إشكالية تحول الحضارات في الزمان والمكان

إشكالية تحول الحضارات في الزمان والمكان

تنطلق هذه الإشكالية من حقيقة كون أهم الحضارات، ابتداء من حضارة وادي الرافدين إلى الحضارة الغربية الحديثة، التي نعتقد أن مصدرها الأول هو منطقة الشرق الأوسط، (باستثناء الحضارة الصينية القديمة التي تنتسب إلى مصدر آخر) قد تنقــّلـَت، منذ فجر العصور التاريخية، من مكان إلى آخر، كما تحركت في الزمان من عصر إلى آخر. وهنا قد يبدو غريبا الرأي القائل إن الحضارة الغربية مصدرها شرقيّ إن لم يكن عربيا. فمعظم الباحثين الأوربيين يعتبرون أن مصدر الحضارة الغربية هي الحضارة اليونانية ثم الرومانية. ولكننا نعتقد أن مصادر الحضارة اليونانية شرقية: مصرية وعراقية وسورية. ومع ذلك يبدو أن أسباب صعود الحضارات وسقوطها غامضة حتى اليوم. لذلك يطرح علاء الدين الأعرجي في كتاب "أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي بين العقل الفاعل والعقل المنفعل" هذه التساؤلات:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

لُغز نشوء الحضارة وسقوطها

المُتأمِّلُ في بطونِ تاريخ البشريَّة تستغرقُه عدَّةُ تساؤلات، بل يتعرَّضُ لألغازٍ مُعقَّدة وظواهرَ عجيبة، يقفُ إزاءَها، في الغالب، حائرًا، مُتردِّدًا، وأحيانًا، يائسًا، حتَّى لو استنجدَ بأُمَّهاتِ المَراجِع التي كتبَها مَن يُسمَّون بعُلماء فلسفةِ التاريخ، لأنَّه لن يجدَ، غالبًا، تفسيرًا مُقنِعًا لمسيرةِ التاريخ وأبرزِ ظواهره، مثلِ ظاهرة نشوء أو انتقال الحضارات في الزمان والمكان.

فكيف ظهرت الحضارة؟ ولماذا اضطلع بها بعضُ الشعوب دون شعوبٍ أُخرى؟ وما هي أسبابُ نُموِّها وازدهارها ثمَّ ذبولِها وتدهورِها وتلاشيها لدى تلك الشعوب، ومِن بعدُ، أسبابُ ظهورها لدى شعوبٍ أُخرى، لتعودَ إلى النموِّ والازدهار ثمَّ الاضمحلال فالموت؟

فلماذا انبثقَت، مثلاً، أوَّلُ حضارةٍ على هذا الكوكب في أرض الرافدَين، قبل ما يُقارب ستَّة آلاف سنة؟ ولِمَ نمت وتطوَّرت، ثمَّ ذبُلَت وتدهوَرت وبادت، بعد أَن نشرَت في العالَم أَهمَّ المُؤسَّسات الحضاريَّة الأُولى، مثلِ أوَّل مدرسة، وأوَّل برلمان يتألَّف من مَجلسين، وأوَّل نثر وشِعرٍ فـنِّيّ، وأوَّل مكتبة تحتوي على قوائمَ مُصنَّفة، وأَوَّل التشريعات، وأُولى القِيَم الأخلاقيَّة، وأُولى التجارب الزراعيَّة، وأُولى الحِكَم والمواعظ، وأُولى أناشيد الحبِّ والغَزل، وغير ذلك من سبعة وعشرين “أوَّل”، ذكَرها العَالِم الآثاريِّ “صموئيل نوح كريمر” في مؤلَّفه القَيِّم “التاريخ يَبدَأ في سومَر” 1.

