اغتيال محمود فهمي النقراشي

أغتيل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي في 28 ديسمبر 1948 في القاهرة، حيث قام القاتل المنتمي إلي التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين التي أصدر رئيس الوزراء قرارا بحلها في نوفمبر 1948، وكان القاتل متخفياً في زي أحد ضباط الشرطة وقام بتحية النقراشي حينما هم بركوب المصعد ثم أفرغ فيه ثلاث رصاصات في ظهره. [1].

تبين أن وراء الجريمة التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين حيث إعتقل القاتل الرئيسي وهو "عبد المجيد أحمد حسن" والذي اعترف بقتله لأن النقراشي أصدر قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين، كما تبين من التحقيقات وجود شركاء له في الجريمة [2]. وقد أصدر حسن البنا عقب هذا الحدث بيانا استنكر فيها الحادث و"تبرأ" من فاعليه تحت عنوان "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين" [3].

وقد تعاطف البعض مع القاتل عبد المجيد حسن الذي ظهر وجهه في الصور مضروباً ملطوشاً متورماً، خاصة أنه لم يكن قد مضي سوي عامين علي مظاهرات كوبري عباس في 9 فبراير 1946 التي كان النقراشي هو المسؤول الأول عن إصدار الأمر بفتح كوبري عباس لتغرق المظاهرة التي قادها طلبة جامعة فؤاد ضد الاحتلال الإنجليزي رافعين شعار «الجلاء بالدماء» حيث كان النقراشي رئيساً للوزراء ووزير الداخلية في آن واحد [4].

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

من الشهيد ومن القتيل؟

فى 8 ديسمبر 1948 أصدر محمود فهمى النقراشى رئيس الوزراء قرارا بحل جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن ثبت لديه ولدى حكومته وجهاز الأمن أن الجماعة وراء التفجيرات وأعمال العنف التى تمت في الفترة التى سبقت اتخاذ قرار الحل، وأبرزها اغتيال المستشار أحمد الخازندار واغتيال اللواء سليم زكي، فضلا عن تفجير شركة الإعلانات الشرقية وغيرها وغيرها.

وأقيمت للنقراشى جنازة حاشدة بدا فيها تأثر شباب الحزب السعدى لمصرعه، واعتبروه شهيدا. كان النقراشى أحد أبطال ثورة 1919م وحكم عليه الإنجليز بالإعدام، لكن لم يتم تنفيذ الحكم، وكان مثالا للجهاد وللنزاهة، ثم انشق عن الوفد هو وأحمد ماهر، معتبرَين أن النحاس باشا يخرج في زعامته للحزب عن خط الزعيم سعد زغلول، وأسسا معا الحزب السعدى. وكان ماهر قد اغتيل سنة 1945م، وهكذا جاءت جريمة اغتيال النقراشى لتجدد الأحزان، لذا هتف الشباب السعدى مطالبين بالانتقام والثأر.. دم بدم.. ورأس برأس. وإذا كان الإخوان قد أطاحوا برأس الحزب السعدى، فيجب أن يطاح برأس الإخوان حسن البنا. ولكى نعرف حجم فجيعة السعديين فقد أصدر أحد شباب الحزب وهو نظمي لوقا كتابا بعنوان «ريحانة الشهداء» قدم له عباس محمود العقاد، وذهب نظمى لوقا إلى حد مقارنة استشهاد النقراشى باشا في مبنى وزارة الداخلية، بين ضباط الأمن ورجاله، بما حدث للحسين بن على وسط أتباعه يوم كربلاء. الكتاب أصدره الحزب وهو يفيض حبا ولوعة لما جرى لزعيمهم ومؤسس الحزب: النقراشي باشا. والمعنى أن الهتافات التى جرت يوم الجنازة، لم تكن تعبر عن انفعال طارئ أو حزن عابر، بل عن رغبة حقيقية في الثأر والانتقام، وقد ازداد الشعور بعد ذلك حين جرت محاولة لاغتيال حامد جودة «باشا» وهو لم يكن سعديا فقط، بل كان من أقارب النقراشي، أى أن الأسرة بكاملها مستهدفة، في ما بعد تبين أن محاولة اغتيال جودة قام بها التنظيم الخاص، وأنهم أخطؤوا السيارة، فقد كان المقصود إبراهيم عبد الهادى رئيس الوزراء الذى خلف النقراشى وكان أيضا سعديا، أى أن الحزب بكامله مستهدَف من التنظيم الخاص الذى أسسه حسن البنا.

