشديدة القرب من الشرق في أيام بركليز. ويرجع السبب في ارتفاع منزلة المرأة كلما زاد الثراء إلى أن الرجل إذا لم يعد يخشى الجوع ولى وجهه نحو المرأة؛ وأنه إذا ما ظل يسخر حياته لطلب المال فإنما يفعل ذلك ليضعه بين قدمي المرأة، أو بين يدي الأطفال الذين جاءت له بهم، وإذا قاومته تصورت له في صورة المثل الأعلى؛ وقد أوتيت في العادة من الحصافة ما يجعلها تقاومه، وتتقاضى منه أعلى ثمن نظير النعمة التي يغمر بهاؤها مشاعره إذا ما فكر فيها، وإذا ما جمعت إلى مفاتنها الجسمية محاسن عقلها وخلقها، وهبته أعظم ما يطمع فيه من السعادة التي لا يسمو عليها إلا ما يطمع فيه من المجد وخلود الذكر، وهو في نظير هذا يرفع منزلتها حتى تصبح مالكة حياته المسيطرة عليها.

على أننا لا ينبغي أن نظن أن هذه المكانة العليا كانت هي نصيب المرأة العادية في عصر النهضة، فالواقع أنه لم ينلها إلا قلة من النساء المحظوظات؛ أما الكثرة الغالبة منهن فكن يخلعن ثياب العرس ليحملن أعباء المنزل ومتاعب الأسرة حتى يوارين الثرى: وليستمع القارئ إلى برنرد ينو يحدد الوقت المناسب لضرب الزوجة:

"و أوصيكم أيها الرجال ألا تضربوا زوجاتكم وهن حاملات فإن في ذلك أشد الخطر عليهن. ولست أعني بهذا أنكم يجب ألا تضربوهن أبداً؛ ولكن الذي أعنيه أن تختاروا الوقت المناسب لهذا الضرب... وأنا أعرف رجالا يهتمون بالدجاجة التي تضع بيضة في كل يوم أكثر من اهتمامهم بأزواجهم. فقد تكسر الدجاجة أحياناً وعاء أو قدحاً، ولكن الرجل لا يضربها خشية أن يفقد بذلك البيضة التي يحصل عليها منها، إذن فما أشد جنون الكثيرين من الرجال الذين لا يطيقون سماع كلمة من زوجاتهم اللائي يأتين لهن بهذه الثمار الطيبة! ذلك أن الواحد منهم إذا سمع من زوجته كلمة يرى أنها نابية، عمد من فوره إلى عصا وشرع يضربها بها، أما الدجاجة التي لا تنقطع عن الوقوقة طول النهار فإنه يصبر عليها من أجل بيضتها(52)".

وكانت الفتاة من الأسر العريقة تدرب عادة على النجاح في الحصول على الزوج الثري والاحتفاظ به، وكان هذا التدريب أهم مادة في منهج تعليمها. وكانت تبقى إلى ما قبل زواجها بضعة أسابيع في عزلة إلى حد ما إما في دير أو في منزل أبويها، تتلقى من معلميها أو من الراهبات تعليما لا يقل درجة عما يتلقاه جميع من في طبقتها من الرجال إذا استثنينا منهم العلماء. وكانت في العادة تتعلم شيئاً من اللغة اللاتينية، وتدرس إلى حد ما كبار الشخصيات في تاريخ اليونان والرومان، وآدابهم، وفلسفتهم.

وكانت تعزف على بعض الآلات الموسيقية، وتمارس أحياناً فن النحت والتصوير. وكان بعض النساء يبلغن منزلة العلماء، ويناقشن علناً بعض المسائل الفلسفية مع الرجال؛ ومن هؤلاء كسندرا فيديلي من نساء البندقية؛ ولكن أمثالها كن من الشواذ النادرات الوجود. وكان عدد لا بأس به منهن يقرض الشعر الجيد مثل قسطندسا فارانا Contanza Varana، وفيرونيكا جمبارا Veronica Gambara، وفتوريا كولنا. غير أن المرأة المتعلمة في عصر النهضة ظلت محتفظة بأنوثتها، وعقيدتها المسيحية وما توجبه عليها هذه العقيدة من القانون الأخلاقي؛ وكان احتفاظها بهذه الصفات يهبها وحدة في الثقافة والخلق يعز على رجل النهضة الراقي أن يقاومها.

ذلك أن الرجل المتعلم في ذلك العصر كان يحس بجاذبيتها أشد الإحساس، وكان هذا الإحساس يصل به إلى درجة تدفعه إلى أن يؤلف ويقرأ الكتب التي تحلل مفاتنها تحليلا علمياً مفصلا. من ذلك أن أنيولو فيرندسو Agnolo Firenzulo الراهب الفلمبروزى Vallombrosan ألف حواراً موضوعه جمال المرأة، وأظهر في هذا الموضوع الشاق حذقاً وعلما غزيراً لا يكادان يليقان بالرهبان. وهو يعرف الجمال نفسه كما يعرفه أفلاطون وأرسطو بأنه "التآلف المنتظم، والتوافق الذي لا يستطاع الوصول إلى كنهه، والذي ينتج من وجود عناصر مختلفة، واتحادها، وتفاعلها، بحيث أن كل عنصر من هذه العناصر يتناسب مع العناصر الباقية أتم التناسب وأحسنه، وأن يكون بمفرده جميلا بمعنى ما؛ ولكنها قبل أن تجتمع لتكون جسماً واحداً تختلف فيما بينها وتتنافر"(53).. ثم يمضي فيبحث بمنتهى الدقة كل جزء من أجزاء المرأة ويضع الموازين القسط لجمال كل واحد منها. فيقول إن الشعر يجب أن يكون غزيراً، طويلا، أشقر- ويفسر الأشقر بأنه أصفر خفيف الزرقة قريب من السمرة، أما البشرة الجميلة فهي البراقة الصافية ولكنها ليست البيضاء الشاحبة؛ والعينان الجميلتان هما السوداوان الكبيرتان، الممتلئتان، اللتان فيهما مسحة من الزرقة في حدقة بيضاء؛ أما الأنف فيجب ألا يكون أقنى، لأن الأنف الأقنى منفر في المرأة بنوع خاص، ويجب أن يكون الفم صغيراً، أما الشفتان فلابد أن تكونا ممتلئتين، والذقن يجب أن يكون مستديراً ذا نونة؛ والعنق يجب أن يكون مستديراً طويلا بعض الطول- ولكن يجب إلا تظهر فيه الحرقدة ؛ ويجب أن تكون الكتفان عريضتين، وأن يكون الصدر ممتلئاً منحدراً انحداراً أو مرتفعاً في ظرف وخفة، واليدان بضتين ممتلئتين ناعمتين؛ والساقان طويلتين، والقدمان صغيرتين(54). وإنا لنحس بأن فيرندسو لو قد أمضى كثيراً من القوت يفكر في موضوعه، وأنه اكتشف موضوعاً جديداً بديعا من موضوعات الفسلفة.

ولم تقنع المرأة في عصر النهضة بهذه المفاتن فمضت كما مضت أختها في جميع العصور تصبع شعرها- لتحيله على الدوام تقريباً أشقر- وتضيف إليه الضفائر المستعارة تكمله بها؛ وتبتاعها من القرويات اللاتي كن يقصصن غدائرهن بعد أن يذهب جمالهن ويعرضنها للبيع(55). وكانت المرأة الإيطالية في القرن السادس عشر تجن جنوناً بالعطور، تضمخ بها شعرها، وقبعتها، وقميصها، وجوربيها، وقفازيها، وحذاءيها جميعها. ولقد امتدح أريتينو الدوق كوزيمو لأنه عطر له المال الذي بعث به إليه، "ولا تزال بعض مخلفات ذلك العصر مختلفة برائحتها الذكية لم تفقدها بعد"(56). وكانت منضدة لباس السيدة ذات الثراء تميد بما عليها من مواد التجميل، تحتويها عادة قوارير بديعة الشكل من العاج، أو الفضة، أو الذهب. ولم تكن الأصباغ الحمراء تستخدم في الوجه وحده، بل كانت يزين بها أيضاً الثديان، وكانا في المدن الكبيرة يترك الجزء الأكبر منهما عارياً(57). وكانت مستحضرات كثيرة تستخدم لإزالة العيوب الجسيمة، ولتلميع أظافر اليدين، ولجعل البشرة ناعمة ملساء. وكانت الأزهار تزين الشعر والثياب، واللؤلؤ والماس، والياقوت، والصفير (الياقوت الأزرق) والزمرد، والعقيق، والجمشت، والزبرجد، والياقوت الأصفر، والعقيق تزين الأصابع في الخواتم، والذراعين في الأساور، والرأس في الأكاليل، والأذنين (بعد 1525) في الأقراط، وكانت الحلي فوق ذلك ترصع بها أغطية الرأس، والأثواب والأحذية، والمراوح.

وكانت ملابس السيدات، إذا جاز لنا أن نحكم عليها من صورهن، كثيرة الكلفة، ثقيلة الوزن، غير مريحة للجسم. وكانت الأثواب المصنوعة من المخمل، والحرير، والفراء تتدلى في ثنيات ضخمة من الكتفين، أو من مشابك فوق الثديين إذا كانت الكتفان عاريتين. وكانت الأثواب تشد بمنطقة في الوسط وتكنس الأرض خلف القدمين. وكان حذاء المرأة الثرية عالياً عند باطن القدم وعند الكعب، لكي يحفظ قدميها من أقذار الشوارع؛ ومع هذا فإن وجهه الأعلى كان يصنع من الديباج الرقيق المقصب. وكانت نساء الطبقات العليا وقتئذ تستخدم المناديل، تصنع يف العادة من التيل، وكثيراً ما كانت تخطط بالخيوط الذهبية أو توشى بالمخرم (الدنتلا). كذلك كانت التنورات والثياب الداخلية توشى بالمخرم وتطرز بالحرير. وكانت الأثواب أحياناً تعلو حتى تلتف حول العنق وتمنعها من التثنى أسلاك معدنية، وكانت في بعض الأحيان ترتفع فوق الرأس. أما أغطية رؤوس النساء فكانت تتخذ مائة شكل وشكل: كان منها عمامات، وتيجان، ومناديل رأس، أو أقنعة، تمسك باللآلى، أو قلانس مقامة على أسلاك معدنية، أو شبيهة بقلانس الغلمان أو حراس الحراج... ولما زار بعض الفرنسيين مدينة مانتوا سُروا وذهلوا حين رأوا المركيزة إزبلا تلبس قلنسوة ذات ريش من الجواهر، ولكنها عارية الكتفين والصدر حتى حلمتي الثديين(58). وكثيراً ما شكا الواعظون من ارتفاع صدور النساء ارتفاعاً يراد به استلفات عيون الرجال. وكانت شهوة العرى تتملك النساء أحياناً إلى حدج تخرج معه عن المعقول، حتى لقد قال ساتشتي إن بعض النساء يتعرين تماماً إذا خلعن أحذيتهن(59). وكانت بعض النساء يشددن أجسامهن بمشدات يمكن تضييقها بإدارة مفتاح لها، وقد رثى بترارك "لبطونهن التي ضغطنها في غير رحمة حتى ليقاسين من الغرور آلاماً كالتي يقاسيها الشهداء لتمكسهم بالدين"(60).

وتسلحت نساء الطبقات العليا في عصر النهضة بهذه الأسلحة الفتاكة فرفعن جنسهن من ورق العصور الوسطى ومن حياة الدير المحتقرة حتى أصبحن متساوين مع الرجال. فقد كانت المرأة تتحدث مع الرجل حديث الند للند في الأدب والفلسفة، وكانت تحكم الدول حكماً يتصف بالفطنة والحصافةن كما فعلت إزبلا، أو بقوة ليست كمثلها قسو الرجال كما فعلت كترينا اسفوردسا وكانت أحياناً تلبس الزرد، وتتبع زوجها إلى ميدان القتال، وتفوقه فيما يصدر من أوامر العنف والقسوة. وكانت تأبى أن تغادر المجلس حين تروى القصص البذيئة؛ ولم تكن تستحي مما تسمع، فكانت تستمع إلى الألفاظ الصريحة المكشوفة دون أن تخدش هذه الألفاظ حياءها أو تفقدها فتنتها. وكم من امرأة إيطالية في عهد النهضة سما بها عقلها أو سمت بها فضائلها إلى أرقى منزلة. نذكر منهن بيانكا مارية فسكنتي Biance Maria Visconti التي حكمت ميلان في غياب زوجها فرانتشيسكو اسفوردسا بحزم وقوة لم يسعه معهما إلا ن يقول إنه يثق بها أكثر مما يثق بجيشه كله، ثم إنها في الوقت عينه اشتهرت "بالتقى، والرأفة، وكثرة الصدقات، وروعة الجمال"(61) ونذكر كذلك إميليا بيو Emilia Pio التي مات زوجها وهي في نضرة الشباب، ولكنها احتفظت بذكراه إلى درجة أنه لم يعرف عنها فيما بقي من حياتها أنها شجعت رجلا ما بالالتفات إليها؛ ولكريدسيا تورنابوني Lucrezia Tornaboni أم لورندسو الأفخم ومشكلة أخلاقه، والزبتا جندساجا، وبيتريس دست، ولكريدسيا بورجيا الظريفة المفترى عليها وكترينا كرنارو Caterina Cornaro التي جعلت أسولو Asolo مدرسة الشعراء والفنانين، والرجال المهذبين، وفيرونيكا جمبارا Veronica Gamdara الشاعرة صاحبة الندوة في كريجيو Correggio؛ وفتوريا كولنا ربة ميكل أنجيلو التي لم يممسها بشر.