ولماذا ظهرت بعد ذلك حضاراتٌ أُخرى عظيمة في نفس المنطقة، منها حضارةُ الفراعنة في مِصر، وحضاراتُ الأَكَّدييِّن والآشورييِّن والبابلييِّن في العراق، والفينيقييِّن في بلادِ الشام التي كانت تضمُّ سوريا ولبنان وفلسطين والأُردنّ، ولاقت نفس المصير المحتوم الذي تعرَّضت له الحضاراتُ السابقة!؟2 ثمَّ لماذا انتـقـلت الحضارةُ إلى أرض اليونان منذ القرن التاسع والثامن قبل الميلاد، وحقـَّقت أَعظم إنجازٍ فلسفيٍّ وفكريٍّ في العصور القديمة، ثمَّ بلغت أَوجَها في عصر أَرسطو فالإسكندر، لتبدأ بالانحطاط والتدهور بعد ذلك؟


بزوغ الحضارة العربية الإسلامية

وفي أثناءِ تدهور الحضارتَين الفارسيَّة والرومانيَّة، لماذا ظهرت فجأةً الحضارةُ العربيَّةُ الإسلاميَّة، في القرن السابع الميلاديِّ، في شِبهِ الجزيرةِ العربيَّة القاحلة، وحقَّقت خلال فترةٍ قصيرةٍ نسبيًّا ما لم تُحقـقه حضارةٌ أُخرى على الأرجح؟3 علما أن هذه الحضارة قد نشأت في بيئة جغرافية ومناخية قاسية وفقيرة في مياهها ومواردها الطبيعية، ومع ذلك تحدت جميع الحضارات السابقة في سرعة تقدمها وتأثيرها على سكان نصف الرقعة الجغرافية للعالم المعروف في ذلك الزمان، تقريبا.

انتقال الحضارة إلى أوربا

ولماذا انتقلت الحضارةُ بعد ذلك إلى أوروبَّا مرَّةً أُخرى، فحقـقت النهضةَ الحضاريَّة الأُوروبيَّة على أَنقاضِ الحضارةِ العربيَّةِ الإسلاميَّة، وقدَّمت، خلال القرون الأربعة الأخيرة، مُنجَزاتٍ هائلةً في مُختلف المَيادين العلميَّة والفكريَّة والتشريعيَّة والفلسفيَّة والتكنولوجيَّة إلخ... كما سيطرت على مُعظم أَجزاء العالَم إمَّا بشكلٍ مُباشر أو غير مُباشر؟

ثمَّ كيـْف انتقلَ مركزُ الحضارة العلميَّة التكنولوجيَّة إلى أمريكا الشماليَّة، حيثُ حقـقت أهمَّ المُنجَزات، وتكلَّلت بغَزو الفضاء والنـزول على القمر والمريخ؟

بوادر انتقال الحضارة إلى الشرق الأقصى

وما هي مؤشِّراتُ وبوادرُ انتقال الحضارة الغربيَّة الحديثة إلى الشرق الأقصى، لتُحقِّقَ نمطًا من الحضارة التكنولوجيَّة أكثر تقدُّمًا وثورةً صناعيَّة وتِقنيَّة جديدة، لاسيَّما في اليابان والصين ودُوَل النُّمور الآسيويَّة بما فيها ماليزيا وكوريا الجنوبيَّة وتايوان، التي أخذت تُحقِّق تقدُّمًا اقتصاديًّا يقرب من الـ10 بالمئة سنويًّا؟

هل يُمكن القول إنَّ للحضارةِ دورةً حياتيَّة مُعيَّنة تُشبه إلى حدٍّ بعيد دورةَ حياة الإنسان كما يقول ابنُ خلدون وأُوزولد شبنغلِر Oswald Spengler، من حيث أنَّها تولَد وتنمو وتشبُّ ثمَّ تمرُّ في دور الكهولة، وتنحدرُ تدريجيًّا إلى الشيخوخة فالموت؟