الوحيد، داخل الإخوان، الذى أدرك خطورة الأمر وأن شلال الدم بدأ، هو حسن البنا نفسه، وأدرك أنه هو نفسه المستهدَف، فقد ازداد أعداؤه وبدا لكثيرين خصوصا داخل جهاز الدولة، المسؤول الأول عن هذه الجرائم. حاول البنا التوسط إلى كل من أمكن له الوصول إليه، راجيا حينا ومستعطفا حينا، وباكيا مرة ثالثة، لكن لم يجد أى استجابة، فقد فات ميعاد التوسلات ولم يعد هناك مكان للدموع. لقد فتح أبواب جهنم وتصور أن مفاتيحها بيديه، وخانه ذكاؤه، فالمرء يمكنه أن يشعل النار، لكن ليس بالسهولة نفسها يمكن أن يطفئها ولا أن يحدد ما الذى سيصيبه وأين تقف؟! تمنى البنا أن يتم اعتقاله، وطلب ذلك من بعض من سعى لديهم، ولعله تصور أن الاعتقال يمكن أن يهدئ الأمور وأنه قد ينجيه من دعوات الثأر والانتقام التى باتت موجهة إليه. وفى الأيام الأخيرة اشتد به الخوف بعد أن تم سحب مسدسه المرخص، ولنا أن نتساءل كيف لشيخ أن يحمل مسدسا مرخصا في مدينة مثل القاهرة؟ ولذا أقدم على خطوته الأخيرة بأن أصدر بيانا يدين فيه قتَلَة النقراشى، حمل عنوان «ليسوا إخونا وليسوا مسلمين»، فأضاف إلى كارهيه فريقا جديدا هم أولئك الذين اتهمهم في عقيدتهم الدينية وقال عنهم «ليسوا مسلمين»، وهم من داخل جماعته ومن التنظيم الخاص الذى أسسه وأشرف عليه هو نفسه.

بعد اغتيال النقراشى بشهر ونصف الشهر جرى اغتيال حسن البنا وهو يهم بركوب التاكسى في شارع الملكة نازلى -رمسيس حاليا- أمام مقر جمعية الشبان المسلمين وعلى مقربة من مقر نقابة المحامين والصحفيين. الرصاص الذى أطلق على البنا لم يقتله، لذا تم نقله إلى مستشفى قصر العينى لمحاولة إنقاذه، لكن لم تتم المحاولة، فقد مات في نفسه الليلة، وقد تولت النيابة العامة التحقيق في الحادثة فور وقوعها، وبعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م بيومين فقط، أى يوم 25 يوليو، وقبل أن يتنازل الملك فاروق عن العرش بيوم تم استدعاء المتهمين وأعيد التحقيق وصدر الحكم على الجناة في 2 أغسطس 1954م، من قاموا بالاعتداء على البنا نعرفهم، لكن إلى اليوم وبعد مرور 63 عاما على الحادثة فإننا لا نعرف على وجه التحديد من كان وراء العملية.. من أمر بها.. من كلف المنفذين؟!

وفى الجرائم السياسية قد لا يكون الفاعل المباشر هو العنصر الأهم في الجريمة، ربما يكون الأقل أهمية، الفاعل المباشر هو المهم من الناحية الجنائية فقط، وهو غالبا ينال العقوبة المقررة بنصوص القوانين، لكن الأهم بعد ذلك هو من فكر وخطط.. وقبلها من قرر تصفية المراد تصفيته وأمر بالتنفيذ. وهناك جرائم سياسية كثيرة في التاريخ وفى معظم البلدان، لم يعرف -بعد- على وجه التحديد من كان وراءها. أمامنا حالة اغتيال الرئيس الأمريكى جون كنيدى الذى اغتيل سنة 1964م، والقاتل «أدزوالد» معروف منذ لحظة وقوع الجريمة وتم الإمساك به واعترف وعوقب، لكن من حرضه؟ من وقف وراءه ودفعه إلى اغتيال رئيس أكبر دولة؟ ولماذا؟ هذه كلها تساؤلات بلا إجابة حتى هذه اللحظة، رغم صدور أكثر من عشرة آلاف كتاب تحاول البحث في هذا الموضوع. هناك أيضا عملية مصرع الأميرة ديانا والشاب دودى الفايد داخل سيارتهما، ظاهر الأمر أنها حادثة سيارة عادية وقعت لهما داخل النفق، ومع ذلك يشير معظم الدلائل إلى أن الحادثة مدبرة، ولم يعرف إلى اليوم من وراء تلك العملية، ويبدو أنه لن يعرف خلال السنوات القادمة.