وتمثلت في فتوريا، دون ما زهو وخيلاء، جميع الفضائل الهادئة التي كانت للبطلات الرومانيات في عهد الجمهورية، ثم جمعت إلى هذه الفضائل أنبل الصفات المسيحية. وكانت فرع شجرة طيبة ممتازة. فكان والدها فيريدسيو كولنا Fabrizio Colonna، كبير رجال الشرطة في نابلي، وأمها أنيزي ده منتيفيلتر و Agnese de Montafeltro ابنة فيديريجو دوق أربينو المتبحر في العلم: وقد خطبت وهي في سن الطفولة لفيرانتي فرانتشيسكو دا فالوس Ferrante Francesco d'aAvalos مركيز بيسكارا؛ وتزوجت به حين بلغت التاسعة عشرة من عمرها (1509) وكان الحب الذي ألف بينهما قبل الزواج وبعده قصيدة أجمل من كل الأغاني التي تبادلوها أثناء حروبه. ولما جرح في واقعة رافنا (1512) وأدناه الجرح من منيته وأسر، انتهز الفراغ الذي أتاحه له أسره فألف كتاب الحب وأهداه إلى زوجته. وكان في هذه الأثناء قد اتصل بإحدى وصيفات إزبلادست(62)، فلما أطلق سراحه عاد مسرعا إلى فتوريا، ثم خرج إلى حرب بعد حرب، حتى لم تكد تراه فيما بعد. فقد قاد جيوش شارل الخامس في بافيا (1525)؛ وانتصر بها في معركة حاسمة، ولما عرض عليه تاج بابلي إذا رضي أن ينضم إلى المؤتمرين على الإمبراطور فكر قليلا ثم كشف لشارل عن المؤامرة. ولما حضرته الوفاة (في نوفمبر من عام 1525) لم يكن قد رأى زوجته طيلة ثلاث سنين. وجهلت هي أو تجاهلت خياناته الزوجية، فقضت السنين العشرين التي ترملتها بعده في أعمال البر، والتقى، والوفاء لذكراه. ولما طلب إليها أن تتزوج مرة أخرى أجابت بقولها: "إن زوجي فردناند الذي تظنونه مات، لم يمت بالنسبة لي"(63). وعاشت بقية حياتها في عزلة هادئة في إسكيا Ischia ثم أوت إلى دير في أرفيتو وانتقلت منه إلى دير آخر في فيتربو، ثم عاشت شبيهة بعزلة الدير في روما. وهنا اتخذت لها عدداً من الأصدقاء الإيطاليين الذين كانوا يعطفون على حركة الإصلاح الديني وإن ظلت هي مستمسكة بدينها القديم. ووضعت فترة من الزمان تحت رقابة محكمة التفتيش، فكان الذي يجرؤ أن يكون صديقاً لها يتعرض للالتهام بالإلحاد. ولكن ميكل أنجيلو عرض نفسه لهذا الخطر، ونشأت بينه وبينها علاقة حب روحاني لم يتعد قط حدود الشعر.

وحررت نساء النهضة المتعلمات أنفسهن دون أن يقمن بدعاوة ما لهذا التحرر، ولم تكن وسيلتهن إليه غير ذكائهن، وخلقهن، وكياستهن، وبما أرهفن من حواس للرجال بمفاتنهن الجنسية والروحية والعقلية. وقد أثرن في زمنهن في كل ميدان من الميادين. في الميدان السياسي لقدرتهن على حكم الدول بدلا من أزواجهن الغائبين؛ وفي ميدان الأخلاق يجمعن بين الحرية وطيب العادات، والصلاح؛ وفي الفن بما أظهرن من جمال الأمومة الذي صورت على مثاله مئات من صور العذراء الأم، وفي الأدب إذ فتحن أبوابهن للشعراء والعلماء وعطفن عليهم وابتسمن لهم. ولسنا ننكر أن كثيراً من الهجاء قد وجه وقتئذ للنساء كما وجه إليهن في كل عصر من العصور؛ ولكن كل بيت مرير أو ساخر قيل فيهن كان يقابله أوراد وتسابيح من المديح والابتهال. وقصارى القول أن النهضة الإيطالية، كالاستنارة الفرنسية، قامت على أكتاف الجنسين؛ فكانت النساء يرتدن كل ميدان من ميادين الحياة؛ وتجرد الرجال من خشونتهم وغلظتهم، ورقت آدابهم وألفاظهم، وخطت الحضارة رغم تحللها وعنفها نحو الرشاقة والرقة خطوات لم تشهد أوربا مثلها مدى ألف عام.


المنزل

وتبدت الرقة المطردة الزيادة في شكل البيت وفي الحياة المنزلية. لقد ظلت مساكن الشعب كما كانت من قبل- ذات جدران مغطاة بالملاط أو الجص مطلية بالجير، عارية عن الزينة، وأرض مغطاة بالبلاط، وفناء داخلي به في العادة بضر، ويحيط بالفناء طبقة أو طبقتان من الغرف مزودتان بأبسط لوازم الحياة. أما قصور العظماء والأغنياء الحديثي الثراء روعة وترف تذكر الإنسان مرة أخرى بقصور روما الإمبراطورية. ذلك أن الثروة التي كانت محبوسة من قبل على الكاتدرائيات قد صبت الآن صباً على القصور فجاءتها بالآثاث، ووسائل النعيم والمتعة، والزينة التي قلما نجدها إذا تخطينا جبال الألب في قصور الأمراء والملوك. فها هو ذا بيت تشيجي الريفي، وقصر مسيمى Massimi اللذان خططهما بلدسارى بروتسي Baldassare Peruzzi يحتوي كل منهما على متاهة من الغرف تزدان كل واحدة منها بالعمد الأسطوانية والمربوعة، أو الأطناف المنقوشة، أو السقف ذات اللوحات المذهبة، أو القبة والجدران المصورة، أو المصطلى المحلى بالتماثيل، أو الصور المنحوتة في الجص، أو النقوش العربية، أو الأرضية المصنوعة من الرخام أو القرميد. وكان في كل قصر سرر، ونضد، وصناديق، وأصونة صنعت لتعيش مائة عام وتسر الناظرين. وكانت خزائن أدوات المائدة أو نضدها مثقلة بالصحاف الفضية والأواني الخزفية الجميلة الأشكال، وكان في القصر فرش وثيرة مريحة، وطنافس جميلة، وستر بديعة، وكثير من الملابس الداخلية المتينة الصنع المعطرة. وكانت مدافئ عظيمة تدفئ الحجرات، والمصابيح أو المشاعل، أو القناديل تثيرها. ولم يكن شيء ما ينقص هذه القصور غير الأطفال.

ذلك أن تحديد النسل يكثر كلما كثر المال اللازم لإعالة الأطفال، وكانت الكنيسة والكتب المقدسة تأمر بزيادة النسل ومضاعفة عدد الأبناء، ولكن الرغبة في التنعم كانت تشير بالإقلال منهم؛ وحتى في الريف حيث يكون الأطفال مصدر ثراء كانت الأيسر التي بها ستة أبناء نادرة الوجود، وفي المدن حيث يكون الأطفال عبئاً على الآباء كانت الأسر صغيرة العدد- وكلما زاد ثراء الأسرة قل عدد أفرادها- وكثير من الأسر لم يكن فيها أبناء على الإطلاق(64). غير أن الأسر الإيطالية كان في مقدورها أن تنجب أطفالاً ظرفاء كما نتبين ذلك من صور الأطفال التي رسمها الفنانون ومن رسوم دوناتلو ولوكا دلا ربيا Luca della Robbla، والتماثيل المنحوتة كتمثال "القديس يوحنا الشاب" الذي نحته أنطونيو رسيلينو والمحفوظ في المتحف الأهلي بواشنجتن. وإن تضامن الأسرة، والولاء والحب المتبادلين بين الآباء والأطفال ليزيدهما رونقاً وجمالا ما كان سائداً في ذلك الوقت، من انحلال في الأخلاق.

وكانت الأسرة لا تزال وحدة اقتصادية، أخلاقية، جغرافية، إذا عجز أحد أعضائها عن الوفاء بما عليه من دين وفى به سائر الأعضاء، وتلك ظاهرة تخالف ما اتسم به ذلك العصر من نزعة فردية. وقلما كان عضو يتزوج أو يترك البلاد دون موافقة أسرته، وكان الخدم أعضاء في الأسرة أحراراً بمولدهم، صريحين في حديثهم. وكان للوالد على الأبناء سلطان كامل، وأمره مطاع في الأزمات، ولكن الأم كانت هي التي تحكم المنزل في العادة، ولم يكن حب الأم لأبنائها يختلف عند الفقيرات عنه لدى الاميرات، انظر إلى ما كتبته بيتريس دست عن ولدها الصغير إلى أختها إزبلا: "كثيراً ما تمنيت أن تكوني هنا لتشاهديه بعينيك، فلو أنك كنت هنا لما خالجني أقل شك في أنك لن تستطيعي أن تحاجزي نفسك عن تقبيله وتدليله"(65).

وكانت معظم الأسر من الطبقة الوسطى تحتفظ بسجل يحوي تواريخ ميلاد أعضائها، وزواجهم، وموتهم، والحوادث الهامة في حياتهم تتخللها في بعض المواضع تعليقات ناطقة بالحب والمودة. فقد كتب جيوفني روتشيلي Giovanni Rucelli (أحد أسلاف الكاتب المسرحي صاحب هذا الاسم نفسه) هذه العبارة في أواخر أيامه في سجل من هذا النوع لأسرته:

"أحمد الله الذي خلقني إنساناً عاقلا مخلداً؛ في بلد مسيحي؛ قريب من روما، مركز العقيدة المسيحية؛ وفي إيطاليا أشرف بلاد العالم المسيحي؛ وفي فلورنس أجمل مدائن العالم كله... أحمد الله الذي جعل لي أماً ممتازة، رفضت بعد موت أبي كل عروض الزواج مع أنها لم تكن تجاوزت سن العشرين عند وفاته، وكرست حياتها كلها للعناية بأبنائها؛ كما رزقني أيضاً زوجة صالحة، أحبتني حباً صادقاً، ووجهت أعظم عنايتها لبيتها وأبنائها، أبقاها الله لي كثيراً من السنين، وكان موتها أفدح خسارة أصابتني أو يمكن أن تصيبني طوال حياتي. فإذا ما تذكرت جميع هذه النعم والمزايا، فإني الآن وأنا في سن الشيخوخة أحب أن أتجرد من جميع المنافع الدنيوية لكي أتوجه بروحي كلها إلى التسبيح بحمدك يا الله والثناء عليك يا حي يا قيوم يا من وهبتني الحياة(66).

وكتب رجلان، أو لعلهما رجل واحد، حوالي عام 1436 رسالتين عن الأسرة وطريقة حكمها. لقد كان أنيولو بندلفيني Anolo Pandolfini في أغلب الظن صاحب الرسالة الفصيحة المسماة رسالة في حكم الأسرة Trattato del governo della famlglia؛ وكتب ليون باتستا ألبيرتي Leon Baltista Alberti بعده بقليل رسالة في الأسرة Trattato della famiglia، يشبه الكتاب الثالث من كتبها "الاقتصاد Economieo" أعظم الشبه بالرسالة السابقة حتى لقد ظن بعضهم أن الكتابين ليسا إلا صورتين مختلفتين لرسالة واحدة من قلم ألبرتي. وليس ببعيد أن تكون نسبة كل واحدة منهما لصاحبها صحيحة، وأن ما بينهما من تشابه كبير يرجع إلى أن كلا المؤلفين قد اعتمد في رسالته على كتاب اكسنوفون Xenophon في الاقتصاد Ocenomicus ورسالة بندلفيني أحسن الرسالتين. وكان صاحبها رجلا ثرياً شبيهاً في هذا بآل روتشلاي؛ وقد خدم فلورنس في مناصب دبلوماسية، وكان سخياً في هباته للمشروعات العامة. وقد كتب رسالته في أواخر حياته الطويلة ووضعها في صورة حوار بينه وبين أبنائه الثلاثة. فهم يسألونه هل يسعون إلى المناصب العامة؛ ولكنه يشير عليهم بالابتعاد عنها، لأنها تتطلب أعمالا تتصف بالخيانة والقسوة، والسرقة، وتعرض صاحبها لارتياب الناس، وحسدهم، وتوجيه السباب له. ويقول لهم إن نجاح المرء في نيل السعادة لا يقف على نيل المناصب العامة أو الشهرة الواسعة، بل إن سعادته تعتمد على زوجته، وأبنائه، ونجاحه الاقتصادي، وسمعته الطيبة، وأصدقائه الأوفياء. وينبغي للمرء أن يتخذ له زوجة تنقص عنه في السن إلى درجة تجعلها خاضعة لتعاليمه قابلة لأن يشكلها على هواه؛ وعليه أن يعلمها، في السنين الأولى من زواجهما، واجبات الأمومة، وفنون تدبير المنزل. والحياة الهنيئة مصدرها الاقتصاد والنظام في العناية بصحة الجسم والعقل، وحسن استخدام المواهب، والوقت، والمال: فأما العناية بالصحة فتكون بالتعفف، والرياضة، والاعتدال في الطعام؛ وأما حسن استخدام المواهب فوسيلته الدرس، والتخلق بالأخلاق الشريفة باتباع أوامر الدين وبالقدوة الصالحة؛ والانتفاع بالوقت يكون بتجنب البطالة، والانتفاع بالمال يكون بحسن تدبير الدخل، والنفقات، والادخار والعمل على توازن هذه العوامل الثلاثة. والرجل الحكيم يستثمر ماله أولا في مزرعة أو ضيعة يصرف شؤونها بحيث تمده هو وأسرته بمسكن ريفي، وبما يلزمه من الحب والنبيذ، والزيت والطيور، والخشب وبأكثر ما يستطيع الحصول عليه من ضرورات الحياة الأخرى، ويحسن به كذلك أن يكون له بيت في المدينة، حتى يستطيع أبناؤه أن ينتفعوا بما فيها من وسائل التربية والتعليم، ويتعلموا بعض الفنون الصناعية(67). لكن ومن واجب الأسرة أن تقضي أكبر جزء تستطيعه من الوقت في بيتها الريفي:

"ذلك أن للبيت الريفي مزايا عظيمة شريفة على حين أن كل ما للإنسان من ملك يتطلب من صاحبه العمل ويعرضه للخطر، والخوف، وخيبة الأمل. أما البيت الريفي فهو على الدوام صادق شفيق رحيم... ففي الربيع تبعث الأشجار الخضراء، ويبعث تغريد الطيور، في نفسك البهجة والأمل، وفي الخريف يعود عليك الجهد المعتدل بثمرة تعادله مائة مرة، وأنت طول العام أبعد ما تكون عن الحزن والكآبة. ذلك أن البيت الريفي هو البقعة التي يحب فيها الرجال الصالحون الأشراف أن يجتمعوا بعضهم ببعض... فأسرع إذن إلى هناك، وطر من كبرياء الأغنياء وخيانة أشرار الرجال(68)".

