اقتصاد الظل في روسيا

هاني شادي
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال
ورقة بنكنوت من فئة 5,000 روبل.

نشر «مركز المتابعة الاجتماعية والسياسية» بأكاديمية الاقتصاد الوطني والخدمة العامة التابع للرئاسة الروسية مؤخراً دراسة لافتة، تعكس بعض تجليات الأزمة الاقتصادية المجتمعية في روسيا. وتشير الدراسة إلى أن 30% من المواطنين على قناعة بأن زيادة دخولهم ورفع مستوى معيشتهم غير ممكن من دون مخالفة القوانين والتشريعات، بينما 16 في المئة فقط من المواطنين الروس في الوقت الراهن لديهم نظرة سلبية تجاه تلك التعاملات غير القانونية. علماً بأن النسبة الأخيرة كانت نحو 48% في العام 2001. في الوقت ذاته، ارتفعت نسبة المناصرين لما يُسمّى بـ «اقتصاد الظل» أو الاقتصاد غير الرسمي خلال السنوات الأخيرة بـ64% بين المواطنين في روسيا. وتُحذر الدراسة من هذا التوجه وسط السكان، مشيرة إلى أن «الآمال التي عُلقت على سيادة التعاملات الاقتصادية القانونية والشرعية التي كانت مميزة للسنوات الأولى من حكم الرئيس ڤلاديمير پوتن، حل محلها اليوم الشعور بخيبة الأمل والإحباط». فأعداد متزايدة حالياً من المواطنين في روسيا يباركون التهرّب من الضرائب والاستخدام غير الشرعي للأموال والحصول على أجور ومرتبات ودخول عبر الأبواب الخلفية وينخرطون أكثر في العمليات التجارية غير القانونية.

إن «اقتصاد الظل»، بحسب الدراسة، يلعب على مدار العشرين عاماً الأخيرة دوراً غير قليل في الاقتصاد الروسي بسبب المستوى المعيشي غير المرتفع لقسم مُعتبر من السكان، وبسبب المستوى المنخفض للحماية الاجتماعية. ولا تُخفي دراسات روسية أخرى أن نحو ربع المواطنين في روسيا يحصلون على مجمل دخولهم أو جزء منها بشكل غير رسمي لتجنب تسديد الضرائب. وتُقدر هيئة الإحصاء الفدرالية الروسية أن حوالي 20 في المئة من الاقتصاد الروسي يعمل في الظل. بيد أن خبراء روس كُثر يشيرون إلى أن «اقتصاد الظل» يمثل حالياً نحو ثُلث الناتج المحلي الإجمالي لروسيا. ويُعلل بعض المواطنين في روسيا التجليات المختلفة لاقتصاد الظل بأن أنشطته تأتي بفوائد ومكاسب كبيرة، وذلك على خلفية الانخفاض المتواصل للدخول الحقيقية للسكان. وهذا التبرير ينتشر على نطاق واسع لدى فئات السكان ذات المستوى المنخفض للمعيشة، أو لدى أولئك الذين يؤكدون أن دخولهم لا تكفي للإنفاق على المأكل والملبس. ويُذكر أن نسبة هؤلاء، بحسب الدراسة المذكورة، نحو 40%. فالفجوة بين الأغنياء والفقراء في روسيا، بحسب المعطيات الرسمية، بلغت نحو 16.8 مرة. وهذه الفجوة الرسمية في الدخول تزيد بـ1.6 مرة عن الحد المسموح به، الذي حدّدته منظمة الأمم المتحدة. ولكن التقديرات غير الرسمية توضح أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء في روسيا قد تتراوح بين 40 و50 مرة، إذا أخذنا في الاعتبار الدخول والأرباح المُستترة لقطاع الأعمال الروسي وخاصة طبقة كبار رجال الأعمال المعروفة بـ «الأوليگارخ» المتحالفين مع الدولة.