حالة حسن البنا واحدة من هذه الحالات، وأغلب الظن أننا لن نعرف -على وجه اليقين- من كان وراء العملية، خصوصا أن كل الأطراف وقتها في ذمة الله الآن، ما لم تظهر وثيقة تشير إلى ذلك بوضوح. وقد لا تكون هناك وثيقة أو وثائق، لأن الجرائم من هذا النوع، أو ما يعرف بالجريمة الخفية، يكون التكليف بها والتخطيط لها شفويا وليس بناء على عقد موقع أو تكليف كتابى، وقد يكون التكليف الشفوى ليس مباشرا، بل بالرمز والتلميح دون القول الصريح، وربما يكون التوجيه بشفرة معينة، يفهمها المكلَّف بالعملية.

عدم الوصول إلى مَن وراء اغتيال البنا يعود إلى أكثر من سبب، في مقدمتها شخصيته هو، وطبيعة مسلكه وممارساته السياسية، وتعدد أوجهه، فقد كان له أكثر من وجه:

الأول: وجه الشيخ أو رجل الدين. صحيح أن حسن البنا لم يكن فقيها ولا عالما قدم اجتهادا في حياتنا العامة أو الخاصة، لكنه حمل راية الإسلام.. «القرآن دستورنا..» كان داعية وخطيبا قادرا على اجتذاب الجمهور، خصوصا من ذوى الثقافة الدينية المحدودة.

الثانى: السياسى، وقد كان الرجل سياسيا بالمعنى الكامل للكلمة، وإن شئنا الدقة كان سياسيا بالمعنى الردىء للكلمة، كان براجماتيا إلى حد الانتهازية، وكان متقلبا في تعاملاته وارتباطاته، نسق مع الوفد واستفاد من حكومة الوفد سنة 1942م، ثم انقلب عليهم. أيد إسماعيل صدقى وهتف له طلاب الإخوان في الجامعة وساند حسن البنا اتفاق صدقى- بيفن، الذى رفضه أغلب المصريين. أيد النقراشى باشا ثم انقلب عليه وقتله رجاله.

الثالث: كان للرجل ظاهر وباطن، وكل منهما يناقض الآخر، لم يمدح أحد الملك فاروق قدر امتداح حسن البنا له، ولم يعلن أحد تأييده للعرش كما فعل هو حين توفى الملك فؤاد سنة 1963 نَعَتتْه مجلة الإخوان بعبارات جاء فيها «مصر تفتقد اليوم بدرها في الليلة الظلماء، ولا تجد النور الذى اعتادت أن تجد الهدى على سناه». وتساءلت المجلة التى كان يشرف البنا بنفسه عليها «من للفلاح والعامل، من للفقير يروى غلته ويشفى علته، ومن للدين الحنيف يرد عنه البدع، ومن للإسلام يعز شوكته ويعلى كلمته، ومن للشرق العربى يؤسس وحدته، ويرفع رايته؟». وهذا الذى قالته المجلة لا يخلو من نفاق للديوان الملكى، فما قالته المجلة كان بعيدا عن صورة الملك لدى الشعب، لكن النعى أقرب إلى كلام إنشائى وبلاغى، وإذا أخذناه بمعيار إنجازات الملك فؤاد وسياسته لوضعناه بضمير مستريح في خانة الكذب السياسى، ولكن ترتب على هذا النعى أن دُعى حسن البنا وإخوانه للمشاركة في استقبال الملك فاروق فور عودته من لندن، عقب وفاة والده. وتقدم البنا الهاتفين «نهبك بيعتنا وأولادنا»، وفى ما بعد منحت صحف الإخوان الملك فاروق كثيرا من الألقاب والصفات مثل «حامى المصحف.. أمير المؤمنين.. فخر الشباب.. القدوة الحسنة.. الأسوة الحسنة..»، وغيرها. ويحاول المرشد الثالث عمر التلمسانى أن يبرر تلك المواقف بالقول إنهم كانوا في بداية حكم الملك يأملون فيه خيرا أن يصلح حال البلاد، لكن التلمسانى تناسى أن موقف الإخوان من الملك لم يتغير وموقف حسن البنا تحديدا، على الأقل في الظاهر وفى العلن، ظلوا ينهالون عليه بالثناء والمديح، حتى وجدنا مجلة الإخوان المسلمين في نهاية حرب فلسطين الأولى تنشر صورة الملك غلافا لها، وتحتها عبارة أنها تنشر بمناسبة عودة «جيشه المظفر من فلسطين»، وكان ذلك كذبا محضا.