ويرد على هذا كاتب يسمى جيوفني كمبانو Giovanni Compano بالنيابة عن ملايين الملايين من الفلاحين فيقول: "لو لم أكن من أبناء الريف، لابتهجت من فوري بهذا الوصف للسعادة الريفية، أما وأنا الريفي الزارع، "فإن ما ترونه أنتم سبباً للبهجة، أراه أنا باعثاً للملل والسآمة"(69).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الأخلاق العامة

لقد كان بندلفيني محقاً في حكم واحد من أحكامه على الأقل- وهو أن الأخلاق المتصلة بالمعاملات التجارية وعند الجماهير بوجه عام كانت أكثر ما ينفر منه الإنسان في حياة عصر النهضة- ذلك بأن النجاح، لا الفضيلة، في ذلك الوقت كان هو الميزان الذي توزن به أقدار الرجال وحتى بندلفينو التقي المستقيم نفسه يدعو الله أن يرزقه الثراء لا السمعة الخالدة. لقد كان الناس في ذلك الوقت كما هم الآن يجرون وراء المال، ولا يؤنبهم ضميرهم كثيراً بسبب ما يتبعونه من الوسائل لجمعه. فكان الملوك والأمراء يغدرون بحلفائهم، وينكثون أقوى عهودهم إذا لاح لهم بريق الذهب. ولم يكن رجال الفن أحسن حالا من الملوك والأمراء! فكثيرون منهم تناولوا مقدم أجور عن أعمال عجزوا عن إتمامها أو عند البدء فيها، ولكنهم احتفظوا مع ذلك بما قبضوا من أجور، وكان بلاط البابا نفسه مضرب المثل في هذا الجشع المالي. ولنستمع مرة أخرى إلى أعظم مؤرخ للبابوية.

"لقد استشرى الفساد ومد جذوره في جميع مناحي الإدارة البابوية... وخرج عدد الهبات التي تنصبُّ فيها صباً والقروض التي تغتصبها اغتصاباً عن كل حد... يضاف إلى ذلك أن العقود كانت تتداول وتزور بأيدي الموظفين أنفسهم، فلا عجب والحالة هذه إذا ارتفعت من جميع أنحاء العالم المسيحي أعلى الصيحات بالشكوى من هذا الفساد وذلك الاغتصاب المالي الذي يقوم به موظفو الإدارة البابوبة، حتى لقد قيل إن لكل شيء في روما ثمنه"(70).

وكانت الكنيسة لا تزال تحرم أخذ الفائدة على الأموال وتعدها بجميع أنواعها من قبيل الربا، وكان الواعظون ينددون بهذا العمل، وحرمته أحياناً بعض المدن- مثل بياتشندسا- وأنذرت من يمارسه بالحرمان من القربان المقدس ومن الدفنة المسيحية عند مماته. ولكن إقراض المال بالفائدة ظل يجري في مجراه، لأن هذه القروض لم يكن منها بد في الأعمال الاقتصادية، التجارية والصناعية، الآخذة في الاتساع. وسنت القوانين تُحرِم أن يزيد سعر الفائدة على عشرين في المائة، ولكننا مع ذلك نسمع عن حالات بلغ فيها هذا السعر ثلاثين في المائة. وكان المسيحيون ينافسون اليهود في عقد القروض، حتى لقد شكا مجلس فيرونا البلدي من أن المسيحيين يفرضون على المدينين شروطاً أقسى مما يفرضه اليهود(71). غير أن غضب الشعب قد حل أشده على اليهود، وكثيراً ما أدى إلى أعمال العنف الموجهة إلى الساميين. وواجه الرهبان الفرنسيس هذه المشكلة وحاولوا تخفيف العبء عن أشد المدينين بؤساً بإنشاء أرصدة الإحسان (Momnti di Pieta) ومعناها الحرفي (أكوام الإحسان) جمعوها من الهبات والوصايا ليقرضوا منها المحتاجين، وكانوا في أول الأمر يقرضونهم يغير فائدة. وكان أول رصيد من هذا النوع هو الذي أنشئ في أرفينو عام 1463؛ ولم تلبث كل مدينة كبيرة أن حذت حذوها؛ وتطلب ازدياد مقدار هذه الأرصدة تخصيص بعض المال لإدارتها والإشراف عليها؛ فما كان من مجلس لاتران الخامس الذي عقد في عام 1515 إلا أن منح الرهبان الفرنسيس الحق في أن يفرضوا على كل قرض ما يكفي من المال لتغطية نفقات الإدارة والإشراف. وسار بعض رجال الدين في القرن السادس عشر على هذه السنة نفسها فأجازوا أخذ فائدة معتدلة على القروض(72). ثم أخذ سعر الفائدة ينخفض انخفاضاً سريعاً في القرن السادس عشر بفضل منافسة أرصدة الإحسان، وأكثر من هذا في أغلب الظن بفضل ازدياد مهارة رجال المصارف المحترفين ومنافستهم للأفراد المقرضين.

وازداد النظام الصناعي قوة باتساع مداه وباختفاء العلاقة الشخصية بين العامل وصاحب العمل. ذلك أن رقيق الأرض في نظام الإقطاع كان يستمتع ببعض الحقوق في مقابل ما يفرض عليه من الأعباء، فقد كان ينتظر من سيده أن يعنى به إذا مرض، أو حلت بالبلاد أزمة اقتصادية، أو شبت فيها نار حرب، أو بلغ سن الشيخوخة. وكانت نقابات الحرف في المدن الإيطالية تؤدي بعض هذه الواجبات للطبقة العليا من العمال، ولكن العامل "الحر" كان في العادة "حراً" في أن يموت جوعاً حين لا يجد عملا يقتات منه، فإذا وجده كان لابد له أن يقبله بالشروط التي يفرضها عليه صاحب العمل نفسه، وما كان أقسى هذه الشروط. وكان كل اختراع وكل تحسين في وسائل الإنتاج وفي الأنظمة المالية يزيد من أرباح صاحب العمل، وقلما كان يزيد الأجور. وكان رجال الأعمال يقسو بعضهم على بعض بقدر ما يقسون على عمالهم. فنحن نسمع عن كثير من الحيل التي كانوا يلجئون إليها في تنافسهم، وعن عقودهم الخادعة؛ وعن وثائقهم المزورة التي يخطئها الحصر(73). فإذا ما تعاونوا كان تعاونهم يهدف لخراب بيوت منافسيهم في بلد غير بلدهم. بيد أننا نجد أحياناً أمثلة دالة على الإحساس بواجب الشرف بين كثيرين من التجار الإيطاليين، واشتهر رجال المال في إيطاليا بالأمانة والاستقامة في المعاملة أكثر مما اشتهر بهما أمثالهم في أوربا(74).

وكانت الأخلاق الاجتماعية مزيجاً من العنف والعفة. وإنا لنجد في الرسائل التي كانت تتبادل بين الأفراد في ذلك الوقت شواهد كثيرة على ما كانوا يتصفون به من الرقة والحنان؛ ولم يكن الإيطاليون العاديون يضارعون الأسبان في شراستهم أو الجنود الإيطاليين في إقدامهم على ذبح أعدائهم جماعات. ولكن ما من أمة في أوربا كان فيها من الاغتياب ونهش الأعراض مثل ما كان يدور حول جميع الرجال الأرزين في روما؛ وهل يستطيع أحد غير الإيطاليين في عهد النهضة أن يصف أريتينو بأنه من أولياء الله الصالحين؟. وانتشر العنف بين الأفراد انتشاراً واسع النطاق. وكان من أسباب قوة النزاع بين الأسر زوال العادات القديمة والعقيدة الدينية، والتراخي في أخذ الناس بالقانون، ولهذا كان الناس يثأرون لأنفسهم بأنفسهم، وظلت الأسر يقتل بعضها بعضاً جيلا بعد جيل، كما ظل التبارز عادة مألوفة مشروعة في إيطاليا لا يقف حتى يقتل أحد المبارزين نده، وحتى الأولاد الصغار كان يسمح لهم بأن يقاتل بعضهم بعضاً بالمدى، ويعد هذا أيضا من الأعمال المشروعة(75). وكان النزاع بين الأحزاب أشد منه في أي مكان آخر في أوربا، وكانت الجرائم وأعمال العنف يخطئها الحصر. وكان من المستطاع ابتياع السفاحين بأثمان لا تكاد تزيد على أثمان صكوك الغفران، وكانت قصور روما تزدحم بأولئك السفاحين المستعدين لاغتيال أي إنسان بإشارة من سادتهم. وكان كل إنسان يحمل خنجراً، وكان عاجنو السموم يجدون كثيرين من طالبي سمومهم، حتى بلغ الأمر أن أهل روما قلما كانوا يعتقدون أن إنساناً ذا شخصية بارزة أو مال موفور مات ميتة طبيعية... وكان كل ذي شخصية يطلب أن يذوق شخص آخر بين يديه كل ما يقدم له من طعام أو شراب. وانتشرت في روما قصص عن سم بطيء لا يسري مفعوله إلا بعد فترة طويلة تكفي لستر آثار من يقدمه. وكان على الإنسان أن يكون يقظاً محاذراً في تلك الأيام؛ فإذا غادر المنزل في ليلة من الليالي، فقد ينصب له كمين ويسرق ماله، ويكون من حسن حظه إلا يلقى حتفه؛ وحتى في الكنيسة نفسها لم يكن الشخص آمناً على نفسه، وكان عليه إذا سار في الطرق العامة أن يستعد لمقاومة قطاع الطرق. ولهذا كان من الواجب أن يصير عقل رجل النهضة حاداً كحدة نصل السفاح.

وكانت القسوة أحياناً قسوة جماعية تسري عدواها في الأفراد والجماعات. مثال ذلك أن فتنة اندلع لهيبها في أرتسو عام 1502 ضد أحد المندوبين الفلورنسيين، فقتل فيها مئات من أرتسو في شوارعها محيت فيها أسر بأكملها، وجرد أحد الضحايا من ثيابه وشنق ووضعت شعلة متقدة بين عجيزتيه؛ فما كان من الجماهير المرحة المبتهجة إلا أن أطلقت عليه اسم الملوط(76). وانتشرت قصص العنف، والقسوة، والشهوات انتشار الخرافات؛ حتى لقد كان بلاط فيرارا الذي يزدان بالشعر والأدب تروعه جرائم الأمراء وما يوقعه الملوك من ضروب العقاب. وكان تحلل الحكام المستبدين أمثال آل فسكنتي ومالاتسنا أنموذجاً ينسج على منواله ذوو العنف الهواة من أفراد الشعب، وحافزاً لهم على تقليده.


وتدهورت المبادئ الأخلاقية الحربية على مر الزمن. فقد كانت المعارك كلها تقريباً في بواكير عهد النهضة لا تزيد على اشتباكات غير ذي بال بين جنود مرتزقة يحاربون في غير عنف شديد، ويعرفون متى يقفون للقتال، وكان النصر ينال إذا ما سقط في حومة الوغى عدد قليل من الرجال، وكان السجين الحي الذي يستطاع فداؤه أعظم قيمة من العدو الميت. ولما ازدادت قيمة الزعماء المغامرين المأجورين، وكبرت الجيوش وتطلبت نفقات ضخمة، سمح للجنود بأن ينهبوا المدن المفتوحة بدل أن تؤدى اليهم أجور منتظمة؛ وكانت مقاومة النهب تؤدي إلى المذابح التي يهلك فيها العدد الجم من السكان؛ وكانت وحشية الجنود الفاتحين تزداد حينما يشمون رائحة الدم المسفوك. ومع هذا كله فقد كانت قسوة الإيطاليين في الحرب أقل من قسوة الغزاة الأسبان والفرنسيين. مثال ذلك أنه حين استولى الفرنسيون على كابوا في عام 1501 أوقعوا بأهلها مذبحة، شنيعة سقط كثير من النساء حتى اللاتي كرسن أنفسهن لعبادة الله... ضحية لشهواتهم أو شرهم، وبيع كثير من أولئك المخلوقات البائسات في روما بعدئذ بأنجس الأثمان"(77) كما يقول جوتشيارديني. وغير خاف أنهن بعن للمسيحيين. وزاد استرقاق أسرى الحرب كلما تقدمت أساليبها في عصر النهضة.

ولسنا ننكر أنه كان ثمة أمثلة من الولاء الجميل بين الإنسان والإنسان، وبين المواطن والدولة؛ ولكن ازدياد المقدرة على المكر والدهاء زاد من قدر الغش والخداع. فكان القواد يبيعون أنفسهم لمن يؤدي إليهم أعظم الأثمان، فإذا ما احتدم القتال أخذوا يفاوضون العدو للحصول على أثمان أكبر من التي اشتروا بها. كذلك كانت الحكومات تبدل موقعها في أثناء الحرب فيصبح الحلفاء أعداء بجرة قلم. وكان الأمراء والبابوات يغدرون بمن أمنوهم على أنفسهم من القادمين إلى بلادهم والخارجين منها(78)، والحكومات توافق على اغتيال أعدائها سراً في الدول الأخرى(79). وكان الخونة يوجدون في كل مدينة وفي كل معسكر: ومن أمثلة هؤلاء بيرنر دينو دل كورتى Bernardino del Corte الذي باع قلعة لدفيكو لفرنسا؛ والسويسريون والإيطاليون الذين غدروا بلدفيكو وباعوه للفرنسيين؛ وفرانتشيسكو ماريا دلا روفيري الذي منع جنوده من أن يخفوا لنجدة البابا في عام 1517، ومالاتستا بجليوني الذي باع فلورنس في عام 1530... ولما ضعفت العقيدة الدينية حلت محل فكرة الحق والباطل في كثير من العقول فكرة النافع وغير النافع من الوجهة العلمية؛ وإذا كانت الحكومات في العادة قصيرة الأجل لا تصبح ذات سلطان شرعي بطول الزمن، فقد ضعفت عند الناس عادة إطاعة القانون، وكان لابد من أن تحل القوة في هذا محل العادة؛ ولم يكن ثمة طريق للخلاص من استبداد الحكومات إلا قتل المستبدين.