زيادة التوجّه نحو التعاملات الاقتصادية غير الرسمية، يُفسره كثيرون بالأزمة التي تمر بها روسيا حالياً. ففي مطلع الألفية الجديدة كان لدى المواطنين الروس شعور بالخروج من أزمة تسعينيات القرن الماضي، التي ساد فيها «اقتصاد الظل» كوسيلة عملية للبقاء على قيد الحياة. وبهذا الصدد، يقول ألكسي ماكاركين، النائب الأول لمدير «مركز التكنولوجيات السياسية» بموسكو: «آنذاك ظهر لدى روسيا رئيس جديد وبدأ النمو الاقتصادي، ولكن بعد ذلك جاءت أزمة 2008 ـ 2009، لتحمل معها الإحباط وخيبة الأمل». ويُضيف «أن الأزمة اليوم تتواصل أيضاً، حيث الكساد والركود التضخّمي يجعل دخول المواطنين تتراجع والأسعار ترتفع، ومن ثم بات لجوء أعداد متزايدة من المواطنين إلى اقتصاد الظل منطقياً».

في شهر تموز 2016، أظهر استطلاع لـ «مركز عموم روسيا لدراسة الرأي العام» أن 42 في المئة من الأُسر في روسيا تُؤكّد أن وضعها المالي تدهور بقوة خلال العام الأخير، بينما اشتكى نحو 40 في المئة من صعوبات في سوق العمل. فالحكومة الروسية قلّصت النفقات العامة على البرامج الاجتماعية بسبب تراجع الأسعار العالمية للنفط، وما تبعه من تراجع في أسعار الغاز الطبيعي. فمن المعروف أن عوائد النفط والغاز كانت تُغذّي ميزانية الدولة الروسية بأكثر من 50 في المئة من إيراداتها. ومن ثم انخفضت القدرة الشرائية للروس بحوالي 9 في المئة. ووفق تقديرات وزير المالية الروسي السابق، اليكسي كودرين، فإن الدخول الحقيقية للمواطنين في روسيا بنهاية 2016 ستنخفض بحوالي 7 في المئة، والأجور الحقيقية بـ10 في المئة. ويتضرّر، بالطبع، من هذا الاتجاه أصحاب الدخول والأجور الثابتة وأصحاب معاشات التقاعد. وبحسب الإحصاءات الروسية الرسمية، ارتفع عدد الفقراء في روسيا بنسبة 3 في المئة، ووصل عدد المواطنين الروس الذين يعيشون تحت خط الفقر حوالي 23 مليون نسمة، أي نحو 16 في المئة من عدد السكان الإجمالي للبلاد. هذه النسبة، بالطبع، أقلّ مما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، حيث كانت نحو 29 في المئة من إجمالي عدد السكان في ظل سعر 16 دولاراً لبرميل النفط.

يُحذّر كثير من الاقتصاديين الروس في الفترة الأخيرة من تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في روسيا خلال الأعوام القليلة المقبلة، حيث لم تعُد الحكومة قادرة على الإنفاق بسخاء على البرامج الاجتماعية بسبب تراجع إيراداتها من تصدير النفط والغاز واستمرار العقوبات الغربية. ولكن هذا لم يمنع هذه الحكومة من زيادة الإنفاق العسكري وتخفيض نسبي للإنفاق على الصحة والتعليم. ولا تُشاطر حكومة ميدفيديف التنبؤات المتشائمة للاقتصاد الروسي. فهي تؤكد أن الاقتصاد تجاوز مرحلة الكساد والتراجع، وبات قابلاً للنمو، ولو الطفيف، في الفترة المقبلة. بيد أن هذا لا يزال غير مُقنع لكثير من المواطنين الروس في ظل تقليص البرامج الاجتماعية، وفي ظل تزايد المنخرطين في «اقتصاد الظل» من الشرائح المتوسطة والفقيرة.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

انظر أيضاً


المصادر

  • هاني شادي (2016-11-04). "«اقتصاد الظل» الروسي". صحيفة السفير اللبنانية.