سار حسن البنا خلف الملك، حين أيد الإنجليز أيدهم، ولما تراسل مع الألمان وهتلر هتف لهم، وعندما صادق الأمريكان سعى إليهم، كل هذا لا يؤاخَذ به حسن البنا، فمن حقه أن يساند الملك وأن يقف خلفه، لكنه منذ سنة 1940م يسعى إلى اختراق الجيش، وكان الملك يعد ذلك خيانة له. كان ضباط الجيش يقسمون على الولاء للوطن وللعرش، وكان حسن البنا يأخذهم يقسمون قسما آخر، على المصحف والمسدس. كان البنا يخترق جيش مولانا الملك بخلايا سرية، فقد تحدث عبد اللطيف البغدادى أن حسن البنا أراد له وعدد من زملائه سنة 1940م أن يندمجوا في جماعته ويصبحوا خلية لها داخل الجيش، ورفض البغدادى، لكن غيره لم يرفض فقد انضم بعضهم إلى الإخوان. باختصار في الظاهر أيد حسن البنا الملك تماما، كان ملكيا أكثر من الملك، حتى إنه حين وقعت حادثة القصاصين للملك، قاد وفدا من الإخوان إلى القصاصين لتسجيل تهنئة بسلامة جلالته في سجل التشريفات، وعاد لتنتقد مجلته بعض الزعماء الذين لم يتحركوا إلى القصاصين، وهذا تحريض سافر للملك وللديوان الملكى على هؤلاء الزعماء، وفى الباطن يسعى إلى اختراق الجيش.. ما بين الظاهر والباطن مسافة ضخمة وبون شاسع، والواضح أن الملك اكتشف ذلك وانتبه إليه مبكرا.

ويبدو أن حسن البنا كان يتصور أنه أذكى من الجميع، وأنه سوف يخدع الجميع، لكن في لحظة اكتشف الجميع خطره، ركب سيارة اللواء سليم زكى لتهدئة المتظاهرين، وبعدها ألقى طلاب الإخوان على سليم زكى قنبلة فقتلوه، ترك رجاله يقتلون الخازندار ثم أصدر بيانا يأسَى فيه لمقتل الخازندار، وفى البيان كلمات مبطنة تعطى مبررا للقتل. وحين حدثت المواجهة بينه وبين قائد التنظيم الخاص عبد الرحمن السندى أصر الأخير أنه أخذ أمرا مباشرا من المرشد بتنفيذ العملية، وتوصل المرشد إلى أن المستشار قتل خطأ، ولذا وجب على الجماعة دفع الدية، لكنه تراجع عن الدفع لأن الحكومة دفعت تعويضا لأسرة القتل، هكذا ببساطة، تصور أن الأمر انتهى، لكن محمود فهمى النقراشى أصر على اتخاذ موقف حاسم من جماعة البنا، ولأن كل منهما كان المحطة الأخيرة بالنسبة إلى الآخر، يحسن أن نتوقف عند العلاقة بينهما وما فيها.

فى صيف سنة 1947م تقرر أن يسافر رئيس الحكومة محمود فهمى النقراشى إلى واشنطن ليعرض على الأمم المتحدة القضية المصرية، مطالبا بجلاء القوات البريطانية جلاءً تاما عن مصر والسودان وإنهاء النظام الإدارى للسودان، وكان معنى ذلك أن الحكومة المصرية قررت تدويل القضية الوطنية، بعد أن يئست من إمكانية التوصل إلى حل أو تفاهم مع الإنجليز، وكان المصريون توقعوا خيرا أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فإن باب التفاوض سيفتح مع الإنجليز للتوصل إلى صيغة يتحقق بها استقلال مصر، لكن الإنجليز لم تبد منهم استجابة حقيقية، ولم يكن هناك بديل عن قيام ثورة جديدة على غرار ثورة 1919م، ولم تكن الأمور مهيأة لذلك، فالثورات لا تقوم بقرار رسمى، لذا تقرر أن تلجأ الحكومة إلى هيئة الأمم لتطالب بحقها في الاستقلال، وكانت الشعوب تتوقع من الهيئة الدولية، فور تأسيسها أن تتدخل لمساعدتها في نيل الاستقلال.