وعم الفساد كل فرع من فروع الإدارات الحكومية. ففي سينا مثلا كان لابد من وضع الإدارة المالية في آخر الأمر في أيدي راهب اشتهر بالتقى والورع لأن كل إنسان آخر قد اختلس مال المدينة. وساءت سمعة المحاكم كلها عدا محاكم البندقية لكثرة ما كان فيها من الفساد والرشوة. وتروى قصة من قصص ساكشتي Sacchetti أن قاضياً ارتشى بثور ولكن خصم الراشي بعث إلى هذا القاضي نفسه بقرة وعجلا فحكم لصالحه(80). وكان التقاضي كثير النفقة، ولهذا أضطر الفقراء إلى الاستغناء عنه، ووجدوا أن قتل الخصم أرخص من مقاضاته. وكان القانون نفسه آخذاً في الرقى ولكن رقيه كان مقصوراً على الناحية النظرية. وقد أنجبت بدوا، ويولونيا، وبيزا، وبيروجيا كثيرين من فقهاء القانون أمثال تشينو دا بستويا Cino da Pistoia، وبرتولوس من أهل ساسوفيراتو Bartolus of Sassoferrato، وبلدو دجلى أوبلدى Boldo degli Ubalbi الذي ظل شرحه للقانون الروماني أكبر مرجع في فقه القانون قرنين كاملين. وكان القانون البحري والتجاري يتسع باتساع نطاق التجارة الخارجية؛ ومهد جيوفني دا لنيانو السبيل لجروتيوس برسالة عن الحرب Tractatus de Bello (1360)، وهي أقدم كتاب معروف عن قوانينها.

لكن تطبيق القانون لم يبلغ من السمو مبلغ نظريته، ذلك أن نظام الشرطة لم يجار في تقدمه سير الجرائم، وإن كانت مهمته في حماية الأنفس. والأموال قد أخذت تظهر وتشكل وخاصة في فلورنس. وكثر المحامون، وظل التعذيب يستخدم في استجواب الشهود والمتهمين. وكانت العقوبات قاسية همجية. ففي بولونيا مثلا كان يمكن تعليق المذنب في قفص من أحد الأبراج المائلة، ويترك حتى يتقرح جسده من الشمس(81)، وفي سينا كان الرجل المحكوم عليه يمزق إرباً على مهل في شوارع المدينة(82)؛ وفي ميلان أثناء حكم جيوفني فسكونتى مضيف بترارك كان المسجونون تبتر أطرافهم طرفاً بعد طرف(83)؛ وبدأت في أوائل القرن السادس عشر عادة الحكم على المساجين يجدف المجاديف الثقيلة التي كانت تزود بها السفن، مشاهد ذلك أن سفائن يوليوس الثاني كانت تحمل على ظهورها أرقاء مشدودين إليها من أرجلهم(84).

على أننا نستطيع أن نذكر في مقابل هذه الأعمال الهمجية تطور الإحسان المنظم ورقيه، فقد كان كل من يترك وصية يفرد جزءا من ماله ليوزع على الفقراء من أهل الأبرشية التي يعيش فيها. وإذ كان المتسولون لا يحصى لهم عدد، فإن بعض الكنائس كانت تقيم ما يشبه مطاعم الشعب الحديثة، وجرياً على هذه السنة كانت كنيسة القديسة مارية (سانتا ماريا) في كامبو سانتو بروما، تطعم ثلاثة عشر متسولا في كل يوم وألقى متسول في أيام الاثنين والجمعة(85)، وكانت المستشفيات العامة، ومستشفيات المجذومين؛ وملاجئ المرضى الميئوس من شفائهم، والفقراء، واليتامى، والحجاج المعدمين، والعاهرات التائبات، كانت هذه كلها كثيرة العدد في إيطاليا إبان عصر النهضة. واشتهرت بستويا وفيتربو باتساع نطاق مؤسساتها الخيرية، وفي مانتوا أنشأ لدوفيكو جندساجا المستشفى الكبير Ospedale Maggiore للعناية بالفقراء والعجزة، وخصه بثلاثة آلاف دوقة كل عام من الأموال الحكومية(86). وأنشئت في البندقية جمعية عرفت باسم جمعية البليجريتي Pellegrini من أعضائها تيشيان وابنى سانسوفينى Sansovini لتقديم المعونة المتبادلة لأعضائها والبائنات للبنات الفقيرات، إلى غير هذه وتلك من أعمال البر. وكان في فلورنس في عام 1500 ثلاث وسبعون منظمة مدنية تقوم بأعمال الإحسان. وتأسست في عام 1244 جمعية الإخوان البائسين Fraternita della Mesericordtia، ولكنها أهملت حتى ماتت، ثم أعيدت في عام 1475؛ وكان أعضاؤها من غير رجال الدين الذين أخذوا على أنفسهم أن يزوروا المرضى، ويقوموا بأعمال البر الأخرى، واستمالوا إليهم قلوب الشعب بإقدامهم بشجاعة على العناية بضحايا الطاعون؛ ولا تزال مواكبهم الصامتة التي يسيرون فيها بأثوابهم السود من أعظم المناظر رهبة وتأثيراً في المشاعر في فلورنس(87). وكان في البندقية جماعة من هذا النوع تدعى أخوة سان روكو Confraternita di San Rocco؛ وأنشئت في روما جماعة الأخوة المحزونين Sodality ol the Doloros التي تبلغ الآن من العمر خمسمائة عام وأربعون أعوام، وأسس الكردنال جوليو ده ميديتشى في عام 1519 جماعة أخوة الصداقة Confraternita della Carita للعناية بالفقراء الذين هم أعلى من طبقة المتسولين؛ ولتقوم بدفن المعمدين دفنة كريمة. هذا إلى أن الصدقات الفردية التي كان يقدمها ملايين الأفراد ممن لم تعرف أسماؤهم كانت تخفف بعض الشيء من كفاح الإنسان لأخيه الإنسان، ومن صراعه مع الطبيعة والموت.


العادات العامة ووسائل التسلية

بين العنف وعدم الأمانة، والحياة الصاخبة التي كان يحياها طلبة الجامعات، والفكاهة الخشنة والحنان اللذين يتصف بهما الفلاحون والعمال، بين هذا كله نشأت الآداب العامة الطيبة كأنها فن آخر من فنون النهضة، فتزعمت إيطاليا وقتئذ أوربا كلها في قواعد الصحة الشخصية والاجتماعية، والثياب، وآداب المائدة وطهو الطعام، وآداب الحديث، والرياضة البدنية. وكانت فلورنس تدعي أنها هي التي تتزعم إيطاليا في هذا كله عدا الملابس. وكانت تدفعها روحها الوطنية لأن ترثى لما في المدن الأخرى من قذارة، كما كان الإيطاليون يتخذون لفظ "ألماني" مرادفاً للخشونة في اللغة والحياة(88). واحتفظت الطبقات المتعلمة في إيطاليا بالعادة الرومانية القديمة عادة الاستحمام الكثير، وكان أثرياء القوم يتباهون بأثوابهم الجميلة ويؤمون الأماكن ذات المياه المعدنية، ويشربون المياه الكبريتية يطهرون بها بطونهم في كل عام مما أفرطوا من الطعام والشراب. ولم تكن ملابس الرجال أقل زينة من ملابس السيدات ولا تنقص عنها إلا الحلي، وكانت لهم أكمام ضيقة، وجوارب ملونة، وقبعات كبيرة كالتي شاهدها رافائيل على كستجليوني. وكان الجورب يغطي الساق كلها حتى آخر الفخذ فيجعل الرجال يقفزون في مشيهم قفزاً يدعو إلى السخرية. أما في الجزء الأعلى من الجسم فقد كان في وسع الرجل أن يكون حسن الهندام، فقد كان يرتدي صدرة من المخمل موشاة بالحرير ومزدانة بالمخرمات. (الدنتلا)، ولم تكن القفازات والأحذية نفسها تنقصها هذه المخرمات. وحدث في مهرجان للبرجاس أقامه لورندسو ده ميديتشي أن أرتدى أخوه جوليانو أثواباً كلفته ثمانية آلاف دوقة(89).

وحدث في القرن الخامس عشر انقلاب تام في آداب المائدة حين ازداد استعمال الشوكة بدل الأصابع في تناول الطعام ونقله إلى الفم. ولشد ما دهش تومس كريات Thomas Coryat حين زار إيطاليا عام 1600 من هذه العادة الجديدة التي لم يتعودها الناس في أي بلد آخر رأيته في أسفاري" على حد قوله، وقد ساعد بنفسه على إدخال هذه العادة في إنجلترا(90). وكانت السكاكين، والشوك، والملاعق تصنع من النحاس الأصفر، ومن الفضة في بعض الأحيان- فإذا كانت من الفضة أعيرت للجيران حين يقيمون المآدب. أما الطعام فقد كان طعاماً وسطاً إلا في المناسبات الهامة أو المآدب التي تقيمها الدولة في المناسبات الرسمية، فقد كان التغالي فيها أمراً واجباً إجبارياً. وكان التوابل- كالفلفل، والقرنفل، وجوزة الطيب، والقرفة، والعرعر والزنجبيل وما إليها- تستخدم بكثرة لزيادة نكهة الطعام وزيادة الظمأ إلى الشراب؛ ولهذا كان كل مضيف يقدم لضيوفه أنواعاً مختلفة من الخمور. وفي وسعنا أن نرجع شيوع الثوم في إيطاليا إلى عام 1548، ولكن الذي لاشك فيه أن استعماله بدأ قبل ذلك بوقت طويل. وقلما كان يؤخذ على القوم نهم أو شراهة في الطعام والشراب؛ ذلك أن الإيطاليين في عهد النهضة كانوا كالفريسيين في العهود المتأخرة خبيرين بالأطعمة والأشربة لا نهمين فيها. وإذا ما تناول الرجال طعامهم بمعزل عن النساء كانوا يدعون معهم بعض المحاظي- واحدة أو اثنتين- كما فعل أريتينو حين عزم تيشيان. أما من هم أكثر احتشاماً فقد كانوا يجملون وجبات الطعام بالموسيقى، وارتجال الشعر، والحديث المثقف الدال على حسن التربية.

وقد اخترع فن الحديث- الحديث الجميل- الحديث الذي ينم على الذكاء، والأدب، والتهذيب، والمتسم بالوضوح، وروح الفكاهة- اخترع هذا الفن من جديد في عهد النهضة. وكانت بلاد النوبة القديمة، وروما قد عرفتا هذا الفن من قبل، وظل حياً يتعثر في العصور الوسطى في أماكن متفرقة من إيطاليا كبلاط فردريك الثاني وإنوسنت الثالث مثلا. ثم ازدهر الآن مرة أخرى في فلورنس في أيام لورندسو، وفي أربينو على عهد اليزابتا، وفي روما أيام ليو: فكان النبلاء وزوجاتهم، والشعراء والفلاسفة، وقواد الجيوش والعلماء، والفنانون والموسيقيون "يجتمعون في رفقة العقول، يتناقلون أقوال أشهر المؤلفين، ويظهرون في بعض الأحيان احترامهم وطاعتهم لأوامر الدين، ويجملون حذلقتهم بلمسة خفيفة من الخيال العجيب، ويستمتعون بالإصغاء بعضهم إلى بعض. وقد بلغ من إعجاب القوم بهذه الأحاديث أن صاغوا كثيراً من المقالات والرسائل في لغة الحوار حتى تستطيع استيعاب هذا الضرب من التظرف. لكنهم أفرطوا في هذا آخر الأمر حتى أضحت اللغة والأفكار مسرفة في الرقة والأناقة وحتى أوهن الولع بهذه الرقة مقتضيات الرجولة، وأضحت أربينو في إيطاليا كما كانت رامبوييه Rambouillet في فرنسا، وحتى قام موليير يهاجم "الضحك النفيس" في وقت استطاع فيه أن ينجي فن الحديث الطيب ويحتفظ به لفرنسا.

وقد احتفظ الحديث الإيطالي- رغم التأنق الذي كان طابع القليل منهزز بحرية في موضوعه وألفاظه إلى قدر لا تجيزه الآداب الاجتماعية في هذه الأيام. وإذ كانت النساء غير المتزوجات ذوات السمعة الطيبة قلما يستمعن إلى الحديث العام، فقد كان المفروض أن يناقش الرجال المسائل الجنسية بكثير من الصراحة. لكن الأمر لم يقتصر على هذا؛ ففي أرقى مجامع الرجال، كنت ترى الفكاهات الجنسية المجردة من الاحتشام، والتحرر المرح في الشعر، والبذاءة الفظة في التمثيل، وكل هذه تبدو لنا الآن من المظاهر التي تشمئز منها النفس في عصر النهضة. ولم يكن الرجال المتعلمون يتورعون عن كتابة الشعر البذيء على التماثيل، وقد كتب بمبو المهذب الرقيق فيما كتب يثني على بريابوس Priapus(91). وكان الشبان يتنافسون في النطق بأفحش الألفاظ وأكثرها بذاءة ليبرهنوا بذلك على أنهم بلغوا الحلم. وكان الرجال على اختلاف طبقاتهم يسبون ويلعنون وكثيراً ما يتطرق سبابهم إلى أقدس الأسماء في الدين المسيحي. ورغم هذا كله فإن عبارات المجاملة لم تكن في وقت ما أكثر ازدهاراً مما كانت في تلك الأيام، كما لم تكن صيغ التخاطب أكثر ظرفاً ورشاقة. وكانت النساء يقبلن يد كل صديق حميم من الذكور حين يقابلنه أو يودعنه، كما كان الرجال يقبلون أيدي النساء؛ ولم تكن الهدايا تنقطع بين الصديق والصديق، وبلغت الكياسة في الأقوال والأفعال درجة خيل إلى أوربا الشمالية أنها لا تستطيع الوصول إليها، وأضحت الكتب الإيطالية التي تعلم تلك الآداب هي النصوص المحببة التي تدرس فيما وراء جبال الألب.