مصير الحضارة العربية الإسلامية

وفي خضمِّ هذا التقدُّم الحضاريّ الجارف والأحداث المُعاصرة السياسيَّة والاجتماعيَّة، ولاسيَّما العلميَّة والتكنولوجيَّة التي أخذَت تسيرُ بسرعةٍ هائلةٍ لم يسبقْ لها مثيلٌ في تاريخ البشريَّة، إذْ أضحت الحضارةُ الحديثة تقفزُ بوتيرةٍ مُتسارعة فتُنجزُ في عَقدٍ من الزمن ما يُعادل مُنجَزاتِ مئاتِ السنين مِمَّا أنجزته أيُّ حضارةٍ سابقة، بل تـُضاعفُ حصيلتها في كلِ عَـقدٍ على الأرجح — أقول في هذا المُعترَك الرهيب، ما هو موقعُ وموقفُ الأمَّة العربيَّة والشعب العربيّ، وماذا سيكون مصيرها ومصيره في المستقبل القريب والبعيد؟

هل سيكون المصيرُ شبيهًا بالحضارات القديمة البائدة أو مصير الحضارات البائدة لأمريكا الوُسطى والجنوبية مثلاً؟ وهل يمكن أن يصبحَ مصيرُ الشُعوب العربيَّةِ كمصيرِ شعوب الأمريْـكتين ِ بعد أن غزاها الغربُ المسلـَّحُ بالحضارة الحديثة؟ أو سنتحوَّلُ، في أفضل الأحوال، إلى مُجرَّد قِوًى بشريَّة رخيصة عاملة ومُستهلِكة تَجِدُّ لخدمة القِوى العلميَّة والتكنولوجيَّة العالَميَّة، أو المحلِّـيَّة المُتمثِّلة بإسرائيل باعتبارها قطعةً من حضارة الغرب التكنولوجيَّة الصاعدة؟ أليس هذا نمط من الاستعباد المؤدي إلى الانقراضِ التدريجي، كما حدثَ ويحدثُ تماماً اليومَ ومنذ بـِضعة قرونٍ بالنسبةِ للسكانِ الأصليين في الأمريكتين مثلا ً؟

مصير الحضارة الغربية

وإذا عُدنا إلى الحضارة الغربيَّة المُعاصرة نفسها، قد يقفز إلى الذهن سؤالٌ خطيرٌ آخر، هو: ما دام للحضارات دورةٌ عُمريَّةٌ مُعيَّنة تُشبه إلى حدٍّ بعيد دورةَ عُمرِ الكائنات الحيَّة، فهل هذه الحضارةُ الغربيَّة ستُلاقي نفس المصير القاتم المحتوم، كما أشار إلى ذلك اوزوالد شپنگلر، في كتابه الشهير “انحطاط الغرب” منذ عام 1918؟ وهل يُمكن أن نُضيفَ علاماتٍ مُستجدَّة إلى انحطاط الحضارة الغربيَّة المُعاصرة، ظهرَت في العقود الأخيرة، أهمُّها : التلوُّثُ وتدهورُ البيئة، أوَّلاً، وازديادُ نسبة الجريمة المنظَّمة، ثانيًا، وانتشارُ استعمال المخدِّرات، ثالثًا، واستشراءُ مرض نقص المناعة المكتَسَب (الإيدز)، رابعًا، وتدهورُ العقل المِعياريّ، كما يقول ماكس هوركهايمر M. Horkheimer في كتابه “كسوفُ العقل”، خامسًا، وتدهورُ المثُل الأخلاقيَّة والروحيَّة، كما يقول ألبرت شفايتسر A. Schweitzer في كتابه “فلسفة الحضارة”، سادسًا؟

ويُمكن القول إنَّ أوَّلَ مَن طرَقَ بابَ هذه المسائل وبحثَ في بعض كوامنها العالِمُ العربيّ عبد الرحمن بن خلدون الذي سأتحدَّث عنه فيما بعد. كما أعقبَه عُلماء أوربـيُّون، من أهمِّهم ڤيكو Vico الإيطاليّ (1668–1744)، وهيگل Hegel (1770–1831)، وماركس Marx (1818–1883) من الألمان، ودانيلڤسكي Danilevsky (1822–1885) الروسيّ، وشپنگلر (1880–1936) الألمانيّ، وأخيرًا توينبي Toynbee البريطانيّ (1889–1975).