كان الملك فاروق والديوان الملكى مساندين بقوة للنقراشى في مهمته، واندفعت التيارات المناصرة للقصر إلى مساندة النقراشى، كان الملك يريد أن يكون هناك شىء أو إنجاز إيجابى تحققه الحكومة ويتقدم به إلى الشعب، كانت صورة الملك قد أخذت في الاهتزاز وكانت التيارات المناوئة للقصر أخذت تشتد، وكان الملك قلقا من ازدياد التيارات والجماعات اليسارية. صحيح أنهم لم يكونوا أغلبية، بل قلة، فإن الملك كان مصابا بفوبيا الماركسية، وكانت المشكلات الاجتماعية تتفاقم وتزداد حدة، لذا وقف الملك بكل ثقله خلف النقراشى في مهمته. في المقابل كانت هناك عقبة كبرى أمام النقراشى تتمثل في حزب الوفد وزعيمه مصطفى النحاس، كان الوفد يرى أن القضية الوطنية هى قضيته الأولى بامتياز وأن التفاوض مع الإنجليز شأن يخصه هو، وليس مسموحا لأحد غيره القيام به، سعد زغلول هو الذى تفاوض حتى الحصول على تصريح 28 فبراير سنة 1922م والذى أقر فيه الإنجليز باستقلال مصر، حتى لو اعتبر استقلالا منقوصا وهو كان كذلك بالفعل، ومصطفى النحاس هو الذى تفاوض مع الإنجليز وتوصل إلى معاهدة سنة 1936م، ومن ثم فالتفاوض مجاله هو، فضلا عن ذلك كان الوفد حزب الأغلبية، ومن ثم فإن من يسعى إلى المفاوضة يجب أن يحظى بمساندة الأغلبية، ليدرك الطرف الآخر أن الذى أمامه يمثل الرأى العام فعلا، وهذا ما دعم سعد زغلول والنحاس في تفاوضهما مع الإنجليز. ولم يكن النقراشى تنقصه الوطنية، بل كان مبرزا في هذا المجال، وتاريخه يشهد له، يكفيه أنه أحد أبطال ثورة 1919م، ولم يكن ممكنا للوفد أن يطعن أو يشكك في وطنية النقراشى، لكن الطعن جاء من أن الحزب السعدى هو من أحزاب الأقلية، ومن ثم فإنه لا يمثل الأغلبية ولا يعبر عن رأى الأمة، ولا يصح أن يفاوض باسمها. وكان النحاس عنيدا ومتصلبا في هذا الجانب، لذا راح يحارب النقراشى، وينظم المظاهرات ضده، ووصل الأمر إلى أن أرسل الوفد برقية بتوقيع النحاس إلى الأمم المتحدة يعلن فيها أن النقراشى ليس مخولا للتفاوض باسم المصريين وأنه لا يعبر عن الأمة المصرية.. ومن حقنا أن نتساءل حول هذا الموقف، ماذا لو وقف النحاس خلف النقراشى وسانده أو لم يناوئه ويضع العراقيل أمام مهمته، هل كان النقراشى سيحقق نتائج إيجابية وينتزع الاستقلال؟ وهل كان موقف الوفد سببا من أسباب فشل تلك المهمة؟ هل كان الوفد غير مرحب بالاستقلال إذا جاء عن غير طريقه وإذا لم ينسب إليه؟ وهل كان شعار «الاحتلال على يد سعد أفضل من الاستقلال على يد عدلى» يتكرر ثانية مع اختلاف الشخوص والأسماء؟!

كان لا بد من قوة جماهيرية تساند النقراشى وتتصدى لما يقوم به الوفد، ولم يكن هناك غير الإخوان ومرشدهم حسن البنا الذى خاض المعركة بنفسه، فقد أرسل إلى هيئة الأمم المتحدة برقية مضادة لبرقية النحاس جاء فيها «النقراشى باشا يمضى ومن معه إلى مجلس الأمن بتأييد شعب وادى النيل وعلى هدى من من الإيمان الوطنى»، وقاد البنا مظاهرة ضخمة تحركت من أمام الجامع الأزهر ضمت شباب الجماعة وهتفوا تأييدا للنقراشى وهجوما على الوفد وزعيمه. وتحدث بعض التقارير الأجنبية عن أن رجال البوليس يسّروا الأمور للمظاهرة وعملوا على حمايتها.

وانطلقت مجلة الإخوان المسلمين التى كان يترأس تحريرها صالح عشماوى، وكيل الجماعة -نائب المرشد- تشيد بالنقراشى وتهاجم الوفد والنحاس، كتب عشماوى تحت عنوان «بيان النقراشى باشا» قائلا «كان يوم الثلاثاء 5 أغسطس يوما مشهودا في تاريخ مصر، ففيه استمع العالم إلى صوت مصر على لسان رئيس وزرائها، يبسط قضيتها، ويطالب بحقوقها، ويفضح مساوئ الاستعمار البريطانى الغاشم في شمال الوادى وجنوبه». وأضاف في مقاله «كان خطاب النقراشى باشا الذى استغرق إلقاؤه ساعة وأربعين دقيقة خطابا بليغا وصفه جرو ميكو مندوب روسيا بأنه مهم جدا وممتاز، كما أجمع رجال الصحافة الأمريكية بل والبريطانية والأجنبية على أن النقراشى باشا قد عرض قضية بلاده ببراعة كبيرة». ثم انتقل في مقالات تالية ليهاجم المعارضين للنقراشى ثم يخص الوفد بالهجوم، ووصل في هجومه حد اتهام المعارضة بالخيانة، بما يذكرنا ببعض كتاب السلطة في زماننا، ففى مقال حمل عنوان «الطابور الخامس».. كتب «كان الواجب الوطنى يحتم والمعارضة النزيهة تقتضى تأييد الحكومة في موقفها، والوقوف من ورائها صفا واحدا ضد الغاصب، ولكن.. هل بين رجال المعارضة وطنى يفهم واجبه! أو معارض يعرف حق أمته؟ لقد كشفت المعارضة عن وجهها قناع النفعية والرياء، وظهرت خيانتها سافرة بغير طلاء».