ومثل ذلك يقال عن الكتب الإيطالية في الرقص، والمثاقفة، وغيرها من ضروب الرياضة، فقد كانت إيطاليا تتزعم العالم المسيحي في الرياضة كما تتزعمه في الحديث والبذاءة، فكانت البنات يرقصن في ليالي الصيف في ميادين فلورنس، وكانت أرشقهن قواماً وأبرعهن رقصاً تجاز بإكليل من الفضة؛ وفي القرى كان الفتيان والفتيات يتراقصون على الخمائل وفي البيوت وفي حفلات الرقص الرسمية: كان النساء يرقصن مع النساء أو الرجال، كما كان الرجال يراقصون الرجال أو النساء؛ وكان الهدف في كل حالة من الحالات هو الرشاقة. وانتشر رقص الباليه في عهد النهضة، وأضيف شعر الحركات إلى غيره من الفنون.

وكان لعب الورق أكثر من الرقص انتشاراً، فقد أضحى في القرن الخامس عشر ولعاً تجن به جميع الطبقات، حتى لقد أدمنه ليو العاشر نفسه. وكثيراً ما كان يتضمن المقامرة؛ وحسبنا شاهداً على هذا أن نعيد ما سبقت الإشارة إليه وهو أن الكردنال رفائلو رياريو Rafaello Riario كسب 14.000 دوقة في دورين لعبهما مع ابن إنوسنت الثامن. وكان الرجال يقامرون أيضاً بالنرد، وكانوا أحياناً يغشُّون في هذا اللعب بأن يضيفوا إلى النرد أثقالا تؤثر في وضعه بعد رميه(92). وأولع القوم أيضاً أشد الولع بهذه اللعبة؛ ولم تفلح القوانين في تخفيف حدتها. وكم من أسرة نبيلة خرب الميسر بيتها في البندقية، حتى لقد حرم مجلس العشرة مرتين بيع ورق اللعب أو الكعوب وأهاب بالخدم أن يبلغوا عن أسيادهم اللذين يخالفون أوامر التحريم(93). وكان نظام القرض الحسن الذي أنشأه سفنرولا عام 1549 يطلب إلى المقترضين أن يتعهدوا بالامتناع عن الميسر إلى أن يوفوا بالقرض على أقل تقدير(94).

وكان اللذين تعودوا الجلوس وقلة الحركة يقضون الوقت في لعب الشطرنج ويقتنون مجموعات منه غالية الثمن، مثال ذلك أن جياكومو لورندانا من أشراف البندقية كان له قطع من الشطرنج تقدر قيمتها بخمسة آلاف دوقة.

وكان للشبان ألعابهم الخاصة، أغلبها في الخلاء. فكان الفتى الإيطالي من أبناء الطبقات العليا يدرب على ركوب الخيل، واستخدام السيف والرمح، والطعن في ألعاب البرجاس؛ وكانت المدن تستعد لهذه المباريات في بعض أيام الأعياد والعطلات بتسوير مكان فسيح في أحد الميادين يسهل عادة أن تطل عليه النوافذ والشرفات التي تستطيع أن تنظر منها السيدات لتشجع فرسانهن. وإذ لم يكن في هذه المعارك ما يكفي من الجراح والقتل، فقد ادخل بعض الشبان المتهورين في الكاوسيوم الرومانية عام 1332 مصارعة الثيران، بحيث يصارع الثور رجلا واقفاً على قدميه وليس معه من السلاح إلا حرية. وقتل في هذه المصارعة الأولى ثمانية عشر فارساً كلهم من أبناء الأسر العريقة، ولم يقتل من الثيران إلا أحد عشر ثوراً(95). وتكررت هذه المباريات في روما وسينا، ولكنها لم تستهو الدوق الإيطالي في يوم من الأيام، وكان سباق الخيل أحب منها إلى الشعب، وكان يثير حماسة أهل روما وسينا وفلورنس على السواء. وتنتهي المباريات بصيد الحيوان والطير بالبزاة، وسباق الجري، وسباق الزوارق، والملاكمة، وبها يحتفظ الإيطاليون بشجاعتهم أفراداً؛ أما من حيث هم جماعة فقد كانوا يكلون أمر الدفاع عن مدنهم إلى الجنود الأجانب المرتزقين.

ويمكن القول بوجه عام إن الحياة كانت ممتعة مبهجة بالرغم مما فيها من كدح وأخطار، ومما تتسم به من رهبة ومخاوف، منها ما هو طبيعي ومنها ما هو وهمي وخرافي. وكان سكان المدن يستمتعون بالانتقال إلى الريف رجالا وركبانا، وإلى ضفاف الأنهار وشواطئ البحار؛ وكانوا يزرعون الأزهار ليزينوا بها بيوتهم وأنفسهم، وينشئون إلى جوانب بيوتهم الريفية حدائق غناء ذات أشكال هندسية بديعة. وكانت الكنيسة سخية على الأهلين باعيادها، كما كانت الدولة تضيف إلى هذه الأعياد الدينية أعياداً مدنية. فكانت أعياد المياه تقام على بحيرات البندقية ومياهها الضحلة، وعلى مياه نهر الأرنو في البندقية، ونهر منتشيو في مانتوا, وتشينو في ميلان. وفي بعض الأيام الخاصة كانت مواكب فخمة تسير في شوارع المدن مصحوبة بالمركبات والأعلام، وضع الفنانون ذوو الشهرة العالمية تصميمها لنقابات الحرف. وكانت الفرق الموسيقية تعزف في هذه المواكب، والبنات الحسان يغنين ويرقصن، وأعيان المدينة يسيرون فيها؛ حتى إذا جن الليل أطلقت الألعاب النارية تشق أجواء الفضاء بأشكالها العجيبة وتختفي في طبقات الجو العليا. وفي يوم سبت النور في فلورنس يؤتى بثلاث قطع من الظران جيء بها من الضريح المقدس في بيت المقدس لتوقد شريطاً يضيء شمعة تدفعها فوق سلك يمامة صناعية حتى تصل إلى الصواريخ الموضوعة في عربة اتخذت رمزاً للدولة في الميدان أمام الكاتدرائية فتشعلها. وفي يوم عيد الجسد الطاهر يقف الاستعراض ليستمع الموكب إلى أنشودة تغنيها جماعة من البنات والأولاد، أو يشاهد حادثة من الحوادث التاريخية الواردة في الكتاب المقدس أو الأساطير الوثنية، تمثلها إحدى الهيئات. وإذا ما جاء عظيم في زيارة للمدينة كان يستقبل بموكب تشترك فيه العربات على نمط موكب النصر الروماني القديم الذي كان يستقبل به القائد المنتصر، مثال ذلك أنه لما زار ليو العاشر فلورنس مدينته المحبوبة في عام 1513 خرج أهل المدينة على بكرة أبيهم ليشاهدوا مركبة نصره التي زخرفها ورسم صورها بنتورمو Pontormo وهي تمر تحت أقواس عظيمة منصوبة في شارع المدينة الرئيسي، وسارت سبع عربات أخرى في هذا الموكب يستقلها أفراد يمثلون سبعة أشخاص كبار في التاريخ الروماني، وفي آخرها غلام عار مغطى بالذهب يرمز إلى حلول العصر الذهبي بمجيء ليو؛ ولكن الغلام توفي بعد الموكب بقليل من تأثير الطلاء الذهبي(96).

وكان يحدث أحياناً أن ترمز مواكب العربات في عيد المساخر بفلورنس إلى فكرة معينة مثل الفطنة، أو الأمل، أو الخوف، أو الموت، أو العناصر، أو الرياح، أو الفصول، أو كانت تمثل أحياناً بطريقة الإشارات الصامتة قصة كقصة باريس أمير طروادة وهلين اليونانية؛ أو باخوس وأدرباني، مصحوبة بالأغاني التي تتناسب مع كل منظر من مناظرها. وقد كتب لورندسو أغنيته الذائعة الصيت الموجهة إلى الشباب والمرح لإحدى هذه "المقنعات". وكان كل من في المدينة- من الغلمان إلى الكرادلة- يلبس قناعاً، ويلعب ألعاباً، ويغازل ويتحرر من كل قيد تحرراً يثأر فيه لنفسه مقدماً من الصوم الكبير. وفي عام 1512 حين بدا أن فلورنس لا تزال تنعم بالرخاء، ولكن الكوارث التي لم تكن تخطر بالبال لم تكن بعيدة عنها بأكثر من بضعة شهور، أعد بيرو دى كوزيمو Piero dl Cosimo موكب "مقنعة لانتصارات الموت"، سارت فيه عربة ضخمة تجرها جاموستان سوداوان وعليها غطاء أسود رسمت عليه هياكل عظيمة وصلبان بيض. ووقف في العربة تمثال ضخم يمثل الموت يمسك بيده منجلا، ومن حوله قبور وأشكال حزينة رسمت على أثوابها السود عظام بيض تبرق في الظلام، ومشت وراء العربة شخوص مقنعة تغطي رؤوسها قلانس سود رسمت عليها رؤوس موتى من الأمام ومن الخلف. وقامت من القبور المصورة على العربة شخوص أخرى رسمت بحيث تبدو عظاماً لا غير، وكانت هذه الهياكل العظيمة تنشد نشيداً يذكر الناس بأن الموت حق على الجميع. وسارت أمام العربة وخلفها قافلة من الخيل الهرمة الضعيفة تحمل جثث أموات(97). وهكذا نطق بيرو دى كوزيمو والموكب قائم على قدم وساق بحكمه على إيطاليا المنغمسة في الملذات وتنبأ بما كتب لها من سوء المصير، وكان في حكمه وتنبؤه يردد أقوال سفنرولا.


التمثيل

وترجع بعض أصول المسرحيات الإيطالية إلى هذه المقنعات والاحتفالات الساخرة. ذلك أن منظراً من التاريخ الديني في العادة كثيراً ما كان يمثل على إحدى عربات الموكب أو على مسارح مؤقتة في بعض نقط من طريق الموكب. أما المصدر الأول للمسرحيات الإيطالية فهو ما كانوا يطلقون عليه لفظ "الديفورتيوتي" وهو إحدى حوادث القصص الديني المسيحي يمثلها أعضاء إحدى نقابات الحرف، أو ممثلون محترفون في بعض الأحيان، ينتمون إلى هيئة تتخذ عرض هذه المناظر عملا لها. وقد وصلت إلينا نصوص بعض هذه التمثيليات من تلك الأيام، وهي تدل على عظمة مسرحية مدهشة. فواحدة منها تروي قصة العذراء تعثر على المسيح في بيت المقدس، ثم تفقده مرة أخرى، وتبحث عنه وهي ذاهبة العقل وتصيح: "أي بني العزيز المحبوب! أي بني، أين ذهبت، أي بني اللطيف، من أي باب خرجت؟ أي بني القدسي، لقد كنت حزيناً كاسف البال حين غادرتني! خبروني بالله أين، أين ذهب ولدي؟"(98).

وفي القرن الخامس عشر نشأ في إيطاليا عامة، وفي فلورنس خاصة نوع من المسرحيات أرقى من هذه يعرف بالتمثيليات المقدسة Sacra Rapprescntazione يمثل في مصلى إحدى نقابات الحرف، أو في مطعم أحد الأديرة، أو في أحد الميادين العامة. وكثيراً ما كانت المناظر المعدة لتلك التمثيليات معقدة تنم عن كثير من الذكاء والفطنة: فكانت السماء تمثل بوستر ضخمة رسمت عليها النجوم، والسحب تمثل بأكداس من الصوف معلقة في الهواء تتمايل مع الريح؛ والملائكة يمثلهم غلمان مرفوعون على قوائم من المعدن مختفية في أقمشة متموجة هفهافة. وكانت القصة نفسها شعراً في العادة، تصحبها الموسيقى تعزف على الكمان أو العود؛ وكان لورندسو ده ميديتشي، وبلتشي Pulci من بين الشعراء الذين كتبوا ألفاظ بعض هذه التمثيليات الدينية؛ وجاء بوليتيان في مسرحية أورفيو Orefeo فكيف صيغة التمثيلية المقدسة كي تتفق مع الموضوعات الوثنية.

وكانت عناصر أخرى من الحياة الإيطالية تسهم في هذه الأثناء في مولد المسرحية الإيطالية. منها المسرحيات الهزلية Farse التي كان يمثلها من زمن يعيد أفراد متنقلون في مدائن العصور الوسطى، والتي تحتوي أصول المسلاة الإيطالية. وقد برع بعض ممثليها في ارتجال الحوار لمناظر القصص وحبكاتها. وكان هذا الحوار وسيلة محببة لإظهار قدرة الإيطاليين على الهجاء والمجون. ومن هذه المهازل ظهرت الشخصيات الهازلة الساخرة في المسالي الشعبية واتخذت صورها وأسماءها المعروفة بها في تلك اللغة- البنتالوني، والأرلكينو، والبلكينيلا أو البنكينلو .

وكان للكتاب الإنسانيين نصيبهم في العوامل المعقدة التي أدت إلى نشأة المسرحية، وذلك بإعادة نصوص المسالي الرومانية القديمة والإعداد للتمثيل. وقد كشف هؤلاء اثنتي عشرة مسرحية لبلوتوس في عام 1427 وكان اكتشافها حافزاً جديداً، فمثلت في البندقية، وفيرارا ومانتوا وأربينو، وسينا، وروما مسالي بلوتوس، وانتقلت التقاليد الأدبية القديمة على مر القرون لتكون من جديد المسرحيات الدنيوية. وفي عام 1486 عرضت مسرحية ميناكمي Menaechmi تأليف بلوتوس للمرة الأولى في إيطاليا، وبذلك مهد السبيل لمسرحية النهضة أتم التمهيد. ولما آذن القرن الخامس عشر بالرحيل فقدت المسرحية الدينية ما كان لها من سلطان على النظارة المتعلمين في إيطاليا، وأخذت الموضوعات الوثنية تحل بالتدريج المطرد الزيادة محل الموضوعات الوثنية؛ ولما أن ألف الكتاب الإيطاليون أمثال ببينا Bibbiena ومكيفلي، وأريستو، وأريتينو مسرحياتهم، كتبوها بأسلوب بلوتوس البذيء بعيدة كل البعد عن قصص مريم والمسيح التي كانت من قبل محببة لإيطاليين؛ وعادت إلى الظهور في هذه المسالي الإيطالية جميع مناظر المسلاة الرومانية، وجميع الحبكات المصطنعة السطحية التي تدور حول الأخطاء الجنسية، أو الخطأ في تمييز الأشخاص بعضهم من بعض، أو في المراتب والطبقات. وظهرت في المسلاة كذلك جميع أنواع الشخصيات، ومنها القوادون والعاهرات، التي كان بلوتوس يسرُ بها الطبقات الدنيا من النظارة، وخشونة الطبقات السفلى القديمة واستهتارها.

ولم يكن للمأساة مكان ما فوق مسرح النهضة رغم احتفاظ هذا العصر بمسرحيات سنكا، ورغم استكشاف المسرحيات اليونانية من جديد. ذلك أن أهل ذلك الوقت كانوا يفضلون المتعة والتسلية على الدرس العميق، ولهذا كانوا ينظرون شذراً إلى مسرحية سوفونسيا Sophonisba (1515) لجيان ترسينو Gian Trissino ومسرحية روزا مندا Rosamunda لجيوفني روتشلاى. وقد مثلت هذه المسرحية الأخيرة أمام ليو العاشر في فلورنس في ذلك العام نفسه.

وكان من سوء حظ المسلاة الإيطالية أنها تشكلت حين كانت أخلاق الإيطاليين في الحضيض. وإن قدرة مسرحية مثل كالندا Calanda تأليف ببينا، ومندرجولا Mandragola لمكيفلي، على إشباع رغبات الطبقات العليا من الإيطاليين، وملاءمتها لأذواقهم حتى في أربينو المعروفة برقة أهلها، وإن ممثليها أمام البابوات دون أن تثير أي احتجاج، إن هذا وذاك ليدلاننا كيف تجتمع الحرية العقلية مع الانحطاط الخلقي. ولما قامت حركة الإصلاح المعارضة بعد انعقاد مجلس ترنت Trent (1545 وما بعدها)، وجه أشد النقد إلى أخلاق رجال الدين والدنيا على السواء، ومحيت مسلاة النهضة فلم يعد لها مكان في تسلية المجتمع الإيطالي.


الموسيقى

لقد كان من المظاهر التي أنقذت المسلاة الإيطالية أن الرقص التمثيلي، والمسرحيات الصامتة، والعزف الموسيقي الجماعي كانت تعرض كلها بين الفصول. ذلك أن الموسيقى كانت عند الإيطاليين- بعد العشق- أهم أنواع التسلية والسلوى عند كل طبقة من طبقات المجتمع في إيطاليا. يدلنا على ذلك أن منتاني وهو مسافر في تسكانيا عام 1581 قد "أدهشه أن يرى الفلاحين وفي أيديهم الأعواد وإلى جانبهم الرعاة ينشدون قصائد أريستو عن ظهر قلب"؛ ولكن هذا، كما يقول بعدئذ، "هو الذي نستطيع أن نشاهده في جميع أنحاء إيطاليا"(99). وقد حفظ لنا فن التصوير في عهد النهضة ألف صورة وصورة لأشخاص يعزفون على الآلات الموسيقية من الملائكة العازفين على العود عند قدمي العذراء في كثير من الصور التي تمثل منظر التتويج، إلى الملائكة الصغار المنشدين في صور ميلتسو Meizzo، إلى نشوة الرجل العازف على القيثارة في صورة الحفلة الموسيقية. وما أروع صورة الغلام- الذي يصعب علينا أن نعتقد أنه هو المصور نفسه- في وسط صورة أعمار الإنسان الثلاثة لسيبباستيانو دل بيومبو Sabastiano del Piombo، كذلك تنقل لنا الكتب التي ألفت في ذلك العصر صورة لشعب يغني أو يعزف على الآلات الموسيقية في منزله، وفي أثناء عمله، وفي الشارع، وفي المجامع الموسيقية، وأديرة الرجال والنساء، والكنائس، والمواكب، والمقنعات، ومواكب النصر، والاستعراض، والمسرحيات الدينية والدنيوية، وفي الفقرات الغنائية، وفيما بين الفصول في المسرحيات، وفي الرحلات الخلوية كالتي تصورها بوكاتشيو في كتابه ديكمرون Decameron، وكان الأثرياء يحتفظون في بيوتهم بطائفة من الآلات الموسيقية المختلفة الأنواع، وكانوا ينظمون فيها حفلات موسيقية خاصة. أما النساء فكن ينشئن النوادي لدراسة الموسيقى ولممارستها، وقصارى القول أن إيطاليا كانت- ولا تزال- تجن جنوناً بالموسيقى.

وازدهرت الأغاني الشعبية في كل وقت من الأوقات، ومن هذا المعين الذي لا ينضب كانت الموسيقى العلمية تستمد من آن إلى آن ما ينعشها ويبعث الحياة فيها. فكانت النغمات الشعبية تكيف حتى تتفق مع القصائد الغزلية المعقدة، ومع الترانيم، وحتى مع القطع الموسيقية التي تعزف في الكنائس في ساعات القداس. وفي "فلورنس"، كما يقول تشيليني، "كان من عادة الأهلين أن يلتقوا في الشوارع العامة في ليالي الصيف" ليغنوا ويرقصوا(100). وكان مغنو الشوارع أو الميادين- Cantori di Piazza- يوقعون ألحانهم الحزينة أو المرحة على أعواد جميلة، كما كان السكان يجتمعون ليغنوا أناشيد المديح للعذراء عند أضرحتها المقامة في الشوارع أو على جوانب الطرق؛ وفي مدينة البندقية كانت أغاني العُرس تصعد إلى قمر السماء من مئات قوارب النزهة، أو ترتفع من حناجر العشاق الذين يتغزلون في حبيباتهم في ظلمات الليل على ضفاف القنوات الملتوية. ويكاد كل إيطالي في ذلك الوقت يستطيع الغناء، كما يكاد كل إيطالي يستطيع التغني بعبارات بسيطة متوافقة. وقد وصلتنا مئات من هذه الأغاني الشعبية المسماة بذلك الاسم الجميل فروتولى Frottole أي الفاكهة الصغيرة؛ وهي في العادة قصيدة غزلية، أهم أصواتها السبران (أعلى الاصوات) وإلى جانبه العران، والرخيم، والصور . وبينما كان الصوت الرخيم في القرون الحالية هو المسيطر على النغم ولذلك وصف به، فقد أصبحت للسبران- أعلى الأصوات- السيطرة عليه في القرن الخامس عشر، وقد سمي بهذا الاسم Soprano لأن علاماته الموسيقية كانت تكتب فوق سائر العلامات. ولم يكن هذا الجزء من الغناء في حاجة إلى صوت النساء، فقد كان كثيراً ما يغنيه غلام أو كان هو الصوت النشاز Falsetto من رجل كهل (ولم يظهر الغلمان المخصيون بين المنشدين لدى البابوات قبل عام 1526)(101).

وكان قدر كبير من العلم بالموسيقى يطلب إلى أفراد الطبقة المتعلمة، فكان كستجليوني مثلا يتطلب إلى رسوله المهذب أن يكون من هواة الموسيقى وأن يبرع فيها إلى حد ما لأنها "لا تجعل عقول الرجال حلوة فحسب، بل إنها في كثير من الأحيان تبدل الوحوش إلى حيوانات مستأنسة أليفة"(102). وكان ينتظر من كل شخص مثقف أن يقرأ الموسيقى البسيطة بمجرد النظر إليها، وأن يعزف على آلة ما وهو يغني، وأن يشترك في أية حفلة موسيقية دون سابق استعداد(103). وكان الأهالي في بعض الأحيان يقيمون حفلات تجمع بين الغناء، والرقص، والعزف على الآلات الموسيقية. وكانت الجامعات بعد عام 1400 تقدم للطلاب برامج موسيقية وتمنح فيها درجات علمية؛ وكان في إيطاليا مئات من المجامع الموسيقية؛ وأسس فتورينو دا فلترى حوالي عام 1425 مدرسة لتعليم الموسيقى في مانتوا؛ ولفظ كنسير فتوري Conservatory الذي يطلق على المعاهد الموسيقية في هذه الأيام يرجع في الأصل إلى لفظ كنسير فتوري (Conservatori) أي الملاجئ، لأن الملاجئ في نابلي كانت تتخذ أيضاً مدارس لتعليم الموسيقى(104). وكان مما ساعد على انتشار الموسيقى غير ما سبق استخدام فن الطباعة في طبع العلامات الموسيقية؛ فقد حدث حوالي عام 1476 أن طبع ألريخ هاهن Ulrich Hahn في روما كتاباً كاملا للصلوات بالعلامات الموسيقية المتنقلة والسطور؛ وفي عام 1501 بدأ أتافيانو ده بيتروتشي Ottaviano Petrucci في البندقية أعمال الطباعة التجارية للأناشيد الدينية" والفاكهة الصغيرة".

وفي بلاط الملك والأمراء كانت الموسيقى أبرز الفنون عدا فنون الزينة الشخصية والأناقة. فقد كان الحاكم يختار عادة كنيسة محببة له، ويجعل المرنمين فيها موضع عنايته، وينفق المال بسخاء ليجذب إليها أجمل الأصوات وأحسن الآلات من إيطاليا، وفرنسا، وبرغندية، فكان يدرب المغنين الجدد منذ طفولتهم كما فعل فيدريجو في أربينو، وكان ينتظر من أفراد المرنمين أن يقيموا للدولة حفلات غنائية ولبلاطه أعياداً من حين إلى حين. وقد ظل جويوم دوفاى Guillaume Dufay من أهل برغندية يشرف على الموسيقى في قصور آل مالاتستا في ريميني وبيزارو وفي معبد البابا في روما نحو ربع قرن (1419-1444). ونظم جالياتسو ماريا اسفوردسا Galeazzo Maria Sforzo حوالي عام 1460 جماعتين من المرنمين الدينيين، وجاء إليهم من فرسنا بجوسكان دبريه Josquin Depres الذي كان وقتئذ أشهر المؤلفين جميعاً في أوربا الغربية. ولما احتفى لودفيكو اسفوردسا بليوناردو في ميلان كان احتفاؤه به بوصفه موسيقياً؛ ومما هو جدير بالملاحظة أن ليوناردو اصطحب معه في سفره من فلورنس إلى ميلان أطلانطي مجليورُتي Atlante Migliorotti وهو موسيقي ذائع الصيت وصانع آلات موسيقية. وأشهر من أطلانطي هذا في صناعة القيثارة، والعود، والأرغن، والبيان البدائي، لورندسو جوسناسكو Lorenzo Gusnasco من أهل بافيا الذي اتخذ ميلان كغيرها من المدن موطناً له. وكان بلاط لودفيكو يموج بالمغنين نذكر منهم نارتشسو Narcisso وتبستاجرسا Testagrossa وكوديير Cordier من أهل فلاندرز، وكوستوفورو رومانو Cristoforo Romane الذي أحبته بيتريس حباً طاهراً عفيفا. وكان بدرو ماريا Pedro Maria الأسباني يقود الحفلات الموسيقية في القصر وحفلات الجماهير، وأنشأ فرنكشيتو جافوري Franchino Gaffuri مدرسة خاصة ذائعة الصيت في ميلان واشتغل فيها بتعليم الموسيقى. وكانت إزبلا دست مولعة أشد الولع بالموسيقى؛ واتخذتها أهم موضوع لزخرفة حجرتها الداخلية الخاصة، وكانت هي نفسها تعزف على عدة آلات. ولما أن أمرت بإحضار بيان بدائي من لورندسو جوسناسكو اشترطت ان تستجيب لوحة المفاتيح للمس الخفيف، "لأن يديها رقيقتان إلى حد لا تستطيع معه أن تجيد العزف إذا كانت المفاتيح جامدة"(105). وكان يعيش في بلاطها أشهر عازف على العود في زمانه، وهو ماركتو كارا Marchctto Cara، كما كان يعيش فيه بارتلميو ترميبو نتشينو Bartolomeo Tromboncino الذي ألف أغاني غزلية بلغ من روعتها وإعجاب الناس بها وبه أنه حين قتل زوجته الخائنة، لم يوقع عليه عقاب ما ومرت المسألة كأنها خلاف لا يلبث أن يزول.

وآخر ما نذكره من هذا القبيل أن الموسيقى كانت تتردد أصداؤها في الكاتدرائيات والكنائس وفي أديرة الرجال والنساء؛ وكانت الراهبات في البندقية، وبولونيا، ونابلي، وميلان ينشدن صلوات المساء ترانيم يبلغ من تأثيرها أن الجموع كانت تهرع من كافة الأنحاء لسماعها. وقد نظم سكتس الرابع جوقة المرنمين في معبد ستينى، وأضاف يوليوس الثاني إلى المرنمين في كنيسة القديس بطرس جوقة خاصة منهم تدرب المغنين وتعدهم للانضمام لمرنمي معبد ستيني. وكان هذا ذروة الموسيقى في العالم اللاتيني في عهد النهضة. وأقبل على هذه الجماعة أعظم المغنين من جميع البلاد التي تدين بالمذهب الكاثوليكي الروماني. وكان الغناء البسيط لا يزال هو الذي يفرضه القانون على الموسيقى الكنسية، ولكن الفن الجديد Ars Nova الفرنسي- وهو فن معقد معارض له- كان يتسلل إلى جماعات المرنمين في الكنائس الرومانية ويمهد السبيل لباليسترينا Palestrina وفيكتوريا. وكان الاعتقاد السائد في وقت من الأوقات أن ليس من الكرامة أن يصحب الترنيم في الكنيسة من الآلات الموسيقية إلا الأرغن، ولكن عدداً من الآلات المختلفة أدخل إلى الكنائس في القرن السادس عشر لكي تخلع على الموسيقى الكنسية بعض الروعة والجمال اللذين تمتاز بهما الموسيقى غير الدينية. وظل الأستاذ الفلمنكي أدريان ولرت Adrian Willaert من أهل بروج Bruges يرأس فرقة المرنمين في كنيسة القديس مرقص بالبندقية خمسة وثلاثين عاماً درب أفرادها فيها تدريباً حسدتهم عليه روما. وفي فلورنس نظم أنطونيو اسكوارتشيا بولى مدرسة موسيقية كان لورندسو عضواً فيها. وظل أنطونيو جيلا كاملا يسيطر على فرقة المرنمين في الكاتدرائية العظيمة تردد النغمات التي أسكتت صوت كل شك فلسفي. يدلنا على ذلك أن ليون باتستا ألبرتى Leon Battista Alberti كان من المتشككين حتى إذا غنت الفرقة صدق وآمن وقال:

"إن جميع أنواع الغناء الأخرى تمل بالتكرار، أما الموسيقى الدينية وحدها فلا تمل. ولست أعلم مبلغ تأثر غيري بهذه النغمات، أما أنا فإن هذه الترانيم والمزامير التي أستمع إليها في الكنيسة تحدث فيَّ ذلك الأثر الذي وضعت من أجله، فتهدئ من جميع اضطراباتي النفسية، وتبعث فيَّ شيئاً من الفتور الذي تعجز الألفاظ عن وضعه، وتملأ قلبي إجلالا للخالق جل وعلا. وأي قلب قد بلغ من القسوة درجة لا يلين معها إذا سمع ذلك الارتفاع والانخفاض المتزن المتناسق في الأصوات الكاملة الحقة بتلك النغمات العذبة اللينة؟ وأؤكد لكم أني ما استمعت فقط... إلى اللفظين اليونانيين كيري إليسوق (ارحمنا يارب) اللذين يدعوان الله إلى أن يقينا شر بؤسنا البشرى إلا انهمر الدمع من عيني... وفي تلك اللحظة أفكر كذلك في مبلغ ما للموسيقى من قدرة على تهدئتنا والترفيه عنا"(106).