وحين أرسل مصطفى النحاس برقيته إلى الأمم المتحدة ضد مهمة النقراشى، كتب صالح عشماوى مقالا بعنوان «خيانة حزب الوفد» بدأه هكذا «يمثل حزب الوفد في مصر دور الطابور الخامس، ما في ذلك شك، ولقد قام على هذا الاتهام أكثر من دليل»، ويقول «حزب الوفد الذى يرأسه زعيم هَرِم حقود هو السيد مصطفى النحاس باشا لم يشأ أن ينسجم مع الحكومة والأمة المصرية في هذا الظرف الحرج، بل أرسل برقية شخصية حقيرة إلى مجلس الأمن يزعم فيها أن النقراشى باشا ووفده لا يمثلون الأمة المصرية»، ثم يقول «إن الوطنيين العرب يعتقدون أن برقية النحاس الأخيرة إلى مجلس الأمن لا تقل إجراما ولا خيانة لمصر عن موقفه يوم 4 شباط (فبراير)»، هذه الكلمات كانت وردت في مقال بجريدة «الحوادث» التى تصدر في حلب ونقلها صالح بنصها، وأنهى مقاله بالقول «حِلُّوا هذا الحزب فقد قام على خيانته لمصر أكثر من دليل»، وتوالت المقالات على هذا النحو.

كان هجوم الإخوان على الوفد ساحقا ومتجاوزا كل ما تعارفت عليه الأدبيات السياسية في ذلك الوقت، الأمر الذى يدعونا إلى التساؤل هل كان كل هذا لصالح النقراشى أم تعبيرا عن كراهية عميقة ودفينة لدى الجماعة تجاه الوفد وزعيمه. لقد أخطأ النحاس باشا وكان عنيدا، لكن النقراشى نفسه لم يتهم الوفد ولا زعيمه بالخيانة، ففى مقال «الطابور الخامس» ترد فقرة تكشف الكراهية للأحزاب وللحزبية عموما، «مصر بلد لم يستكمل استقلاله بعد فلم يكن هناك معنى لتعدد أحزابه وتفرق جماعاته، ولكنها أنانية الزعماء وحب الرياسة التى جعلت الأمة شيعا وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون».

كان تأييد البنا شخصيا وقيادته لمظاهرة تهتف للنقراشى، وتأييد جماعته لافتا للانتباه وشغل المراقبين من المصريين ومن الأجانب، فنجد جيفرسون باترسون، القائم بالأعمال الأمريكى في القاهرة، يبعث بتقرير إلى الخارجية الأمريكية في واشنطن محاولا تفسير تلك الحالة، جاء فيه «ربما يكون السبب ناشئا عن الحرب السائدة بين الإخوان والوفد، والصحافة المحلية تزعم أن السبب الحقيقى يرجع إلى المبلغ الضخم الذى دفعه النقراشى باشا لحسن البنا من المصروفات السرية»، الصحافة المحلية، أى الصحافة المصرية، ورد في بعضها أن المبلغ نحو عشرة آلاف جنيه مصرى، ويضيف باترسون القائم بالأعمال الأمريكى في الرسالة -الوثيقة- التى ترجمها ونشرها محسن محمد في كتابه «من قتل حسن البنا؟» «يبدو واضحا أن هذا المبلغ دفع فعلا وقد أحدث تأثيرا لدى قادة الإخوان».

وفى طريق عودته من واشنطن نظمت الجماعة استقبالا شعبيا مهيبا للنقراشى باشا مع الهتاف له.. وأيا كانت التفسيرات لموقف الإخوان من النقراشى، هل بسبب الجُعْل الضخم الذى تلقاه البنا من المصاريف السرية أو كراهيته في الوفد ورغبته في الكيد له، أو تعاطفا مع القضية الوطنية، فقد كانت العلاقة طيبة بين الجانبين في يوليو وأغسطس 1947م، فما الذى جرى بعد ذلك كى يقدم النقراشى على حل الجماعة في 8 ديسمبر 1948م، فترد الجماعة باغتيال النقراشى بعد عشرين يوما ولم تكن تمضى مدة شهر ونصف الشهر حتى لقى البنا نفس المصير، ليتم اغتياله بطريقة أقل كفاءة من اغتيال النقراشى؟!