بيد أن الموسيقى، رغم هذا الانتشار الواسع، كانت هي الفن الوحيد الذي تأخرت فيه إيطاليا عن فرنسا في الجزء الأكبر من عهد النهضة. ذلك أن إيطاليا قد أثر فيها انتقال البابوات إلى أفنيون فحرمها من الموارد المالية البابوية، ولم يكن بلاط الأمراء المستبدين في القرن الرابع عشر قد بلغ درجة كبيرة من النضوج الثقافي، ومن أجل هذا كان يعوزها المال والروح اللذان لا غنى عنهما للدرجات العليا من الموسيقى. نعم إنها أخرجت أغاني غزلية جميلة (يسمونها مدرجال Madrigal وهي كلمة لا يعرف اشتقاقها على وجه التحقيق)، ولكن هذه الأغاني التي صيغت على غرار أغاني شعراء الفروسية الغزليين البروفنسالين كانت تلحن تلحيناً جامداً منتظماً متعدد النغمات فلم تلبث أن قضى عليها جمودها.

وكان فخر الموسيقى في القرن الرابع عشر في إيطاليا هو فرانتشيسكو لنديني Francesco Landini، العازف على الأرغن ولسان لورندسو في فلورنس. وقد فقد هذا الفنان بصره منذ طفولته، ولكنه أصبح رغم ذلك أظرف الموسيقيين وأحبهم إلى الشعب في زمنه، وقد برع في العزف على الأرغن، والعود، وفي تأليف الأغاني، وقول الشعر، وفي الفلسفة. ولكن هذا الرجل نفسه أخذ الفن أولا عن فرنسا، فقد طبق في قطعه الموسيقية الدنيوية التي ألفها، والبالغ عددها مائتي قطعة، الفن الجديد الذي استهوى فرنسا قبل تلك الأيام بجيل من الزمان. وكان هذا "الفن الجديد" جديداً جدة مزدوجة: فقد قبل الإيقاع الثنائي كما قبل التوقيت الثلاثي الذي كانت تتطلبه من قبل موسيقى الكنائس، وابتكرت له علامات موسيقية كثيرة التعقيد والمرونة. ووجه البابا يوحنا الثاني والعشرون الذي كان يصب صواعقه في جميع الاتجاهات، وجه هذا البابا إحدى تلك الصواعق على الفن الجديد ورماه بأنه خيال ووهم ومنحط، وكان لتحريمه إياه بعض الأثر في الحيلولة دون تقدم الموسيقى في إيطاليا. على أن يوحنا الثاني والعشرين لم يكن مخلداً، وإن كان قد بدا للناس في بعض الأوقات أن هذا قد يكون؛ فلما قضى نحبه في سن التسعين (1334)، انتصر الفن الجديد في موسيقى فرنسا، وأعقب هذا انتصاره أيضاً في إيطاليا.

وكان المغنون والمؤلفون الفرنسيون والفلمنكيون يؤلفون فرق المرنمين البابوية في أفنيون. فلما أن عادت البابوية إلى روما جاءت معها بعدد كبير من المؤلفين والمغنين الفرنسيين، والفلمنكيين، والهولنديين، وظل هؤلاء الموسيقيون الأجانب وخلفاؤهم قرناً من الزمان المسيطرين على الموسيقى الإيطالية. وظل المغنون في الفرق البابوية حتى زمن سكستس الرابع يفدون إلى إيطاليا من وراء جبال الألب، كذلك سيطرت الأصوات الأجنبية على موسيقى البلاط في القرن الخامس عشر. من ذلك أنه لما مات اسكوارتشيالونى Squarcialuni (حوالي عام 1475) اختار لورندسو رجلاً هولندياً هو هنريخ اسحق Henrich Ysaac ليخلفه في العزف على الأرغن بكاتدرائية فلورنس. وكان هنريخ هو الذي وضع الألحان الموسيقية لبعض أغاني المساخر، ولبعض أغاني بولتيان، وهو الذي علم الرجل الذي أصبح فيما بعد ليو العاشر أن يحب الأغاني الفرنسية- بل أن يؤلف بعضها(107). وظلت الأغاني الفرنسية وقتاً ما تغنى في إيطاليا، كما كانت قصائد شعراء الفروسية الغزليين تغنى فيها وقتاً ما.

وأثمر غزو الموسيقيين الفرنسيين في إيطاليا، وهو الذي سبق غزو الجيوش الفرنسية إياها بقرن من الزمان، أثمر حوالي عام 1520 انقلاباً تاماً في الموسيقى الإيطالية. ذلك أن أولئك الرجال القادمين من الشمال- والإيطاليين الذين دربوا على أيديهم- قد انغمروا في فيض الفن الجديد واستخدموه في تلحين الشعر الغنائي الإيطالي. وقد وجد هؤلاء عند بترارك، وأريستو، وستادسارو، وبمبو- كما وجدوا بعدئذ في تاسو وجواريني- شعراً مطرباً يتحرق شوقاً للموسيقى. ألم يكن الشعر في الواقع يتطلب على الدوام أن يتلى إذا لم يكن يتطلب أن يغنى؟ وكانت مقطوعات بترارك قد أغوت من قبل الموسيقيين، أما الآن فقد لحن كل بيت منها، ولحن بعض مقطوعاتها اثنتي عشرة مرة أو أكثر، حتى لقد اصبح بترارك أكثر من لُحّن له من الشعراء في الأدب العالمي. ولقد كانت هناك أغان صغيرة لا يعرف مؤلفوها، ولكنها تعبر عن عواطف ساذجة ذات حيوية تمس شغاف كل قلب، وتنادي أوتار كل آلة. انظر مثلا إلى هذه الأغنية:

أبصرت فتيات حساناً يتفيأن ظلال أشجار الصيف،

ينسجن تيجاناً براقة وهن ينشدن أغاني الحب بصوت خفيض،

وتستعير كل واحدة منهن من أختها أوراق الأشجار وأزهارها.

وفي خلال هذه الاخوة العذبة حولت

أجملهن عينيها الناعستين نحوي وهمست قائلة: "خذ!"

ووقفت مشدوها حائراً في الحب لم أنبس ببنت شفة،

لكنها قرأت ما تنطوي عليه جوانحي وناولتني تاجها الجميل؛

فاصبحت من أجل ذلك خادمها حتى الممات(108).

وطبق المؤلفون على هذه الاشعار الموسيقى الدينية الكاملة المعقدة الكثيرة الأنغام ذات الأربعة الأصوات- التي يغنيها أربعة أو ثمانية- المتساوية القيمة التي تخضع فيها ثلاثة أصوات لصوت واحد. وجميع هذه النغمات المعقدة الدقيقة المتسلسلة تجمع الأصوات الأربعة المستقلة في نغم متوافق متآلف... وهكذا نشأت أغنية الحب في القرن السادس عشر فكانت من أيتع أزاهير الفن الإيطالي، وبينما كانت الموسيقى في أيام دانتي خادمة للشعر، أضحت الآن بعد أن اكتمل نماؤها شريكة له على قدم المساواة، لا تخفى فيها الألفاظ، و لا تختفي فيها العواطف بل تجمع بين هذه وتلك في ألحان تزيد من قدرتها على استثارة النفس، في الوقت الني تبعث بمهارتها الفنية أسباب البهجة في عقول المتعلمين.

ووجه المؤلفون العظام في إيطاليا أثناء القرن التاسع عشر، بما فيهم باليسترينا نفسه، وجهوا كلهم تقريباً فنهم من آن إلى آن إلى القصائد الغزلية. ويتنازع فيليب فيرديلو Philippe Verdelot، وهو رجل فرنسي عاش في إيطاليا، وقسطندسا فيستا Qoatanza Festa الإيطالي الموطن، شرف الاسبقية في تنمية هذه الصور الجديدة من صور الشعر بين عامي 1520 و 1530. ثم جاء بعدهم بزمن قليل أركادلت Arcadelt وهو رجل فلمنكي كان يعيش في روما، وذكره ربليه في كتاباته(109). وفي البندقية أعفى أدريان ولايرت Adrian Willaert من واجباته بوصفه رئيس فرقة المرنمين في كنيسة سان ماركو لكي يؤلف أجمل قصائد الغزل في أيامه.

وكانت القصيدة الغزلية تغنى عادة دون أن يصحبها عزف موسيقي على الآلات. نعم إن الآلات الموسيقية كان يخطئها الحصر، ولكن ما من واحدة منها، سوى الأرغن وحده، كانت تجرؤ على أن تنافس الصوت الآدمي. ولقد نشأت موسيقى الآلات نشأة بطيئة في أوائل القرن السادس عشر، وكانت نشأتها من صيغ موسيقية وضعت أولا للرقص أو الغناء الجماعي؛ وهكذا نشأ البوان والسلطاريل والسرنيد نشأة تدريجية من الرقص المصاحب للغناء مع الآلات مفردة أو مجتمعة، وأضحت موسيقى الغزل التي تعزف دون غناء هي الكانزوني التي نشأت منها السوناته بعد زمن طويل(100أ)، ومن ثم كانت هي منشأ السمفونية.

وكان الارغن في القرن الرابع عشر قد وصل في تطوره ورقيه الدرجة التي هو عليها الآن تقريباً، فقد ظهرت لوحته الدواسة في ألمانيا والبلاد الوطيئة في ذلك العهد، وسرعان ما أدخلت في فرنسا وأسبانيا، أما إيطاليا فقد تأخرت في قبولها حتى القرن السادس عشر. وكانت الكثرة الغالبة من الأراغن قد أصبح لها قبل ذلك الوقت لوحتان أو ثلاث لوحات من المفاتيح وعدد مختلف من الوقفات والأجهزة التي يمكن بها استخدام عدة مفاتيح في وقت واحد. وكانت الأراغن الكبرى في الكنائس تحفاً فنية في حد ذاتها يقوم الأساتذة العظام بتصميمها، وحفرها، ونقشها. كذلك سرى حب الجمال في الشكل إلى غير الأرغن من الآلات الموسيقية، فالعود مثلا- وهو آلة البيت المحببة- كان يصنع من الخشب والعاج، ويتخذ شكل الكمثرى، وتخرق فيه ثقوب الصوت في نظام جميل. وكانت لوحة الأصابع فيه تقسم بنقوش من الفضة أو الشبة، وتنتهي بصندوق للأوتاد يصنع زاوية حادة مع عنقه. وكانت فتاة جميلة تجذب أوتار العود الذي تحنو عليه في حجرها فتتكون منه ومنها صورة جميلة يهوى إليها قلب كل إيطالي حساس وكان الكثير من الآلات الموسيقية التي يعزف عليها بالأصابع هي الأخرى محببة جميلة.

أما اللذين يفضلون العزف بالوتر على العزف بالأصابع فكان لهم أنواع مختلفة من الكمان الذي يمسك على الذراع والذي يتكئ على الساق. وقد تطور النوع الثاني حتى أصبح هو الكمان الجهير واصبح الأول في عام 1540 هو الكمان الصغير. وكانت آلات النفخ أقل انتشاراً من الآلات الوترية، ذلك أن عصر النهضة كان يبغض الموسيقى التي تحدث بانتفاخ الخدود كما كان يبغضها ألقبيادس اليوناني؛ ومع هذا فقد وجد الناي، والفيف، والقربة، والبوق، والقرن، والصافرة والشون، والمزمار. وأضافت آلات الطرق- الطبلة، والدف، والصنوج، والطنبور والصنوج الصغيرة التي تستعملها الراقصات- أضافت هذه الآلات ضجيجها إلى العازفين والسامعين. وكانت جميع الآلات الموسيقية في عصر النهضة شرقية الأصل ماعدا لوحة المفاتيح التي أضيفت إلى غير الأرغن من الآلات للدق على الأوتار أو جذبها بطريقة غير مباشرة. وأقدم هذه الآلات ذات لوحات المفاتيح هو البيان البدائي المسمى كلافيكور Clavirchord (ومعنى كلافس هو المفتاح)؛ وقد ظهرت هذه الآلة في القرن الثاني عشر، وكان للعاطفة شأن في بعثها من جديد في أيام باخ Bach؛ وكانت أوتارها تدق بملامس نحاسية صغيرة تحركها المفاتيح. ثم حلت محلها في القرن السادس عشر آلة الكلافيتشمبالو Claviecembalo التي كانت أوتارها تجذب بريشة أو قطعة من الجلد متصلة برافعات خشبية ترتفع إذا ما ضغط على المفاتيح. وقد اتخذت هذه الآلة في إنجلترا وإيطاليا صورتين مختلفتين سميت في الأولى فيرجنال Viriginal وفي الثانية الاسبينت Spinet .