دوافع النقراشى إلى حل الجماعة معروفة، فقد كثرت أعمال العنف والإرهاب، مما أخل بالأمن وبات رئيس الحكومة مطالبا بالحفاظ على الأمن، خصوصا أنه هو نفسه وزير الداخلية، وقد تزايدت أعمال العنف في عهده، وكانت أصابع الاتهام تشير إلى الإخوان وتنظيمهم الخاص، ففى مايو 1947م تم تدمير سينما مترو وسينما ميامى وسقط من المواطنين قتلى وجرحى، وفي يناير 1948م استطاع البوليس أن يضبط في المقطم 165 قنبلة وعدة صناديق بها أسلحة، واشتبك البوليس مع عدد من شبان الإخوان كان على رأسهم سيد فايز أحد قادة التنظيم الخاص، وفى ما بعد سوف يكون فايز من المتهمين في قضية اغتيال النقراشى، وهو نفسه سوف يرتب عبد الرحمن السندى- في ما بعد- محاولة فاشلة لاغتياله، حين أراد المرشد الثانى حسن الهضيبى تعيينه على رأس التنظيم بدلا من السندى، وقد قال الشبان في التحقيق إن هذه الأسلحة جمعت من أجل فلسطين لذا أفرج عنهم فورا، وكأن شيئا لم يحدث، وهذا ما جعل عددا من الكتاب، من بينهم سلامة موسى يتهمون النقراشى بتدليل حسن البنا وجماعته، بعد ذلك تم تفجير حارة اليهود بالقاهرة ونسفت بعض منازلها، وقال محمود عساف إن الهدف كان تخويف اليهود فقط، لكن الواقع أن هناك منازل هدمت ومواطنين أبرياء قتلوا، وذكر صلاح شادى في «حصاد العمر» أن العملية كانت ردا على مذبحة «دير ياسين» وهو منطق معوج، فالرد على مذبحة دير ياسين لا يكون في حارة بالقاهرة، يقطنها مواطنون مصريون. وفى سبتمبر 1948م تم نسف جزء من حارة اليهود القرائين، وكان ذلك عملا في منتهى الغباء والعنصرية، ذلك أن اليهود القرائين في مصر كانوا ضد قيام الدولة الصهيونية في فلسطين وكان رأيهم أن هذه الدولة خطر حقيقى على الديانة اليهودية وعلى اليهود أنفسهم، وبعدها تم تدمير شركة الإعلانات الشرقية، وكان قد تم يوم 22 مارس اغتيال المستشار أحمد الخازندار، وفى 4 ديسمبر 1948م تم اغتيال حكمدار القاهرة اللواء سليم زكى، وكانت تلك الجريمة هى القشة التى قصمت ظهر البعير، فصمم النقراشى على حل الجماعة.

وجد النقراشى أن زمام الأمن يفلت من يديه، الإنجليز يحملونه المسؤولية والحكومة غير قادرة على حفظ الأمن فكيف لها أن تطالب بالاستقلال؟! الملك كان قلقا.. والنقراشى نفسه له خبراته في ذلك، لقد عايش أيام سعد زغلول ورأى ما جره على مصر اغتيال سيرلى ستاكى.. ثم وجد رفيق عمره أحمد ماهر يتم اغتياله ومن بعده قاض كبير ثم حكمدار القاهرة، وكان الأمن قد أمسك بالسيارة الجيب التى كشفت للأمن حجم التنظيم السرى وما لديه من خطط وأسلحة، لذا قرر اتخاذ خطوة جريئة بحل الجماعة، ولم يواجه قراره باعتراض من الداخلية، كما يردد البعض، ولكن طلب مرتضى المراغى، الذى سيصبح وزير الداخلية في ما بعد، من النقراشى تأجيل القرار، حتى يضع جهاز الأمن يده على كل الخلايا السرية للجماعة ويضبطوا كل الأسلحة التى لديهم، لكن الثائر داخل النقراشى رفض تماما وأصر على إصدار قرار الحل، ويبدو أن خبرته الخاصة بالإخوان وحسن البنا لعبت دورا، لقد وجد أنهم ساندوه بقوة، وقاد حسن البنا مظاهرة لمناصرته، لكنهم بعدها مباشرة قاموا بأعمال العنف، والمعنى عنده أن هؤلاء يمكن أن يقوموا ويفعلوا أى شىء، وأنه لا رادع لديهم، ولا معايير يقفون عندها، هم ساندوه حين دفعت حكومته لهم، وما إن انتهت المهمة انقلبوا عليه. باختصار هتاف مأجور أقرب إلى مرتزقة العمل السياسى، وخطورة هؤلاء البشر حين يتملكون السلاح، وهم امتلكوه، ودربوا جيشا ولديهم جهاز مخابرات خاص، وإذاعة سرية خاصة بهم لا تعرف الحكومة عنها شيئا، أصبحوا دولة داخل الدولة، لذا لم يكن غريبا أن يذهب حسن البنا إلى مرتضى المراغى محذرا من حل الجماعة ومهددا النقراشى نفسه. وتوقع النقراشى أن يتم اغتياله، وتحقق ما توقعه، ففى يوم 28 ديسمبر قتله طالب الطب البيطرى عبد الحميد حسن في مدخل مبنى وزارة الداخلية، وكان الرد باغتيال البنا نفسه.

من أطلق الرصاص على حسن البنا ليس مجهولا، عرف من يومها وتمت محاكمته، وسجن بعد ثورة 1952م، لكن لم يتفق أحد على من كان وراء العملية، فقد تعدد خصوم البنا، حتى بين أنصاره لم يتم الاتفاق في هذا الأمر، المرشد الثالث عمر التلمساني جزم بأن الملك فاروق شخصيا هو الذى أمر بتصفية البنا، وذهب البعض منهم إلى القطع بأن الملك ذهب إلى قصر العينى بنفسه وألقى نظرة على جثمان البنا ليتأكد ويرى بعينه أنه مات. ردد الشيخ عبد الحميد كشك ذلك على المنبر مرارا وتكرارا، الوقائع تؤكد أن الملك ليلتها كان مشغولا بأمر آخر، ولم يذهب إلى قصر العينى، لكنه أبلغ بالواقعة وهو في إحدى سهراته.

فريق آخر داخل الجماعة اتهم رئيس الوزراء ابراهيم عبد الهادي، الذى خلف النقراشى، وكان عبد الهادى سعدياً مثل النقراشى، وكان رفيقا للنقراشى من أيام ثورة 1919، وقد أراد الانتقام لصديق عمره وفعلها.. فئة ثالثة منهم تتهم بريطانيا وأمريكا وإسرائيل، أو الصهيونية العالمية والصليبية الحاقدة، وكان على رأس القائلين بذلك سيد قطب، استنادا إلى أن حسن البنا ومشروعه كان يهدد هذه القوى ويخيفها، آخرون مثل الشيخ محمد الغزالى علقوا المسألة في رقبة أحزاب ما قبل 1952م كلها.

وسوف نلاحظ أن هؤلاء جميعا لم يقدموا دليلا واحدا ولا واقعة بعينها تدلل على ما يقولون به. وهذا التوسع في إلقاء التهم من الملك إلى رئيس الوزراء أو الأحزاب كلها والقوى الأجنبية، يعنى باختصار أنه لا أحد على وجه التحديد، ولو أن هؤلاء جميعا أرادوا غتيال البنا، فهذا يعنى أن المشكلة كانت فيه هو. وأنصار البنا جميعا كانوا يعبرون عن مشاعر حزن وغضب فقط، ومن هؤلاء الشيخ أحمد حسن الباقورى الذى ذهب في ذكرياته إلى أن «الدولة من أكبر رأس فيها إلى أصغر موظف من موظفيها اغتالت المرشد العام». ويلتقى مع هذا القول منشور صدر بعد أيام من الاغتيال، يحمل توقيع الإخوان، جاء فيه «الجناة المجرمون هم شياطين يشبعون شهواتهم على حساب الشعب، هم أولئك الذين منحوا التراخيص للعاهرات، ونظموا وأشرفوا على بيوت الدعارة ببيع الخمور وترددوا على المواخير، وأباحوا الربا وقبلوا الرشوة، وسخروا من الفضيلة وأرسلوا نساءهم إلى الملاهى والمراقص العامة، اغتالوا البنا لأنه كان خطرا عليهم يهدد بتقويض سلطتهم»، وفات من حرروا هذا المنشور أن هؤلاء جميعا هم الذين تركوا البنا يعمل قرابة العشرين عاما وسمحوا لجماعته أن تكبر وتنمو، بل ساعدوه وساندوه.


الهامش

  • حلمي النمنم (2011). حسن البنا الذى لا يعرفه أحد. مكتبة مدبولي.