وكانت هذه الآلات كلها حتى ذلك الوقت أقل شأناً من الصوت الآدمي، ولذلك كان جميع الفنانين الفارهين في عصر النهضة مغنين. لكننا نسمع في وقت تعميد ألفنسو صاحب فيرارا في عام 1476 عن حفل في قصر اسكفانيو Schifanio كانت فيه حفلة موسيقية اشترك فيها مائة من النافخين في الأبواق والزمارين والضاربين على الطنبور. وفي القرن السادس استخدم مجلس السيادة في فلورنس فرقة منتظمة من الموسيقيين كان منها تشلينى. وكانت عدة آلات يعزف عليها في ذلك العهد مجتمعة، ولكن هذا النوع من الحفلات قد اختصت به القلة الأرستقراطية. أما العزف المفرد على الآلات فقد كان شائعاً إلى حد يشبه الجنون، فلم يكن الناس يؤمون الكنائس للصلاة على الدوام، بل كانوا يؤمونها في كثير من الأحيان ليستمعوا إلى عازف شهير على الأرغن مثل اسكوارتشيا لوبى أو أوركانيا Orcagna. ولما أن عزف بيتروبونو Pietro Bono على العود في بلاط يورسو بفيرازا طارت أرواح المستمعين، على حد قولهم، من هذه الدار إلى الدار الآخرة(110). وكان كبار العازفين من أسعد الناس وأحبهم إلى القلوب في تلك الايام، ولم يكونوا يطلبون لأنفسهم حسن السمعة ممن يخلفونهم بل كانوا يحصلون على كل ما يطمعون فيه الشهرة قبل مماتهم.

أما النظريات في الموسيقى فقد تأخرت عن الاعمال بنحو جيل: ذلك أن العازفين كانوا يجددون، أما الأساتذة فكانوا يرفضون، ثم يجادلون، ثم يوافقون. وفي هذه الأثناء صيغت مبادئ الكرصته ، والنغمات المتعددة المشتركة، والتسلسل الموسيقي، لكي يسهل تعليم الموسيقى وانتقالها. لهذا لم تكن أعظم السمات الموسيقية في عصر النهضة هي النظريات، بل لم تكن التقدم الفني للموسيقى، بل كانت استحالتها من الصبغة الدينية إلى الصبغة الدنيوية، ولهذا لم تعد الموسيقى الدينية في القرن السادس عشر هي التي تقدمت، وأجريت عليها التجارب، بل كان الذي تقدم وجرب هو موسيقى القصائد الغزلية وموسيقى البلاط. ذلك أن الموسيقى الإيطالية في القرن السادس عشر خرجت من سيطرة الكنيسة كما خرج الأدب والفلسفة من هذه السيطرة، وانعكست عليها السمات الوثنية لفن النهضة وما كان فيها من انحلال خلقي، وأخذت الموسيقى تبحث عن إلهام لها في شعر الحب وانتهى النزاع القديم بين الدين والجنس إلى وقت ما بانتصار الحب. وذلك انقضى عصر العذراء وبدأ سلطان المرأة، ولكن الموسيقى في كليهما كانت خادمة الملكة والمؤتمرة بأمرها.


نظرة شاملة

تُرى هل كانت أخلاق إيطاليا في عصر النهضة أسوأ من أخلاق غيرها من البلاد أو العصور؟ إن المقارنة لمن الأمور العسيرة، لأن الشواهد كلها محض اختيار. فعصر ألقبيادس في أثينا مثلا يكشف عن كثير مما في عصر النهضة من فساد في العلاقات الجنسية والمماحكات السياسية، ففيه أيضا كان يحدث الاجهاض على نطاق واسع، وفيه اتسع المجال للعاهرات المثقفات المتأدبات؛ وفيه أيضاً تحررت العقول والغرائز في وقت واحد، وفيه استبق السوفسطائيون أمثال شرازيبولوس في جمهورية أفلاطون مكيفلي إلى مهاجمة الفضائل ووصفوها بأنها من سمات الضعف، ولربما كان العنف الفردي في بلاد اليونان القديمة أقل منه في إيطاليا على عهد النهضة، كما كان الفساد في الدين والسياسة عند اليونان أقل بعض الشيء منه في إيطاليا (ونقول ربما عامدين لأنا في هذه المسائل إنما نعتمد على ما ينطبع في عقولنا لا على ما نجزم به واثقين). وكذلك الحال في أيام الرومان الأقدمين؛ ففي قرن كامل في تاريخ الرومان- من عهد قيصر إلى عهد نيرون- نجد الفساد في الحكم، والانحلال في عقدة الزواج أكثر منهما عهد النهضة؛ ولكن كثيراً من الفضائل الرواقية قد بقي في أخلاق الرومان حتى في ذلك العصر الفاسد نفسه، فقد كان قيصر، رغم ما يتصف به من قدرة على الجمع بين الضدين في الرشوة والحب، أعظم القواد في أمة كل رجالها قواد عظام.

وكانت النزعة الانفرادية في عصر النهضة ناحية أخرى من نواحي حيويتها ونشاطها، ولكنها لا تضارع في الناحيتين الخلقية والسياسية ما كانت عليه النزعة الاستقلالية في مدن العصور الوسطى، وأكبر الظن أن الخداع والغدر والجريمة لم تكن في فرنسا، وألمانيا وإنجلترا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر أقل مما كانت في إيطاليا؛ ولكن هذه الأقطار قد أوتيت من الحكمة والحصافة ما حال بينها وبين إخراج رجل مثل مكيفلي لينشر مبادئ فنها السياسي ويعرضه على الأنظار. لقد كانت العادات والآداب العامة لا المبادئ الأخلاقية أكثر فظاظة وغلظة في شمال جبال الألب منها في جنوبها، إذا استثنينا من هذا الحكم طبقة صغيرة في فرنسا- يمثلها الفارس الشهم بايار Bayard وجاستن ده فوا Gaston de Foix- كانت لا تزال تحتفظ بالناحية الطيبة من نظام الفروسية. لكن الفرنسيين إذا ما أتيحت لهم الفرص التي أتيحت للإيطاليين لم يكونوا أقل منهم انهماكاً في الزنا؛ وما على القارئ إلا أن يتذكر كيف انتشر داء الزهري بينهم انتشاراً سريعاً، أو أن يلاحظ الاختلاط الجنسي التي تصفه لنا الأساطير الشعرية، أو يحصي العاشقات الأربع والعشرين اللاتي كان يستمتع بهن فيليب دوق برغندية، ويتذكر أنييه رسول Agnel Sorels وديان ده بواتييه Dianes de Poitiers من حاشية ملوك فرنسا؛ أو فليقرأ ما كتبه في ذلك برانتوم Brantome.

وإذا كانت ألمانيا وإنجلترا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر لم تضارعا إيطاليا في الفساد الخلقي فقد كان منشأ ذلك فقر هذين البلدين. ولهذا فإن من جاءوا منهما إلى إيطاليا قد ذهلوا مما شاهدوا في الحياة الإيطالية من انحلال في الأخلاق. ولما زار لوثر إيطاليا في عام 1511 قال من فوره إنه "إذا كان هناك جحيم، فإن روما قد بنيت من فوقه؛ وهذا ما سمعته في روما نفسها"(111). وليس منا من لم يعرف الحكم الصارم الذي نطق به في ذهوله روجر آسكم Roger Ascham العالم الإنجليزي الذي زار إيطاليا حوالي عام 1550: "لقد كنت يوماً ما في إيطاليا نفسها، ولكني أحمد الله إذ لم أقم فيها إلا تسعة أيام؛ ومع هذا فإني شاهدت في هذا الزمن القصير، في مدينة واحدة، من الانغماس في الذنوب والتحرر من قيود الأخلاق أكثر مما سمعته يقال في تسعة أيام عن بلدتنا النبيلة لندن. لقد رأيت هناك أن في مقدور المرء أن يرتكب الخطايا دون أن يتعرض للعقاب ودون أن يهتم بخطاياه أي إنسان، وقد أوتي من الحرية في ارتكابها بقدر ما أوتي ساكن لندن من حرية في أن يختار دون لوم أن يلبس حذاء أو خفاً(112).

وهو يورد من الأمثال السائرة قولهم "إن الإنجليزي المتطلين هو الشيطان المجسد".

وإنا لنعرف عن فساد إيطاليا أكثر مما نعرفه عن فساد ما وراء الألب لأنا نعرف عن الأولى أكثر مما نعرف عن الثانية، ولأن غير رجال الدين من الإيطاليين لم يحاولوا قط أن يخفوا فسادهم، بل إنهم في بعض الأحيان ألفوا الكتب للدفاع عن هذا الفساد. على أننا نعود فنقول إن مكيفلي الذي ألف كتاباً من هذا النوع كان يرى أن إيطاليا "أكثر فساد من كل ماعداها من الأقطار، ثم يليها في ذلك الفرنسيون ثم الأسبان"(113). وكان يعجب بالألمان والسويسريين ويقول إنهم لايزالون يتصفون بكثير من فضائل الرجولة التي كانت لأهل روما القديمة. وفي وسعنا أن نقول بشيء من الحذر والتردد أن إيطاليا كانت أكثر من غيرها فساداً لأنها كانت أكثر ثراء، وأضعف حكما، وأقل خضوعا لسلطان القانون، وإنها كانت أكثر رقيا في ذلك التطور الذهني الذي يؤدي في العادة إلى التحلل من القيود الأخلاقية.

ولقد بذل الإيطاليون جهوداً مشكورة في مقاومة ذلك الانحلال. وكانت أقل هذه الجهود ثمرة هي قواعد النفقات التي وضعت في الدول الإيطالية كلها تقريباً والتي كانت تحرم الإسراف في الإنفاق على الملابس المتبهرجة، غير ما كان يتصف به الرجال والنساء من زهو وخيلاء كان أقوى من قوة القانون. وكان البابوات ينددون بالفساد الخلقي، ولكن التيار القوي كان يجرفهم معه في بعض الأحيان، وكانت المحاولات التي يبذلونها لإصلاح مفاسد الكنيسة يحول دون نجاحها عدم رغبة الكهنة في الإقلاع عن عاداتهم السيئة أو محافظتهم على مصالحهم المكتسبة. على أنهم هم أنفسهم لم يبلغوا من الفساد المبلغ الذي يصورهم به المؤرخون المغالون، غير أنهم كانوا أكثر اهتماماً بإعادة سلطان البابوية السياسي منهم بإعادة صلاح الكنيسة الأخلاقي. وفي ذلك يقول جوتشيارديني: "إن الحبر الأعظم ليوصف بالصلاح ويمتدح إذا لم يكن أكثر شراً من غيره من الناس"(114). ولقد بذل وعاظ ذلك العصر العظام جهوداً جبارة لإصلاح ذلك الفساد؛ ونذكر منهم على سبيل المثال القديس برناردينو السينائي، وروبيرتودا لتشي Roberto da Lecce، وسان جيوفني دا كابستراتوا، وسفنرولا. ولقد كانت عظاتهم، وكان مستمعوهم، جزءاً من لون ذلك العصر وطبيعته. فقد كانوا ينددون بالرذيلة بأقوال مفصلة واضحة، أذاعت بين الناس شهرتهم وجذبت إليهم القلوب؛ وقد أقنعوا رجال الإقطاع بالتخلي عن عادة الأخذ بالثأر، وبالعيش في وئام وسلام، وحملوا الحكومات على أن تطلق سراح المدنيين المفلسين، وتسمح للمنفيين بأن يعودوا إلى أوطانهم آمنين؛ وعادوا بالآثمين الذين قست قلوبهم من الذنوب إلى ما أهملوه من الصلاة ومن مراعاة لقواعد الدين.

غير أن هؤلاء الوعاظ الأقوياء أنفسهم قد أخفقوا فيما كانوا يبتغون؛ فقد عادت إلى الظهور تلك الغرائز التي تكونت خلال مائة ألف عام قضاها الإنسان صياداً متوحشاً، حين خرجت من قشرة الأخلاق التي تشققت بعد أن فقدت تأييد العقيدة الدينية واحترام السلطة العليا والقانون الثابت المقرر. ولم يعد في مقدور الكنيسة التي كانت من قبل تحكم الملوك أن تحكم أو تطهر نفسها. وكان انهيار الحرية السياسية في دولة إثر دولة قد ثلم حدة الشعور الوطني الذي بث روح الحرية والنبل في حكومات مدن العصور الوسطى المستقلة؛ فلم نعد نرى إلا أفراداً بعد أن كنا نرى مواطنين. ووجد أولئك الأفراد أنفسهم محرومين من الاشتراك في حكم بلادهم، وبأيديهم ثروة ضخمة، فاتجهوا إلى طلب اللذات، حتى إذا داهمهم الغزو الأجنبي وجدهم، في أحضان العاهرات. وقد ظلت دول المدن قرنين من الزمان توجه قواتها، وحذقها، ودهائها، وغدرها، بعضها نحو بعض، حتى أصبح مستحيلا عليها، أن تضم شملها للوقوف أمام عدو لها مشترك. ولما أخفق الوعاظ أمثال سفنرولا في كل ما لجئوا إليه من وسائل لإصلاح الحال، أخذوا يدعون الله ليصب جام غضبه على إيطاليا، وتنبئوا بان روما سيحيق بها الخراب، وأن الكنيسة ستحطم وتتبدد(115). وملت فرنسا، وأسبانيا، وألمانيا إرسال الخراج لسد نفقات الحروب التي تشنها الولايات البابوية، ولتمكين الإيطاليين من أن يحيوا حياتهم المترفة، وأخذوا ينظرون بعين الدهشة والحسد إلى شبه الجزيرة التي فقدت إرادتها وجردت من سلطانها، والتي تستهوي القلوب بجمالها وثرائها. وتجمعت الطيور الجارحة وأخذت تحلق في سماء إيطاليا توشك أن تنقض عليها لتشبع منها نهمها.

المصادر

ديورانت, ول; ديورانت, أرييل. قصة الحضارة. ترجمة بقيادة زكي نجيب محمود.

الكلمات الدالة: