إرتريا المصرية

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

تمهيد: العلاقات السياسية المصرية الأثيوبية في النصف الأول من القرن التاسع عشر

تعتبر العلاقات السياسية بين مصر وأثيوبيا (1) من اقدم العلاقات في التاريخ الافريقي فهي ترجع إلى مصر الفرعونية (2)، واستمرت تنمو وتزدهر عبر العصور التالية (2)، إلى أن غلب عليها الركود في فترة الحكم العثماني (4)، وذلك بسبب اشتراك الدولة العثمانية في الصراع بين الإمارات الاسلامية وأثيوبيا، واستقرارها في شواطئ الأخيرة ومنعها الأثيوبيين من الاتصال بالبحر والعالم الخارجي. وقد ظل هذا الوضع مستمرا حتى وصول محمد علي إلى الحكم في مصر وفتحه السودان بعد ذلك، مما أدى إلى وجود حدود مشتركة بين مصر وأثيوبيا، كما أن تعولية ابراهيم باشا علي (إيالة جدة والحبش) بعد قضائه على الدولة الوهابية الأولى كان من أسباب تجدد الصراع مرة أخرى وكان في هذه المرة بين المصرييين والأثيوبيين (5).

وكانت أثيوبيا في ذلك الوقت تمر بأخطر فترة من فترات تاريخها السياسي والتي أطلق علهيا عصر الفوضى الكبير، والتي هي جزء من عصر الفوضى الذي حدده المؤرخون بنهاية حكم الامبراطور فاسيلداس في القرن السابع عشر. وكان من العوامل المؤدية غلى هذه الفوضى العزلة التي فرضها هذا الامبراطور على البلاد بعد طره للكاثوليك وشكه في الأجانب بصفة عامة فضرب سورا حديديا حول اثيوبيا. ومنعت الثقافة والمدنية نتيجة لذلك من الدخول إلى البلاد. وزاد من أمر هذه الفوضى الحروب الطويلة التي خاضتها وقاست منها البلاد ثلاثة قرون أنهكتها انهاكا تاما، وزاد الأمر سوءا غزو قبائل الجالا (6) للبلاد وتحكمها في أحوالها وأباطرتها. وأخيرا السيطرة القوية لرجال الدين على مظاهر الحياة الأثيوبية. وقد أدى ذلك إلى تدهور المستوى الديني في البلاد وانتشار الخرافات والشعوذة وازدادت ثروات رجال الدين نتيجة لامتلاكهم ثلث الأراضي والانتاج في البلاد (7).

وقد اختلف المؤرخون على نهايةعصر الفوضى هذا. فذكر بعضهم أنه ينتهي بتولية تيودور الثاني العرش في سنة 1855، وذكر آخرون أن عصري تيودور ويوحنا الرابع كانا محاولات وتمهيدا لخلق أثيوبيا الحديثة في عصر منليك الثاني أي أن عصر الفوضى استمر حتى بداية حكم هذا الامبراطور الأخير. وفي داخل عصر الفوضى هذا حدد المؤرخون فترة زمنية أطلق عليها "عصر الفضوى الكبير" ويبدأ بنهاية حكم الامبراطور تكلاهيمانوت في أواخر القرن الثامن عشر وحتى بداية حكم الامبراطور تيودور الثاني سنة 1855 وهي فترة امتدت إلى أكثر من سبعين عاما (8). وعلى هذا تكون الصورة كالآتي: عصر الفوضى يبدأ من سنة 1665، وينتهي في سنة 1889، أما عصر الفوضى الكبير فيبدأ من نهاية حكم الامبراطور تكلاهيمانوت في أواخر القرن الثامن عشر وينتهي ببداية حكم الامبراطور تيودور سنة 1855.

ويرجع سبب تسمية هذه الفترة بعصر الفوضى الكبير إلى الفوضى والانحلال وتدهور الأحوار في البلاد، التي فاقت غيرها متى الفترات السابقة لها. فقد أصبح الرؤوس والزعماء هم أصحاب النفوذ المطلق، وبات الأباطرة ألعوبة في أيديهم يعيونهم ويعزلونهم كما يشاءون. ولم يكن في مقدور أحد من هؤلاء الأباطرة أن يحوز عن جدارة لقب ملك الملوك Negus Nagast بل كانوا جميعا لا حول لهم ولا قوة (9). ولم يكن الامبراطور مهددا فقط من الرؤوس والزعماء بل كان أيضا مهددا من جانب المولك الذين حكموا من قبله ومازالوا على قيد الحياة. فكان أحدهم يحكم من منطقة والآخرون في مناطق أخرى. وكلهم من الاسرة السليمانية الحاكمة، ووراء كل منهم رأس من الرؤوس يؤيده ويريد أن يعينه امبراطور للبلاد (10).

هذا بالاضافة إلى النزاع الذي نشب بين الرؤوس مثل النزاع الذي قام بين الراس جوجسا زعيم الجالا من جانب، والتحالف الذي قام بين الراس جبراييل حاكم مقاطعة سيمين والراس ولدسيلاسي حاكم تيجري، واستطاع ولدسيلاسي أن يقبض على السلطة بين يديه، إلا أنه لم يستطع الاستيلاء على جندر العاصمة. ولقد رغم ولدسيلاسي في أن يضع حدا لهذه الحروب فاتصل بالانلجيز لتساعده، وعقد معها معاهدة سياسية تجارية (12)، إلا أنه توفي قبل أن يحقق ذلك، وبوفاته عاد مرة أخرى الراس جوجسا للسيطرة على الامبراطور والقصر (13).

وينتهي جيل من الرؤوس ويبدأ جيل آخر وتنشب بينهم الحروب مرة أخرى. فدخل الراس سابا جاديس (*) الذي خلف ولدسيلاسي على حكم تيجري في صراع مع حكام المقاطعات الأخرى انتهت بهزيمته وقتله في أوائل سنة 1831 (14). وكان أوبي حاكم سيمين هو الذي قضى عليه (15). واستطاع بذلك أن يصبح صاحب السيادة الفعلية على البلاد بهذا الانتصار وبفضل المحالفات التي كونها مع الرؤوس الآخرين. (16).

وأصبح الموقف في أثيوبيا بعد ذلك ينحصر في أوبي، ويحكم تيجري وسيمين وولكيت ووجيرا، والملك سهلاسيلاسي في شوا (17)، والراس عالي حفيد الراس جوجسا زعيم الجالا السابق الذي وصل إلى السلطة في سنة 1831 بعد وفاة أسلافه، وكان هناك حكام أقل شأنا مثل جوشو حاكم جوجام وداموت، والراس أحمد حاكم واراهيمنو، وكينفو في الغرب، وهؤلاء لعبوا دورا ثانويا في تطور الأحداث في أثيوبية (18).

ولما كان الملك سهلاسيلاسي لا يشترك في صراع الرؤوس في الشمال، فقد انحصر الصراع في هذه المرحلة الأخيرة من عصر الفوضى الكبير بين أوبي والراس عالي. وبالفعل فقد بدأ الأخيران بستعد كل منهما للآخر. ونشط أوبي في دس المكائد ، فادعى أن الراس عالي محتال لادعائه بأحقيته للعرش لذا وجب القضاء عليه، كما اتصل بالفرنسيين والانجليز طالبا مساعدتهم في الحصول على مطارن مصر لتتوجيه امبراطور على البلاد (19). الا أن الراس عالي استطاع هزيمة أوبي وأسره وسجنه (20)، وان كان قد أفرج عنه بناء على نصيحة من المطران المصري سلامة الثالث، وعاد أوبي إلى أملاكه ومقاطعاته التي يحكمها في مقابل عهد منه بعدم التحالف والحرب مرة أخرى ضد الراس علالي (21).

وبالرغم من انتصار الراس عالي، فإن مركزه كان بعيدا عن الاستقرار والأمان. فقد كان أعداؤه مازالوا نشيطين ضده في جوجام متمثلا في بيروجوشو، ولاستا في فاريس اليجاس كما أن أهلي أمهرا وبيحة مدر كانوا أكثر بعدا عنه بسبب الدعاية التي روجها ضد أوبي وحلفاؤه. وثار ضده أيضا حلفاؤه السابقون حكام الولو الذين كانون يؤيدونه (22) وزاد الأمر سوءا وقوع والدته في صراع ضد الثوار وقطاع الطرق المنتشرة في مقاطعتها مما اضطر الراس عالي أن يمد لها يد المساعدة لكي يعيد سيطرتها على مقاطعتها (23). على أن ذلك لم يشغله تماما عن مراقبة أوبي، وبالتالي أصبح كل منهما يراقب الآخر معتقدا أن هذا الآخر هو عدوه الوحيد الذي يجب عليه أن يخشاه. ولكن فجأة ظهر شاب يدعى كاسا استطاع هزيمة الراس عالي سنة 1853 وسيطر على الأمهرا فأصبح وسط البلاد خاضعا له تماما مما جعله يمثل احدى القوى الهامة في البلاد (24)، ثم استطاع بعد هزيمة أوبي ووجد المساحة خالية تقريبا أمامه، فطلب تتويجه من المطران المصري، وتم ذلك في 7 فبراير سنة 1855 وتسمى باسم تيودور الثاني (25).

وفي الوقت الذي كانت أثيوبيا غارفة في هذه الفوضى السياسية، كان انتصار ابراهيم ابن محمد علي، على الواهبيين في شبه الجزيرة العربية، قد أعاد حقوق السيادة العثمانية على الحجاز وما يتبعها، وعينه السلطان العثماني علي باشوية جده في يوليو سنة 1820، وكان يتبعها ايالة الحبش وأهم موانيها سواكن ومصوع ولذلك فقد سمي ابراهيم باشا "بمتصرف جدة والحبشة" أو والي ايالة الحبشة ومتصرف سنجق جدة (26).

وكان العثمانيون قد نجحوا في أوائل القرن السادس عشر في بسط نفوذهم على ساحل البحر الأحمر الأفريقي والآسيوي من السويس إلى مضيق باب المندب ، ذلك بعد طرهم للبرتغالليين منه. وأن يجعلوا من البحر بحيرة عثمانية، ووضعوا حاميات عثمانية في المواني الهامة الواقعة على شاطئيه وأغلقوا هذا البحر في وجه الاوروبيين (27). وقد تمسك العثمانيون طوال القرون التالية وحتى أوائل القرن التاسع عشر بحقوق السيادة على شاطئ البحر الأحمر الغربي بأجمعه. وكان لتمسكهم هذا آثار خطيرة لأن الولاية القضائية التي كانت لسواكن ومصوع شملت بلاد أثيوبيا إلى جانب ما يتاخم حدودها الشمالية والجنوبية من أقاليم ممتدة إلى باب المندب (28).

والواقع أن استجابة محمد علي لنداء السلطان العثماني في القضاء على الحركة الوهابية كانت تخدم أغراضه ، بعد أن لمس أهمية البحر الأحمر الذي تحول من حالة الركود إلى حالة نشطة بسبب الحملة الفرنسية على مصر وخروجها بجيش أتى به الانجليز من الهند، مما ترتب عليه الربط بين مصر والهند في خطط حربية وسياسية. لذلك نجد محمد علي سنة 1809 يبدأ أول عمل سياسي بدخوله مع حاجم الهند العام في مكاتبات لاقامة علاقات سياسية (29). ويذكر هيل ، أن محمد علي أدرك أنه بسيادته على البحر الأحمر ، يمكنه أن يعيد إليه أهميته التجارية القديمة، فتستفيد مصر من الطرق التجارية المارة عبره. ولا شك أن محمد علي بعد حملته على الوهابيين، قد لمس النفوذ التجاري المتزايد لشركة الهند الانجليزية على سواحل شبه الجزيرة العربية والبحر الأحمر (30).

وعلى هذا فقد آل محمد علي على نفسه أن يحول هذا البحر إلى بحيرة مصرية (31)، بعد أن رسخت السيادة المصرية – في ظل السيادة العثمانية – في موانئ مصوع وسواكن وتعيين ابنه ابراهيم باشا واليا عليها. وحاول أن يحتل بربره سنة 1821، كما تفاوض مع سلطان لحج في جنوب شبه الجزيرة العربية لكي يحصن ميناء عدن الاستراتيجي التابع له (32). واستولى أسطول محمد علي على الموانئ الهامة في اليمن على البحر الأحمر، ووضع بها حاميات قوية ولم يبق من الموانئ الهامة سوى عدن التي استطاع الانجليز احتلالها (33)، وبذلك استطاع محمد علي أن نيشر نفوذه على الساحل الآسيوي للبحر الأحمر (34). كما أنه فتح السودان وضم اقليم التاكه، وبذلك أصبح الساحل الأفريقي للبحر الأحمر خاضعا لمصر، واصبح هناك أيضا حدود مشتركة بين أثيوبيا من جهتي الشمال والغرب، وتاخمت ولايتي تيجري من الشمال وجندر من الغرب (35)، ولقد ذكر أحد الرحالة الأجانب أن محمد علي يطمع في فتح أثيوبيا حتى يكون سيدا على وادي النيل كله من مصبه إلاى منبعه (36). على أن الحملة على السودان لم تتعد في فتحها أبعد من دنقلة وبربر وشندي وسنار وكردفان. وربما كان لتحذيرا القنصل البريطاني العام في مصر اثر في أن محمد علي لم يفتح أثيوبيا الذي أكد على ذلك للقنصل البريطاني (37).

على أن الأمور تطورت بعد ذلك تطورا خطيرا. فقد كان لمقتل اسماعيل بن محد علي على يد الملك نمر وهروب الأخير إلى اقليم التاكه قيم إلى سنهيت وأخيرا استقراره في منطقة والكيت بين نهر ستيت والقلابات، ثم زواج ابنه من ابنة الراس الأثيوبي أوبي، كان لهذا أثر كبير في العلاقات المصرية الأثيوبية (38). ذلك أن الملك نمر كان أو أسس امارة شبه مستقلة في المنطقة الخاضعة للحكم والادارة المصرية في السودان، ومن ثم فقد نال الملك نمر تأييد الأثيوبيين له، وبالتالي أمن ظهره واستمر في غاراته على الحدود السودانية والأهالي والقرى الواقعة عليها، مما سبب اضطرابا كبيرا في استقرار الأمور في تلك المناطق المتاخمة لحدود أثيوبيا. ولقد دمر الدفتردار – زوج ابنة محمد علي – المنطقة كلها بعد أن طرد الملك نمر من التاكه وستيت وصوفي والقلايات ولم يتراجع إلا بعد أن محا كل علامة لأي نوع من الادارة (39).

وعندما أراد محمد علي أن يدعم نفوذه في مصوع – في ظل السيادة العثمانية – أرسل حملة في سنة 1826 استطاع فيها احتلال مصوع . ولا جدال في أن حكومة محمد علي قصدت من هذا الاحتلال أن تكون بمثابة خطوة في نشر نفوذ مصر على أثيوبيا وكل ساحل البحر الأحمر الأفريقي. كذلك ربما تكون بقصد السيطرة على رؤوس أثيوبيا المساعدين للملك نمر واعتداءاته على أهالي وقرى السودان. ولكن تركيا رفضت في هذا الحين السماح لمصر بتوطيد نفوذها على ساحل البحر الأحمر الغربي، ذلك الساحل الذي يواجه الأماكن الاسلامية المقدسة في اقليم الحجاز خوفا، من تعرض نفوذها – أي تركيا – للخطر في هذه البلاد لذلك اضطرت حكومة مصر إلى إجلاء مصوع (40).

ولقد كانت أحوال السودان بعد انتهاء حكم الدفتردار مضطربة أشد الاضطراب، وحاول خلفاؤه اعادة الهدوء والأمن إلى البلاد إلا أن ذلك لم يتم إلا في عهد خورشيد باشا حكمدار السودان سنة 1835، وبفضل عدد من الوحدات الحربية التي زوده بها الملك نمر. وكان الأثيوبيون بالاضافة إلى تشجيعهم لهذا الملك كانوا يشجعون شيوخ الجهات المجاورة لهم على طول حدودهم مع السودان على الخروج على سلطان الحكومة المصرية واعلان العصيان. كذلك اعتاد رؤوس أثيوبيا المجاورين للادارة المصرية – بالرغم من صراعاتهم الداخلية – على الاغارة على الأقاليم السودانية المجاورة لهم ونهبها، وكانوا يفرضون إتاوة تعرف بالقبر على سكان هذه الجهات السودانية مثل فازوغلي والقلابات (41).

والواقع أن حكام أثيوبيا لم ينظروا بعين الارتياح إلى امتداد النفوذ المصري إلى السودان وضمه لأجزاء كانت أثيوبيا تدعي ملكيتها لها. هذا بالاضافة إلى أن هؤلاء الحكما علموا بنية محمد علي بضم بلادهم إليه. كل ذلك أدى إلى توتر العلاقات بين أثيوبيا ومصر وإلى سيادة القلق والاضطرابات على حدود الادارة المصرية في السودان مع أثيوبيا. وزاد من هذه الاضطرابات تعدي القبائل الأثيوبية عليها وارتكابها أعمال السلب والنهب بتشجيع من حكامها بهدف خلق المتاعب لمصر وزعزعة مركزها الحربي في هذه المناطق (42). وساعد على زيادة هذه الاضطرابات طبيعة تلك المناطق ونوعية سكانها. حيث أنهم قبائل رحل لا يعترفون بحدود ما تقيد تحركاتهم ولذلك فقد كانوا ينتقلون بين البلدين. ومع أن أثيوبيا كانت تشجعهم على هذا ، فإن تحركاتهم كانت تثير الادارة المصرية في السودان لما جبلت عليه هذه القبائل من عدم الخضوع والطاعة الا بقدر ما يحقق لها هذا الخضوع من مصالح، فاذا ما اشتدت قبضة الادارة المصرية عليهم عبروا الحدود إلى الأراضي الأثيوبية وناؤوا السلطات المصرية وقاموا بأعمال السلب والنهب سعيا وراء الكسب واستجابة لرغبتها في القتال وظهارا لولائهما واخلاصهما لرؤوس أثيوبيا. وساعد أيضا على عدم الاستقرار في مناطق الحدود، تشجيع كلا الطرفين المصري والأثيوبي الفارين من كل الجانبين وبسط الحماية عليهم وامدادهم بكل ما يحتاجون اليه من مؤن وسلاح. ولم يكن هذا الاجراء بطبيعة الحال يشجع على استتباب الأمن أو استقرار الأحوال في تلك المنطقة (43).

ولقد بدأ خورشيد باشا ، بعد أن هدأت أحوال السودان الداخلية، في الاغارة على حدود أثيوبيا والتوغل فيها بقصد جلب الرقيق، فخضع الأهالي شرقي القضارف كما خضع الشيخ ميري Miri زعيم التكارنة في القلابات وكثير من الشيوخ والزعماء على طول الحدود الأثيوبية وكانوا كلهم مطالبين بدفع جزية من الرقيق، وكان هذا يدفعهم إلى الاغارة على المناطق الأثيوبية لصده (44). ولم يكتف خورشيد بذلك بل زاد من غاراته على الحدود الأثيوبيا متتبعها القبائل الهاربة من الضرائب نحو الهضبة الاثيوبية. وبالرغم من عدم وجود مركز مصري ثاب في ذلك الحين في منطقة التاكة، فقد وصلت الغارات المصرية في سنة 1832 إلى أبعد من سبدرات Sabdrat شرق كسلا (45). ومع أنه هزم في سنة 1834 على يد الهدندوة ، فإن السنوات التالية شهدت استمرار الغارات المصرية طمعا في الماشية والرقيق حتى اعترفت قبائل هذه المنطقة بسيادة باشا مصر عليها (46) واستمر الضغط المصرية أيضا فيما بين العطبرة والرهد واعتبرت المتمة في سنة 1834 ضمن الأراضي الداخلية في الادارة المصرية للسودان (47).

ونتيجة لنشاط الملك نمر، فقد ركز المصريون جهدهم في منطقة شرق القضارف وما بعدها على الحدود الأثيوبية لمقاطعة مالكتي Malkait والتي كان يستخدمها الملك وحلفاؤه من زعماء القبائل السودانية الهاربة، كقاعدة لغاراتهم. وكان محمد علي يهتم بهذه الطرق لمكاسبها ولأنها احدى الوسائل التي تدعم الاستقرار وتزيد من ميزانية الدولة التي يحتاج إليها. لذلك فقد رصدت مكافأة لمن يأتي برأس هذا الملك الذي كان يمثل شوكة في جانب الادارة المصرية. ولكن بدون نتيجة لحماية الأثيوبيين له. وفي نهاية سنة 1834 أغار الملك نمر على سنار، فاضطر المصريون إلى الاغارة على ماليكت (48) وطلب المصريون من الحاكم الأثيوبي اوبي تسليم الملك نمر ولكنه رفض ذلك (49).

وفي مايو سنة 1837 دخلت قوات مصرية كبيرة المتمة ومعهم زعيم التكارنة في القلابات وبدأت تتقدم إلى جندر ناهبة وحارقة المناطق التي تعبرها. وفزعت العاصمة الاثيوبية واعتقتدت أنن نية المصريين نهب المدينة، وبسرعة جمع كيفنو (50) حاكم دامبيا جيشه وحارب المصريين الذين كانوا يتأهبون للعودة إلى القلابات وهزمهم في موقعة كالنابو Kalnabu بالقرب من رشيد وقتل وأسر الكثير من القوات المصرية وقتل أيضا الشيخ ميري زعيم التاركنة (51). وعادت القوات الأثيوبية بعد انتصارها. وعاقبت أهالي المتمة ثم رجعت إلى دامبيا. وأعلن كيفنو خورشيد باشد بأنه اذا جرؤ المصريون مرة أخرى على الدخول إلى الاقاليم الأثيوبية فانه سينزل إليهم بجيش ضهم ليأدبهم (52). وقبل خورشيد باشا هذا التحدي وزحف في النصف الثاني من سنة 1837 إلى المتمة ووكهني Wekhnie على بعد مسيرة ثلاثة ايام أو أربعة من جندر العاصمة الأثيوبية على أنه لم يقابل أي جيش أثيوبي، فرجع إلى القلابات بلا قتال فحصنها وزاد حاميتها وعاد إلى الخرطوط (53).

واستمرت قوات خورشيد باشا في أعمالها على طول الحدود الأثيوبية وكهني وفازوغلي وطلب من مصر أن ترسل له مددا حربيا ليدعم به قواته. فأرسلت له كتيبة بقيادة أحمد باشا أبو ودان وصلت السودان في سنة 1838 (54). ولقد كان من منائج تصاعد العمليات الحربية بني مصر وأثيوبيا وارسال مدد إلى السودان في نظر القناصل الاوروبيين في مصر أن الموقف أصبح خطيرا ومهددا بالانفجار. مما دعا بريطانيا أن تبلغ محمد علي عن طريق قنصلها في مصر سنة 1837، بأنه قلقة بالنسبة لتصاعد هذه العمليات ولا ترضى عنها حكومة بريطانيا التي تحافظ على استقلال أثيوبيها (55). وكان أوبي حاكم تيجري يحتج لدى أصدقائه الفرنسيين لاعتدءاتهم. وبسبب النفوذ الفرنسي الذي كان سائدا في عهد محمد علي، أن قرر الأخير سحب حكمداره خورشيد باشا من السودان في مارس سنة 1838 )56).

وقل النشاط الحربي بين الادارة المصرية وأثيوبيا في عهد أحمد باشا أبو ودان الذي خلف خورشيد باشا في حكمدارية السوادن، وذلك بسبب انشغاله بزيارة محمد علي للسودان. وأصدر محمد علي أوامره إلى حكمداره أثناء مغادرته لسنار في بداية سنة 1839 بأن يهتم بفتح طرق القوافل والتجارة – ولو بالقوة اذا لزم الأمر – بين السودان وأثيوبيا. والتي كانت من قبل تمثل مصدر دخل هام للسودان. وكان هذا الطريق قد أصابته الاضطرابات كما رأينا بسبب غارات الملك نمر وحلفاؤه من رؤوساء القبائل القاربة من الادارة المصرية. وأيضا بسبب رجال العصابات وقطاع الطرق الأثيوبيين والرؤوس الأثيوبيين (57).

لذلك ففي عامي 184-1841، ركز أحمد باشا جهوده في النيل الأزرق وفي منطقة السافانا الشاسعة التي تمتد بين النهر والجبال الأثيوبية وساحل البحر الأحمر (58)، ففتحت التاكه وأسست مدينة كسلا في المعسكر الذي أنشأه أحمد أبو ودان لجيشه لشن الحملات على الحدود الأثيوبية الشمالية. وقد اعتمد على قلعة كسلا الواقعة على الحدود مع أثيوبيا في تشكيل المجموعات المغيرة على هذه المناطق (59). وكان ثمة نوع من الحروب المتقطعة على الحدود بين الحامية المصرية والقبائل الأثيوبية. وكانت هذه المنطقة نموذجا فريدا لميدان حرب العصابات حيث تبدأ الأحراش والغابة مكونة نوعا من الشقة الحرام بين الأثيوبيين والمصريين (60).

وأعاد ضم اقليم التاكه إلى الإدارة المصرية في السودان مشكلة سواكن ومصوع مرة أخرى (61) وكان محمد علي يجدد محاولاته دائما حتى تأذن له الدولة العثمانية في ضمهما للادارة المصرية بالرغم من انساحباها منها سنة 1826 (62). وقد شرح محمد علي للباب العالي بأن الادارة المصرية أصبحت الآن تمارس سلطتها على طول البحر الأحمر والاقليم الذي يقع خلفه ما عدا مصوع وسواكن ولقد أصبح في أمس الحاجة إلى موانئ على الساحل لتشجيع عمليات النقل والتجارة (62).

والواقع أنه منذ خروج الادارة المصرية من مصوع ، والرؤوس الأثيوبيون يتطلعون إلى أن يكون لهم فيها نفوذ قوي أو يحتلونها أو تكون في أيدي صديقة لهم، وذلك بغرض تسهيل عملية وصول الأسلحة النارية إليهم. وكان من أوائل الرؤوس الذين يرغبون في ذلك رؤوس مقاطعة تيجري القريبة من مصوع. وقد حاول سباجاديس حاجم تيجري دعوة إنجلترا لاحتلال مصوع أو اعطائها له. وذلك بهدف تسهيل عملية استيراد الأسلحة النارية له والتي ستساعده على تدعيم مركزه بين حكام أثيوبيا (64). وفي نفس الوقت أرسل إلى محمد علي برسالة يطلب فيها وده، وربما كان يقصد تحذيره أو ابعاده عن ما يرمي إليه. وعلى أي حال فقد ارسل إليه محمد علي يشكره على عباراته الرقيقة، وأهداف بعض الأسلحة وخلافه وطلب من الاستمرار في المراسلة (65). وربما رفض محمد علي محالفته أو مصادقته خشية أن ينتج عنها سيطرة هذا الحاكم الأثيوبي على مصوع أوزيادة نفوذه عليها، مما قد يساعد على فقدان الدولة العثمانية نفوذها في المنطقة. وكان محمد علي يحافظ على دورها وتاييدها في الدور الأول من حكمه والذي ينتهي في سنة 1830. والمعروف أن مصر كانت قد أخلت مصوع تنفيذا لأوامر الدولة العثماينة سنة 1926 ولأن محمد علي كان مشغولا بحروب المورة والاضطرابات التي في الحجاز، جعلته لا يركز جهوده في السودان فقد كان يمر بمرحلة دقيقة بعد الاضطرابات التي سببها الدفتردار لينتقم لمقتل اسماعيل بن محمد علي وبذلك نجد أن محمد علي لم يحاول أن يصعد الموقف أكثر من ذلك.

ولقد شعر العثمانيون بعجزهم عن السيطرة على هذه المناطق ازاء نشاط الرؤوس المتكررة مستغلين في ذلك توتر العلاقات بين محمد علي والباب العالي. ومحاولين انتزاع حقوق السيادة على ساحل البحر الأحمر الافريقي لأنفسهم. فساروا يتعدون بين الحين والآخر على استقلال نواب أركيكو وغيرهم من حكام الشاطئ الصغر ، بل لقد عرض أحدهم وهو أوبي حاكم تيجري على فرنسا بأن يتنازل عن خليج أمفيلا لكن فرنسا رفضت هذا العرض. كما رفضت أن تشمله بحمايتها في مقابل تنازله عن خليج أركيكو وكل تجارة السهل الساحلي لها مدعيا أن هذه المنطقة كانت خاضعة للرؤوس الأثيوبيين بينما لم يكن الأتراك يملكون سوى جزيرة مصوع فقط. كما حاول أن يبسط نفوذه بنفسه على الساحل ويحتل جزيرة مصوع فقط. كما حاول أن يبسط نفوذه بنفسه على الساحل ويحتل جزيرة مصوع نفسها. ومن ثم فقد توغلت قواته في اقليم سمهر وذلك في سبتمبر سنة 1844 إلا أنه سرعان ما غاردها عندما وصلت القوات التركية وأجبرته على ذلك. وبالرغم من ذلك فقد ظلت منطقة الحدود التي تفصل سمهر عن أثيوبيا مسرحا لنفس حوادث الغزو والسلب التي كانت تجري في الماضي (66).

لهذا فقد رأى الباب العالي إجابة طلب محمد علي بشأن ضم سواكن ومصوع إليه. وكان ذلك في سبتمبر سنة 1846، فأجرتها له مدى حياته (67). وفي مارس سنة 1847 جاء اسماعيل للاضطلاع بشؤون الادارة في مصوع وسواكن من قبل الحكومة المصرية، كما جاءت قوة حربية مصرية لتتفقد أحوال ساحل البحر الأحمر الأفريقي حتى باب المندب. وشرع حاجم مصوع المصري في اعداد احصاء تقريبي للقبائل المنتشرة على طول الساحل بين سواكن وبررة توطئة للاستيلاء على كل الساحل الافريقي حتى راس غردافوي باسم والي مصر (68). وقد لفت أوبي حاكم تيجري نظر الحاكم المصري الجديد لمصوع إلى أن يتذكر أن الساحل كله ملك لأثيوبيا. وأجابه الحاكم المصري بأن مصوع وأركيكو من أملاك السلطان العثماني وأنها أصبحت الآن من أملاك نائبه محمد علي وتبع رسالته هذه بضرب أركيكو بالقنابل من البحر. وارسل أوبي قائده ليغير على ضواحي مصوع ليسلبها (69).

ومن ثم فقد تعددت الأسباب التي جعلت محمد علي يقرر غزو أثيوبيا وضم الأراضي في ساحل البحر الأحمر الغربي التي كانت للعثمانيين حقوق عليها منذ القرن السادس عشر. من ذلك، فشل حكومة مصر في انشاء علاقات طيبة مع حاكم جندر باعتبار أنه صاحب السلطة المركزية في أثيوبيا. وكان محمد علي منذ أن تخلى عن فكرة غزو هذه البلاد. يرى أن من حسن السياسة توثيق العلاقات الطيبة معه. لا سيما وقد صارت الأراضي المصرية بعد امتلاك مصوع متاخمة لأثيوبيا. لذلك فقد أرسل محمد علي إلى هذا الحاكم رسولا يعرض عليه صداقته. إلا أن هذا الرسول لم يصل إلى جندر فقد أوقفه حاكم تيجري، واغتصب الهدايا المرسلة من محمد علي إلى حاكم جندر ثم رد الرسول إلى مصر بعد أن أرسل معه إلى محمد علي قميصا أبيض من القطن وثوبا من ثياب البلاد الوطنية ومبلغا من المال (70).

وكان محمد علي صادقا بالفعل في رغبته هذه بتحقيق السلام وتبادل العلاقات الطيبة مع أثيوبيا. فقد ذكر للقنصل الفرنسي العام في مصر أن حكمدار السودان سوف يوقع معاهدة سلم وسلام مع الأقاليم الشمالية الأثيوبية وأضاف أن العداوة بين الشعبين المصري والأثيوبي لم تكن جدية ولكن يجب المحافظة على طرق القوافل التجارية ، فاذا لاقت المتاعب فان حاكم السودان سيرسل إلى الحدود لفتح هذه الطرق التجارية. وبذلك فشلت هذه المحاولة (71).

وكان من أسباب توتر العلاقات بين مصر وأثيوبيا ، استمرار اعتداء الملك نمر على الادارة المصرية في السودان. اذ كان يقوم بغاراته من والكيت على حدود السودان الشرقي واحدى المقاطعات الاثيوبية، ويشجعه أوبي الذي عينه رأسا على هذه المقاطعة. بل انهم – أي الأثيوبيين – لم يكتفوا بذلك، بل استمروا طوال حكم محمد علي في مهاجمة الحدود السودانية سواء في كسلا أو في القلايات (72)، ولذلك فقد رأت الحكومة المصرية أن ترسل حملة من سواكن ومصوع لغزو أثيوبيا والاستيلاء على جميع أراضي سواحل البحر الأحمر العربي التي دخلت في حوزة الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر (73). على أن ذلك لم يتم بسبب وفاة محمد علي (74).

ولا جدال في أنه قد تتأيد بفضل نشاط السياسة المصرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر الاعتراف أو التسليم بأنه الشرعية امتدت على طول ساحل البحر الأحمر الأفريقي من حدود الباشوية المصرية شمالا إلى رأس نمردافوي جنوبا بما في ذلك أثيوبيا. وقد استمرت مصوع وسواكن في حوزة محمد علي على طوال حياته على أنه في عهد عباس رجعتا إلى الدولة العثمانية وذلك في يونيو سنة 1949 (75). أما بالنسبة للحدود الشرقية للسودان مع أثيوبيا فقد ظل الملك نمر في اعتداءاته عليها مشجعا من حكام أثيوبيا، وكان من نتيجتها تخريب كل البلاد الواقعة بين نهر ستيت ومدينة القلابات. وظلت العلاقات بين الادارة المصرية في السودان وأثيوبيا خلال حكم عباس الأول سيئة وغير ودية (76).


الفصل الأول: العلاقات السياسية بين مصر واثيوبيا منذ عهد سعيد وحتى الاحتلال البريطاني 1855-1882

تمهيد

رأي عباس الأول بعد توليه عرش ولاية مص، أنها لا تستطيع أن تقوم بالاشراف على مصوع وسواكن وتعزيز السيادة المصرية العثمانية على طول ساحل البحر الأحمر الأفريقي حتى راس غردافوي، وذلك بسبب خروجها من صراع طويل مع الباب العالي أدى إلى انهاك قواها ومواردها، وبالتالي أصبحت في حاجة إلى فترة استجمام تستعيد فيها نشاطها وتصلح أحوالها. لذلك اتخذ خطه تتفق مع قدرة مصر على تحمل عبء الحكم الاداري في هذه المناطق فأعاد مصوع وسواكن إلى الدولة العثمانية، وعلل ذلك بأن هذين المينائين يبعدان كثيرا عن مركز الحكومة المصرية في الخرطوم والقاهرة، وبالتالي يصعب ارسال النجدات إلى هذه المناطق البعيدة بسرعة، فضلا عن أنه كان يخشى حدوث احتكاك بين السلطان المصرية وقناصل الدول هناك وفي أثيوبيا (1).

وبالاضافة الى ذلك، فقد كان الأثيوبيون يشعرون بأن لهم حقوقا قديمة على جميع ممتلكات مصر الواقعة جنوب أسوان، لذلك تخلى عباس عن مصوع تجنبا للاحتكاك معهم وان كان قد عمل على توطيد سلطة الادارة المصرية في السودان وتأمين حدودها، وذلك ليمنع الأثيوبيين من الاعتداء عليها (2). أي بمعنى آخر تخلى مصر عن غزو أثيوبيا والاحتكاك بها، وفي نفس الوقت صد اعتداءاتها بقوة على حدود السودان الشرقية.

وكانت الحدود بين السودان وأثيوبيا غير متفق عليها، وذلك بالرغم من محاولات مصر في هد محمد علي للوصول إلى اتفاق بشأن تحديدها، لأن أثيوبيا لم تكن تعترف بشرعية امتلاك مصر لبعض مناطق الحدود (3). وقد أدى ذلك الى اضطراب العلاقات بين مصر وأثيوبيا، وساعد على ازدياد اضطرابها، أن مناطق الحدود هذه كان يسكنها قبائل رحل لا يسهل بقاؤهم في مكان واحد، ولا يسع مصر السيطرة عليهم، بل كان الأثوبيون يشجعون شيوخ الجهات المجاورة لهم من السودان على الخروج على سلطان الادارة المصرية واعلان العصيان. كما اعتاد حكام أثيوبيا على الاغارة على الاقاليم المجاورة لهم ونهبها (4)، مما أدى إلى اهتمام الادارة المصرية بتدعيم حامياتها حتى تستطيع صد هذه الغارات (5)، بل شنت هي أيضا الغارات على الحدود الأثيوبية (6).

وقد زاد من تدهور العلاقات بين الادارة المصرية في السودان وأثيوبيا واضطراب الحدود بينهما غارات الملك نمر وأولاده. ففي حكمدارية عبد اللطيف باشا في عهد عباس، ثار تكارنة القلابات من جراء تعديات هذا الملك وأولاده، فأعدوا حملة قوية لقتالهم، إلا أنهم لقوا هزيمة قاسية على يد هذا الملك وحلفائه من القبائل الأخرى الهاربة من الادارة المصرية. وقد شارك الراس عالي في غنائم هذه الموقعة، حيث كان يأخذ دائما عشر الغنائم، كما كان يضفي حماية على الملك وأولاده. وانتشر خبر هذه المعركة في جميع أنحاء السودان، مما نتج عنه ازدياد عدد الفارين من الأهالي إلى الملك نمر (7). وكان يدفعهم إلى ذلك الضرائب الباهظة المفروضة عليهم والقسوة التي اتبعت في جبايتها (8)، وقد أخذ هؤلاء الفارون، ومعهم الملك نمر وأولاده، في اثارة الفتن والقلاقل على الحدود السودانية الأثيوبية، مما أدى إلى سعي الادارة المصرية في السودان إلى الاتصال بالراس عالي والد جزماتش كاسا حاجم اقليم كوارا، لاعادة هؤلاء الهاربين الى أوطانهم (9)، على أن شيئا مما سعت إليه الادارة المصرية لم يتحقق، بل لم تخف حدة الاعتداءات على أراضي السودان، وانما تكررت عدة مرات، وازداد هرب الأهالي وبعض الزعماء السوددانيين ، وازاء ذلك طلب حكمدار السودان سليم باشا الجزايرلي من حكومة القاهرة، تدعيما حربيا من الجنود والذخيرة لتقوية مناطق الحدود وصد الغارات الأثيوبية (10).

وبالرغم من مساهمة الراس عالي في اضطراب الحدود السودانية، إلا أنه كان على علاقة ودية مع عباس الأول والي مصر. فقد ارسل مندوبا يدعى احكيبي مسره مريم إلى مصر في اكتوبر 1852، لحل بعض المسائل المتعلقة بين البلدين (11). وكان أهم هذه المسائل اثنتين: الأول ما يتعلق بدير السلطان وبرغبة الراس عالي في استرجاعه، على أنه نتيجة لعدم وجود بطريريك للأقباط في ذلك الوقت، أرجأ عباس بحث هذا الموضوع وكتب إلى الراس عالي بذلك (12) والثانية، تتعلق بالبطريرك الجديد واختياره، وكان هناك اتجاه لتعيين القس داود خلفا للبطريرك الراحل بطرس السابع. وكان هذا القس قد ارسله البطريرك الراحل مندوبا له لحل بعض المشاكل الدينية في أثيوبيا، كان من نتائجها أن اتخذ هذا القس موقفا عدائيا تجاه الراس عالي ووالدته والأتشيجي وما يمثلوه من هرطقة دينية مؤيدا في ذلك الأنبا سلامة الثالث مطران أثيوبيا ضدهم (13). وقد أثار ذلك حنق الراس عالي عليه، مما جعله يرسل مندوبه هذا لكي يحول دون تعيين القس داود بطريركا ويهدد بقطع العلاقات الدينية بين مصر وأثيوبيا في حال تعيينه (14). وبالفعل فقد تأثر عباس الأول بما عرضه المندوب، وعارض في بداية الأمر تعيين هذا القس بطريركا، ولم يوافق إلا بعد انتهاء حكم الراس عالي وتدخل القنصل العام الانجليزي في مصر، واصبح داود بطريركا على اسم كيرلس الرابع (15).

ولما انتهت زيارة المندوب الاثيوبي لمصر، أنعم عليه عباس الأول بالأوال هوومن معه. ورافقه في عودته بعثة شرف برياسة أمير اللواء عمر بك، حملت معها الهدايا الكبيرة مع رسالة ودية للراس عالي وكاسا (16)، وقد واصلت بعثة الشرف هذه طريقها بعد وفاة المندوب الأثيوبية، ووصلت إلى العاصمة الأثيوبية وأدت مهمتها على الوجه الأكمل، وقوبلت مقابلة طيبة، ثم عادت بعد ذلك إلى السودان ومعها عدد من الرقيق هدية للحكومة (17).

وبالرغم من هذه العلاقات الطيبة السلمية وحرص عباس الأول على الحفاظ عليها فان العلاقات المتدهورة بين اثيوبيا والادارة المصرية في السودان ظلت كما هي. فقد استمرت اعتداءات الحدود يشجعها حكام أثيوبيا مؤيدين لأعمال أولاد الملك نمر وذلك بالرغم من أن عباس الأول كان يأمر حكمدارييه في السودان بالعمل على ازالة أسباب التوتر على هذه الحدود بالطرق السلمية (18).

وقد ظل هذا الوضع المضطرب على حدود الادارة المصرية في السودان مع أثيوبيا طوال حكم عباس الأول وبداية حكم سعيدج باشا، عندما روعت السودا، بسبب انتصار كاسا على منافسيه من حكام أثيوبيا الآخرين، ونشره برنامج مشروعاته واصلاحاته ومنها غزو السودان حتى الخرطوم والوصول بحدود امبراطوريته إلى القدس. وقد أدى ذلك الى ارسال أورطتين من الجند من القاهرة إلى السودان علاوة على ما به من الجنود وكذلك بعض العتاد الحربي (19). غير أن سعيد باشا سار على نفسه سياسة سلفه عباس الأول وهي سياسة التهدئة والحل السلمي والاتفاق.

أولا: العلاقات في عهد سعيد باشا

تولى الحكم في مصر سعيد باشا في يوليو سنة 1854 (20). وفي الوقت الذي كان كاسا (21) يضع اللمسات الأخيرة لتوحيد أثيوبيا تحت حكمه، اذ لم تحل هذه السنة إلا وكان حاكما على جندر وجوجام بعد أن هزم الراس عالي وحاكم جوجام، ولم يكن يناصبه العداء سوى حاكم تيجري وعاهل سوا فقط، ولكن كاسا سرعان ما تغلب على أوبي حاكم تيجري، وتوج في 7 فبراير سنة 1855، امبراطورا على أثيوبيا باسم تيودور الثاني (22)ز

وكان سبب اختياره هذا الاسم، اسطورة أثيوبية قديمة ظلت متداولة حتى عهده، واعتقد الناس أن الوقت قد حان لتحقيقها، وقد آمن تيودور بها ايمانا شديدا حتى اعتقد أنه اختير لتحقيقها. وكانت هذه الأسطور تقول، أنه سوف يظهر ملك أثيوبي من سلالة سليمان، ويعترف به كأعظم شخص على الأرض، وتمتد سطوته على كل أثيوبيا ومصر، وسيكون سيفا مصلتا على الكافرين خارج فلسطين ويطهر القدس ويخلصها من المسلمين، ويحتل عرش سليمان الحكيم، ويدعى تيودوروس Theodora (23). ولذلك فقد كان تيودور يطمح إلى أن يوقع هزيمة ساحقة بالمصريين في السودان، ثم يحول مياه النيل إلى مجرى آخرن ليتم له خراب مصر واخضاعها . كذلك يرغب في الاحتلال الدائم لمنطقة القلاابات واخضاع مديرية سنار. كما كان يبدي استياءه من احتلال الأتراك لموانئ أثيوبيا البحرية (سواكن ومصوع)، للدول الاوروبية ومندوبيها، ويرغب في طردهم منها (24).

ولتحقيق آماله هذه، كان عليه أن يوحد أثيوبيا، لذلك فقد انشغل في بداية عهده بتوطيد حكمه في تيجري وشوا، التي استولى عليها في نوفمبر سنة 1855، ثم بعد ذلك يحارب المصريين (25). وربما كان هذا تقسيرا منطقيا للعلاقات الطيبة التي كانت موجوة بين مصر وأثيوبيا في بداية عهده، اذ ليس من المعقول أن يفتج جبهة جديدة قوية ومركزه ما زال مهددا في أثيوبيا، أو ربما تكون هذه البداية الطيبة في العلاقات نتيجة للتأثير القوي للأنبا سلامة الثالث، المطران المصري لكنيسة اثيوبيا، على الامبراطور في بداية عهدهما معا، أو ربما يكون السببان معا.


ومما يؤكد ذلك أن الامبراطور تيودور أرسل في وينو عام 1855 رسالة مصحوبة بالهدايا ومعها رسالة من مطران أثيوبيا سلامة الثالث، بقصد اقامة علاقات طيبة مع مصر (26). وقد رحب بها سعيد باشا وأمر حكمداره بأن يعمل على حل مشاكل الحدود وهروب سكانها، عن طريق تبادل الرسائل الودية بينه وبين حكام أثيوبيا المجاورين للحدود، أي أن يتبع طريق المفاوضة السلمية بدلا من شن الحرب وذلك تمشيا مع رغبة تيودور في السلام (27).

ويبدو أن تيودور اتخذ هذه السياسة المزدوجة تجاه مصر، لعدم استطاعته مواجهتها في ذلك الوقت (28). لذلك قرر تدعيم قواته ومدها بالاسلحة الحديثة المتطورة، وفي نفس الوقت شجع العمليات الحربية العدوانية على الحدود وطلب من الدول الاوروبية ان تمده بالفنيين العسكريين لتصنيع السلاح وتطويره في بلاده، هذا في الوقت الذي أظهر لمصر النوايا الحسنة (29).

وفي ضوء هذه السياسة، استمرت غارات الملك نمر وبعض الرؤوس الاثيوبيين بل انتشرت في القاهرة تقول أن تيودور بدأ يعد لهجوم كبير على الحدود الشرقية للسودان، وقد كانت هذه الشائعة (30) من الأسباب التي جعلت سعيد يفكر في زيارة السودان لوضع حد لهذه المشاكل التي ثارت بين الادارة المصرية في السودان وأثيوبيا. وان الهدف الأول لرحلته إلى السودان هو التحضير لهذا الغزو (31)، وأن السلطان العثماني هو الذي منع سعيد من غزو أثيوبيا، ونصحه بارسال بطريرك الاقباط ذي المنزلة الرفعية في أثيويبا إليها، لعله ينجح في الوساطة ويعيد العلاقات الطيبة بين البلدين (32).

وبالفعل عرض سعيد باشا على البطريرك أن يقوم بهذه المهمة السياسية، وقد قبلها الأخير بالرغم من علمه بمشاق الطريق ووعورته ومعارضة الأثيوبيين بتعيينه بطريركا مهددين بقطع العلاقات الدينية (33). وربما كان قبول البطريرك هذه المهمة نابعا من واجبه كرئيس لكنيستين تكونان جزءين من أسقفية الاسكندرية ولذلك فعليه أن يمنع سفك الدماء بين البلدين، ويعمل على استباب الأمن والسلام وازدهار التجارة بين البلدين. وربما أن الأحوال الدينية قد تحسنت عندما علم أن الأنبا سلامة مطران أثيوبيا قد أخذ وضعه الطبيعي، وأن العقيدة الأرثوذكسية السليمة قد سادت تبعا لذلك وأراد أن يطمئن ويتأكد بنفسه. وربما يكون قد أجبر على القيام بهذه المهمة ولم يستطع الفكاك منها. وأخيرا فربما تكون هذه الاحتمالات كلها هي التي دفعته إلى القيام بها.

رحلة البطريرك ونتائجها

سافر البطريرك مزودا من سعيد باشا بهدايا ثمينة للامبراطور الأثيوبي وبرسالة إلى حكمداره بالسودان، أدعى فيها أن سفر البطريرك هذا جاء بسبب مرض مطران أثيوبيا وعدم استطاعته القيام بواجباته الدينية، مما دعا البطريرك إلى السفر بنفسه إلى أثيوبيا للاشراف على الكنيسة الأثيوبية، وعلى ذلك طلب منه أن يسهل مهمة البطريرك في الذهاب والإياب (34).

ويلاحظ أن سعيد لم يذكر الهدف الحقيقية لمهمة البطريرك وذلك حرصا منه على سريتها وضمانا لنجاحها، حتى لا يفهم خطأ أن مصر لا تستطيع محاربة تيودور، أو أنها لجأت إلى التهدئة والمفاوضا مما قد يثير التساؤلات في السودان وينتج عنها استهتار السودانيين بالسلطة وازدياد اضطرابات الحدود وهجرة المزيد من زعماء وقبائل السودان إلى الحدود وإلى أولاد الملك نمر وبذلك نجد أن سعيد باشا فعل كل ما هو مناسب وملائم لهيبته وهيبة مصر، لكي يحافظ على السلام والأمن وان إرساله للبطريرك في سفارة تليق به وبمكانة الإمبراطور الأثيوبي لدليل على ذلك، فالمعروف أن البطريرك هو الخليفة الرسمي للقديس مرقس والحبر الأعظم لكنيسة أثيوبيا (35).

ومع ذلك فقد احتاط سعيد من نتائج فشل مهمة البطريرك وأعد العدة للحرب في حالة فشل البطريرك في مهمته، فعزم على السفر إلى السودان ليشرف بنفسه على الشئون الحربية، وتظاهر بأن الغرض من رحلته إلى السودان هو الوقوف على حالة أهله (36). وبالفعل قام سعيد برحلته، وصحبه عدد من الأجانب من بينهم فرديناند دليسبس وعدد من النبلاء، بالاضافة إلى قوة ضخمة من القوات المصرية (37).

وعندما علم الامبراطور تيودور بوصول البطريرك إلى حدود بلده، خف إلى لقائه مرحبا به وسار معه حتى دخل عاصمة ملكه مجدالا معه في ديسمبر سنة 1856. وشاع الخبر في أطراف البلاد فعم الفرح وأقيمت الصلاة في جميع الكنائس الأثيوبية وتفاوض البطريرك مع الامبراطور بشأن وقف عمليات اعتداء الجنود الأثيوبيين على الحدود السودانية، وتحديد الحدود بصفة نهائية بين أثيوبيا والسودان، وأحرز البطريرك نجاحا في مفاوضاته هذه ، وطلب الامبراطور أن يقوم بتتويجه فوافق البطريرك ، وهذا يعني اعتراف الحبر الأعظم للكنيسة الأثيوبية به امبراطورا للبلاد مما يقوي مركزه ويدعمه ازاء مناوئيه. فكانت فرصة لأن يدعو الامبراطور جميع حكام أثيوبيا وأمرائها وقوادها إلى حفل تتويجه الثاني على يد البطريرك ، ليظهروا التفافهم حول الامبراطور ويقسموا يمين الطاعة والولاء (38).

وقد رأى البطريرك في احتياج الامبراطور إلى عمال فنين متخصصين في صناعة الأسلحة وتدريب جيوشه، فرصة لتوثيق العلاقات المصرية الأثيوبية، فعرض عليه مساهمة مصر في امداده بكل ما يحتاجه في تكوين جيش قوي حديث. فطلب البطريرك من الامبراطور الموافقة والتوقيع على مشروع خطاب موجه منه إلى سعيد باشا ، ليرسل له ضباطا وعساكر مصريين وأسلحة لتدريب وتدعيم جيشه (39). وذكر "بلودون" في كتابه، أن بعضهم، ربما يكون من المبشرين البروتوستانت الذين جاءوا إلى أثيوبيا لتنشر الدين المسيحي على مذهبهم تحت ستار أنهم حرفيون في سناعة السلاح، وهو ما كان يطلبه تيودور ويلح في طلبه من الدول الأوروبية، اعتقدوا أن طلب البطريرك هذا يهدد وجودهم ومهمتهم في البلاد، ولذا فقد بدر منهم ما جعل الامبراطور يثور ويغضب على البطريرك (40).

وبالرغم من حاجة تيودور للمعونة العسكرية ، فإنه لم يكن يريدها من البلاد الاسلامية وذلك بسبب تعصبه الديني الأعمى، وقد أدى هذا إلى تصديقه هذه الوشاية، التي ادعت أن البطريرك ليس إلا جاسوسا أرسله سعيد باشا وليس مبعوثه وأنه مسلم في قلبه (41) ، وجاء إليه ليخدعه حتى لا يستعد لمقابلة والي مصر الذي زحف على السودان لهذا الغرض، وبذلك يتمكن من الاستيلاء على بلاده (42).

وذكروا له أيضا أن البطريرك أحضر معه كساء مسمم النسيج يقضي في الحال على من يلبسه، وذلك كهدية له. وبالفعل كان ضمن الهدايا التي أحضرها البطريرك برنس من الجوخ الأحمر المزركش بطراز الذهب والفضة والحرير الملون فانزعج الامبراطور، وارسل من يستكشف له خبر مجئ سعيد باشا إلى الخرطوم فجاءه الخبر بوصول جيش عظيم من المصريين، وبذلك تأكدت هذه الوشاية، فأمر بسجن البطريرك في مقره، وأحاط به الحراس من الجند ، ومنع الدخول عنده. ووضعه تحت الرقابة الدقيقة (43)، بل كاد يقتله لولا تدخل الامبراطورة والشيوخ وأقنعوا الامبراطور أن يبقيه حيا حتى يتحقق من صدق الخبر أو كذبه، فاذا ما ثبت قتلوه، والا فيكون قد قتل ظلما وعدوانا (44).

ومن جهة أخرى تقدم القنصل الفرنسي إلى سعيد باشا، وأكد له أن كلا من البطريرك والامبراطور تيودور اتفقا على غزو مصر وسوف يقدم لهما أقباط مصر كل مساعدة (45). وكانت فرنسا لا تعترف بتيودور امبراطورا، وتؤيد منافسه نيجوسي حاكم تيجري وتريد أن توليه عرش أثيوبيا بدلا منه، لذلك فقد اعتقدت أنها اذا نجحت في اثارة الحرب بين البلدين ، واثارة الاضطراب الذي يحدث في أثيوبيا نتيجة للحرب، فانها ربما تستطيع أن تحقق غرضها هذا بالاضافة إلى أنها كانت تنظر بعين الريبة والشك في البطيرك نتيجة محاولاته في تحقيق الوحدة بين الكنائس الأرثوذكسية والكنيسة الأسقفية الانجليزية مما قد يؤدي غلى تدهور نفوذها في مصر في عهد سعيد باشا (46).

وقد أدت هذه الظروف إلى تدهور الموقف تماما بالنسبة للبطريرك وللعلاقات بين البلدين، ولم ينقذ الموقف سوى الامبراطورة والقنصل الانجليزي وتدخلهما في تهدئة ثورة الامبراطور (47). وفي نفس الوقت استطاع البطريرك أن يرسل من سجنه من يبلغ سعيد باشا بأنه كان على وشك النجاح في مهمته السياسية لولا حضوره ومعه الجيش، وطلب منه ارجاعه (48). وقد رد سعيد باشا على ذلك بأنه لا يفكر في محاربة أثيوبيا، وأن سبب رحلته هذه تمدين السودان وحل مشاكل أهله. وطلب توجيه رسالته هذه إلى الامبراطور ليعم حقيقة زيارته للسودان وتلوضيح نواياه الطيبة نحوه (49). وبالفعل عاد سعيد باشا إلى القاهرة مباشرة (50). وعندما علم الامبراطور تيودور بعودة والي مص إلى بلاده، ودحضت أكذوبة الكساء المسمم رد للبطريرك اعتباره واعتذر غليه (51).

وقد أن انتهت مهمة البطريرك في أثيوبيا عاد إلى بلاده ويصحبه وفد أثيوبيا من قبل الامبراطور حاملين هدايا ثمينة ورسالة لسعيد باشا مضمونها السلام والمحبة. وقد رحب بهم سعيد باشا ترحيبا كبيرا، وحملهم رسالة إلى امبراطورهم يؤكد فيها ميله إلى السلام معه ورغبته في تدعيم التجارة بين البلدين، وقد له هدايا عبارة عن مدافع وذخيرة وخيام ومستلزماتها، وارسل مع الوفد الاثيوبي هذا مندوبا من قبله لكي ينوب عنه في تبليغ الامبراطور صدق مشاعره نحوه (52).


وكان مع رسالة المجاملة هذه رسالة أخرى يعرض له فيها الاضطرابات التي تحدث على الحدود السودانية ، وتتمثل في هروب بعض المشايخ والعربان القاطنين على الحدود إلى أثيوبيا، من الضرائب المقررة. وأيضا فرار المجرمين من القصاص، وساق سعيد باشا أمثلة على ذلك، فذكر ولد ميرية شيخ القلابات الذي عثر في أوراقه على ورقة كتب فيها أن تيودور أعطاه الدار لحد سنار وفازغلي، وأن هذه الدار من حق الامبراطور الأثيوبي، كما أشار إلى خطورة ما يسببه أولاد الملك نمر من اضطرابات على الحدود، وقد دعى سعيد باشا الامبراطور تيودور إلى وضع حد لهذه المشاكل، وأنه أمر حاكم السودان بعدم التعدي على آية منطقة أثيوبية، وحث تيودور على أن يعمل مثله مع رؤوسه التابعين له حتى تستقر البلاد وتأمن الحدود ويطمئن الأهالي ويتجهون إلى تنمية بلادهم (53).

وبالرغم من رغبة سعيد باشا الصادقة في السلام مع الامبراطور الأثيوبي فإن الأخير أوضح مدى سوء نيته ، "أنه كان يتبع سياسة مزدوجة مع مصر، فمع أن رسالته التي أرسلها مع الوفد الأثيوبي، توحي برغبته في السلام، فإن أعماله كلها تناقض ذلك، وبلذلك نستطيع القول أن بعثة البطريرك هذه لم تنج والدليل على ذلك رسالة سعيد باشا السابقة إلى الامبراطور والتي تؤكد استمرار الأحوال التي سبقت رحلة البطريرك والتي استمرت إلى ما بعد وصول الأخير إلى مصر. بل هناك أدلة قاطعة أثبتتها الرسالة السابقة على اشتراك تيودور الفعلي فيها وذلك ابان زيارة البطريرك لأثيوبياها، وعليه فان رحلة البطريرك لم تثمر عن ايجابية فيما يتعلق بمشاكل الحدود بين البلدين.

والواقع أن تيودور لم ينظر إلى بعثة البطريرك هذه نظرة سياسية مجردة بل نظر إليها من زاويته الدينية والضيقة إلى حد أنه صب جام غضبه على البطريرك، إبان زيارته وبعدها، حيث كان دائما يذكر أن والي مصر ارسل رجلا يدعو نفسه بطريركا لكي يستولي على عشره، بالرغم من خضوع تيودور له ، لم يرضي هذا البطريرك بذلك، بل طلب أن يعطي التاج لكي يعطيه للمصريين. كما اتهم تيودوير للبطريرك بأنه لم يأت إلى أثيوبيا إلا لأخذ بلاده وتقديمها غنيمة باردة للمصريين. وقد ظل تيودور يذكر هذه الاتهامات الكاذبة التي وجهها للبطريرك حتى بعد أن ظهرت براءته ورحل عن أثيوبيا (54). ومن هذا يتضح فشل البطريرك في مهمته السياسية.

ولقد شعر سعيد باشا بفشل البطريرك ، أو كما حاول الملتفون حوله من المناوئين للبطريرك أن يصوروا له أن هذا الفشل يرجع إلى عدم لياقة هذا البطريرك لهذه المهمة. والواقع أن فشل مهمة البطريرك إنما يعود إلى شخصية تيودور الصليبية نفسها، وهو ما لم يدركه سعيد باشا أو ربما أدركه وتجاهل رغبة منه في السلام معه. ولذلك أرسل له عبد الرحمن بك التركي يحمل هدايا ثمينة، لكي يستعاض بها عن الأخطاء التي نتجت بسبب عدم فطنة رجل الدين السابق (55).


وقد وصل هذا المبعوث المصري إلى دمبيه في سنة 1859، حيث أكرمت وفادته وقبلت الهدايا واحتفي به أولا ثم ما لبث أن انقلب تيودور عليه واحتجزه سنتين في مجدلا وأخيرا وبعد ورود جملة رسائل شديدة اللهجة وتهديدية من الحكومة المصرية، سمح له بالسفر، بعد أن أمر تيودوير بنهب ما معه وفي طريق عودته وقبل أن يتجاوز حدود أثيوبيا. وبعد قيام عبد الرحمن بك عائدا إلى مصر، كتب تيودور للحكومة المصرية يتهم الرسول باقترافه عدة جرائم، ولما علم عبد الرحمن بها خشى ألا يستطيع الاتيان بالأدلة التي تؤكد ما فعله به هذا الامبراطور من جرائم فظيعة، ففضل أن ينتحر بالسم حتى لا يواجه النتائج والتهم التي قد تنسب إليه في مصر من سعيد باشا، وما قد ينتج عنها من اذلال وتعذيب له (56).


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

خطة تيودور العدائية وفشلها

وهكذات اتضحت نوايا الامبراطور تيودور تجاه مصر، وأ،ه كان يفعل ذلك حتى يتسعد لمحاربتها وأن احتجازه للبطريرك وللمبعوث المصري، يعطيه الوقت لكي يدعم جيشه ويقويه ليعتدي به على السودان ومصر. وكان تيودور يتوقع خطأ أن يهاجمه المصريون، سواء كان يهدف الحصول على الأراضي جديدة، أو لتدمير العناصر الإسلامية في أثيوباي. وكان الاوروبيون يتوقعون الحرب بين تيودور والمصريين أو الأتراك. سواء نتيجة لمشاكل الحدود أو للحصول على مصوع أو بسبب العنصر الصليبي الكامن في شخصية تيودور ذاتها. وبالرغم من صدق مصر في السلام فإنه كان متخوفا من هجوم مصري مفاجئ في مرحلة لم يكن فيها مستعدا للحرب، لذلك أرسل مبعوثيه إلى مص مع البطريرك بخطاب ودي، وكان هذا مجرد تغطية لما كان ينويع وذرا للرماد في أعين المصريين عن هذه النواية الخفية.

وباختفاء نيجوسي المناوئ لتيودور، والذي كانت تؤيده فرنسا، بدأ تيودور يتجه إلى صراعه المقبل مع المصريين (57). فبعث في اكتوبر سنة 1862 – مبتدئا خطته الهجومية التي طال انتظارها – برسائل إلى كل من انجلترا وفرنسا والقرى الأوروبية الأخرى يطلب فيها اقامة علاقات وثيقة معها هدفها تدعيم اثيوبيا ضد – ما اعتقده وتصوره – أنه التهديد المتزايد من الاعتداءات المصرية على أراضيه وأيضا مده بالخبرة الصناعية المتقدمة. وقد أصرت فرنسا في ردها على الامبراطور على أن يعيد للمبشرين الكاثوليك ومعتنقي المذهب الكاثوليكي حقوقهم أولا. ولما كان هذا ضد معتقدات تيودور الدينية ، فقد صرف النظر عن مساعدة فرنسا له وسمح للقنصل الفرنسي بمغادرة أثيوبية (58). أما بريطانيا فلم تهتم بخطابه كثيرا (59)، وذلك لرفضها من قبل الموافقة على أي من خططه السياسية ، أي أنها ترفض تأييد مشروعاته العدائية ضد مصر ومصوع (60).

وتؤكد رسالته إلى انجلترا وفرنسا نظرته التعصبية وأطماعه التوسعية، فقد ذكر فيها أن آباءه الأباطرة نسوا الله، فمكن الجالا والأتراك من التسلط على بلادهم ولكنه خلقه وعهد إليه بهذه الامبراطورية ليحكمها، وبقوة الله طرد الجالا، أما بخصوص الأرتك فقد طلب منهم أن يغادروا أرض أسلافه إلا أنهم رفضوا، ولذلك فإنه الآن على وشك الدخول في صراع معهم لقد منعه الأتراك المحتلون لساحل البحر الأحمر من أن يرسل سفارته إلى بريطانيا وفرنسا عندما كان في شدة. وعبر تيودور عن خوفه من سقوط سفرائه في أيدي الأتراك، عندما يرسلهم إلى هذه الدول، لذلك فهو يناشدهم أن يتكفلوا بسلامة مرور سفرائه في كل مكان، وأبدى الامبراطور رغبته في أن يتلقى ردا عن خطاباته هذه ، واختتم رسائله قائلا: انظروا كيف يضطهد المسلمون المسيحيين (61) وذلك لاثارة حميتهم الدينية فيساعدوه على اشعال حرب صليبية، في زمن انتهت فيه هذه الحروب منذ أمد بعيد.

وفي نفس هذا العام عقد تيودور تحالفا مع أولاد الملك نمر، أيد فيه غاراتهم على الحدود السودانية التي تصاعدت وازدادت حدتها وخطورتها بسبب تدعيم وتأيييد الامبارطور لهم (62)، مما دفع مصر إلى أن ترسل امدادات قوية يرأسها موسى حمدي لتعزيز القوات المصرية في السودان (63). ولم يكتف تيودور بذلك بل أرسل رسالة إلى حكمدار السودان "موسى حمدي" ذكر فيها أنه ليس من حق المصريين البقاء في الخرطوم، ورسم له حدود أثيوبيا الطبيعية التي هي منطقة التقاء النيل الأزرق بالنيل الأيبض حتى شندي شمالا، وهي بلاد الملك نمر وأولاده الأصلية – ومن تلك البلدة وفي خط مستقيم إلى عطبرة. وأوضح له ، له أنه لما كانت هذه المنطقة صحراوية ولا توجد بها آية علامات محددة فانه سوف يرسل شعبه ليحفر أخدودا من النيل إلى العطبرة، وأشار إلى أن حدود مصر يجب أن تكون شمال هذا الاخدود (64).

وازاء هذه التهديدات قام موسى حمدي بعدة حملات تأديبية استطاع أن يستعيد القلابات من الأثيوبيين الذين كانوا قد استعدوا للزحف على الخرطوم ولكن عندما علموا بقدوم القوات المصرية ارتدوا بسرعة ولم يتبعهم موسى حمدي خوفا من تدخل الدول الاوربية، ولأن سعيد باشا كان قد سمح له بالتفتيش على هذه المناطق وعمل بعض الاجراءات التنظيمية لاستعادة الهاربين من المشايخ والأهالي وتأديبهم، ثم العودة إلى مقر حكمه وألا يتعرض للقوات الأثيوبية ما دامت لم تعتد هي عليه، بل حذره من أن يكون سببا في وقوع تصادم من جانبه قد يؤدي إلى الحرب مع أثيوبيا (65).

وقد نفذ موسى حمدي هذه التعتليمات، فبعد أن طرد الأثيوبيين من القلابات وطاردهم بعض الشئ، عاد إلى الخرطوم ومعه العربان العاربون، وشرع في تحصين القلابات بالمدافع والجنود، وعين آدم بك قائدا عليهم، ثم ارسل جيشا إلى أولاد المك نمر فأكتسح بلادهم،ـ وذهب إلى اقليم التاكه ليؤمنه فمكث مدة ثم رجع إلى مقر حكمه (66). ولقد استطاع موسى حمدي بنشاطه الحربي على الحدود مع أثيوبيا، أن يعيد الهدوء إليها ويلقي الرعب في قلب تيودور، ويقضي على فكرة غزو السودان. وعاد الامبراطور مرة أخرى إلى تدعيم قوته في بلاده وتقوية جيشه (67).

ومما ساعد على تخلي تيودور عن غزو السودان، خيبة أمله في الحصول على تاييد فرنسا وبريطانيا، وبالذات من الأخيرة، وانشغاله لما نتج عنها. ذلك أن القنصل الانجليزي كاميرون الذي خلف بلودن، قد اقترح على تيودور أن يبعث الى بريطانيا يطلب عقد اتفاقية صداقة جديدة مع الملكة، ولعل ما كان يقصده كاميرون لم يكن يعدو التبادل الرسمي للمجاملات، ولكن تيودور انتهز الفرصة وأرسل رسالته يطلب فيها التحاف ضد مصر والمسلمين، وكلف كاميرون بحملها إلى ملكة بريطانيا. وبينما كان كاميرون في طريقه إلى مصوع، تلقى رسالة من الخارجية البريطانية بأن يقوم بزيارة الحدود السودانية الأثيوبية، ويكتب لها عن مدى امكان زراعة القطه فيها. وكانت انجلترا في ذلك الوقت تبحث عن منطقة جديدة لزراعة القطن، وذلك بسبب الحرب الأهلية في أمريكا (68).

وبالفعل قام كاميرون بجولة في مناطق الحدود هذه ، وفي منطقة بوجوس في شمال شرق أثيوبيا، وحاول أن يحمي سكانها المسيحيين الاثيوبيين من الاعتداءات المصرية عليها فتوسط لدى السلطات المصرية لمصلحتهم ولوقف الغارت عليهم، ومن بوجوس ذهب إلى كسلا ليعرض مطالب شعبها على الحاكم المصري ثم اجته إلى المتمة والقلابات ليتفقد الوضع القائم على الحدود بين الادارة المصرية في السودان وأثيوبيا، وليجمع المعلومات المتعلقة بتجارة وزراعة القطن والتي طلبتها الخارجية البريطانية منه. وطلب كاميرون من نائبه في مصوع أن يحذر كل زعماء الحدود من عمل غارات على القرى الأثيوبية الواقعة على هذه الحدود ، وبعد أن أتم كاميرون رحلته هذه عاد إلى أثيوبيا (69).

ويلاحظ أن رحلة كاميرون هذه كانت أيضا تخدم مصالح تيودور وأثيوبيا (70) ومع ذلك فقد كان الامبراطور الأثيوبي يسم بالحيانة كل أثيوبي أو أي حليف يتصل بحكام السودان الاسلامي أو يقوم بزيارته. ومع أن كاميرون كان يعلم ذلك، وأنه لم يأبه به وانطلق في مهتمه السابقة. ومضت بضعة شهور قبل أن يعلم تيودور بذلك وكان يخيل له أن كاميرون قد غادر أثيوبيا إلى ساحل البحر الأحمر في طريقه إلى انجرتا بينما كان هو في كسلا والقلابات، أي في السودان، مما أدى إلى غضبه وهياجه وشكه في هذا القنصل بل وفي بريطانيا، وتصور أنها تدبر حملة على أثيوبيا تنطلق من السودان (71).

ومما زاد من غضبه، أن القنصل لم يأته برد خطابه من ملكة بريطانيا، بل أن الخطاب الذي وصل كاميرون بعد ذلك لم يشر مطلقا إلى خطاب تيودور الأخير. واعتبر الامبراطور هذا الصمت الطويل اهانة له، فوضع القنصل الانجليزي والمبشرين البروتستانت التابعين له في السجن (72). واعتقد الامبراطور أن انجلترا تؤديد مخططات المصريين ضده وتباركها، وأيد ذلك سحب الحماية البريطانية عن الاثيوبيين في القدس (73). والواقع أن بريطانيا في ذلك الوقت قد أرادت أن تحد بل وتنسحب من تحالفها مع أثيوبيا (74). وطلب لورد راسيل وزير خارجيتها من كاميرون الكف عن التدخل في شئون أثيوبيا الداخلية والعودة إلى مقره في مصوع (75).

وبذلك نجد أن انجلترا لم توافق على تحركات قنصلها كاميرون، كما أن مصر شكت في تحركاته هذه واتهمته بأنه يدبر غزو الاراضي المصرية، وأصر اسماعيل والي مصر الجديد على سحب هذا القنصل من أثيوبيا (76). وكانت نتيجة تطور هذه الحوادث، أن تحول انتباه تيودور عن غزو السودان ومصر حتى بيت المقدس – امنيته القديمة – واشنغل بصراعه مع مناوئيه في أثيوبيا والأسرى الانجليز.


ثانياً: العلاقات في عهد اسماعيل باشا

بالرغم من تخلي تيودور عن فكرة غزو السودان ومصر، إلا أن ذلك لم ينتج عنه خدوء الحال في الحدود السودانية الأثيوبية، فقد ظلت مضطربة بسبب تهرب القبائل النازلة في هذه المنطقة من دفع الضرائب. مما نتج عنه استمرار وقوع الاشتباكات بين مصر وأثيوبيا على طول الحدود الممتدة من المتاكة حتى القلابات وفازوغلي (77).

ولقد حافظ اسماعيل في بداية عهده على السلام مع أثيوبيا، فطلب من حكمداره في السودان تجنب الاحتكاك والعمل على توطيد الأمن والسلام على طول الحدود بين البلدين (78)، وتوطين الفارين الأثيوبيين على الحدود، معاملتهم معاملة حسنة فلا يطردهم أو يعيدهم إلى بلادهم، وهو بذلك لا يحاول أن يزيد من مشاكل تيودور الداخلية، بل يوطد حكمه بطريقة غير مباشرة، كما أنه عدل نهائيا في هذه الفترة من حكمه عن ارسالة أية قوات عسكرية إلى اثيوبيا لقتال شعبها، حتى تسمح ظروفه أو الظروف الدولية بذلك. ومعنى هذا أن اسماعيل كان ينوي غزو أثيوبيا، ولكنه في بداية حكمه حافظ على السلام لدرجة أنه كان يقبل الفارين الأثيوبيين ولا يحاول استغلالهم ضد تيودور (79).

ومع ذلك استمرت الاضطرابات على الحدود يدعمها ويزيدها حكام الحدود الأثيوبية. وقد شهد اقليم التكاة العديد من غارات دجاج هايلو حاكم اقليم هماسين وولدمراج حاكم عدى – أبو Adi – Abu لدرجة أن اسماعيل أصدر أوامره إلى وكيل حكمدار السودان جعفر مظهر أن يهتم بنقطة كوفين الواقعة شرقي كسلا، ويقيم بها حامية حربية قوية تحت رياسة أحد كبار الموظفين ممن لهم خبرة بالادارة لتكون بمثابة درع يقي الأهالي من هذه الغارت (80). كما نجح الحكمدار من أن يقيم اتحادا بين قبائل الحدود في اقليم التاكة ضد غارات الأثيوبيين (81). وبالفعل فمن طريق تدعيم كوفييت حربيا وتكوين هذا الحلف، توقفت غارات الأثيوبيين ولم تتكررد إلا في عهد يوحنا الرابع (82). وبذلك هدأت المنطقة إلى حين.

كذلك استطاع موسى حمدي هزيمة أولاد الملك نمر ، وأسر أعداد كبيرة منهم (83*، ومن تبقى منهم قضى عليهم جوباز المناوئ لحكم الامبارطور تيودور، بسبب حنقه عليهم، لعدم مساعدتهم إيها ضد تيودور، وهكذا انتهت مشكلة الملك نمر وأولاده (84).

حملة بيسون

كانت نتيجة الاضرابات في الحدود في منطقة اقليم التاكة وبوجوس، أن رحبت مصر باقتراح بيسون Count Bisson ربما بقصد انشاء دولة حاجزة في هذه المنطقة مثلما فعلت أثيوبيا عندما تبنت الملك نمر وأولاده، حتى يحين الظرف المناسب ليغزو اسماعيل أثيوبيا. واذا لم يكن هذا مبررا لحملة بيسون هذه فما هو الواقع وراء قبول اسماعيل لها، وهو لا يعلم شيئا عنه سوى ما عرضه بيسون نفسه من اقامة مزرعة كبيرة لزراعة القطن تحميها مصر؟

وصل بيسون إلى مصر في سبتمبر سنة 1863 ، وأخبر اسماعيل بأنه ينوي القيام بمشروع زراعي صناعي في السودان الشرقي بالقرب من حدود أثيوبيا، وكان هناك اعتقاد بأن بيسون يقوم ايضا بمهمة سياسية. وهي الافراج عن القنصل الفرنسي ليجيان الذي قيل أن تيودور قبض عليه، وقد وافق اسماعيل على سفر بيسون وأتباعه إلى حدود أثيوبيا عن طريق مصر والسودان (85).

والواقع أن اسماعيل لم يوافق على مشروع بيسون الا بعد أن أعلن في مصر هدفه الحربي، وهو اقامة مركز حربي على حدود السودان مع أثيوبيا، وقدمت مصر له المساعدات الفعالة وأمر اسماعيل حكمداره في السودان بضرورة تقديم العون الكامل لبيسون وتاييده في حالة حربه مع أثيوبيا. وكان اسماعيل يعتقد أن تأييده لبيسون خدمة تنتقم بها فرنسا من تيودور الذي قبض على قنصلها وأهانه (86). ومما يؤكد ذلك أنه عدل عن أوامره، عندما أنكرت فرنسا صلتها به، فأمر حكمداره بأن لا يصحبه إلى الحدود الأثيوبية ولا يسمح له بقامة تحصينات قريبة من الحدود، وفي حالة اغارته على أثيوبيا يقدم له الذخيرة فقط دون الجنود، أو بعبارة أخرى تتحول هذه المنطقة – منطقة بيسون – إلى منطقة حاجزة تخفف من اعتداءات الأثيوببين على حدود السودان. وكان السبب في تحول اسماعيل هذا هو خوفه من أن تتهمه الدول الاوربية بأنه يعمل على التحرش بأثيوبيا ومحاربتها بعد اعلان فرنسا تخليها عن بيسون، وكان اسماعيل لا يرغب في ذلك في بداية عهده. وعليه فقد أمر حكمداره في السودان باحتجازه في الخرطوم أطول فترة ممكنة إلى حين صدور تعليمات أخرى (87)، وربما كان ذلك لمعرفة رد الفعل لوجوده عند بريطانيا والنتائج التي قد تترتب على ذلك فيما بعد.


وبوصول بيسون وجماعته إلى السودان – بدأت تنكشف حقيقته، فادعى أن الحكومة المصرية وعدته بالقيام على رأس حملة ضد اثيوبيا يتولى قيادتها. وأنها أسندت إليه الاشراف على الأعمال الحربية في جميع أنحاء السودان. وأشار على موسى حمدي أن يبعث إلى مصر باقتراح فتح أثيوبيا في العام التالي سنة 1864، على أن يبدأ هو بتدريب القوات المصرية طبقا للأسلوب الفرنسي، وأوضح له أن ظروف غزو أثيوبيا قد اصبحت مهيئة بفضل البعثة التبشيرية الكاثوليكية، التي أرسل رئيسها إلى الأب ستيللا في بوجوس برسالة ذكر فيها أنه اتفق مع سكان تيجري على القيام بثورة ضد تيودور ، وذكر بيسون أنه يعلق الآمال على الجيش الفرنسي فيما اذا أحجمت مصر عن غزو أثيوبيا. فان فرنسا سوف تقوم به. واضاف أن انجلترا تعارض غزو مصر لأثيوبيا. وقد سببت تصريحات بيسون هذه ارتباكات شديدة للحكمدار، الذي لم يكن يعرف شيئا مؤكدا عن حقيقة أمرها فارسل إلى القاهرة يستوضح كنه هذه الحملة والغرض منها وأهدافها (88).

ويتضح مما سبق مدى تورط الارسالية الكاثوليكية في بوجوس في هذا الموضوع وكان سبب وجود الارسالية التبشيرية الكاثوليكية في هذه المنطقة، هو افتقادها الأمان الديني والسياسية في تيجري (89). مما دفعها إلى الاتجاه شمالا والاستقرار في بوجوس وقاد الارسالية إلى منطقتها الجديدة هذه كل من سابيتو وستيلا وذلك في سنة 1852 ، حيث نقلوا مركز الارسالية من عدوة إلى أكلاجوزيه Akakal Gusay.

وبدأت الارسالية تمارس نشاطها التبشيري وتدعم وجودها بانشاء كنيسة أثيوبية كاثوليكية بعيدة عن التيارات السياسية التي كانت موجودة في أثيوبيا في ذلك الوقت (90).

وظلت هذه الارسالية في حمى أوبي ونيجوسي من بعده وكانت فرنسا تؤيد الأخير وتعترف به امبراطورا على أثيوبيا بدلا من تيودور. غير أن الأخير استطاع أن يقضي عليه ويقتله، وبذلك فقدت الارسالية الكاثوليكية حاميها وقضي على أحلامها بالعودة إلى أثيوبيا. لأن تيودور كان لا يسمح بممارسة نشاطها التبشيري في بلاده (91). وازاء ذلك كان لابد للارسالية أن تبحث عن قوة تساندها في التخلص من تيودور ويساعدها في العودة إلى أثيوبيا. ولهذا فليس من المستبعد أن تقف وراء الكونت بيسون الفرنسي الكاثوليكي. وأن تستغل رغبة مصر القديمة، وتحثها من جديد على غزو أثيوبيا. فتنشب الحرب بين البلدين، وقد ينتج عنها التخلص من تيودور أو اضعافه، وبالتالي يسهل عليها العودة إلى أثيوبيا والمعروف أن النفوذ الفرنسي كان سائدا في مصر في عهدي سعيد واسماعيل من بعده وبالتالي فان نسبة نجاح هذه الخطة كانت كبيرة.

وقد اهتمت بريطانيا بأنباء هذه الحملة (حملة بيسون) عندما علمت بها وأمرت قنصلها العام في مصر مستر كولكهون بالتحري عنها عندما طلبت من سفيرها في فرنسا الاتصال بالخارجية الفرنسية بهذا الخصوص. وقد أنكرت الخارجية الفرنسية معرفتها ببيسون، بل قالت أن الامبراطور الفرنسي لا يعلم عنه شيئا، أما القنصل الانلجيزي في صمر، فقد قابل الخديو وأخبره بأن حكومة بريطانيا لا تسمح بأي اعتداء على أثيوبيا أو تأييد الكونت بيسون لنفس الغرض (92)، وبالفعل أرسلت الحكومة المصرية تعليماتها إلى حكمدارها في السودان بألا يقدم له أي مساعدات ويعامله كأي سائح عادي ولا يقيم وزنا لما يدعيه لنفسه، وفي حالة مطاردة الأثيوببين له في داخل الحدود المصرية عليه أن يطردهم بالقوة، ويعمل على اضعاف قوة الاب ستيلا بفض أنصاره من حوله، وأكدت له حكومة مصر عدم النية في غزو أثيوبيا، ولكنها ستوالي ارسال الأسلحة والجنود إليه للمحافظة على الحدود وتوطين الأمن (93).

أما بيسون فقد وصل إلى كسلا، والتقي بالأب ستيلا الذي عرض عليه محاربة أثيوبيا والقضاء على حكم تيودور بواسطة القوات المصرية، وعليه فقد حصل بيسون على سهل ستث، وهو جزء من بوجوس على الحدود مع تيجري عن طريق الحصول على تنازلات من الأهالي، ثم استمر بعد ذلك في الحاق باقي اقليم بوجوس والاستعداد، لارسال حملات إلى داخل المناطق المجاورة له لكي يستولي على الماشية والعمال. وأراد أن يورط السلطات المصرية مع أثيوبيا بأن أرسل إلى حكمدار السودان مهولا له من شأن الخطر على السودان من جيش أثيوبيا. وأن الامبراطور يحشده ليخترق الحدود السودانية. ولذلك يجب عليه أن يستعد لما سيترتب على ذلك من نتائج وقد أثارت أعمال بيسون هذه الادارة المصرية في السودان التي توقعت أن استمرار وجوده على الحدود سوف يعجل بالحرب بين مصر واثيوبيا. ومما أيد ذلك أن بيسون عدل عن الذهاب إلى مستعمرته المقترحة بناء على نصيحة الأب ستيلا بالبقاء في نقطة كوفيت شرقي كسلا لقربها من الحدود الأثيوبية ولأنها من الأملاك المصرية. مما يضمن استمرار ضيافة مصر له كما أنه يستطيع القيام بحملاته الحربية على أثيوبيا، وبالتالي يورط موسى حمدي فيضطر إلى التدخل. وبذلك يحقق الاب ستيلا هدفين أولهما الحرب بين مصر وأثيوبيا وزعزعة حكم تيودور ثم ابعاد بيسون عن بوجوس مقر الارسالية الكاثوليكية حتى لا تجلب في المشاكل ويعرضها للخطر اذا قام تيودور بصد بيسون، وبالتالي يعرف دورها فيطردها ويعرف الأهالي حقيقة دور الارسالية في هذا الموضوع فينصرفون عنها (94).

غير أن حملة بيسون هذه لم تنجح، وذلك لعدم تعاون الادارة المصرية في السودان معه تنفيذا لأوامر اسماعيل باشا التي أرسلها الى حكمداره موسى حمدي كما رفض الجنود الذين أرسلوا من قبل الحراسة القيام ببناء الاستحكامات بعد أن هجره العمال بسبب عدم دفعه لأجورهم، بل انه سحب هؤلاء الجنود وترك بيسون دون حراسة، ولم يأبه مدير التاكة لشكواه، ووضعه تحت المراقبة الدقيقة وأخذ يضيق عليه الخناق حتى تخلى عنه بعض المتعاقدين معه، كما أن قبائل المنطقة أعلنت معارضتها له حينما وجدت السلطات المصرية لا تؤيده. كل هذه العوامل دفعت بيسون إلى التخلي عن مشروعه والعودة في صيف سنة 1864 إلى مصر ثم الرحيل بعد ذلك إلى فرنسا (95).

ولم يكن لهذه الحملة من نتئاج هامة سوى أنها زادت من تدهور العلاقات بين مصر وأثيوبيا، وأثر هذا التدهور على العلاقات بين أثيوبيا وانجلترا، فقد اعتقد الامبراطور خطأ أن رحلة كاميرون إلى كسلا إنما هي للاتصال بأعدائه ومناوئيه ولمعاونتهم في غزو أثيوبيا والقضاء على حكمه. مما دفعه إلى القبض على كاميرون في 3 يناير سنة 1864، مع أن وصول بيسون إلى هذه المنطقة كان بعد هذا التاريخ (96)، ورفضت مصر طلب مغامر آخر فرنسي كاثوليكي كان هدفه غزو أثيوبيا، وذلك حتى لا يؤول على أنه عمل عدائي استفززاي ضد تيودور، وهذا ما كانت تتجنبه مصر (97)، وهكذا استفادت مصر من ذلك بأن أوضحت للعالم عامة وانجلترا خاصة أنها لا تفكر في غزو أثيوبيا وأنها رفضت مساعدة بيسون وأمثاله، وارضاء لانجلترا عندما طلب قنصلها من الحكومة المصرية ذلك.


إسماعيل يضم مصوع وسواكن

كان اسماعيل يبغي التوسع، ولكن عندما تسمح ظروفه الداخلية والخارجية بذلك . وكان الدافع له ايقاف تجارة الرقيقة. وحاجته إلى تدعيم مركز الادارة المصرية في السودان (98).

فالنسبة للظروف الخارجية، كان يعلم أن بريطانيا لن تسمح له بغزو أثيوبيا، كما أنه مشغولا بمشكلة كريت التي كلفه الباب العالي بها (99)، لذلك فقد ركز جهده في تدعيم مركزه في السودان استعدادا لغزو أثيوبيا بعد ذلك، وعليه فقد تطلع إلى ضم سواكن ومصوع إلى حكمه، وذلك لأهميتهما في تحقيق أهدافه وأطماعه (100).

وكانت أهمية سواكن تتمثل في أنها المنفذ الوحيد لاقليم التاكة على البحر الأحمر ، وبالتالي كانت أعظم مركز تخزين للغلال والبضائع من وإلى صعيد مصر، هذا بالاضافة إلى سرعة الاتصال بالسودان (101). أما مصوع فتنبع أهميتها من أن من يسيطر عليها يستطيع فرض سيادته على الساحل واقليم سمهر الذي يسيطر على الطرق المؤدية إلى أثيوبيا، وبالتالي تستطيع مصر مراقبة تحركات القبائل المغيرة على الحدود السودانية (102)، ومنها ترسل – في الوقت الملائم – قواتها لغزو أثيوبيا وهو ما حدث فعلا قيما بعد.

ولهذا فقد قرر اسماعيل ضم المينائين وفرض سيادته عليهما. فأرسل إلى الأستانة مذكرة برر فيها هذا قال فيها بأن الأجانب يحرضون القبائل التي تقطن بين مصوع وأثيوبيا واقليم التاكة على الاستقلال والخروج على الادارة المحلية – التركية وذلك تحت ستار الدين والمدنية. وقد يترتب على نجاحهم انتشار الفوضى والاضطرابات في المنطقة مما يؤدي إلى تدخل أثيوبيا فتستخدمهم لمصالحها ضد أملاك السلطان ، أما اذا كانت هذه المنطقة خاضعة له، فإن ذلك يسهل انتقال مأموري التاكة إليهم وقيامهم بالمراقبة وتوطيد الأمن والقضاء على تجارة الرقيق التي قيل أن الدولة العثمانية تشجعها. وأشار إلى محاولات الارسالية الكاثوليكية لفرض الحماية الفرنسية على المنطقة وسكانها. واعتبر تدخل قنصل فرنسا في بوجوس وفرضه الحماية الفرنسية على قبائلها أمرا خطيرا قد يتحول إلى ايجاد علاقة له في المنطقة. ولذلك فان ضم هذين المينائين للادارة المصرية يجنب هذه المنطقة من بعض المشاكل التي قد تنجم عن هذا التدخل الأجنبي فهيا (103).

كذلك برر اسماعيل طلبه هذا للدول الاوربية، أنه يرغب في القضاء على تجارة الرقيق في هذه المنطقة ولن يتم ذلك إلا بضم مصوع وسواكن للادارة لامصرية التي تستطيع أن تحقق ذلك، وقد أوضح اسماعيل ذلك لسفير بريطانيا في تركيا هنري بولور أثناء زيارته لمصر (104). وكان لوساطة هذا السفير في تركيا أثر كبير في اتمام ضم سواكن ومصوع لمصر. وكان سبب هذه الوساطة، خوف بريطانيا من حصول فرنسا على موضع قدم في أي مكان على طول الساحل الافريقي للبحر الأحمر بعد أن استولت على أوبوك خارج مضيق باب المندب (105). وكانت موافقة انجلترا هذه نابعة من السياسة التي اتبعتها وهي الانسحاب بقدر الامكان من الارتباطات والتحالفات مع أثيوبية (106). وربما كان لتوتر العلاقات الاثيوبية البريطانية بسبب سجن تيودور للقنصل الانلجيزي والمبشرين أثر في ذلك.

وقد أصدر الباب العالي قراره بالحاق سواكن ومصوع بالادارة المصرية في السودان في مايو سنة 1865. وتسلمت مصر سواكن مباشرة بعد صدور هذا القرار أما مصوع فقد تأخر تسلمها بسبب ثورة الجند في التاكه (107)، ولم يتم تسلمها إلى في العام التالي أي في ابريل سنة 1866، واحتلها مصر كما احتلت أركيكو، ووضعت الحامية المصرية في المواقع التركية على طول الساحل الافريقي للبحر الأحمر (108). وبنجاح اسماعيل في ضم هذين المينائين ، أصبح في امكانه الاستيلاء على اقليم بوجوس الذي يخترقه الطريق المباشر بين مصوع وكسلا، وطريق الجمال إلى اقليم هماسين. كذلك ضم اقليم الزنادقلي الخاضع لأثيوبيا والذي تصل حدوده إلى شمال غربي مصوع بنحو ستة أميال (109). هذا بالاضافة إلى أن مصوع تعتبر المنفذ الطبيعي لأثيوبيا ونافذتها على العالم الخارجي (110).

وبالطبع كانت بريطانيا تعرف مدى خطورة منح مصر سواكن ومصوع على العلاقات المصرية الأثيوبية وما يترتب عليها من تطورات ونتائج، ومع ذلك وافقت وتوسطت في ذلك الى حد أن أحد الكتاب الانجليز أوضح أن معنى احلال مصر محل تركيا في السيادة على أملاك الأخيرة على ساحل البحر الأحمر الافريقي، مما يعنيه ضمنا أن أثيوبيا أيضا كانت تعتبر تابعة للدولة العثمانية، ومن ثم أصبحت خاضعة لمصر مع ملاحظة أن الأخيرة لم تكن بضعف تركيا، ومن ثم فقد تسعى لأن يكون هذا الخضوع حقيقة بالفعل لا بالقول وفحسب. وعلى أي حالة فان هذه هي السياسة التي صارت عليها برطانيا في التخلي تدريجيا عن أثيوبيا (111)، كما أننا سنجد أن هناك تعاون بين مصر وانجلترا قبل الحملة الانجليزية على أثيوبيا وفي أثنائها.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

موقف مصر من الحملة الانجليزية على أثيوبيا وأثره على العلاقات بين البلدين

اعتقد تيودور أن بريطانيا تتواطأ مع مصر على غزو بلاده لذلك قبض على قنصلها وعلى المبشرين البروتوستانت ، مما أثر قلق الحكومة البريطانية على رعاياها حتى أنها خافت عليهم من الحشود المصرية على الحدود الأثيوبية السودانية. والتي كانت مصر قد أرسلتها عن طريق ميناء واكن، بعد ضمه إليها – للحفاظ على الأمن والسلام داخل مقاطعات الحدود الخاضعة للادارة المصرية في السودان (112). وكانت هناك شائعات تقول أن هذه القوات أرسلت لتضيف مناطق أخرى في هذه الجهات لمصر (113).

خافت بريطانيا من هذه الحشود على قنصلها ورعاياها أسرى تيودور من أن يؤكد ذلك اعتقاده بأن بريطانيا تؤدي مصر بل، وتعتزمات معا غزو البلاد. وكانت هناك شائعة تقول أن شركة انجليزية ستنفذ مشروع مد خط حديدي من سواكن إلى كسلا لنقل هذه القوات المشتركة التي ستغزو أثيوبيا. وقد أدت هذه الشائعات إلى اعادة القيود على القنصل البريطاني والأسرة الآخرين. لذلك كانت بريطانيا تخشى من أية حركة معادية من جانب مصر تجاه أثيوبيا مما قد يهدد رعاياها بالخطر. وقد استجابت مصر لبريطانيا بل وتعاونت معها في تهدئة الأحوال على الحدود مع أثيوبيا فلم تنتهز فرصة أتيحت لها لضم تيجري إليها، فقد عرض جوباز حاكم لاستا المناوئ للامبراطور تيودور وشعب تيجري ضمها لمصر إلا أنها رفضت لسببين أولهما أنها كانت مشغولة بحرب كريت ولم يكن لديها الامكانيات الحربية لكي تناصر أحد المناوئين ضد الامبراطور وتتحمل ما قد ينتج من ذلك من نتائج، وثانيهما أنها كانت تأخذ في الاعتبار خوف بريطانيا على حياة الرعايا وأن أية حركة معادية من جانب مصر قد ينتج عنها القضاء على هؤلاء الأسرى (114).

وبالرغم من حرص مصر هذا، فقد كان الامبراطور تيودور يحاول التحرش بها فتحالف مع أحد زعماء دارفور (أحمد شنا)، على أ، يزحف على الخرطوم في الوقت الذي يزحف فيه أحمد شنا وحاكم جبل الداير على كردفان، ولكن هذه الخطة لم تنجح لأن تيودور انشغل بمقاومة الحملة الانجليزية التي قضت عليها. وكان من حرص مصر على هدوء الأوضاع بينها وبين أثيوبيا، أنها لم تتخذ أي اجراء حربي أو معادي لتيودور، بل كل ما فعلته أن كلفت حكمدار السودان بأن يتحصص أحوالهم ويقف على حقيقة أمرهم ويوافي الخديوي بتفاصيل هذا الموضوع (115).

كذلك قدمت مصر بقدر استطاعتها، تسهيلات لكل المحاولات السلمية التي قامت بها بريطانيا لانقاذ قنصلها والمبشرين البرتوستنات وكانت الحكومة البريطانية قد بدأت تدرس الوسائل الواجب اتخاذها لاطلاقهم . وكان أمامها أحد طريقين، أما الجوء إلى القوة أو اتباع الطرق الدبلوماسية، فآثرت أولا استخدام الوسائل الدبلوماسية (116). فاختار ستانتون القنصل العام البريطاني في مصر مستر وليام جيفورد بلجراف مبعوثا إلى تيودور لكي يتفاوض معه بشأن اطلاق سراح الأسرى وذلك بعد أن طال انتظار رسام في مصوع واتصل بالحكومة المصرية التي اتخذت في الحال اجراءات هامة تتعلق برحلة بلجراف السريعة إلى أثيوبيا في النيل فوضعت باخرة تحت طلبه. وصدرت الأوامر إلى السلطات في أعالي البلاد بتسهيل هذه الرحلة حتى حدود أثيوبيا. غير أن ظهور هرمورد رسام في السويس وضع حدا لرحلة بلجراف. اذ كلف رسام مرة أخرى بالذهاب إلى مصوع (117).

وكانت الحكومة البريطانية قد كلفت رسام بالتفاوض مع تيودور بشأن اطلاق سلاح أسراه. وعندما وصل رسام إلى مصر مع زملائه، بعث بعدة رسائل إلى الامبراطور يستأذنه في الدخول إلى بلاده. ولكن تيودور تجاهل هذه الرسائل مدة عام (يوليو 1864- اغسطس 1965) ثم سمح أخيرا له بالحضور إليه وحالت دون وصول رسام إلى الامبراطور الثورة في تيجري. وموسم الأمطار في طريق كسلا القلابات. ولذلك كتب رسام إلى تيودور يستأذنه في الانتظار حتى ينتهي موسم الأمطار (118). وفي أثناء ذلك جاء رسام إلى مصر لاجراء الاتصالات التلغرافية مع لندن بشأن مهمته، ولشراء الهدايا النفيسة للامبراطور، ثم عاد إلى مصوع ليبدأ رحلته إلى مقر الامبراطور تيودور (119). غير أن رسام فشل في مفاوضاته مع الامبراطور لاعتقاد الأخير أنه إذا أطلق سراحهم سيفقد الوسيلة التي يتصل عن طريقها مع الحكومة الانجليزية (120).

وعندما فشلت الوسائل الدبلوماسية في الافراج عن الأسرى، قررت بريطانيا استخدام القوة لتخليص رعاياها من أسر تيودور (121). فأصدرت أوامرها إلى حاكم عدن الكولونيل ميروزير ليتقصى أحوال أثيوبيا الداخلية ولدراسة الطرق التي تربط ساحل البحر الأحمر الافريقي بالهضبة الأثيوبية، وبالفعل قام في يناير سنة 1867 بجولة في ساحل البحر الأحمر الافريقي فمر بمصوع وطاف بساحل سمهر وخليج انسلي لتقصي أحوال أثيوبيا الداخلية ومعرفة الأماكن المناسبة لنزول قوات الحملة البريطانية التي تقرر ارسالها إلى أثيوبيا. ووقع اختيار ميروزير على طريق أمفيلا – عدوه (122).

ولقد أثار نشاط الانجليز هذا على ساحل البحر الأحمر الأفريقي، شكوك حاكم مصوع المصري، الذي ارسل إلى القاهرة يخبرها بهذا النشاط، فكلفت حكمدارها في السودان جعفر مظهر باشا بالقيام بجولة تفتشية على طول ساحل البحر الأحمر حتى باب المندب. وبالفعل قام الحكمدار بهذه الجولة التفتيشية حيث وزع الهدايا والاعلام على شيوخ القبائل ودعاهم إلى الاعتراف بسيادة الحكومة المصرية. وقد وجد ترحيبا كبيرا منهم. ودعا جعفر مظهر في تقريره حكومة مصر إلى ضم أثيوبيا إليها منتهزة فرصة الفوضى الناشبة في أنحائها، وعدم تضامن رؤسائها مع امبراطورهم، وأنهم لن يقاوموا أي تغيير في الحكم، كما أن السكان النازلين بالقرب من الحدود المصرية متضامنون مع مصر ولذلك فإن فرص نجاح مصر في ضم أثيوبيا كبيرة موفقة (123) . أي أن جعفر مظهر أراد أن تقوم مصر بالحرب بدلا من انجلترا وذلك خوفا على السيادة المصرية على هذه المناطق.

كذلك فقد أثار قرار اعلان انجلترا الحرب على الأثيوبيا اعتقاد بأن بريطانيا لن ترضى بمجرد انزال العقاب بالامبراطور تيودور ولكنها ستحاول اقتطاع منطقة من أثيوبيا على الأقل واحتلالها بل اشيع أن انجلترا تطمع في الاستيلاء على جزيرة مصوع واحتلال مصر نفسها بعد هزيمة أثيوبيا (124).

ولقد أثارت هذه الشائعات مخاوف حكومة مصر التي لم تجهر بها. وقد رأت الحكومة الانجليزية ضرورة تكذيب هذه الشائعات في تبديد مخاوف مصر ، فأمر قنصلها في القاهرة أن يؤكد للخديوي أن القوات الانجليزية سوف تغادر أثيوبيها بعد اطلاق سراح الأسرى وأنها لا تنوي غزو هذه المنطقة من البحر الأحمر. ومع ذلك فقد أعرب الخديوي لحكومة لندن رغبته في التوسط بينها وبين تيودوير. فوافقت بريطانيا على اقتراحه، وبالفعل بعث الخديوي برسالة إلى تيودور (125)، حثه فيها على إطلاق سراح الأسرى حتى يتجنب الحرب مع بريطانيا ويجنب بلاده ويلاتها. وعرض عليه في حالة موافقته على اطلاق سراح أسراه أن يرسلهم إلى مصوع أن إلى آخر حدود مملكته ويخبره ويخبر انجلترا حتى توقف تقدم جنودها في أثيوبيا. وحذره من تمسكه باحتجاز الأسرى سوف يدفعه – أي الخديوي اسماعيل – إلى أن يسمح للقوات البريطانية بالمرور في أملاكه إليه وان كان هذا لا يبغيه ولكنه سيضطره إزاء تمسكه إلى أن يفعل هذا ودعاه إن يسمع صوت العقل ويعمل بنصيحته (126).

وقد حمل أحد رجال الدين الأقباط هذه الرسالة، ورسالتين أخريتين من بطريرك الأقباط والأخرى من برطيرك الأرمن الأرثوذكس. وبالاضافة إلى هذه الرسائل أرسلت رسالة إلى عبد القادر باشا الذي عين مندوبا فوق العادة في مصوع بسبب ظروف الحملة الانجليزية ، جاء فيها بأنه في حالة الافراج عن الأسرى يرحب بهم ويسلمهم إلى القنصل الانجليزي، ويخبره في الحال، أما في حالة لم يفرج عنهم، فيعمل على توصيل القس القبطي حامل هذه الرسائل إلى الحدود (127)، على أن تيودور لم يهتم بهذه الرسائل واستمر في سجنه لهولاء الأسرى (128).

وبالرغم من تأكديات الحكومة البريطانية بقصر هدف الحملة على اطلاق سراح الأسرى، فإن الخديوي احتاط لذلك، فسعى عند الباب العالي لاحضار قواته المشتركة في اخماد ثورة كريت، وارسلها إلى الحدود الاثيوبية حتى تكون مستعدة لما قد تتطور إليه الأمور في هذه المنطقة (129). وبعد ما فعل اسماعيل هذا لم يجد أمامه شيئا سوى أن يقدم معاونته للحملة البريطانية التي قررت انجلترا إلرسالها وعينت سير روبرت نابيير قائدا علهيا (130).

وحصلت الحكومة البريطانية في اغسطس سنة 1867 على موافقة الباب العالي بمرور القوات البريطانية بمصر والنزول في ميناء زولا بالقرب من مصوع على شائط البحر الأحمر الأفريقي. كما وافق على منح كل مساعدة ممكنة للحملة الانجليزية كذلك حصلت بريطانيا على موافقة اسماعيل على مرور القوات الانجليزية بمصر، ورحب بتقديم كل مساعدة ممكنة لها فمدها بالدواب، والمواد التموينية مما ساعد على نجاح الحملة في مهمتها، كما صرح لها بأن تنشئ خطا تلغرافيا بين مصوع وسواكن، وأمر حكمدار السودان بتقديم كافة التسهيلات اللازمة لهم وعين حكمدار السودان مشرفا عاما على هذه المنطقة حتى يضمن سرعة حصول الحملة الانجليزية على ما تحتاجه لنجاح مهمتها (131). ولم يكتف اسماعيل بذلك بل عين عبد القادر باشا مندوبا فوق العادة وحدد مقر اقامته في مصوع واخضع له كل السلطان العسكرية في هذه المنطقة وذلك لتسهيل مهمة الحملة الانجليزية في اطلاق سراح الأسرى (132).

وبالرغم من هذه المساعدات التي قدمتها مصر للحملة الانجليزية، فإن اسماعيل باشا لم يستفد منها شئيا، كما أن انتحار تيودور لم يفد مصر أيضا اذ أن الحملة الانجليزية اختارت قبل رحيلها من أثيوبيا رجلا متعصبا آخر يتلاءم في الواقع مع السياسة الانجليزية في المنطقة ولا يقل تعصبا عن تيودور ، اذ كان هو الآخر يرغب في طرد المصريين من كل السودان ومن ساحل البحر الأحمر الأفريقي، فتركت له كمية ضخمة من السلاح والذخيرة. وأحد العسكريين الكبار في الحملة وهو الجنرال كيركهام Kirkham في خدمته لتدريب جيشه، وكان الدافع إلى ذلك هو الخوف من التقدم المصري واحتمال الاعتداء على أثيوبيا اذ كانت في ذلك الوقت حملة صمويل بيكر إلى أعالي النيل وخوف الأثيوبيين منها. وما قد تمثله من تهديد (137) لبلادهم. كما أن مصر لم تستفد من منشئات الحملة ومهماتها وأدواتها التي تركتها ف يميناء زولا، لأنه ثبت عدم صلاحية المدينة كمركز لمحافظة مصوع (138).

ومع ذلك فقد أوجدت هذه الحملة لمصر ظروفا استطاعت أن تؤكد أمام بريطانيا حقوق سيادتها على ساحل البحر الأحمر الأفريقي حتى باب المندب (139). بالاضافة إلى اتباع سياسة أكثر تحديدا واحكاما من السياسة التي كانت تتبعها من قبل في ساحل البحر الأحمر الغربي وفي السودان الشرقي ، فقد اتجهت مصر إلى التوسع بضم أقاليم أخرى إلى سيادتها (140) – وساعد على ذلك أن بريطانيا لم تعد تهتم كثيرا بأثيوبيا بعد أن أصيبت بخيبة أمل كبيرة في صنيعتها تيودور، كما أنها أرادت أن تحد من تدخلها في الشئون الاثيوبية (141). واكتفت بتدعيم كاسا الذي أختير كخليفة لتيودور. وتركت له خبيرا عسكريا مما جعله من أقوى الزعماء في البلاد (142). والدليل على ذلك أنها لم تحاول أن تمنع اسماعيل من شن الحرب على أثيوبيا كما كانت تفعل من قبل ولم يفهم اسماعيل هذه السياسة الجديدة وسرعان ما تورط في حروب مع أثيوبيا. انتهت بهزيمته وقضت على عهده في مصر واستقلالها بعد ذلك.

علاقة مصر برؤوس أثيوبيا المتنافسين على عرش تيودور

نتج عن انتخار الامبارطور تيودور، أن حلت باثيوبيا الفوضى وصراع الرؤوس للوصول إلى العرش. وكان المتنافسين ثلاثة هم كاسا في تيجري، وواجشوم في جوباز في أمهرا، ومنليك في شوا (143). وكان اسماعيل يتابع هذا الصراع ولكنه لم يتدخل فيه. والدليل على ذلك أنه استقبل وزيرا أرسله كاسا يصحبة القساوسة والرهبان، وتقبل هداياهم (144). ووافق على ارسال مطران إلى كاسا ليقوم بتتويجه (145). كما أرسل حكمدار السودان بطلب آخر أنباء الصراع مع أنه لم يكن يعرف أحدا منهم فكان يميز كاسا "الذي أرسل إليه مطرانا من مصر كما أنه لم يعلم بما قام به نابيير قائد الحملة الانجليزية من ترك أسلحة كثيرة وخبير حرب" فلو كان يعلم لما سأل هل هو غالب أم مغلوب (146).

والواقع أن اسماعيل لم يكن له سياسة معينة ازاء رؤوس أثيوبيا المتنافسين فهو يستقبل مبعوثي كاسا، ومبعوثي منافسه جوباز (147) ويرفض مساعدة كاسا عندما طلب منه ذلك عن طريق النايب محمد عبد الرحيم أمير مصوع وناظر سمهر (148). ويكتفي بتهنئة تكلا جورجيس عندما أرسل إليه يخبره بأنه أصبح ملكا على أثيوبيا (149)، ويوافق في نفس الوقت تقريبا على سفر وفد مرسل قبل كاسا إلى ملكة انجلترا ويكرمهم عند نزولهم في مصر ويقبل هداياهم المقدمة من كاسا إليه (150).

والسؤال الذي يطرح نفسه ، لماذا لم يؤدي اسماعيل أحد من هؤلاء المتنافسين لكي يستغله فيما بعد لتحقيق أطماعه، تماما كما فعلت بريطانيا مع كاسا؟ والسبب في ذلك أنه لم يكن يعلم شيئا عن اثيوبيا سوى أن هناك رأسين من رؤوسها يتنازعان على العرش بعد موت تيودور، لأنه لو كان يعلم لأيد تكلا جورجيس ضد كاسا الذي دعمه نابيير بالأسلحة والعتاد الحربي. ولكانت النتيجة المنتظرة لذلك على أسوأ الفروض هي ازدياد الاضطرابات والصراع بينهما مما يضعهما معا، ولازداد بالتالي فترة الصراع بينهما مما يسهل لاسماعيل باشا الاستيلاء على البلاد أو على الأقل الأجزاء الشمالية من أثيوبيها المتاخمة لأملاكه في شرق السودان. أما إذا أراد أن يتخلى عن سياسة التوسع، ويحافظ على العلاقات الطيبة مع أثيوبيا فعليه أن يؤيد كاسا، وبذلك يكسبه إلى جانبه ويحافظ على سلامة وأمن حدوده. ولما حدث بعد ذلك حروب بينهما، على أن اسماعيل لم يكن لديه هذه الخلفية عن أثيوبيا في ذلك الوقت (151)، أو عن هذه السياسة، واختار ان يبقى على الحياد بينهما على أمل أن يزيد من ضعف أثيوبيا مما يساعد على تحقيق توسعاته وأطماعه. وفي هذا أثبت اسماعيل قصر نظره إذ سرعان ما استطاع كاسا أن يهزم تكلا جورجيس بفضل الدعم العسكري الانجليزي وينتبه إلى الخطر المصري الجاثم على حدوده، بل استغله كما سنرى في تدعيم حكمه وسيادته على كل أثيوبيا (152).

وعلى آية حال لم تدم طويلا هذه العلاقات الطيبة الظاهرة بين مصر وأثيوبيا لأن اسماعيل كان يرغب في تدعيم سيادته على السودان الشرقي. ويتطلب ذلك ضم منطقة بوجوس الواقعة بين اقليم التاكة ومصوع إلى مصر (153). وقد تصادفت هذه الرغبة مع تطور الأحوال في المنطقة، ذلك أن بوجوس هذه أصبحت موطن الارسالية الكاثوليكية. وكان كاسا قد اتبع عدائية تجاهها، بسبب مساعدتها لجوباز منافسه، وحاول منزنجر قنصل فرنسا في مصوع أن يثني كاسا عن ذلك إلا أنه فشل ومن ثم فقد شجع الزعماء المناوئين لكاسا في طلب الحماية الفرنسية وذلك لخلق توزان مع موقف كاسا. وكان من بين هؤلاء ولدميكا بيل حاكم هماسين. الذي اتصل بنابليون الثالث امبراطور فرنسا وعين هنزنجر حاكما على كيرين وذلك لحماية المبشرين الكاثوليك ولما علم كاسا باتصالات ولدميكا بيل السرية وتصرفاته هذه عزله وسجنه في عدوة بضع سنوات (154).

وتصاعدت الأزمة بين الكاثوليك وكاسا عندما ثبت تواطؤهم في اثارة الثورة بين الزعماء الأثيوبيين واكتشاف رسالة من الأسقف توفيير في ممتلكات جوباز بعد هزيمته تذكر أنه اذا وافق على اعطاء المبشرين حرية العمل في اثيوبيا. فانهم سيمدونه بالمدافع والبنادق وكل ما يحتاجه من السلاح والذخيرة. وقد أدى ذلك إلى أن يرسل كاسا قواته إلى قرى بوجوس حيث حرقوا الكنائس والمنازل وبيوت المبشرين ونهبت القرى، فهرب المبشرين الكاثوليك . وكان لتصاعد هذا العداء بين كاسا والمبشرين ، أن تقابل قنصل فرنسا في مصر مع الخديوي اسماعيل وطلب منه الوساطة في هذا الموضوع. وقد وعده الخديوي بذلك، وبأنه سوف يقنع البطريرك بأن يرسل تعليماته إلى مطرانه في أثيوبيا فيما يتعلق بهذه المسألة وارسال قس مصري إلى كاسا لاقناعه بالكشف عن كل أعمال الاضطهاد وترك المبشرين الفرنسيين يواصلون أعمالهم. وقد وجد القنصل الفرنسي أن اسماعيل كان ميالا بشدة نحو البعثة الفرنسية (155). وكتب منزنجر إلى مصر بأن الكاثوليك يتطلعون إلى أن يصبحوا رعايا مصريين ويريدون الحماية والمساعدة المصرية (156).

ولقد أرسل الخديوي إلى كاسا برسالة مع أحد رجال الدين الأقباط، حثه فيها على التسامح الديني المذهبي وأوضح له أن هناك دولا قوية كاثوليكية قد تكرر مأساة تيودور مرة أخرى اذا ما استمر في سياسته العدائية هذه، وحذره من ان استمرار هذه السياسة قد يدفعهم إلى المجئ إلى الحدود المصرية ، وعندما سيمد يد المساعدة لهم ويعطيهم أراضي يسكنون فيها مواساة لهم رغم مخالفتهم لديانته والتي تعتبر فرضا على كاسا لا عليه (157).

ويتضح من هذه الرسالة أن اسماعيل لم يعرف الدور العدائي الذي قام به هؤلاء المبشرون ضد كاسا، انما انساق وراء ميوله الفرنسية وأطماعه. وربما أرسل اسماعيل هذه الرسالة بهذه اللهجة ، بداية لتدخله في هذا الاقليم تمهيدا لضمه وهو ما حدث فعلا.

وقد تسلم كاسا هذه الرسالة بعد احتفالات تتويجه امبراطورا على اثيوبيا في يناير سنة 1872 باسم يوحنا الرابع، واعتقد أنها مجرد أوامر صادة من حاكم إلى أحد أتباعه، وأنها رسالة تهديد اذ كان يطلب فيها اعادة بناء الكنائس وعودة وجودة الكاثوليك ورد أملاكهم ومعاملة المبشرين معاملة حسنة، ولذلك رفض يوحنا الرابع رسالة الخديوي، وبالتالي تأزم الموقف بين البلدين (158).


بوجوس وتصاعد العداء بين البلدين

بدأت ظهر بوجوس كعامل مؤثر في العلاقات بين البلدين، ومنذ أن تدخل اسماعيل إلى جانب الإرسالية الكاثوليكية ضد يوحنا الرابع، كما كانت لغارات ولد مراج الاثيوبي على بوجوس أثر كبير في تدهور العلاقات بين مصر وأثيوبيا، إذ طلب مشايخ هذه المنطقة الحماية المصرية (159). ووافق اسماعيل على طبلهم هذا وأمر منزنجر بتنفيذه (160). وكان الأخير قد استقال من وظيفته كقنصل لفرنسا في مصوع. والتحق بخدمة مصر في أبريل سنة 1871 وعينه الخديوي محافظا لمصوع (161). وفي أواهر يونيو سنة 1872 غادر منزنجر مصوع على رأس قوة مصرية متوجها إلى بلاد بوجوس وضمها إلى مصر (162)، كما ضم ايليت أيضا الواقعة بين هماسين ومصوع (163).

حدث هذا في الوقت الذي كان يوحنا مشغولا بالقضاء على ثورة الجالا في الجنوب غير أنه عاد بسرعة إلى عاصمته عدوة وأرسل قوة حربية أثيوبية غلى حدود أثيوبيا الشمالية لحمايتها والواقع أن يوحنا لم يكن في حالة تسمح باعلان الحرب وذلك بسبب ثورة الجالا وخروج بعض الرؤوس عن طاعته بل والتجائهم إلى مثل هايلو ولد جورجيس وولد ميكائيل (164). لذلك لم يكن هناك من سبيل أمام يوحنا سوى أن يرسل مبعوثا من طرفه إلى الخديوي اسماعيل يدعي محمد ناصب الجبرتي في 31 يوليو سنة 1872 حاملا رسالة منه (165)، يوضح له فيها أن بوجوس هي أرض أثيوبية منذ زمن بعيد تعين حكامها، وهاجم الذين يحاولون الايقاع بين مصر وأثيوبيا. وأشار إلى أن الامبارطورية الأثيوبية كانت تضم المنطقة الساحلية وشكا من أعمال منزنجر التي قد تؤدي إلى افساد العلاقات بين البلدين، وطلب منه أن يسحب القوات المصرية من بوجوس كمقدمة لتحسين العلاقات (166)، لكن اسماعيل احتجز هذا المبعوث الأثيوبي لمدة تقرب من عام، اذ ظل في مصر حتى اغسطس سنة 1873 (167).

وفي نفس الوقت ارسل الامبارطور يوحنا الرابع مستشاره العسكري كيركهام إلى بعض الدول الاوروبية (النمسا – روسيا – ألمانيا – فرنسا – بريطانيا) في نهاية شهر اغسطس سنة 1873 بهدف أن تقنع هذه الدول اسماعيل بالانسحاب من بوجوس ومساعدة أثيوبيا في الحصول على ميناء أمفيلا وسهول الملح، وكلاهما مؤثر في الأحوال الاقتصادية الأثيوبية (1698). غير أن الدول الاوروبية لم تهتم بهذا الموضوع. بل وقفت إلى جانب صمر. أما بريطانيا فكانت أقل اهتماما (169)، اذ كان رد ملكتها على وزير خارجية حكومتها على الامبراطور فيما يتعلق باعتداءات المصريين على بلاده، أن حكومة اسماعيل قد أخبرت بريطانيا أنه ليس في نيته ضم أي جزء من أراضي اثيوبيا في المستقبل، ولذلك فالملكة ووزير خارجيتها يعتقدان أن مخاوف يوحنا غير ذات موضوع (170). وكانت انجلترا منذ أن حدثت الاعتداءات في بوجوس، قد أرسلت مستر ستانتون لكي يستطلع الأمور والتطورات التي حدثت بهذه المنطقة، وقد أخبره الخديوي بأنها ليست صراعا على الحدود لأن يوحنا غزا منطقة كانت تنتمي إلى اقليم التاكة منذ أن غزا محمد علي السودان، ولا أساس لما يطالب به يوحنا بممتلكات على الساحل لأنه خاضع كله – من السويس إلى بربرة – للسيطرة المصرية. وأن انجلترا نفسها استأذنت الباب العالي عندما أرسلت حملتها في عهد تيودور لكي يسمح لها بالمرور عبر أراضيها إلى أثيوبيا. وأوضح له أنه اذا كان يوحنا لا يعترف بسلطة البابالعالي فان الخديوي قد يضطر إلى الحرب مع أثيوبيا لينتقم من الاعتداءات التي تقع على أقاليمه واذا لم يتراجع خلال ثلاثة اشهر عن كل الأراضي والممتلكات التي استولى عليها، ودفع تعويضات إلى من تضرروا ، فإنه سوف يحتل بوجوس. وعندما علم جرانفيل بهذا القرار الخطير، أمر ستانتون بأن يخبر الخديوي أن هذا العمل المقترح ضد أثيوبيا سوف يعتبر أمرا مرضي عنه من جانب بريطانيا، وحث الخديوي على تلمس حل وسط لصراع الحدود هذا كذلك أمر جرانفيل سفيره في القسطنطينة بالتوصية بأن يحاول حث الباب العالي على اصدار الأوامر بوقف مشروع الخديوي اسماعيل الحربي هذا، حتى يبحث عن حل منصف لهذه المشكلة (171).

على أن اسماعيل أرسل مذكرة إلى الباب العالي شرح فيها أسباب فتحه لمنطقة بوجوس وذلك ليقدم الحماية الواجبة لأتباع السلطان في هذه المنطقة وأوضح أنه ليس للحكومة المصرية الحق في أن تضع شرعية خضوع هذه المنطقة للدولة العثمانية في وضع يسمح بقبول حل وسط من أية قوة أجنبية أخرىة. وهكذا أستطاع اسماعيل أن يقرن المصالح المصرية بالمصالح العثمانية وفي أنه يحافظ على أملاكها. وأوضح أن قواته لن تتخطى الحدود الأثيوبية وأن مصر ليست لها أطماع توسعية فيها وأنه يبغي تنشيط التجارة والزراعة بين البلدين (172).

كما قابل الخديوي أخيرا المندوب الاثيوبية وذلك بعد أن توسط القنصل الانجليزي في اتمام هذه المقابلة. وذكر الخديوي للمندوب الاثيوبي أنه اذا أراد يوحنا اعادة العلاقات الطيبة بين البلدين فان اسماعيل مستعد لذلك ولعقد اتفاق تجاري يعتلق بالضرائب الجمركية. وقد سرت بريطانيا من هذا التقدم الواضح نحو علاقات ودية بين مصر واثيوبيا. وكتب جرانفيل إلى يوحنا بأنه قد يتسلم مفاتحة من الخديوي لبدء علاقات طيبة معه. أما فيما يتعلق بمسألة رغبة الأثيوبيين في ميناء على البحر الأحمر فقد ذكر جرانفيل أنه من المستحيل على الحكومة البريطانية أن تتدخل في هذا الأمر (173).

وهكذا استطاع اسماعيل أن يهدئ من الموقف العالمي ضده وأن يقنع بريطانيا بأنه لا ينوي الاعتداء على أثيوبيا. كما وضع عدم اهتمام بريطانيا بتطور الأحداث بين مصر واثيوبيا (174). وربما كان سبب هذه اللامبالاة من جانبها معرفتها تماما بأن النتيجة هي وقوع الحرب بين الدولتين وتورط اسماعيل في مشاكل مالية.

وبعد أن تم احتلال بوجوس، أراد اسماعيل أن يؤكد ضمها بتحديد الحدود بين مصر واثيوبيا وذلك بالطرق السلمية، فاستدعى منزنجر من مصوع لأخذ رايه في هذا الموضوع ، واتفق على اجراء مفاوضات في هذا الشأن مع الامبارطور يوحنا إلا أن هذه المفاوضات لم تسفر عن شيء بسبب اشنغال يوحنا بمقابلة الرؤوس الخارجة على حكمة. وكذلك لأ، كيركهام أرسل إليه من اوروبا يقول له بأن بعض الدول الاوروبية ستؤيده. كما شاع في مصوع أنه سيجد معاونة من بعض الجهات وساعد على تعميم هذه الشائعة زيارة وكيل قنصل فرنسا في مصوع له وايهامه إياه بأن فرنسا تؤيده بالرغم من موقفه تجاه المبشرين الكاثوليك (175).

لذلك فقد صرف يوحنا النظر عن التفاوض مع منزنجر. ودفع بمجموعة كبيرة من الخيالة والمشاه المسلحة إلى الهجوم على ايماسا السودانية الواقعة على بعد يوم من كوفيت المركز العسكري، فقتلوا عددا من الأهالي ومن ضباط هذه المنطقة وأسروا عددا من النساء والأطفال وسرقوا الماشية. وتكررت الغارات الاثيوبية على القرى السودانية، مما أدى إلى وقوع اصطادمات بين القوات المسلحة المصرية والقوات الاثيوبية، وبالتالي إلى ازدياد التوتر بين مصر واثيوبيا (176).


وازاء ذلك عين اسماعيل منزنجر، في فبراير سنة 1873، مديرا لعموم شرقي السودان ومحافظا لسواحل البحر الأحمر من سواكن إلى رهيطة، بما في ذلك اقليمي بوجوس والتاكة (177)، كما ارسل في ابريل سنة 1873 امدادات حربية وعسكرية غلى مصوع لتعديم القوة المصرية العسكرية في هذه المنطقة (178). وكان الهدف من ذلك توحيد هذه المناطق تحت قوة وسلطة واحدة، لكي تستطيع مواجهة الغارات الاثيوبية والرد عليها. وأوضح أن اسماعيل آلى على نفسه تأديب يوحنا على ما يرتكبه من أعمال عدائية ضد مصر، وهكذا أصبح الصلح والسلام بعيدا عن البلدين. والواقع أن منزنجر لم يكن يعمل على استقرار الأمر بين البلدين، وذلك بسبب عدائه الشخصي ليوحنا واستغلاله طبيعة اسماعيل الطموحة التوسعية. فزين له احتلال هماسين زيادة على بوجوس، مما زاد من توتر العلاقات بين البلدين وتصعيدها (179).

كان هذا موقف مصر ازاء أثيوبيا، أما موقف الأخيرة فقد بلوره يوحنا الرابع برفضه الاستجابة للرغبة في السلام الذي عرضها عليه اسماعيل في رسالته بشرط رد الماشية والأسرى. فبعد ثمانية أشهر من رسالة اسماعيل، بعث يوحنا إلى الخديوي برسالة برفض فيها مطالبه وتمسك بالمناطق التي استولى عليها اسماعيل (بوجوس-ايليت)، وذكر أنها أقاليم اثيوبية ، كما أدعى بملكية اثيوبيا لمواني ساحل البحر الأفريقي. وقد عدد اسماعيل باحتلال هماسين حتى يتمكن من اطلاق سراح الأسرى والتعويض اللازم للأهالي نتيجة للخسائر التي تكبدوها من جراء الغارات الاثيوبية. وبذلك وضح أن تحقيق السلام بينهما أصبح مستحيلا (180). فبالاضافة إلى توتر العلاقات كان احتلال مصر لبوجوس قد وضع في يدها معبرا سهلا لشمال اثيوبيا. اذ كانت كيرين قاعدة صالحة للهجوم علىاقليم هماسين الخصب، وجهات اثيوبيا الشمالية (181). كما أن سكان اقليم هماسين ارسلوا إلى منزنجر أثناء فتح بوجوس يبدون له رغبتهم في الدخول إلى الحكم المصري (182) وبالطبع كا موقف يوحنا ازاء هذا هو موقف الغاضب، وقرر أن يحارب المصريين حتى النهاية. وذلك بالرغم من فشل رحلة كيركهام إلى اوروبا ورفضها مساندته بطريقة عملية فعالة، ورسالةملكة بريطانيا التي ظهر منها أنها بجانب اسماعيل ضمنا (183).

والواقع أننا لو نظرنا إلى كل من الطرفين نجد أن كليهما مسئول عن تدهور الأمور بينهما. وذلك لأن اسماعيل، بالرغم من أن هناك من يقول أنه كان يريد السلام مع أثيوبيا (184)، كان بتوسعه في شمال اثيوبيا وغربها لا يوحي بذلك، بل اتخذ ذلك وسيلة لتحقيق طموحه وأحلامه، كما أن يوحنا لم يسع من أجل السلام بين البلدين كما حاول البعض ان يصوره (185)، لأن خلفيته الدينية التعصبية التي تعد استمرار لسياسة تيودور السابقة، ومحاولة كل منهما القضاء على المصريين والأتراك، كل ذلك جعل السلام بين البلدين مستحيلا ، ولذلك فالسنوات التالية قد شهدت قمة تدهور العلاقات السياسية بين البلدين وأدت في النهاية إلى حرب بينهما.

العوامل والظروف التي أدت إلى وقوع الحرب بين مصر واثيوبيا

ولما كان يوحنا لا يستطيع أن يشن حربا كبيرة ضد مصر في ذلك الوقت بسبب الاضطرابات والثورات التي قامت ضده، اذ أن حكمه لم يكن قد استقر بعد، هذا بالاضافة إلى تخلي الدول الاوروبية عنه، لذلك فقد اثار عن طريق كيركهام مسألة عدم وجود ميناء لاثيوبيا، ومدى احتياجها إليه. وأوضح لبريطانيا أن المصريين بتحكمهم في الساحل الافريقي للبحر الأحمر ، يتحكمون في تجارة اثيوبيا عن طريق مضاعفة الرسوم عن البضائع مما يضاعف أثمانها في الأسواق الاثيوبية، كما أنهم يمنعون اتصال أثيوبيا بالخارج وهذا يحرمها من تحقيق التقدم والازدهار (186).

وقد أدى ذلك إلى توسط القنصل البريطاني في مصر لدى الحكومة المصرية. واقترح الغاء الضرائب الجمركية بين مصر واثيوبيا مما يسمح للأخيرة بالتجارة الحرة مع العالم الخارجي، وقد وعده نوبار بعرض اقتراحه هذا على الخديوي. وانتهت الأمور بأن عرض الخديوي على مبعوث يوحنا الذي لم يكن قد غادر مصر بعد، أنه على استعداد لعقد اتفاق تجاري مع اثيوبيا ينظم الضرائب الجمركية (187).

غير أن هذا لم يرضي يوحنا الذي كان يهدف من وراء حصوله على ميناء على البحر الأحمر إلى تسهيل استيراده للأسلحة والذخيرة التي تساعده ضد الثائرين عليه. ولقد اعتقد يوحنا أن توريط بريطانيا عن طريق غير مباشر، قد يساعده في الحصول على هذا الميناء. لذلك فقد كانت الحركة المضادة منه ازاء توسع المصريين ، أن أنشأ ولاية جديدة ملاصقة للحدود المصرية، بل ضم غليها بعض الأجزاء الخاضعة لمصر. وعين عليها كيركهام، وسميت بولاية جندا، وكانت تشمل على مقاعد جيندا. (188). ومنطقةواسعة تشمل الحافة الشمالية الشرقية من الهضبة الاثيوبية، وتضم الساحل الممتد من شمال خليج انسلي في الشمال إلى خليج امفيلا وسوهو في الجنوب. وتضم ميناء زولا المصري والقبائل النازلة حوله (189).

وقد منح يوحنا هذه الولاية الحكم الذاتي. فرفع كيركهام العلم البريطاني عليها في ديسمبر 1874 وادعى انها منطقة محايدة لا تدخل في الصراع الدائر بين مصر واثيوبيا. وبالتالي فان ما يطالب به يوحنا من ميناء فهو لهذه المنطقة المحايدة واعتقد يوحنا أنه بتعيين كيركهام عليها، أن بريطانيا ستسارع بفرض حمايتها عليها وعلى أتباعها، وتسعى لتحقيق ميناء خارجي لها. فيستفيد هو من ذلك غير أن بريطانيا رفضت طلب كيركهام بوضع هذه الولاية تحت حمايتها. غير أن قنصل فرنسا في مصوع سارزك وعد الجنرال الانجليزي بالحصول على الحماية الفرنسية له شخصيا (190).

وقد بدأ كيركهام يطالب أهالي زولا وجيندا وأمفيلا وملاحة اسالة بدفع الضرائب له بموجب فرمان أظهره لهم صادر من سوحنا اليه يخوله بحكم هذه المنطقة وتحصيل الضرائب منها. وكانت مصر تحصل الضرائب من هذه المناطق المطلة على الساحل والغريبة منه منذ أن حصلت على مصوع من الباب العالي وكذلك ملاحة اسالة وهي من ضمن اراضي الدناكل التابعة لحكوةم مصوع. وكان الاثيوبيون من قبل ذلك لا يحصلون على اية ضرائب من هذه الأماكن (191). وقد أدركت مصر محاولات يوحنا هذه للحصول على مياء على البحر الأحمر، وبالتالي يسهل له الحصول على الاسلحة اللازمة له فيشدد غاراته على الحدود المصرية. لذلك احكمت مصر رقابتها على سواحل البحر الأحمر لمنع دخول الاسلحة بجميع أنواعها إلى اثيوبيا حتى ولو كانت للصيد. وامتدت هذه الرقابة حتى جمرك السويس والاسكندرية (192). ولم يكتف اسماعيل بمنع السلاح بل حاول منع اتصال يوحنا بالدول الاجنبية على آية صورة كانت ، وذلك خوفا من تدخل هذه الدول فيما يحدث من صراع الحدود بين الدولتين، وكان يوحنا ينتهز فرصة وجود الرحالة الأجانب في بلاده فيبلغهم بمتاعبه مع مصر (193).

كذلك شجع اسماعيل على التمرد ضد يوحنا، بجلب المتمردين إليه فوافق على تعيين منزنجر لاثنين من كبار أعداء يوحنا معه (194)، كما تبع هذه السياسة مع باقي الرؤوس الثائرين على يوحنا في غرب ووسط وجنوب اثيوبيا. فكانت ترسل اليهم الهدايا (195). وقد اثار هذا الاجراء جانب اسماعيل، غضب يوحنا على أنه نجح في اخضاعهم وضمهم إلهي بجنودهم واسلحتهم حتى تجمع له جيوش ضخمة أثارت مخاوف المصريين، مما جعل مدير عموم قبلي السودان يطلب من مصر امدادات عسكرية، واعلنت حالة الطوارئ على الحدود ازاء تحركات يوحنا بجنوده الضخمة هذه، غير أن يوحنا لم يهجم على الحدود المصرية في ذلك الوقت (196).

ومع أن يوحنا استطاع أن يخضع كل الرؤوس الخارجة عنه تقريبا، الا ان منليك استطاع بدهائه أن يفلت من الخضوع ليوحنا، بالرساله احد رجال الدين في شموا ومعه مبلغ كبير من المال مؤكدا ولاءه له (197). وكان منليك في ذلك الوقت يبحث عن قوة تساعده ضد يوحنا ، كما أن مصر كانت تسير على سياستها في جذب المناوئين لحكم الامبراطور، لذلك فقد تقابل الرفان معا، وكانت البداية عندما استولت مصر على بوجوس، فقد ذهب أحد كبار الاثيوبيين إلى منليك ونصحه بالتعاون مع المصريين لمصلحته، فاتجه منليك إلى أبناء الشيخ أبو بكر باشا حاكم زيلع وأوفده إلى مصر لاقتراح نوع من التحالف مع الخديوي ضد يوحنا الذي رحب بتقوية علاقات مصر مع شوا حتى لا ينضم ملك شوا مع يوحنا ضد مصر (198). وحاول منليك أن يحصل من مصر على بعض الحرفيين والفنيين لتمدين بلاده. غير أن ذلك لم يتم بالرغم من استمرار الاتصالات بين مصر وشوا، كما أن اسماعيل لم يستثن منليك من حظر السلاح الذي فرضه على اثيوبيا في ذلك الوقت (199).


والواقع أننا لو قيمنا سياسة الخديوي اسماعيل بشأن تحريض رؤوس اثيوبيا ضد امبراطورهم نجد أنه اكتفى بالتأييد المعنوي فقط أي بتشجيعهم على الخروج عن طريق الرسائل والهدايا وليس عن طريق مدهم بالسلاح الخبرة الحربية، بل طبق عليهم ما طبق على يوحنا فيما يتعلق بحظر السلاح عليهم وربما فعل اسماعيل ذلك خوفا من أن يدعي أحد الرؤوس تمرده، وبالتالي يحصل على السلاح فيستفيد به يوحنا. غير أن ذلك يوضح بجلاء أن اسماعيل لم يستطيع أن يصل بخطته هذه إلى صورتها المنشودة، واستخدامها الاستخدام الأمثل ضد يوحنا. وربما كان السبب في ذلك أنه لم يعول علهيا كثيرا وبالتالي لم يفكر فيها، أو لانشغاله في مد سلطته ونفوذه على سائر مواني البحر الأحمر والقرن الأفريقي، زيلع وبربرة وهرر (200)، وربما للعنجهية التركية وثقته الزائدة في جيشه وفي نفسه واعتقاده أن اثيوبيا دولة همجية من السهل غزوها ولا داعي للدراسة والبحث والتخطيط.

وقد أدت سياسة التوسع التي اتبعها اسماعيل في شرقي افريقيا، إلى زيادة التوتر بين مصر وأثيوبيا، فقد شعر يوحنا بأن المصريين قد حاصروا بلاده من جميع الجهات، فبدأ يستعد للحرب مع المصريين (201)، فأخذ يحث جيوشه، ويحصن عاصمته عدوة. وكان يوضح لكل من يتوجه إليه أنه قصد ضرب القوات المصرية الموجودة على الحدود، وقد تأكد منزنجر بنفسه من استعداد يوحنا الحربي وأرسل إلى القاهرة يخبرها بمدى خوف الأهالي في هذه المناطق من استعدادات يوحنا الحربية (202).

ولذلك فقد بدأت مصر ترسل الامدادات العسكرية، كما طلبت من حاكمها في شرقي السودان حماية الأهالي وصيانة شرف الحكومة (203). وبالرغم من حالة التأخب هذه ، فإن يوحنا لم يهاجم الحدود المصرية ولم يعلن الحرب على المصريين وربما يعود ذلك للحالة المضطربة التي كانت تعم بلاده وخاف أن يبدأ هو بالهجوم على مصر، فينتج عن ذلك ازدياد التوترات ضده مما يهدد حكمه. لذلك آثر أن يدفع المصريين أن يبدأوا بالهجوم حتى يستغله في اثارة النصرة الدينية والقومية عند المسيحيين الأثيوبيين ضد اعتداء المصريين على بلادهم. وهذا ما حدث بالفعل بعد ذلك (204).

بالاضافة إلى ذلك، فربما كان يوحنا يعلم بما كانت تعانيه مصر من أزمة مالية حادة، وبالتالي فان حشد هذه القوات وما يتطلبه من مصروفات باهظة يؤدي إلى استنزاف مقدرتها، فلا تستطيع أن تفكر في محاربته مادام هو لا يهاجم الحدود وبالتالي تستمر عملية الاستنزاف هذه (205). كذلك ربما كان يوحنا يدرك أن استمرار حشد هذه القوات الضخمة بدون قتال ينال من روح الجنود المعنوية ويفقدهم بذلك القدرة القتالية، وبذلك يمكنه هزيمتهم بسهولة. ومما يؤكد ذلك أن أحد قواد يوحنا وهو الراس قبرو حاكم هماسين أرسل إلى منزنجر يطلب الصلح، ولكن الأخير رفض ذلك لأنه ليس صادرا من يوحنا إلى الخديوي (206). كما أن اسماعيل وافق على اقتراح منزنجر بارسال رسالة إلى يوحنا تكون من طرفه، لا من طرف الخديوي، الذي أشار عليه بأن تتضمن رسالته هذه عن خدف يوحنا من تحركات جيوشه وحشدها وما بيغيه منها. ويدعوه إلى الرجوع بما معه من جنود إلى داخل حدوده. وانه اذا رفض فان مصر ستدافع عن حدودها بالرغم من أنها لا تريد الهجوم على اثيوبيا وانما ضد المغيرين الاثيوبيين على حدودها (207).

على أن هذه الرسالة بالرغم من أن منزنجر أرسلها، إلا أنها لم تصل إلى يوحنا نتيجة خطأ من أراكيل بك حاكم مصوع، الذي سلمه رسالة تخص منليك وتتعلق برد الحكومة المرية على ما يطلبه من الفنيين والحرفيين لتمدين مملكة شوا (208)، كذلك أشار على منزنجر أن يعمل على تحريض منليك على يوحنا حتى تقوم الحرب بينهما (209)، وذلك بهدف استنزاف قوة يوحنا العسكرية. على أن الحكومة المصرية استمرت في ارسال قواتها إلى مناطق الحدود وبالذات في بوجوس لأنها كانت السبب في تدهور العلاقات مع اثيوبيا. وبالتالي فهي هدف يوحنا الأول (210).

واستمر يوحنا في حشد قواته وتدريبها على الأسلحة التي تركها له نابيير وذلك بهدف تدعييم الاعتقاد لدى مصر بأنه سوف يشن الحرب ضدها، وبذلك تستمر حالة الطوارئ في القوات المصرية وما يتبعها من زيادة المصروفات، كما استولى على مداخل الطرق المؤدية الى داخل بلاده القريبة من الحدود المصرية وحشد فيها قواته وذلك لاجبار مصر على اعلان الحرب أو على الاقل استمرارها في اعلان الطوارئ بين قواتها وبالتالي يكون ضررها عظيما على الحكومة المصرية (211). كما بدأت يمهد الطرق ويصلحها وبالذات الطرق التي تربط عاصمته بكل من هماسين والمناطق المجاورة لحدود مصوع وجندر في الجنوب وذلك لمساعتده على الانسحاب في حالة الهزيمة أو لضرب مناوئيه بسرعة بعد انتهائه من الانتصار على المصريين (212). هذا بالاضافة إلى أنه قام بشن غارات محدودة على الأهالي حتى يبث الفزع فيهم ويؤكد لهم أن حكومة مصر لا تملك القدرة على حمايتهم، وقد نتج عن ذلك ازدياد شكوى السكان من رعايا الحكومة المصرية القريبين من أراضي أثيوبيا (213).


مصر تقرر الحرب

ازاء هذا رأى محافظ مصوع أراكيل بك، أنه أصبح على مصر حماية رعاياها من الغارات الاثيوبية ، وحفظ ماكنتها وهيبتها في السودان، كما أن الخديوي اسماعيل لم يجد بدا ازاء تهديدات واستفزازات يوحنا من تأديبه. واستقر الأمر على ارسال حملتين في وقت واحد، أحداهما بقيادة منزنجر وتزحف على اقليم عيسى الواقع بين اثيوبيا والممتلكات لامصرية عند تاجورة على ساحل الصومال في الجنوب واحتلال اوسا التي يحكمها شيخ مستقل وتقويع معاهدة مع منليك ملك شوا (214).

وكان منليك قد أعاد اتصاله مع مصر، ويبدو أنه كان هناك شبه اتفاق على أن تقوم مصر بتمهيد وفتح طريق بين مصر وأثيوبيا عن طريق البحر الأحمر إلى شوا مباشرة بعيدا عن شمال أثيوبيا وأسندت إلىمنزنجر مهمة فتح هذا الطريق (215)، ولكن هذه المهمة تأجلت بسبب توتر العلاقات مع يوحنا وتصاعد الغارت الأثيوبية على الحدود المصرية (216). غير ان ازدياد هذه الغارات وتوتر العلاقات أدى إلى ارسال حملة أرندروب، وصدرت الأوامر إلى منزنجر بالقيام فورا بفتح الطريق بين الساحل وشوا عن طريق التدهور قررت مصر أن تمد منليك بشحنة من الأسلحة وذلك كمساهمة من مصر لكي يؤيدمنليك حملة منزنجر، ومناوئه يوحنا (218).


حملة أرندروب

بدأ اسماعيل ينفذ خطته ، فقلد الكولونيل أرندروب الحملة الأولى في 17 سبتمبر 1875، وعلى ذلك غادر مصر إلى مصوع لقيادة القوات فيها وفي سنهيت (216)، وقد صحبه كمساعدين له في الحملة كونت زيكي، وميجور دورهولتس، وميجور دينسيون كان هؤلاء من العسكريين الأجانب (220). أما من المصريين فكان القائمقام رستم ناجي والبكباشي عمر رشدي. وانضم إليهم أراكيل بك محافظ مصوع (221). وقد وصل أرندروب ومن معه من المساعدين إلى مصوع في 26 سبتمبر سنة 1875 (222).

وكانت التعليمات الصادرة إلى أرندروب تقضي ببحث الآثار التي نجمت عن تحركات وغارات جيوش يوحنا على الأهالي في كل من مصوع وبوجوس، والا يحارب يوحنا اذا تقهقر بيجوشه، ويبقى بعيدا عن أراضي أثيوبيا، على أن يكون مستعدا لصد اي عدوان، ولا يقتفي أثر الأثيوبيين خلف حدود هماسين إلا إذا كان هناك ميزة حربية هامة. واذا لم يرد الامبراطور على رسالة منزنجر الودية فعلى أرندروب أن يحتل هماسين ويظل محتلال لها حتى يقدم الامبراطور الضمانات التي يراها أرندروب أنها تحفظ السلام وتوقف الغارات الاثيوبية، واذا تم ذلك فعلى أرندروب أن يخلي هماسين فورا، اذا لم يقدم يوحنا هذه الضمانات، فيحتل بجانب هماسين الأراضي التي ادعى يوحنا بتبعيتها له في جنوب شرقي مصوع وفي جيندا ومنطقة استخراج الملح في شمال أرضي الدناكل، وهي ولاية كيركهام، واقصائه عنها ثم الاحتياط لصد أي هجوم مضاد من الأثيوبيين (223). وضم بعض مناطق من اقليم هماسين لكي ينفذ الخديوي مشروعه بمد خط حديدي بين مصوع والخرطوم عن طريق كسلا (224).

وبمجرد أن وصل أرندروب إلى مصوع، أرسل رسالة إلى الامبراطور أوضح فيها أن هدف الحملة هو تحديد الحدود بين مصر ,اثيوبيا (225)، وأن مصر لا تنوي غزو أثيوبيا، ولكن الخديوي يخاف من تعيين كيركهام حاكما لأسمرة وجيندا وأمفيلا (226) ولأن الأخير قام بأعمال ضايقت الحكومة المصرية غير أن يوحنا لم يرد على رسالته ربما بتخرريض من كيركهام الذي أوهمه بأن مصر تنوي اذلال اثيوبيا اذا ما هو رد على الرسالة (227).

وعلى ذلك فقد زحف أرندروب على أسمرة في اقليم هماسين وأخذ يتقدم. في هذا الاقليم يغريه على ذلك انسحاب يوحنا السريع أمامه إلى داخل البلاد (228) وقد استولى أرندروب على جنيدا وعلى منزل كيركهام وانزل العلم الانجليزي ، ورفع العلم المصري. وكان كيركهام مع الامبراطور ولم يكن في ولايته (229). وتابع أرندروب زحفه نحو الجنوب ، وكانت خطة الأثيوبيين استدراجه داخل البلاد حتى تطول طرق مواصلاته ويبتعد عن مركز تموينه وينال منه التعب والاضطراب نتيجة سيه في مناطق جبلية وعرة، وعند ذلك يطبق عليه يوحنا بيجشه ويقضي عليه (230). ولذلك رفض دعوى أرندروب إلى التفاوض بدلا من الحرب. وكان أرندروب قد عرض عليه أن يكون نهر المأرب حدا فاصلا بين مصر وأثيوبيا (231).

وازاء ذلك لم ير أرندروب بدا من الزحف جنوبا، مقسما قواته إلى قسمين قاد أحدهما بنفسه ، واسند الآخر إلى الكولنيل دور هولتس. وكان أرندروب ، يجهل في الواقع عدد القوات الأثيوبية التي استطاع يوحنا جمعها (232). والواقع أن يوحنا استطاع أن يثير النعرة الدينية والقومية عند الأثيوبيين ويحولها إلى حرب صليبية أخرى. فنجح في أن يجمع الرؤوس المعادين له وجعل مطران أثيوبيا يعلن الحرب المقدسة ويحرم كل من يرفض الاشتراك في هذه الحرب، وأعلن أن المصريين يعتدون عليه وأن الحرب قد أعلنت بينه وبين الحكومة المصرية . وعلى الجنود التجمع في عدوة، وبالفعل فقد تجمع لديه جيش ضخم فاق أرندروب بمراحل (233).

وبالرغم من أن أرندروب لم يعرف حجم جيوش يوحنا، فإنه لم ينتظر الامدادات التي طلبها في زحفه جنوبا نحو عدوة حتى وصل إلى وادي جندب الذي يؤدي إلى نهر المأرب، حيث شيد المصريون معسكرا حصينا ثم تابعت الحملة زحفها. وفي 18 نوفمبر وقعت في كمين أعده يوحنا لها. وفي أثناء الاشتباك وصل أراكيل بك بالامدادات المطلوبة. واشترك في القتال ، إلا أن معركة كهندت انتهت بهزيمة ساحقة للقوات المصرية، وقتل كل من أرندروب وأراكيل بيك والكونت زيكي، ورستم ناجي، وهرب دور هولتس (234). أما ماجور دينسيون الأمريكي وعمر رشدي فلم يشتركا في المعركة اذ كانا بعيدين عنها على قمة جبل آدي هوالا Addi Huala لكن الاثيوبيين حاصروا هذا الموقع، ودخل الامبراطور مع دينسيون في مفاوضات انتهت بهروب ما تبقى من الحملة إلى مصوع بعد أن تركت أسلحتها كاملة. وقد خسرت مصر في هذه المعركة أربعة عشر بلوك من السودانيين وثمانية بلوكات مصرية ومجموعة من أكفأ الضباط المصريين وكمية من المدافع والاسلحة ومهماتها وأسر بعض المصريين (235).

وقد كان لهزيمة حملة أرندروب أثر سيئ في سنهيت ومصوع حيث ساد الفزع بين الأهالي الذين اعتقدوا أن يوحنا سيزحف على هذه المناطق ويستولي عليها (236). لذلك دعمت الحكومة المصرية حامياتها المنتشرة في هذه المناطق (237). وأرسلت احدى السفن الحربية المصرية إلى مصوع لحماية المدينة من الأثيوبيين. كما منعت الحكومة المصرية حضور أي شخص كان من الذين اشتركوا في هذه الموقعة إلى مصر وذلك لمنع الشائعات المزعجة بين شعب مصر (238).

أما يوحنا، فقد رفض ما اقترحه عليه كبار رجال دولته من الاستمرار في الحرب ودخول مصوع، وذلك لأنه لم يكن يتوقع أن ينتصر عندما يصطدم بالثقل الحربي المركز في مصوع وما قد يثيره ذلك عند الدول الاوروبية. التي كانت تحافظ على الوضع. هذا بالاضافة إلى أن الاغارة على مصوع حياة الكثير من الاوروبيين في هذه المدينة. كما ان الاغارة على المدينة يحتاج إلى خطة مدروسة وجيش منظم ومدرب على تنفيذها. وعلاوة على ذلك فانه كان يتوقع هجوما مصرية من جهة القلابات. وكان المفروض فعلا أن توجه مصر حملة من هذه المنطقة لمهاجمة يوحنا من الغرب في نفس وقت حملتي أرندروب ومنزنجر، إلا أنها لم تفعل ذلك. ربما لانها اعتقدت أن حملتي أرندروب ومنزنجر تكفيان للقضاء على حكم يوحنا. ومع ذلك احتاط يوحنا لذلك. وكلف راس عادال بمراقبة الحدود الغربية وتحركات القوات المصرية فيها. ولم تستغل مصر شك يوحنا في اخلاص هذا الراس له فتركت الجهة الغربية دون استغلال. وكان من الأسباب التي جعلته يحجم عن الاستمرار في محاربة المصريين ضعف ثقته في منليك وبخاصة بعد أن وصلته أخبار بأن مصر ترغب في اثارة ملك شوا ضده، لذلك فقد آثر العودة إلى عاصمته وأرسل قوة لمراقبة الحدود المصرية في شرق السودان (239).

والواقع أن هزيمة أرندروب تقع تبعتها في المقام الأول على الخديوي اسماعيل فمع أنه شاهد الحملة الانجليزية على اثيوبيا والتي انهت حكوم تيوديور والدراسات التي قامت بها بريطانيا، وعدد جنودها، والمعدات الحربية وما صرف عليها من أموال بلغت تسعة ملايين جنيه، واختيارها رجلا كفء تمرس على الحروب في المرتفعات والجبال، وتجنبت العوامل التي قد تجعل اثيوبيا متحدة ضدها بأن رفضت اشتراك مصر معها في الحرب، وبالرغم من أن اسماعيل لمس ذلك لكه فانه اعتبر اثيوبيا دولة همجية من السهل اخضاعها فارسل حملتين فقط (أرندروب ومنزنجر) مجموع قواتها خمسة آلاف أو سنة آلاف مقاتل فقط. في حين أن حملة نابيير بلغ عدد جنودها 14.683 جنيدا. كما أن هناك فرقا شاسعا بين أرندروب، وروبر نابيير، فلم يكن الأول يعمل شيئا عن الحروب، ومع ذلك عينه اسماعيل قائدا للحملة ورقاه من ملازم إلى كولونبيل (أميرلاي) مباشرة، أما الثاني فان أعماله في الهند تؤهله لقيادة الحملة الانجليزية (240).

غير أن اسماعيل تغاضي عن ذلك كله، ووقع فريسة لرجال حاشيته والمتملقين له حيث بالغوا في تقدير قوة جنود مصر وأن فرقة واحدة تساوي عشرين ألفا من الاثيوبيين كما أشار منزنجر إلى مقدرته على غزو اثيوبيا جميعها بأورطتين مصريتين فقط وقليل من النفقات. وقد أعجب اسماعيل بذلك (241). وربما كان هذا السبب في جعله لا يهتم كثيرا بنوعية قائد الحملة الذي لم يكن يستمع لنصائح من معه من كبار الضباط المصريين المدربين ذوي الخبرة في الحروب في هذه المناطق. وكان أكبر أخطائه تقسيم قواته إلى أقسام في أماكن متباعدة وعدم معرفة حجم قوات عدوه ومقدرتها الحربية ولا بطبيعة تضاريس المنطقة التي سيحارب فيها (242).

بل ان تسرعه في الزحف جنوبا قبل أن تصله الامدادات التي طلبها يؤكد أنه لم تكن هناك خطة مدروسة يسير عليها، كما يؤكد أيضا أنه كان يعتقد مثلما كان يعتقد اسماعيل، أن الاثيوبيين قوم يسهل هزيمتهم. فلو كان يعقتد غير ذلك لما كان تقدم هكذا سريعا في أراضي اثيوبيا قبل أن تصله الامدادات. وساعد على هزيمة أرندروب أيضا، ما نسب إلى بعض الضباط المشتركين في الحملة من اهمال وتخاذل بعكس بعضهم مثل رستم ناجي الذي اشيد بموقفه (243). كذلك سمح أرندروب لبعض الصحفيين الانجليز بالتجول بين وحدات جيوشه، دون أن تكون هناك رقابة عليهم، ثم انتقالهم إلى معسكر يوحنا في ظروف غامضة. مكنت الاثيوبين من عرفة عدد القوات المصرية الزاحفة ونوعية سلاحها واتخاذ التدابير اللازمة للقضاء عليها في الوقت المناسب (244).

هذا بالاضافة غلى أن السلطات المصرية في مصوع وشرقي السودان لم تعلن ما قد نسميه الآن بالاحكام العرفية أو حالة الطوائ، بل تركت الحرية الكاملة للأجانب في الانتقال من الأراضي المصرية إلى الأراضي الاثيوبية. وقد استغل الاجانب هذه الحرية لصالح يوحنا. وكان على رأسهم دي سارزيك قنصل فنرسا السابق في مصوع، فبالرغم من علزه من مصنبه، فإنه لم يترك أثيوبيا وظل بها ينتقل بحرية تامة من مصوع إلى أثيوبيا ناقلا المعلومات العسكرية عن القوات المصرية إلى يوحنا بل أنه قام بتهريب الاسلحة والذخائر عبر الخطوط المصرية بالرغم من الحظ الذي فرضته مصر على مرورها إلى أثيوبيا. وكان هذا القنصل يظهر عداء صريحا لمصر ويشجع يوحنا على أعماله العدائية ضدها (245).

وبالرغم من أن مصر لم تستفد شيئا من هذه الحملة، إلا أن يوحنا استفاد كثيرا اذ عم حكمه المزعزع في اثيوبيا. وسيطر إلى حد ما على الرؤوس المناوئين له اذ بفضل جهاده الصليبي ضد الحملة المصرية جعلهم ينظرون إليه على أنه حامي المسيحية في اثيوبيا (246)، كما استفاد بما غنه من سلاح جيد فعال لم يستعمل، تركته الحملة بعد انسحابها.

حملة منزنجر باشا

وفي أثناء حملة أرندروب، أمر اسماعيل منزنجر باشا بأن يقود حملة عسكرية تتجه إلى اثيوبيا من ميناء تاجورة إلى اوسا ثم مملكة شوا وأخيرا إلى جندر (247). وذلك لاقامة تحالف مع حكام شوا وجندر وأمهرا وجوجام، وهي المناطق التي تعارض يوحنا وبالتالي محاصرته في اقليم تيجري ثم القضاء عليه. وبذلك تعتبر حملة منزنجر مكملة لحملة أرندروب الأولى من الجنوب بينما الثانية تهاجم من الشمال (248). وقد دعم هذه اخطة أن منزنجر حصل على وعد من منليك بمساعدة المصريين وحملته ضد يوحنا، وعلى ذلك فكان الهدف أن تتحد حملة منزنجر مع قوات منليك ويهاجما يوحنا من الجنوب عن طريق مقاطعة ايفات التي كانت أوسا جزءا منم مملكتها الاسلامية، ويضم الجالا المسلمين في الوالو والياجو الذين كانوا يرغبون في الانتقام من مسيحي الأمهرا وتيجري (249).

وكان هدف اسماعيل من هذه الحملة – بالاضافة إلى ما سبق – حماية حدود وتدعيمها والتوسع التدريجي في هذه المناطق، بضم اوسا إلى مصر وهي التي كانت تقع بين أملاك الأخيرة على الساحل واثيوبيا في الداخل، وتتحكم بحكم موقعها في الطرق الخارجة من شوا والجالا إلى ساحل البحر الأحمر، وعقد اتفاقية من منليك لحرية ونمو التجارة، بين شوا ومصر، ومنع تجارة الرقيق والتحالف ضد يوحنا (250). وأخيرا فان هذه الحملة كانت استجابة لطلب منليك ورغبته في تدعيم العلاقات مع مصر (251).

وبمجرد أن وصل منزنجر بحملته إلى ميناء تاجوره، دعا كبار المشايخ في المنطقة إلى الدخول في طاعة الخديوي، كما أرسل إلى ملك شوا يخبره بوصوله إلى ميناء تاجوره وأنه في الطريق إليه (252) وقد عانت حملة منزنجر العديد من الصعوبات نتيجة عدم تعاون الأهالي معها بسبب نظرتهم إليها على أنها جاءت للقضاء على تجارة الرقيق التي يجنون من ورائها ارباحا طائلة (253). كما أن بعض الشيوخ كانوا يعادون هذه الحملة، ومن أهمهم الشيخ محمد ولد العيطة شيخ قبيلة عدوة مارا ويقيم في المناطق المرتفعة المجاورة لبحيرة أسالة، والثاني محمد ولد هنفري سلسطان أوسا أو شيخ قبلية أساري مارا، أما الأول فكان يبدي ولاهءه للحكومة المصرية ولمنزنجر بينما يبطن غير ذلك. والثاني كان يظهر السوء منذ البداية، غير أن منزنجر اعقتد بأنه لن يقاوم الحملة كما أنه لن ينضم إليها (254). كذلك ترك منزنجر بعضا من جنوده بسبب عصيانهم بحجة قلة المرتبات (255).

وقد غادر منزنجر طاجوره، مبتدئا رحلته إلى أوسا وذلك في 27 اكتوبر سنة 1875 (256) غير أن كل من محمد ولد العيطة ومحمد هنفري، اتحدا معا في القضاء على حملة منزنجر هذه ، وبالفعل نجحا في ذلك، وهي معسكرة بالقرب من بحيرة أوسا في 14 نوفمبر سنة 1875، وعاد منها ما تبقى إلى تاجوره، فوصولوا في 21 نوفمبر سنة 1875 (257). وهكذا فشلت هذه الحملة وقتل قائدها تماما مثلما فشلت حملة أرندروب. وقد قيل أن يوحنا أرسل بعض قواته للقضاء على حملة منزنجر هذه، وقد خطط الخديوي في التحالف مع الرؤوس المناوئين ليوحنا (258).

والواقع أن هناك عوامل أخرى قد ساهمت في فشل منزنجر، فبالرغم من ان اسماعيل كان مسئولا بالدرجة الأولى عن فشل حملة أرندروب، فانه هو أيضا مسئول عن فشلة حملة منزنجر ، وان كان ذلك بدرجة أقل، ويشاركه في هذه المسئولية منزنجر نفسه ، ذلك أن عدد جنود حملة منزنجر يؤيد ويؤكد أنه لم يخطط لها التخطيط السليم الواجب. فقد استجاب اسماعيل لمنزنجر عندما أوهمه بأنه بأعداد قليلة من الجنود يستطيع فتح أثيوبيا، ولم يفكر اسماعيل في أن يحيل موضوع الحملة إلى هيئة أركان حربه لدراسته دراسة مستفيضة تضع بعدها توصياتها، وفي ضوئها تتخذ الخطوات التالية، بل ان اسماعيل لم يهتم بدراسة هذه المنطقة ووضع الخرائط التفصيلية الا بعد نكبة حملة منزنجر (259). كما أن منزنجر أساء تقدير طبيعة هذه البلاد وأهلها، مع أنه عاش فيها فترة طويلة وتزوج منها وخبرها وخبر أهلها ومقدرتهم الحربية. وبذلك انضم بعمله هذا إلى من ساعد على تخريب مصر باستنفاد ثروتها في حملة فاشلة (261). وقد ساهم منزنجر بدوره في القضاء على حملته، فهو أولا لم يكن عسكريا بل مدنيا كما أنه وثق في ولد العيطة، ولم يضع في اعتباره أنه جاء ليحتل بلاده وهو الأجنبي عنهم وانه قد يخونه لذلك، كذلك اساء منزنجر تقدير موقف زعماء القبائل في هذه المناطق، فقد كان يعتقد أنهم يرحبون به، ولم يعرف على أي أساس يكون هذا الترحيب، وهو الذي جاء ليمنع تجارة الرقيق مصدر رزقهم. وكان نتيجة عداء الأهالي، أنه ترك جزءا كبيرا من حملته في ميناء تاجوره، وذهب بعدد قليل من الجنود والمعدات مما سهل القضاء عليه (261). كما أن الحالة النفسية لمنزنجر كانت سيئة جدا لفقده ابنه قبل قيامه بهذه الرحلة. بالاضافة إلى علمه بمؤامرات أراكيل بك ضده لدرجة أنه ذكر لأحد الآباء الكاثوليك أن الحكومة لامصرية قد أرسلته في مهمة ولكنه لن يعود منها ثانية، وتحقق ما كان يتوقعه (262).

على أن شيئا يجب أن نشير إليه وهو موقف منليك من حملة منزنجر، فبالرغم من أنه علم بوصول هذه الحملة ، فإنه لم يسارع بارسال قوة حربية تفتح هذا الطريق من شوا إلى الساحل وتقابل حملة منزنجر القادمة من الساحل إلى شوا وهذا يؤكد أن منليك لم يكن ينوي التحالف بل انه اتبع سياسة مرنة مع مصر ويوحنا كان هدفها على الاقل الاحتفاظ باستقلاله بمملكة شوا حتى تسنح له الظروف في السيطرة على أثيوبيا. وعلى ذلك فهو لم يطور علاقته مع مصر إلى حد التحالف الصريح، كما أنه لم يصل بعداوته مع يوحنا إلى الحرب والمواجهة.

وكان منليك قد اتبع سياسة التقارب مع مصر لهدفين أولهما القضاء على يوحنا وذلك بمحاربة الأولى للثاني فيتم اضعافع والقضاء عليه، مما يسهل على منليك توليه عرش أثيوبيا. والثاني في تجنب العداء مع مصر والاستفادة منها ما أمكن في تمدين بلاده، كما يجنبها من أن تحتلها مصر بعد أن اقتربت منها كثيرا باحتلالها لهرر سنة 1875. وهو نفسه عبر عن هذه المخاوف في رسالة يعث بها إلى اسماعيل ذكر فيها، ان جيوشه – أي جيوش اسماعيل – احتلت تاجوره وأواشي وحقول الملح وهرر وأن جيشه يقترب من شوا. وعلم بأن جيوش مصر ستتقابل في مملكة منليك (شوا) وأوضح له بأنه على تمام الوفاق معه وانه لم يكن هناك أي تفاهبم بينهما حتى تأتي جيوش مصر لتحتل بلاده. واخبره أنه منع كافة احتياجات شوا من الأسلحة اللازمة لحفظ سيادته على مملكته. وأخيرا أوضح له بأنه يخشى أن تحتل جيوش مصر مملكة شوا (263).

الواقع أن كلا من اسماعيل ومنليك كان يريد أن يستغل الآخر لحسابه. فقد كانت خطة الخديوي تنحصر في وضع يوحنا بين فكي الرحى، وبعد الانتخاء منه يضم أثيوبيا إلى الامبراطورية المصرية, وما يؤكد ذلك ان اسماعيل كان يرغب في احتلال كل المناطق الحصورة من النيل غربا إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي والتي تحيط بمصب نهر الجوبا حتى البحيرات الاستوائية، بالطبع بما فيها أثيوبيا كلها وذلك بهدف تمدين وتحضير هذه المناطق، لذلك كان منليك يخاف المصريين وتطويقهم لأثيوبيا (264). مما دفعه بأن يعقد مع يوحنا معاهدة سلام في سنة 1875 (265). وعندما تسلم منليك الأسلحة المصرية المهداة من اسماعيل لشن الحرب على يوحنا. سارع وأرسل إلى الامبراطور الاثيوبية رسالة يقول له فيها: "أنه لا يحاربه بتاتا" (266). وهكذا نستطيع أن نقول أن منليك نجح بدهائه في أن يورط مصر في الحرب مع يوحنا، في حين أنه لم يشترك فيها، كما أن مصر فشلت في توريط منليك في الحرب ضد يوحنا، وبذلك يكون المستفيد من هذا الصراع يوحنا ومنليك أما مصر فقد فقدت جنودها وأموالها ثم استقلالها بسبب هذه الحروب.


حملة راتب باشا

أحدثت هزيمة الجيش المصري في جندت والقضاء على حملة منزنجر تأثيرا سيئا في مصر وباتت الحكومة المصرية تخشى أثر هذه الهزائم التي ألمت بقواتها على نفوذها في السودان كله (267). لذلك فقد اتخذت بسرعة الترتيبات اللازمة لارسال حملة جديد’، وبالفعل تكونت حملة ضخمة في عددها ومعداتها واسندت قيادتها إلى راتب باشا قائد الجيش المصري، وكانت الأوامر الصادره له أن يعيد الهيئة للجيش والحكومة المصرية في نفوس الأهالي، وأن يحقق الهدف الأساسي لحملة أرندروب، أي تأمين الحدود المصرية وهزيمة يوحنا واحتلال عدوة وإجباره على عقد اتفاقية يحترم فيها حدود مصر ثم الانسحاب والعودة إلى مصوع (268).

وقد ضمت حملة راتب هذه الجنرال لورنج الأمريكي كرئيس لهيئة أركان حملة الحرب، ووليم داين وكثيرا غيرهم من الضباط الأجانب (269). وانضم لهذه الحملة أيضا بقايا حملة أرندروب في مصوع. ومن المصريين عثمان رفقي باشا وراشد راقم وأحمد عرابي وعلي الروبي وغيرهم. كما رافق الحملة نجل الخديوي الأمير حسن وأوصى الخديوي راتب باشا ولورنج بالعناية بنجله (270).

ولم تعارض بريطانيا وفرنسا حملة إسماعيل هذه، فكتبت حكومة بريطانيا إلى قنصلها في مصر بأنه ليس لديها الرغبة في التدخل لمنع هذه الحملة المقترح ارسالها لتأديب يوحنا، أما فرنسا فقد كانت تعتبر نفسها حتى هذا الوقت في منزلة متقدمة في مصر. كما أن نفوذها الأدبي كان سائدا في جميع أنحاء البلاد لذلك لم تضع العقبات أمام رغبات الخديوي في الانتقام، وقد أوضحت موقفها هذا صراحة عن طريق البعثان الكاثوليكية الفرنسية وقنصلها في مصوع، اذ أرسلت إلى الأخير تحذره من اتخاذ أي موقف عدائي ضد الحملة، وتنصحه بعدم التورط هو أو حكومته الفرنسية في صراع بسبب هذه الحملة وهدفها (271).

وبمجرد أو وصل راتب وحملته إلى مصوع جاء العديد من الحكام الاقليميين والرؤوس الاثيوبيين، ليعلنوا ولاءهم له وللخديوي،عارضين التحالف معه ضد طغيان يوحنا (272). كذلك يطالبون الانضمام إلى السيادة المصرية (273). وبالطبع لم يكن كل من قدم ولاءه لمصر مخلصا لها، فقد كان بعضهم يقدم ولاءه أيضا إلى يوحنا مثل حاكم جندر (274). وبالرغم من ذلك فقد كان ولد ميكائيل حاكم هماسين يميل فعلا إلى مصر ويؤيدها ضد يوحنا، ويعود ذلك إلى سجن الأخير له مدة تقرب من ستة سنوات بعد اتصاله وتعاونه مع الارسالية الكاثوليكية ضد يوحنا (275). وقد وافق راتب باشا على منح ولد ميكائيل حماية مصر وتأمينه على حياته ووظيفته. وبدأ الأخير يقوم بالتجسس على تحركات جيوش يوحنا ويبلغها إلى راتب باشا (276)ز

وكان يوحنا على دراية تامة بضخامة قوة هذه الحملة ومدى خطورتها عليه وعلى حكمه، لذلك فقد كان يبث في جنوده وشعبه الشجاعة والصمود، كما أخذ يستعد للحرب فأرسل جواسيسه ليجمعوا له المعلومات عن الحملة وتحركاتها كما استولى على المضايق والمعابر الموصلة إلى سنهيت وأسمرة وقياخور، كما فرض ضرائب كثيرة على الأهالي لتمويل الحرب المقبلة على مصر (277). كما منع كل اتصال بين بلاده ومصوع (278). وبدأ ينال من الروح المعنوية لجنود حملة راتب فأرسل تدريجيا بعض جنود حملة أرندروب وهم في حالة صحية سيئة نتيجة لعمليات التعذيب الوحشية التي تتنافى مع الضمير الإنساني (279). كما أرسل كيركهام برسائله إلى ملكة بريطانيا يشكو لها اعتداءات المصريين عليه وعلى بلاده، وفي نفس الوقت عرض كيركهام السلام على راتب باشا، وكان يوحنا يهدف من ذلك إلى احباط الروح المعنوية للجنود المصريين وبالفعل فقد تركت رؤية هؤلاء المعذبين أثرا سيئا في نفوذ جنود حملة راتب باشا بل وضباطها، اذا ملأتهم بالرعب بدلا من اثارة حميتهم للانتقام من هذا الامبارطور الوحشي، لذلك بدأ ضباط الحملة وجنودها يستجيرون بشدة من هذه الحرب ويعلنون عدم ضروريتها، هكذا انعدم الهدف الذي يحارب من أجله جنود مصر، بعكس الاثيوبيين الذين يحاربون دفاعات عن بلادهم (280).

وحمل كيركهام رسالة من يوحنا إلى اسماعيل، عرض فيها السلام، والاستمرار في القتال اذا لم تنسحب مصر جيشها من بلاده (281). غير أن اسماعيل رفض لأنه كان قد صمم على الانتقام واسترداد هيبة مصر العسكرية في أملاكها أمام العالم أجمع. لذلك لم يكن لهذا الخطاب أي تاثير واستعد الطرفان للقتال وأبلغت مصر اعلانها الحرب على اثيوبيا للدول الأوروبية في 14 يناير سنة 1876 (282).

وبدأت الحملة زحفها، فاستولى راتب باشا على هضبة جورا، وأقامت فيها قلعة قوية، واستولى عثمان رفقي بجزء من القوات المصرية للحملة على قياخور التي كان يفصلها عن جورا وادي صغير لم يسيطر عليه وبالتالي أصبح من السهل على يوحنا أن يصل إليه (283). حاول راتب باشا الاتصال بمنليك، عندما أشيع أنه موجود في عدوة، مع أنه كان بالقرب منها فقط ليوهم يوحنا بوقوفه بجانبه. وكانت التعليمات قد صدرت لراتب باشا بأن يعرف موقفه تماما ازاء مصر وهل ما زال أو انضم إلى يوحنا، فاذا كان مع مصر فعلى راتب باشا أن يعترف به ملكا لأثيوبيا (284).

غير أن راتب باشا فشل في الاتصال بمنليك، وذلك لأن يوحنا احتل كل الطرق الموصلة إلى ملك شوا، وبث جواسيسه في كل مكان لاحباط أي محاولة للاتصال به وذلك لشكه في ولائه له، كما أن راتب باشا لم ينجح في الاتصال بأي رأي من الرؤوس الخارجين على الامبارطور بسبب سيطرته القوية على البلاد ورؤوسها وهكذا استطاع يوحنا أن يحبط خطة الخديوي في تأليب الرؤوس الأثيوبيين عليه، ووحد البيلاد كلها تحت سيطرتها، وعندما تجمعت قواته وقوات رؤوسه أمرهم بالاستعداد للقتال والتدريب (285).

وعندما أتم يوحنا استعداده للقتال، بدأ يتحرك نحو مواقع الحملة المصرية تمهيدا للاشتباك معها (286)، وبالرغم من أن يوحنا استطاع توحيد صفوفه، فإننا نجد النقيض في صفوف الحملة المصرية، فقد كان هناك صراع بين راتب باشا والجنرال لورنج رئيس الأركان على أسلوب القتال والمواجهة مع يوحنا (278). وعندما وصلت الحملة أخبار تحرك يوحنا وتوقع هجومه على قياخور حيث قائدها عثمان باشا رفقي، أخرج راتب باشا بتوجيه من جنرال لورنج جزءا كبيرا من الحملة لقتال يوحنا خارج استحكامات قلعة جورا، وتقابل المصريون والاثيوبيون في 7 مارس سنة 1876 حيث انهزم الأولون هزيمة قاسية لم يتمكن من بقى على قيد الحياة منهم العودة إلى قلعة جورا إلا بصعوبة بالغة وكان من هؤلاء الأمير حسن وراتب باشا ولورنج وغيرهم من باقي الضباط أو الجنود والأحياء (288).

ولما كان يوحنا يريد القضاء عل المصريين تماما في بلاده، فقد كرر الهجوم ثانية على الحملة في 9 مارس سنة 1876. وفي هذه الجولة لم يخرج المصريون من قلعة جورا بل احتموا بها فحاصرهم الأثيوبيون حصارا قويا ومع ذلك فقد استماتت الحملة المصرية في دفاعها عن موقعها واستطاعت أن تنزل بالاثيوبيين هزيمة ساحقة تكبدوا فيها خسائر فادحة في الأرواح والرؤوس معاوني يوحنا (289) أما خسائر المصريين فقد كانت قليلة جدا (290). وقد أدت هزيمة يوحنا هذه إلى انسحابه من أرض المعركة بل واخلاء المنطقة المحيطة بالقلعة والرحيل عنها تماما (291).

ومما يدل على انتصار الحملة المصرية في موقعة 9 مارس أنها ظلت باقية في مركزها (292). وان يوحنا لم يحاول أن يعيد هجومه عليها بعد 9 مارس لأنه تأثر تأثرا كبيرا بهزيمته في هذا اليوم، كما أن مؤونة جيشه قد نفذت مما قد يؤدي إلى هزيمة قاسية أخرى له لو فكر في الهجوم مرة أخرى على الحملة. وبالاضافة إلى ذلك ، فإن الأثيوبيين لا يجيدون موقف الدفاع الذي قد يحدث نتيجة لهزيمة أخرى، لذا قرر يوحنا الانسحاب (293). بل أن يوحنا أرسل في 13 مارس إلى راتب باشا يعرض الصلح مع الحكومة المصرية، وهو عمل لم يعمله من قبل ولا يعمله لو كان انتصر في 9 مارس. وقد وافقت مصر على مبدأ الصلح، فشرع يوحنا في 18 مارس في الانسحاب إلى عدوه، وبعد ذلك بشهر تقريبا انسحب المصريون بدورهم إلى مصوع، وبدئ على الفور في اجراءات المباحثات لتسوية النزاع المصري الأثيوبي (294).

وبالرغم من انتصار حملة راتب في 9 مارس، فانها لم تحقق هدفها في القضاء على حكم يوحنا، ذلك لأن اسماعيل لم يحقق للحملة القيادة الواحدة المسئولة المتجانسة. فقد كان هناك جفاء بين راتب باشا ولورنج باشا انعكس هذا الجفاء على هزيمة 7 مارس (295). كما تأثرت الحملة بكراهية الضباط الجراكسة للضباط الأجانب بسبب المنافسة بينهما على المناصب الكبرى. وكراهية الضباط المصريين للضباط الجراكسة، كما كان هناك شيء من التخاذل من بعض القادة مما ساعد أيضا على هزيمة 7 مارس مثل تخاذل عثمان رفقي عن مساعدة راتب باشا في هذه المعركة، وكان في امكانه ومن قلعته بقياخور، أن يضرب بمدافعه البعيدة المدى القوات الإثيوبية، إلا أنه لم يفعل. وقد اعترفه هو بذلك وعلل تخاذله بأنه خاف أن يفعل ذلك حتى لا يسحبهم إلى قلعته (296). وعانت الحملة أيضا من نقص الدواب مما عاق سرعة تحركها، وأعطى الفرسة ، لكي يسارع يوحنا إلى احتلال المواقع الهامة ويدعم استحكاماته فيها _\(297). كما أ، عدم مد الخط التلغرافي بين مصر قياخور أثر تاثيرا كبيرا في وصول الاشارات التلغرافية وبالتالي كان ذلك سببا في عرقلة وصول الامدادات الحربية في الوقت المناسب (298)، هذه هي العوامل الهامة التي أدت إلى فشل الحملة في تحقيق هدفها بالرغم من انتصارها في 9 مارس.

وقد نتج عن هذه الحروب ان زاد الارتباك المالي في مصر نتيجة زيادة الديوم وبالتالي زيادة التدخل الأجنبي في مصر، ثم خسارة مصر بخير شبابها في هذه الحروب، كما أنها لم تحل مشكلة الحدود (299). هذا بالنسبة لمصر، أما بالنسبة ليوحنا فقد استفاد منها كثيرا، فقد دعم حكمه في البلاد وسيطرته على الرؤوس، الخارجين عليه وأصبح بطلا وحاميا للدين في نظر شعبه (300). بل ان منليك بعد أن اتضح له مدى ضعف مصر الحربي خرج عن تأييده لمصر مثله في ذلك مثل الرؤوس الآخرين الذين تنكروا لمصر بعد هزيمتها وعدم تحقيق أمانيهم (301)، وشهر منليك بالمصريين عند ملك ايطاليا بأنهم أضروا مملكته وسببوا له المتاعب وأرادوا الاستيلاء عليها وكذلك فإنه سيحاربهم وسيكون ملك ايطاليا شاهدا أمام حكومات اوروبا لكي لا يعتبروه معتيدا عليهم. وواضح أن منليك يريد أن ينتهز ضعف مصر واضمحلال امبراطوريتها لكي يستولي على ولاية هرر (302).

على أي حال فقد كان يوحنا يحاول استقرار الأوضاع والمشاكل على عدم معارضته بل ان شعب شوا، نتيجة لما أحرزه يوحنا من انتصارات أجبر منليك على العودة إلى مملكته عندما اقترب من عدوه، وذلك عن طريق آخر غير الطريق المألوف، وذلك ليتجنب قوة يوحنا من أن تقطع عليه طريق العودة، كما أنه قدم له عددا كبيرا من الخيول مساهمة في الحرب ضد مصر (303). وفي سنة 1878 اعترف منليك بيوحنا امبراطورا لأثيوبيا كلها وأنه تابع له، وانه لا يستطيع أن يقف أمام قوة يوحنا والتي كانت قد بلغت أوجها في ذلك الوقت (304). وهكذا نجد أن مصر دون أن تدري دعمت حكم يوحنا ووحدت البلاد سياسيا تحت سيطرته، وكان هدفها عزله والقضاء عليه ولذلك لم تجد بدا من التفواض والصلح معه لاقرار السلام.


المفاوضات مع الامبراطور يوحنا

وبدأت المفاوضات بين علي الروبي والامبارطور،ووافق فيها 13 مارس مندوبه برسالة إلى الأمير حسن نجل الخديوي يطلب المفاوضة في السلام والصلح بين البلدين (305). وعندما علم اسماعيل برغبة يوحنا هذه وافق عليها فورا فهو لم يكن أقل رغبة منه في الصلح (306). لذلك فقد أوقفت الحرب تمهيدا للبدء في المفاوضة (307) وقد طلب اسماعيل من نجله وقائده أن يعر على يوحنا أن يعيد إلى مصر الاسرى الاصحاء منهم أو الجرحى (308). غير أن يوحنا عندما وجد أن الخديوي يدعم قواته في أثيوبيا، طلب الجلاء عن بلاده وعودة الجيش المصري بمهماته وجنوده جميعا إلى مصوع، وذلك في حمياة قواته حتى يصلوا سالمين إلى هذه البلدة (309). غير أن راتب باشا رفض ذلك، وطلب منه أن يرسل مندوبا مفوضا من قبله للتفاوض معه في الصلح (310). ووافق الامبارطور على هذا وأرسل مندوبه حاملا رسالة منه يطلب فيها أن يحدد راتب باشا مبعوثه ويرسله إليه. وبالفعل عين راتب باشا البكباشي علي الروبي وأرسله إلى يوحنا بتعليمات تنحصر في استرداد الأسلحة والافراج عن الأسرى وحرية التجارة بين البلدين (311).

وبدأت المفاوضات بين علي الروبي والامبراطور، وافق فيها الأخير على عودة جميع الأسرى من حملة أرندروب ومعركة 7 مارس، وعقد معاهدتين للتجارة، والبريد مع مصر على غرار ما هو جاري بين الدول الأخرى، أما مسألة الأسلحة ، فقد اشار يوحنا إلى صعوبة جمعها من جنوده غير النظاميين ويطلب من الخديوي اعتبارها بمثابة هدية منه له (312)، غير أن اسماعيل تمسك بارجاع السلاح أولا ثم بعد ذلك يتفق على المسائل الأخرى مثل الحدود والتجارة (313).

وقد أخذت مشكلة ارجاع السلاح هذه حيزا كبيرا من المفاوضات بين راتب باشا ويوحنا لدرجة أنها كادت توقف سيرها، مما دفع راتب باشا إلى الانسحاب إلى قلعة جورا وهدم استحكاماتها والانقال إلى قلعة قياخور، وذلك لدفع مفاوضات الصلح إلى الأمان، واثباتا لحسن نية مصر في الوفاق والسلام (314). وأخيرا حلت مشكلة السلاح، عندما اقترح إسماعيل على قائده قبول ما يقدمه منها، كما طالبه بأن يعمل على استرداد جميع الأسرى المصريين والعرب، وقد نقل راتب باشا رغبة الخديوي إلى يوحنا عن طريق مندوبه (315). وقد ذهب المندوب الإثيوبي ومعه علي الروبي وأخبر يوحنا برغبة الخديوي بعودة الأسرى جميعهم، وعقد المعاهدات التي تنظيم التجارة والبريد بين البلدين. وقد وافق يوحنا على هذه الرغبة، فعادا كل من المندوب الإثيوبي والمصير إلى راتب باشا حيث أخبراه بموافقة الإمبراطور هذه (316).

وكان راتب باشا قد أوصى على الروبي أن يتأخر عند الإمبراطور يوحنا بضعة أيام وذلك ليجد الفرصة اللازمة لنقل الجنود ومعداتهم إلى قياخور والمحطات الأخرى في الوقت الذي يكونون فيه مشغولين بتحرير الشروط والمعاهدة (317). وتم بالفعل الاتفاق على شروط المعاهدة، وصل بها مندور الإمبراطور وعلي الروب إلى مقر راتب باشا بقياخور، كما وصل عدد كبير من الأسرى المصريين – بلغ 214 أسيرا – من موقعة جندب و7 مارس . وكانت المعاهدة من نسختين مختومتين بخاتم الامبراطور وشملت تسهيلات التجارة وحماية التجار وتسهيل انتقال البريد بين البلدين واستقرار السلام بينهما. وقد وقعها راتب باشا بخاتمة، واحتفظ باحدى النسختين واستعد ليعدي النسخة الأخرى إلى يوحنا (318).

ولكنه احتجز نسختي المعاهدة، وذلك لأن توقيعها يتعارض مع بقاء الجنود المصريين في مواقعهم، وانه اذا حدث شقاق بعد التوقيع بسبب بقاء هذه، القوات في مواقعها، فإن هذا سوف يؤدي إلى النزاع مع يوحنا مرة أخرى بأي صورة كانت، لذلك ارسل يسأل ما اذا كان الخديوي ينوي ابقاء القوات المصية في النقط الهامة، فيجب من الآن التوقف عن التوقيع حتى يم الاتفاق على الحدود بين البلدين وعلل راتب باشا عدم توقيعه بأن يوحنا لم يرسل الأسلحة وباقي الأسرى، وقد وافقه الخديوي على ذلك (319). وكان راتب باشا يخاف على جيشه من توقيع المعاهدة وما زالت قواته في إثيوبيا لم تنسحب تماما خاصة وأن يوحنا بقواته لم يكن بعيدا عنها (320).

ولكي يحقق يوحنا السلام، أبدى استعداده لجمع الأسرى المصريين وارسالهم إلى راتب باشا في أقرب فرصة، وذلك لكي يوقع راتب المعاهدة، كما أعلن مغادرته لعدي جواله في طريقه إلى عاصمته. وبالفعل بذل يوحنا جهدا كبيرا في جمع الأسرى المصريين وارسلهم إلى راتب باشا (321) ومع ذلك فان القائد المصري أخبر الامبارطور بأن الأسرى المصريين لم يعودوا كلهم (322) ، كما أرسل إلى حكومة مصر يخبرها بأن يوحنا لم يسلم الأسلحة واقترح عليها أن تجعل البطريرك يتصل بالمطران المصري في أثيوبيا ليستغل مكانته عند الامبراطور ليجعله يرد الأسلحة (323) وقد رد يوحنا على راتب بأن عدد المصريين قليل للغاية وأنه سيعمل على عودتهم إليه (324) وكان واضحا أن يوحنا صرف النظر عن قتال المصريين، اذ واصل انسحابه نحو عاصمته، كما أنه بعد أن وصل إليها قام بتسريح قواده وجنوده (325)ز

ونتيجة لذلك أرسلت حكومة مصر علي الروبي مندوبا رسميا مفوضا منها ومنحته سلطة التفاوض وعقد الصلح مع الامبراطور (326). وقد طلب علي الروبي منحه هدايا ليقدمها إلى الامبراطور لكي يتمكن من تحقيق أهدافه من استرداد الأسلحة ومد الحدود المصرية حتى نهر المأرب (327). غير أن مهمة علي الروبي فشلت، وذلك لطلبه مد حدود مصر إلى نهر مأرب وهو ما قد عرضه من قبل أرندروب ورفضه الامبراطور، بل رفض استمرار المفاوضات معه ولم يرض بتسليم أي جزء من بلاده أو من الأسلحة وأخبره أنه سوف يرسل معه مندوبا من طرفه إلى الخديوي ليتفاوض معه مباشرة (328).

ومما ساعد على فشلها أيضا، أن مصر استمرت في تشجيع الرؤوس المناوئين للامبراطور وعلى رأسهم ولد ميكاييل حاكم هماسين، مما جعل يوحنا يعتقد بأن تأييد راتب باشا لهذا الرأس المنشق يوضح أن التفاهم معه لا يؤدي إلى نتيجة فأرسل مندوبه إلى الخديوي في القاهرة مباشرة (329). وبالفعل جاء هذا المندوب إلى مصر وتفاوض مع الخديوي، غير أن هذه المفاوضات لم تسفر عن شئ، فلم تخطط الحدود بين البلدين كما لم تحصل أثيوبيا عل امتيازات معينة تمكنها من استخدام ميناء مصوع (330).

وكان يوحنا يأمل في الصلح مع مصر لكي يحصل على مطران جديد بدلا من المطران المتوفى، لذلك أعلن على شعبه أن اتفق مع مصر وأن المطران الجديد سيحضر، وستعود قواف التجارة إلى سيرها الطبيعي بين أثيوبيا ومصوع (331). غير أن مصر عملت عن طريق راتب باشا على اشاعة عدم الاتفاق مع يوحنا بين الرؤوس الأثيوبيين وذلك لتحريضهم ضد الامبراطور فأرسل القائد المصري عدة رسائل إلى هؤلاء الرؤوس جاء فيها، بأنه لم يتم الصلح ولن يحضر مطران مصري إليه (332) ، وبذلك فشلت مهمة المبعوث الأثيوبيا في الاتفاق مع الحكومة المصرية وعاد إلى بلاده، وعندما عاد لم يخبر يوحنا بأطماع إسماعيل الحقيقية التي لم يكتشفها، لذلك اعتقد الامبراطور أن القواد المصريين للحملة هم الذين يبغون الحرب والتوسع، فبعث إلى عثمان رفقي الذي عين قائدا للحملة بعد رحيل راتب باشا في 15 يناير 1877 (333) برسالة قطع فيها المفاوضات معه تماما ورفض محاولاتهم لتحديد الحدود بين البلدين واستيلائهم على أراضي بلاده (334).

ومع انقطاع المفاوضات ، عادت الغارات الاثيوبية المكثفة على الحدود والقرى المصرية، (335)، وقاد هذه الغارات الرأس ألولا الذي منع أهالي هماسين وغيرها من البلاد الأثيوبية من التوجه إلى مصوع للتجارة أو لأي غرض آخر. وقد أدت هذه الغارات إلى انتشار الفزع والاضطراب بين هذه المناطق مما دفع عثمان رفقي إلى أن يرسل بعض قواته لتدعيم مناطق الحدود ، ولحفظ الأمن واطمئنان الأهالي بها كما دعمت قلعة أركيكو وحامية مصوع، وبعث عثمان رفقي برسالة تحذير إلى الامبراطور وقائده الرأس ألولا من هذه الغارات، إلا أن يوحنا ضرب بها عرض الحائط ولم يهتم بها (336).

ولما كان يوحنا يرفض التفاوض مع عثمان رفقي لاعتقاده أنه ينتجه سياسة عدائية توسعية مخالفة تماما لسياسة اسماعيل والتي ظن خطأ بأنه لا يبغي العداء أو التوسع، كان لابد من شخص جديد يقوم بالتفاوض فسعى القنصل الانجليزي إلى تعيين جورج تشارلس جوردون حاكما عاما للسودان ليتولى هذه المهمة وبالفعل تم ذلك ووصل جوردون إلى مصوع في 26 فبراير سنة 1877، وكان الهدف الهام والعاجل هو حل المشاكل القائمة بين مصر وأثيوبيا وعقد معاهدة سلام مع يوحنا (337). وقد أخبر عثمان رفقي الامبارطور يوحنا بهذا التعيين وأنه لا مانع من استئناف المفاوضات معه اذا كان يرغب في ذلك (338).

وقد أرسل جوردون إلى يوحنا بمجرد وصوله إلى مصع، يطلب منه ارسال مبعوثه للتفاوض معه، واعتقد جوردون خطأ بأن يوحنا سيكون سعيدا لاجراء مفاوضات السلام معه، الا أنه لم يكن مصيبا، اذ كانت مطالب يوحنا كشرط لاستقرار دائم مع مصر منحه ميناء مصوع وبلاد بوجوس وتسليم ولد ميكاييل أو على الأقل إجباره، على الكف عن الاغارة على أثيوبيا. ولما كان من الصعب على مصر التخلي عن صديقها المخلص هذا، فإن جوردون قد عرض عليه أن يحكم بعض الاقاليم في المناطق المصرية بعيدا عن الحدود الإثيوبية (229)، وحاول جوردون لكي يكسب ثقة يوحنا، أن طلب من مصر تعيين المطران الذي يطلبه وذلك ليدفعه إلى ابرام الصلح واستقرار الأمور بين البلدين (340).

لكن الحكومة المصرية رفضت طلب جوردون هذا، لأن يوحنا لم يطلب هذا المطران بصفة رسمية، وتخاف من ارساله فيقتل بسبب اضطراب الأمور في أثيوبيا نفسها، وبينها وبين مصر. كما ألمحت إلى أهمية وجود المطران المصي في أثيوبيا وتأثيره في تدعيم حكم يوحنا، مما قد يؤدي إلى زيادة غاراته على الحدود المصرية وبالتالي فشل المفاوضات معه. على أنه في حالة الصلح معه فإن مصر على استعداد لارساله إليه، بل ينص عليه في شروط هذا الصلح (341). وقد اقتنع جوردون برأي الحكومة المصرية هذا، بل طلب عدم تعينه حتى ولو طلبه الامبراطور الرسمي إلا بعد فترة من الوقت (342). وربما ساعد على اقتناع جوردون بهذا، أن يوحنا لم يرد عليه عندما دعاه للمفاوضة.

وكرر جوردون اتصالاته بالأثيوبيين، فاتصل بالولا قائد يوحنا، وعرض عليه الصلح ووافق الولا على ذلك ولكن بعد القضاء على الرؤوس الخارجة على يوحنا، وأنه – أي ألولا – سوف يعرض على يوحنا مشروع الصلح، وبعد عودته يرسل إلى جوردون رسالة يذكر فيها الرد على مشروع الصلح هذا (343). وعلى ذلك حرر جوردون شروط الصلح من أربع نسخ اثنتين باللغة العربية، واثتنين باللغة الأثيوبية وأرسلها مصحوبة برسالة منه إلى الامبراطور، وقد وقع جوردون على هذه النسخ الأربعة وعلى الرسالة أيضا، بقصد حث الامبراطور على الموافقة، أما في حالة عدم الموافقة فيرسل رسالة يستدعيه فيها إليه وذلك لاستمرار المفاوضات لوضع حل للمشاكل المتفاقمة بين البلدين، (344). وقد وافق الخديوي على الشروط التي وضعها جوردون، كأسس للصلح وذلك عندما أرسلها إليه بناء على طلبه (345).

وكانت هذه الشروط تتلخص في التخلي عن الحرب ومنع نشوبها مرة أخرى، وحل مسألة الحدود بارجاعها إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وتنمية التجارة بين البلدين، العفو عن كل من إلتجأ إلى مصر من قبل، ومنع عساكر ولد ميكاييل بالتعدي على حدود أثيوبيا، وموافقة مصر على وجود مندوب ليوحنا في مصوع لرعاية رعاياه وحرية ارسال البريد للطرفين، وتحديد الكمية المسموحج بمرورها من الذخيرة والسلاح كل عام وضمان اتصال يوحنا بالخارج وسفر كل من يرغب من الأثيوبيين بالتوجه إلى الدول الأوروبية، ودخول الأوربيين إلى أثيوبيا بدون قيد أو شرط (346).

ووافق يوحنا – بعد شهر ونصف من اعلامه بها – على هذه الشروط وأسرع جوردون وأخبر الخديوي بموافقة يوحنا هذه فهنأ الخديوي جوردون على هذه الأخبار السارة (347). وكان الدافع وراء موافقة يوحنا هذه هي ثورة منليك في الجنوب (348)، وولد مياكييل في الشمال، وبالتالي خوفا من اتفاق الأخير مع المصريين منتهزين في ذلك فرصة انشغال يوحنا مع منليك فيزخفون معا على عدوه، وبذلك يصبح يوحنا بين شقي الرحى. وكان ولد ميكاييل قد عرض على جوردون فعلا التحالف معا للقضاء على يوحنا إبان صراعه مع منليك، إلا أن جوردون رفض هذا العرض، وطلب منه أن يحافظ على السلام مع الامبراطور يوحنا (349).

لكن ولد ميكاييل لم يوافق على رغبة جوردون في حفظ السلام مع يوحنا، لأنه فهم هدف الامبراطور الخادع من موافقته على شروط الصلح، وانه أراد أن يوهم منليك بأنه قد اتفق مع المصريين، وأنه لا معنى لخروجه هذا، وكان يوحنا يعلم تماما باتصال منليك بمصر (350). هذا بالاضافة إلى أن ولد ميكاييل كان يريد العودة إلى حكم هماسين التي كان يحكمها أجداده وعزله عنها يوحنا (351). لذلك لم يقبل هذا الاتفاق أو الهدنة المسلحة لأنها تدعم حكم يوحنا (353).

وقد بدأ ولد ميكاييل في يولية سنة 1877 محاولاته لنسف هذا الاتفاق فهدد الأهالي في هماسين، باعدام كل من يزرع الأرض، مما دفعهم إلى هجرة أراضيهم في سنهيت، وأرسل الامبراطور إلى مدير سنهيت المصري رسالة يطلب فيها عودة أهالي هماسين إلى بلادهم حسب شروط الصلح ومنعم من زراعة أراضي سنهيت. وقد أمر جوردون بعودة هؤلاء الأهالي إلى بلادهم بالقوة وذلك حرصا على الاتفاق مع يوحنا (353). كما حاول جوردون سجن ولد ميكاييل بسبب أعماله هذه إلا أن الحكومة المصرية رفضت ذلك (354). مما أدى إلى ازدياد أعماله العدوانية ضد هماسين وإلى احتاج يوحنا عليها وعلى سكوت مصر ازاءها (355).

ولما كان من الصعب على جوردون التخلص من ولد ميكاييل بسبب مؤازرة مصر له عرض على يوحنا الاشتراك معا في القضاء على ولد ميكاييل، ولكن الامبراطور لم يجبه إلى طلبه هذا (356). وازاء ذلك تفتق إلى ذهنه عن فكرة أن يدفع ولد ميكاييل إلى الاغارة على عدوه منتهزا غياب يوحنا لمحاربة منليك، وذلك على ألا يكون بعلم الحكومة المصرية أو بايعاز منها (357). وربما كان سبب دفع جوردون لولد ميكاييل هذا هو اعتقاده بأن قوة يوحنا وجيشه قد يقضي عليه، ولكنه عندما نجح ولد ميكاييل في أن يفتح الطريق إلى عدوه حاول منعه وطلب منه الكف عن الحرب والحضور إلى مصوع (358). بل طلب من مصر أن ترسل جيشا قويا لتحتل هماسين وضفاف نهر مأرب (359).

لكن ولد ميكاييل رفض الانصياع له، وعبر عن استيائه قائلا بأنه لا يخضع له ولا لانجلترا وإنما لمصر ولحكومتها وان جنوده يحملون أسلحتها وكان عثمان رفقي قد أمده بكمية كبيرة من الذهيرة. وقد واصل ولد ميكاييل زحفه حتى أنه قتل قائد حامية عدوة، وأصبح الطريق مفتوحا للاستيلاء على عاصمة يوحنا (369). وعندما رأى جوردون ذلك كتب إلى مدير التاكه ومأمور سنتهيت أن يعملا على إيقاف ولد ميكاييل والقبض عليه حتى لا يكون سببا في نسف المفاوضات مع يوحنا. بل طلب عدم عودته مرة أخرى إلى أراضي حكومة مصر (361). وواضح أن جوردون عندما وجد أن فكرته قد فشلت بل قد تؤدي إلى ازدياد نفوذ ولد ميكاييل، وقد ينتج عنها اضعاف حكم يوحنا وأثيوبيا، نقض تأييده وتشجيعه لولد ميكاييل واعتبره عاصيا لأمره وطلب ايقافه.

والواقع أن جوردون كن يعمل لتدعيم حكم يوحنا ، فبالاضافة إلى محاولة وقف تقدم ولد ميكاييل فإنه اقترح اقتراحا غريبا على الحكومة المصرية بأن تمنح يووحنا حكم بوجو التي كان يطالب بها من قبل، وذلك بحجة التخلص من تابع مخلص لها هو ولد ميكاييل. ولما كان جوردون يعلم أن مصر لن توافق على ذلك (362)، عاد فاقترح أن تعطي مصر لأثيوبيا خراج هذه المنطقة وهو مبلغ كبي يصل إلى سبعة آلاف ريال سنويا، وهو ما كان يوحنا يأخذه قبل خضوعها لمصر، أي أن يعترف ويؤكد تبعية هذه المنطقة ليوحنا، بل إنه يريد دفع أموالها لأثيوبيا لدعم حكم امبراطورها ويؤكد سيادته على بوجو وأن مصر تديرها لحسابه، وبذلك يحافظ على وحدة وسلامة أثيوبيا (363).

وقد رفضت مصر هذه المقترحات وتمسكت بتبعية بوجوس لها، كما استنكرت اعطاء يوحنا أموالا قد يفهم منها على المستوى الدولي أنها – أي مصر – تابعة لاثيوبيا وفي هذا تحقير وازدراء لا يليق بها أن تفعله (364). وقد تراجع جوردون عن اقتراحه هذا، وذلك لحكومة مصر أنه سيتباحث لو قابل الامبراطور في موضوع ولد ميكاييل فقط (365).

وأرسلت مصر إلى عثمان رفقي بأن لا يتعرض ولا يتدخل في شئون ولد ميكاييل ولا ينفذ أوامر جوردون بالقبض عليه أو إرجاعه إلى منطقته (366) كما أمر اسماعيل بأن لا يتدخل في هذا الموضوع ما دام ولد ميكاييل يحارب يوحنا من تلقاء نفسه دون تدخل مصر (367). وقد برر جوردون عمله هذا بأن اعتداء ولد ميكاييل هذا قد يؤدي إلى الحرب مع يوحنا، ولا يعلم رد الفعل الأوروبي اذا نشبت هذه الحرب، اذ من السهل تفسيرها بأن مصر حرضت ولد ميكاييل ضد أثيوبيا (368). لكن انتصار ولد ميكاييل هذا قد انقلب إلى هزيمة على يد ألولا الذي أرسله يوحنا (369). وقد نتج عن ذلك هروب ولد ميكاييل إلى ايليت، وطلب من السلطات المصرية في مصوع تزويده بالمؤن، فرفض جوردون، أرسل إلى مصر يطلب مددا حربيا لحماية مصوع من الهجوم قد يقوم به ولد ميكاييل، واقترح في حالة تعذر وجود قوات كافية أن يطلب من قنصل بريطانيا في مصر أن يراسل حاكم عدن ليرسل باخرة حربية إلى مصوع مؤقتا لهذا الغرض (370).

غير أن مصر لم تهتم باقتراح جوردون هذا وانما اهتمت بالولا الذي قد يغزو بوجوس في تعقبه لولد ميكاييل، لذلك طلبت من حكمدارها أن يتخذ الاجراءات، الكفيلة بحماية هذه المنطقة، وحماية الارسالية الكاثوليكية كذلك (371). وعندما وجد ولد ميكاييل نفسه محاصرا من المصريين والأثيوبيين، طلب الصلح مع يوحنا، وبالفعل تم ذلك (372)، هذا في الوقت الذي اتفق فيه الامبراطور مع منليك – بدون حرب – على أن يعترف الأخير بالأول كملك لأثيوبيا (373)، وهكذا بفضل جوردون ، استطاع يوحنا أن يوحد بلاده كلها تحت سيطرته، وأصبح يفاوض مصر وهو في مركز القوة، في حين أن مصر فقدت أخلص رجالها الأثيوبيين، ولد ميكاييل الذي كان يثير المتاعب ليوحنا، وكان من المفروض تدعيمه وتحويل منطقته إلى دولة حاجة تسبب المتاعب ليوحنا، وربما استطاع ولد ميكاييل أن يضم إليه بعض الرؤوس المتناوئين للامبراطور، فيقوض حكمه تدريجيا، ولكن ذلك لم يحدث بفضل سياسة جوردون التي اتبعها في التخلي عنه.

وعندما استقر الأمر ليوحنا، أرسل إلى جوردون بطلب منه أن تبدي حكومة مصر رغبتها في الصلح رسميا، وقد عرض جوردون ذلك على حكومة مصر وطلب منها الرأي في اعطاء الامبراطور نقطة أميديب، وتعليماتها بشأن تخطيط الحدود، وارسال مطران مصري إلى أثيوبيا، وقد أخبرته – حكومة مصر – أنها لا تفرط في أراضيها وتوافق على ارسال مطران إلى أثيوبيا (374). وعلى ذلك فقد أرسل جوردون بالموافقة إلى يوحنا الذي ارسل إليه مندوبه فقابله في القضارف، حيث سلمه شروط الصلح التي يتم التفاوض على أساسها (375)ز

وكانت تنحصر في تمسك مصر بأملاكها في بوجوس والنمسا ومنهل والماريا بقسميها وأميديب وما يجاورها، وتعترف مصر بيوحنا امبراطورا لأثيوبيا التي يكون لها قنصل لرعايا مصالحهاة ورعاياها في مصوع، وتعين مطرانا لها، وتسمح لجميع الاثيوبيين الراغبية في زيارة القدس بالمرور بل وتقديم المساعدات اللازمة لهم متى حملوا خطابات من حكومتهم، وتمنع مرور السلاح عبر أملاكها إلى أعداء يوحنا بقدر الامكان، وتتعهد أثيوبيا برد الأسرى إلى مصر (376)، وأوصى جوردون حكومة مصر أن تسعى لدى بريطانيا لاعادة تاج تيودور الذي أخذه نابيير إلى لندن سنة 1668 واذا لم يتيسر ذلك فيصنع تاج شبيه به، بهدف كسب ثقة يوحنا ونجاح المفاوضات معه، كما أوصلى بسرعة تعيين المطران وارسال أحد الأوروبيين مع مندوب مصري للتفاوض مع الامبراطور حتى يطمئن إلى عقد الصلح مع مصل. وكان هذا المفاوضان (الأوروبي والمصري) سيتفاوضان نيابة عن جوردون مع الإمبراطور وذلك لاضطراره إلى العودة إلى الخرطوم (377).

وبالرغم من توصياته هذه فإن جوردون أرسل مع المندوب الأثيوبي المندوب الأوروبي فقط دون مندوب مصري، ومعه شروط الصلح، وكان هذا المندوب هو وستانلي الإنجليزي Wesatanely (378). على أن هذا المندوب الإنجليزي فشل في الوصول إلى أي اتفاق مع الامبراطور بشأن هذه الشروط المعروضة عليه (379)، اذ أن يوحنا طلب اعطاءه بوجوس والهلهل والقلابات وشنجالا والماريات، كما طلب مقابلة جوردون شخصيا، وقد أوضح الأخير للمسئولين في مصر أنه لا يوافق على اعطاء يوحنا ما ذكره للمندوب الأوروبي (380)، وبذلك فشلت المفاوضات وتأزم الموقف من جديد، واد من تأزمه أن حليف الأمس أصبح عدو، إذ أرسل ولد ميكاييل مندوبه إلى مدير سهنيت يخبره بأنه ارسل بعض أتباعه لزراعة الأرض في هلهل بالقوة. وبالفعل تم ذلك، ولم تستطع القوة الحربية المصرية الصغيرة أن تحول دون ذلك (381). وربما كان ما فعله ولد ميكاييل يعود إلى أن يوحنا بدأ يخطط من جديد للهجوم على الحدود المصرية مستغلا في ذلك ولد ميكاييل، إذ عينه على المنطقة الواقعة بين القاش وسنهيت وأمره بالهجوم على الأخير. وقد تعهد ولد ميكائييل للامبراطور، بقطع أسلاك التلغراف ومواسير مياه الشرب التي تمد مصوع، ونهب الأهالي الخاضعين لمصر، يشاركه في ذلك رأي ألولا (382).

وبالرغم من خطورة هذه التطورات على أملاك مصر في هذه المنطقة، فإنها لم تحاول أن تفعل أكثر من تكليف الحكمدار باتخاذ الاحتياطات الكفيلة لمنع أي هجوم أثيوبي على الأراضي المصرية أو التعدي عليها (383)، كما أن جوردون اعتبرها مجرد شائعات لا اساس لها من الصحة، وذكر أنه لا فائدة من قلة الجنود أو كثرتهم بسنهيت، وعلل ذلك بأن اجراءات الصلح جارية لأن الامبراطور طلب مقابلته شخصيا، وأنه لم ينفذ ذلك بسبب رغبة الحكومة المصرية في استدعائه إلى مصر، بمعنى آخر أن يوحنا لا يفكر في الهجوم على مصر وأنه مستمر في رغبته في الاتفاق والمصلح معها (384)، لكن الحكومة المصرية رأت تأجيل زيارة جوردون لمصر حتى ينهي مفاوضاته مع يوحنا، وعلى ذلك فقد أرسل جوردون برسالة إلى يوحنا يطلب فيها مقابلته (358).

والواقع أنه لم يكن في وسع مصر في هذا الوقت سوى ذلك، لأنها لا تستطيع إرسال حملة لمحاربة يوحنا مرة أخرى لعدم موافقة الدول الأوروبية المسيطرة على مالية مصر بعد انشاء صندوق الدين، ولما كان جوردون يعلم ذلك جيدا، فقد ذكر أنه ليس هناك سوى ذهابه إلى يوحنا أو تعيين مندوب من طرف الخديوي ، وبالاتحاد مع دولتي إنجلترا وفرنسا، وأوضح بأنه ما زال مستعدا للهذاب إليه (386). وهكذا دخل جوردون في فلسفة سياسية ليحقق ليوحنا أمنية قديمة، وهي ضم بوجوس والتي كان جوردون، أشار من قبل إلى اعادتها له أو منحه ضرائبها، وبذلك يكون جوردون قد ساهم في توطيد حكم يوحنا واخضاع ولد ميكايل له وأخيرا اعادة بوجوس له.

وكانت قوات ولد ميكاييل قد دخلت سنهيت ورابطت فيها، وطلب قائده المؤن لجنوده (387). وطرد مزارعي الدخان الأجانب (388). وقد أدى انتشار القوات الأثيوبية في المنطقة الحدود والاقاليم الخاضعة لمصر، ان اضطراب الأمن والمواصلات والبريد بين مصوع وسنهيت بسبب تعدي الأثيوبيين هذا (389). ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أحاط ولد ميكاييل بقواته طابية كيرين، وطالب أهلها بدفع الضرائب وقد تم له ذلك بسبب ضعف حامية الطابية المصرية (390). وقد شجع ضعف مصر هذا على استمرار تهديد ولد ميكاييل لدرجة أن بعض قواته دخلت المناطق التابعة لمصر وطالبتها بالضرائب، كما فرض ولد ميكاييل نفوذه وقوته على سلطات مصوع المصرية (391).

وفي أثناء ذلك عزلت الدول الأوروبية اسماعيل عن حكم مصر في يونيه 1879 (392) وعندما عمل جوردون ذلك قدم استقاله (393). وهكذا انتهى حكم اسماعيل وحكمدارية جوردون للسودان وأملاك مصر في شرق السودان وشمال أثيوبيا مهددة من الامبراطور يوحنا ورؤوسه. بعد أن كانت مصر تهدد أثيوبيا وحكم يوحنا، وذلك بفضل جوردون وسياسته.


ثالثا: العلاقات في الفترة الأولى من عهد توفيق 1879/1882

اشتد التدخل الأوروبي في الشئون الداخلية لمصر على أيدي ممثلي الدول السياسية والقناصل من ناحية، ووكلاء المرابين الدوليين وسماسرتهم من ناحية أخرى، مما أدى إلى نشوب صراع بين حكام مصر وهذه الوصاية الدولية بلغت إلى أوجه سلطتها عندما عزلت الخديوي اسماعيل (394). وقد أصاب التدخل الأوروبي بعزل اسماعيل وتعيين توفيق مركز الخديوي بالضعف، مما نتج عنه اعتماد حكومة الخديوي الجديدة على مؤازرة هذه "الوصاية الدولية"، وتدهور الأوضاع الداخلية في مصر والسودان وثورة شعبيهما بعد ذلك على هذا التدهور والتدخل الأوروبي (395).

وكانت نتيجة هذا الضعف أن حددت حكومة توفيق حكمادرية جوردون للسودان وتكليفه بحل مشكلة الحدود بين أملاك مصر وأثيوبيا، وتوطيد السلام مع الامبراطور يوحنا (396)، وذلك بالرغم من فشله السابق وتطور الأحداث حتى أصبحت قوات يوحنا تهدد وتغير على الأراضي الخاضعة لمصر في شرق السودان.

بدأ جوردون بعد أن أعيد تكليفه بمهمة رسول السلام مع يوحنا، يقوم بنشاطه السياسي في القاهرة في ظل "الوصاية الدولية" على مصر، أي أنه يعمل لصالحها ولمصر بعد أن كان يعمل في حكمداريته السابقة ذد مصر بتوطيد حكم يوحنا. لذلك كتب إلى القنصليين العامين لفرنسا وانجلترا في مصر بضرورة تدخلهما للحصول على ما سماه "بالأشياء الحلوة"، وتجنب الأشياء المرة ، أي أنه ما دامت مصر قد أصبحت في مثل هذه الحالة الضعيفة، فإنه آن لهما أن يحافظا على أملاكها معا ولا داعي للتنافس، وأن يعملوا على إبعاد يوحنا عنها (397). وبالفعل استجاب قنصلا فرنسا وانجلترا لتوجيهات جوردون هذه. وهو شيء لم يحدث من قبل بل كان يحدث العكس فجعلا دولتيهما متحدتين معا في ارسال برقيات إلى الامبراطور يوحنا يأمر أنه بالتخلي عن مطامعه في حدود الحكومة المصرية، وإنهما سيهاجمانه، اذا قام بغاراته على هذه الحدود. كذلك أصدرت فرنسا تعليماتها إلى قنصلها في مصوع بالتوجه إلى ولد ميكاييل ورأس ألولا، ويأمرهما بوقف غاراتهما على حدود مصر (398). ولم يكتف جوردون بذلك بل أرسل إلى عدن وجدة يطلب إرسال مراكب مدفعية إلى ميناء مصوع (399).

وكتب الخديوي توفيق إلى محافظ مصوع وسواكن، يطلب منه أن يحرر رسائل إلى ولد ميكاييل ورأس ألولا والامبراطور، بأن فرنسا وانجلترا تحذرهم من الاعتداء على حدود مصر، وأن جوردون سيحضر لمقابلة الإمبراطور، ويطلب – أي الخديوي – وقف هذه الغارات حتى يصل حكمدار السودان، وشدد الخديوي على محافظة مصوع وسواكن بأن يكون مستعدا لأي تطور قد يطرأ حتى يصل جوردون ويتسلم مهامه (400).

وإبان رحلة ذهاب جورجون إلى مصوع، التي وصلها في 6 سبتمبر 1879 (401)، ازدادت الغارات التي كان يشنها الرؤوس الأثيوبيون على الحدود المصرية، تلك الغارات التي أشاعت الفزع بين الأهالي بسبب أعمالهم البربرية (402). كما انتشر جنود ولد ميكاييل والامبراطور وجيوش أربعة من كبار الرؤوس الأثيوبيين في قرى سنهيت يطلبون بالقوة من أهاليها المؤونة. هذا في الوقت الذي كان زعيهم فيه فيه عدوه لحضور المؤتمر الذي دعى الامبراطور إليه في عيد الصليب (17 توت) 27 سبتمبر سنة 1879. وقد علل وجودهم بأنهم ينوون الاغارة على نقطة سنهيت بعد عيد الصليب هذا (403). ولم تستطع السلطات المصرية في هذه المنطقة أن تعمل شيئا لهم بل أوقف اتخاذ أي اجراء ضدهم حتى جوردون (404).

وبدأ جوردون بعد وصوله إلى مصوع، يتدارس الموقف مع قنصل فرنسا فيها فاتضح له سوء موقف مصر في يوجوس، وعرض جوردون هذا الموقف السئ على الخديوي وذكر أن جنود أثيوبيا المنتشرين فيها، يجمعون الضرائب من أهاليه. وأوضه أنه سيقابل راس ألولا المفوض من طرف الامبراطور في كل ما يجريه. كذلك أخبر جوردون الامبراطور عن طريق الرأس ألولا أنه سيقابل ومعه تفويض من الخديوي لانهاء مشكلة الحدود. وأشار أنه في حالة رفض راس ألولا مقابلته، فيعني ذلك أن الامبراطور قرر الحرب ضد مصر، وفي هذه الحالة فإنه سيتوجه إلى سنهيت ليعمل ما تحتمه عليه الظروف. وكرر جوردون رجاءه إلى كل من قنصل انجلترا وفرنسا بالتأكيد على الامبراطور بعدم محاربته لمصر لأن هذا يعني أنها تحتاج للدفاع عن نفسها حوالي 300.000 جنيه يلزم أخذها من الأرباح المفروض أن تأخذها هذه الدول كعائد لأموالها التي اقترضتها مصر منها، أي أن جوردون الآن أصبح يتفاوض لحساب "الوصاية الدولية" وليس لحساب الخديوي ومصر (405).

وبعد أن عرض جوردون الموقف على الخديوي بدأ يشرح خطته الحربية والسياسية والمتوقفة على الخطوة التي ستقوم بها أثيوبيا في 27 سبتمبر سنة 1879. فذكر أنه في حالة فشل مقابلته مع ألولا، سيعود غلى مصوع وينتهز فرصة أن الاثيوبيين لن يهجموا قبل هذا اليوم، فيقوم بتوزيع الجنود على المراكز الهامة حتى تكون مستعدة قبل هذا التاريخ، واقترح – قبل فشل مقابلته مع ألولا – إخلاء قلعه كيرين وترحيلها إلى مصوع لتقويتها وذلك لأنه في حالة الحرب ستقطع أثيوبيا الطريق مما سيؤدي إلى سقوطها وبالتالي تفقد مصر 180 جنديا مصريا موجودين في هذه القلعة ومع هذا الجلاءالمصري عن سنهيت لا يكون هناك أي حق لمص فيها بعد ذلك (406).

وفي حالة فشل المفاوضات مع ألولا وانسحاب مصر من بوجوس، فإن جوردون سيتوجه إلى أميديب ويتخذ الاحتياطات اللازمة لمنع وصول الأثيوبيين قرب مدينة كسلا كذلك يرسل الأسلحة غلى أعداء يوحنا بالقلابات، أي أنه الآن يبحث عن أعداء يوحنا لتدعيمهم بعد أن قضى على تحالف ولد ميكاييل معه، وفقدت مصر بذلك أخلص صديق لها من حكام أثيوبيا، ولكن الوضع تغير في هذه المرحلة عنه في مرحلة الخديوي اسماعيل، واقترح أيضا في حالة فشل مفاوضاته مع ألولا ورفض توفيق اخلاء قلعة كيرين، أن يترك فيها حاميتها ويتخذ الاجراءات التي تمليها عليه الظروف إلا أنه طلب ضرورة ارسال أورطة من مصر إلى مصوع، كما ألح مرة أخرى على ضرورة أن يخاطب توفيق قناصل دول أوروبا في القاهرة حتى يهتموا بمنع وقوع الحرب حرصا على مصالحهم. كما أنه اشترى الذرة الكافية لمؤونة الجنود، وأبقى وابور المنصورة في مصوع لنقل المياه العذبة إلى مصوع (407).

وقد رفض الخيدوي فكرة جوردون، إخلاء قلعة كيرين، وطلب منه أن يعمل على حمايتها مع باقي الحدود المصرية، ووافق الخديوي على مخاطبة قناصل الدول الأوروبية ونفذها فعلا، وأعرب توفيق باشا عن أمله في نجاح مفاوضات جوردون مع كل من رأس ألولا والامبراطور يوحنا حتى يعم السلام بين البلدين (408).

وعلى أية حال فقد قام جوردون في 13 سبتمبر بالتوجه لمقابلة راس ألولا (409). وفي هذا لايوم تسلم رسالة من مدير سنهيت تقول بأن ألولا قبض على ولد ميكاييل وأتباعه وقتل إبنه (410). وقد اعتقد جوردون أن هناك انقسامات وخلافات على أثيوبيا وإن مركز يوحنا مزعزع، لذلك فربما كان هذا السبب وراء ما ذكره للخديوي من أنه لن يوافق على ضياع شيء من الحدود، كما أنه لن يلين في مفاوضاته مع يوحنا (411). واعتقد أيضا أن سجن الامبراطور ولد ميكاييل يعني أن أثيوبيا لن تحارب مصر، وان قوات ولد ميكاييل المنتشرة في بوجوس، تفضل استقلالها عن أثيوبيا وعن مصر، وبالتالي يمكن ازالتها من تلك المنطقة (412).

ويبدو أن جوردون كان يشعر بأن مفاوضاته مع الامبراطور ستفشل وأن يوحنا سيضعه في السجن وذلك بالرغم من أن الأخير وصف جوردون بأنه أخوه وأخذا يشكو له ما فعله اسماعيل به من شن الحرب ضده (413). والتفسير الوحيد لهذا الاحساس الذي انتاب جوردون أنه سيتفاوض مع يوحنا لحساب "الوصاية الدولية" على مصر أي كمستعمر وليس كما كان يفعل في عهد اسماعيل يدعم حكم يوحنا، أي أن هناك تفير في سياسة جوردون ليس في صالح يوحنا وبالتالي شعر بأن الأخير سيسجنه عندما يلمس هذا الغير وعلى أية حال فقد طلب جوردون في حالة القبض عليه أن يعين علي باشا غالب قائدا للقوات المصرية في السودان وحسن حلمي قائدا لحكمدارية السودان ليقوم بتصريف أمورها فترة اعتقاله المنتظر (414).

وأخيرا وصل جوردون إلى جورا وقابل ألولا في 16 سبتمبر وتعهد الأخير له بعدم التعدي أو القتال مع المصريين لمدة أربعة شهور قادمة. وأدرك جوردون من ذلك عدم امكانية ألولا التفاوض في مسألة الحدود، لذلك قرر مقابلة الامبراطور في دبراط بور حيث كان مقيما بها في ذلك الوقت (415) وبالفعل وصل جوردون إلى هذه المدينة في 27 اكتوبر سنة 1879 (416)، وفي اليوم التالي قابل الامبراطور الذي ذكر له أنه ما دامت مصر تريد السلام فيجب أن يحصل على المتمة والقلابات وشنجالا وبوجوس، وأن تتنازل مصر عن زيلع وأمفيلا، وترسل مطرانا ومليونا أو مليونين من النفود، وفي حالة عدم الدفع فإنه سيقبل مصوع بدلا من النقود. وذكر له بأنه يستطيع أن يطلب دنقلة وبربر والنوبة وسنار وبمعنى آخر كل السودان تقريبا ويصل بحدود إلى مصر نفسها، ومع ذلك فهو لن يطلبها وانما يطلب هرر التي اعتبرها جزءا من أثيوبيا مع أنها لم تكن كذلك بل كانت امارة إسلامية مستقلة. وذكر أنه سيحرر خطابا إلى الخديوي بمطالبه هذه. وعندما قال له جوردون أن مطالبه هذه لن تجاب، ذكر أن الخديوي يكرهه ويلزم أن يحاربه، وحدد ستة أشهر للرد على مطالبه هذه، اعتبارا من تاريح وصول جوردون إليه. على أن يوحنا لم يحرر هذا الخطاب وترك جوردون وذهب في رحلة استجمام، وظل جوردون، ينتظر عودته في دبراطابور من 28 اكتوبر حتى 6 نوفمبر لتسلم هذا الخطاب الذي يحوي مطالب الامبراطور، وكانت هذه أول مرة يعرف فيها جوردون ومصر والعالم الأوروبي مطالب يوحنا وأمانيه وذلك بعد محاولات عدم قام بها جوردون من قبل للتعرف على مطالبه هذه (417).

وقد حاول يوحنا ضم جوردون إلى جانبه معتقدا بأنه مادام مسيحيا وانجليزيا فهو في صفه (418)، ولكن جوردون كان يعمل لصالح دولته الحقيقية بريطانيا، ذلك أن يوحنا كان مصمما على أن يحصل على منفذ على البحر الأحمر وهو أمر لم تكن بريطانيا تحبذه، خوفا من أن يتطور التقارب الأثيوبي الروسي إلى أن تسيطر روسيا على أثيوبيا، مما قد يسبب المتاعب مستقبلا لبريطانيا (419). وهي التي كانت قد عقدت مع مصر معاهدة في سبتمبر سنة 1877 تعترف فيها بالسيادة المصرية على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر حتى رأس هافون. وكان الدافع الأساسي لهذه المعاهدة هو المحافظة على المصالح الانجليزية في تلك المناطق بشكل يضمن تفوق النفوذ الانجليزي في البحر الأحمر وسواحل الصومال وإبعاد الدول الأوروبية الأخرى عنها، ولذلك اشترطت على الخديوي اسماعل وخلفائه بل وعلى السلطان العثماني ألا يمنح أي قطعة أرض في مصر أو ملحقاتها لأي دولة أجنبية. والواقع أن بريطانيا راي في احتفاظ مصر بسيادتها على هذه المناطق انما هو في صالحها، ريثما تتهيأ الفرصة لاحتلال مصر بعد أن تخلت عن سياستها التقليدية في المحافظة على ممتلكات الدولة العثمانية بعد شرائها لأسهم مصر في شركة قناة السويس وبعد ما وجدت ما عليه مصر من ضعف حربي (420) لذلك لم يستطع جوردون أن يوافق يوحنا على منحه مياء على ساحل البحر الأحمر وربما كان هذا هو السبب في جعل الامبراطور يترك جوردون ويذهب إلى منطقة الحمامات في رحلة استجمام (421).

واستؤنفت المفاوضات بعد عودة الامبراطور إلى ديراطابور، وحاول جوردون أني وضح له أن حكومة بريطانيا مستعدة لتنفيذ مطالبه في بوجوس، وطلب مطران وتسهيل استيراد الاسلحة ونقل البريد وانتقال الأهالي من وإلى مصوع وبوجوس وأضاف أنه بالرغم من تعليمات الخديوي بعدم التنازل عن بوجوس إلا أنه سيبذل مساعيه في هذا الشأن. وفي مقابل هذه الامتيازات طلب جوردون هدنه سياسية لمدة ستة شهور بين مصر وإثيوبيا، وأن تكون مطالب الامبراطور والهدنة مكتوبة في رسالة الامبراطور إلى الخديوي، وقد ظل جوردون يلح في طلب هذه الرسالة، إلا أن الامبراطور رفض ذلك ولم يقبل ما عرضه عليه جوردون من امتيازات، كما أنه لم تكن لديه الرغبة في مهادنة مصر، وقد أدى تمسك كل من يوحنا وجوردون إلى تدهور العلاقات بينهما (422).

وأخيرا كتب الامبراطور رسالة إلى الخديوي لم يشر فيها مطلقا إلى مطالبه ولا إلى الهدنة التي اقترحها جوردون (423). وكانت الرسالة – كما وصفها جوردون – اهانة للخديوي توفيق، فلم يذكر أي لقب للخديوي كما خطابه بكلة أنت Tnau والتي لا تستعمل إلا لشخص أقل في الرتبة، كذلك أوضح في رسالته ما معناه أنه لا يريد الوفاق مع الخديوي إلا عن طريق الدول الأجنبية (424). وعندما أشار جوردون إلى يوحنا بأنه لم يذكر ما سبق أن ذكره من قبل بشأن طلباته، أخبره بأنه حرر هذا الخطاب بحسب ما رأى فيه مصلحته (425). وكان يوحنا من الذكاء بحيث أنه لم يصرح بأطماعه في رسالة موجهة إلى الخديوي ليطلع عليها الدول الأوروبية، وكان القنصل اليوناني في السويس ميتساكيس Miteasakis يزور أثيوبيا في فترة زيارة جوردون للامبراطور، ونصحه بأن يبعث إلى الدول الأجنبية برسالة يستغيث فيها بهم ويطلب مساهمتهم في التوسط لحل المشاكل القائمة مع مصر (426). وهكذا فشلت مهمة جوردون في وضع حل للصراع القائم بين مصر وأثيوبيا (427). وألقى جوردون مسئولية فشله على الامبراطور الأثيوبي (428).

وقد غادر جوردون معسكر الامبراطور في 8 نوفمبر ومعه خطاب يوحنا إلى الخديوي (429)، متجها إلى القلابات أقرب بلاد السودان إلى معسكر الامبراطور في دبراطابور (430). على أن الامبراطور الأثيوبي غير خط سير جوردون إلى مصوع لا إلى القلابات (431). ولم يفهم السبب في جعل يوحنا يغير طريق جوردون هذا بعد أن وصل على بعد يوم واحد من حدود السودان. واعتقد جوردون أن السبب هو رغبة الامبراطور في مصالحته لأنه غادر معسكر يوحنا متكدرا (432)، على أن يوحنا لم يقابله مرة أخرى (433). وربما كان السبب في ذلك، خوف الامبراطور على حياة جوردون بسبب وجودة ثورة زعيم جداسي. وجوردون نفسه ذكر أنه لم يكن مرتاحا وهو في هذه المنطقة لذلك ارسل إلى القلابات يطلب ارسال قوة حربية مكونة من 200 رجل إليه. وبينما هو في هذه المنطقة جاءه رجال الامبراطور ليعودوا به إلى طريق مصوع (434). والواقع أن يوحنا يسوءه بالطبع مقتل جوردون في بلاده ويؤدي إلى تدهور علاقاته بصفة عامة مع الدول الأجنبية وبريطانيا بصفة خاصة، كما أن ذلك يكشف بجلاء مدى الفوضى السائدة في بلاده، وأن الامبراطور لا يستطيع السيطرة عليها وبالتالي لا تهتم بمطالبه بل ربما يكون هناك نتائج أخطر من ذلك لو قتل جوردون.

وقد أرسل جوردون بمجرد وصوله إلى مصوع في 9 ديسمبر 1879 رسالة إلى القاهرة لم يشر فيها فشله، وانما حاول تغطيته بأن ذكر أن حكم يوحنا الاستبدادي لن يستمر طويلا لأن الأهالي سيقضون عليه، بسبب المظالم التي ارتكبها ضدهم. وأن جميع الرؤوس في أثيوبيا لا يريدون محاربة مصر وأن بعضهم مستاء من يوحنا. وطلب من مصر أن ترسل أورطة عسكرية تصل قبل قيامه من مصوع عائدا إلى القاهرة، وذلك لتدعيم المحافظة عليها في مواجهة أي عدوان قد يقع عليها من الأثيوبيين (435). أرسلت هذه الأورطة، وأرسلت أورطة أخرى إلى اقليم التاكة وذلك وبالفعل لصد أي هجوم أثيوبي على أي من المنطقتين (436).

وأخيرا اعترف جوردون بفشله في مفاوضاته مع يوحنا، وأنه لا يعرف نواياه تجاه مصر، لذلك يقترح تدعيم كافة المراكز والنقاط المصرية المنتشرة في شرق السودان، ولكي تتغلب مصر على المشكلة المالية التي تترتب على هذا التعديم والتي قدرها جوردون بأربعين ألف جنيه وهو مبلغ كبير لا تتحمله ميزانية السودان، عرض على حكومة مصر التنازل عن ميناء زولا القريب من مصوع إلى إيطاليا فتحل محل مصر في صراعها مع يوحنا وذكر أنه لن يمض أكثر من ستة شهور ألا وتقع الحرب بين ايطاليا وأثيوبيا (437).

على أن مصر رفضت اقتراح جوردون هذا كما رفضته بريطانيا التي كانت تؤدي السياسة المصرية في البحر الأحمر في ذلك الوقت ضد القوى الأوروبية الأخرى (438) وعندما شعرت مصر بمدى خطورة عدم الاتفاق مع يوحنا ارسلت سفينتين حربيتين ترابطان بصفة دائمة في مصوع لمساعدة حاميتها في الدفاع عنها ضد أي عدوان أثيوبي يقع عليها. واستدعت الحكومة المصرية جوردون إلى القاهرة لكي تتفاوض معه في آرائه واقتراحاته (439). وبمجرد وصوله إلى القاهرة قدم استقاله وغادرها إلى لندن في أوائل شهر يناير سنة 1880 (440). وترك العلاقات بين البلدين متدهورة كما كانت ان لم تكن أسوأ مما كانت عليه قبل مجيئه.

وقد أخبر الامبراطور الأثيوبي قائده ألولا بفشل المفاوضات مع مصر، وأطلب سراح ولد ميكاييل للاستفادة من معرفته بطرق سنهيت وهماسين والبلاد المجاورة للحدود الأثيوبية، وسمح له بأن يقوم بغاراته ونهب هذه المناطق. وأمر الامبراطور قائده ألولا بوضه حامية عسكرية في أسمرة على الحدود لحين حضوره بنفسه لكي يدرس معه أمر الهجوم على مصوع، هذا وقد أغار رأس ألولا على خور بكرة التابع للتأكد بقصد نهب مواشيه وبعد ذلك نهب عربان جهة مصوع. وقد أثارت هذه الأعمال العدوانية للأثيوبيين الرعب في نفوس الأهالي في هذه المنطقة فتركوا أماكنهم وانتقلوا إلى بندر مصوع، وسارع محافظ مصوع وسواكن يستند بحكومة القاهرة لكي ترسل له مددا عسكريا قويا ليستطيع به المدافعة عن حدود مصر ضد اعتداءات الاثيوبيين ويطمئن الأهالي ويهدئهم (441).

ولقد أسرعت حكومة القاهرة ، ازاء تدهور الأوضاع في هذه المناطق، وأرسلت توجيهاتها إلى سنهيت بأن تأخذ كافة احتياجاتها من الجنود والذخيرة من حامية أميديب القريبة منها سرا، وارسلت إلى مصوع أورطة جنود وسفينة حربية وأشارت على محافظةها أن يأخذ احتياجاته الحربية من حامية سواكن حتى تصل إليه الامدادات الحربية من القاهرة (442). كما عينت حكومة مصر حسن باشا حلمي في منصب الحكمدارية، وأمرته بالتوجه إلى منطقة شرقي السودان لمراقبة تحركات الاثيوبيين وأعطته صلاحيات مطلقة لكي يتخذ ما يراه ازاء هذه التحركات على الحدود كما أنها في نفس الوقت لفتت نظره إلى تجنب اثارة المشاكل مع أثيوبيا (443). كما شددت على مدير التاكه بأن يهتم بتقوية مراكز المديرية الواقعة على الحدود وتدعيم الحاميات المصرية الموجودة فيها بصورة تجعلها قادرة على التصدي لهجوم الاثيوبيين عليها وأبدت استعدادها له بتلبية احتياجاته الحربية سواء منها – حكومة مصر – أو الادارة المصرية في الخرطوم (444).

وبالفعل قام كل من محافظ مصوع وسواكن ومدير التاكه باتخاذ الاجراءات الكفيلة بتدعيم هذه المناطق، وطلب مدير التاكه من حكومة مصر مده بالجنود لكي يسد العجز الموجود في حاميات سنهيت وأميديب والقلابات بل وكسلا والفراديب التي تواجه منطقة غورة الأثيوبية (445). وحدد مدير التاكه احتياجاته بألف جندي مدعمين بذخيرتهم ومهماتهم الحربية لكي يسد هذا العجز الواضح في هذه الحاميات (446). وقد حققت مصر مطالب محافظ مصوع، وأرسلت إليه امدادات عسكرية وحربية ولفتت نظره إلى أن يعتبر حاميات بعض النقاط غيرالهامة مثل طوكر وسواكن احتياطيا له يستدعي منها ما يحتاجه عند الضرورة (447). أما بالنسبة لمدير التاكه، فنتيجة لعدم استطاعة مصر تجهيز هذا العدد الضخم من الجنود، طلبت منها الاستفادة بعربان الحدود التابعين لمصر (448). وبالفعل قد تم ذلك ووضع العربان للتصدري لما قد يقع على هذه المناطق من غارات الأثيوبين (449) هذا وقد قام حسن باشا حلمي بمهام وظيفته الجديدة على طول الحدود مع أثيوبيا (450).

وهكذا نستطيع القول أنه مع بداية سنة 1880 كانت العلاقات المصرية الأثيوبية في قمة تدهورها واصبحت أراضي حكومة القاهرة مهددة بالأثيوبيين الذين كانوا يواصلون غاراتهم واعتدائتهم علهيا (451). على أن الأثيوبيين لم ينظموا حربا شاملة على جميع النقاط المصرية المنتشرة على هذه الحدود، وذلك كما ذكر جوردون بأنهم غير قادرين عليها، بل على الاغارة فقط (452). وبالرغم من غاراتهم هذه وسيطرتهم الفعلية على سنهيت (453)، فشل الامبراطور في تحقيق أهدافه عن طريق المفاوضات، مما جعله يلجأ إلى الدول الأوروبية ومنها بريطانيا يطلب منها التوسط في العلاقات بينه وبين مصر. وفي أثناء ذلك عملت بريطانيا بفشل مفاوضات جوردون وأن يوحنا أصدر أوامره إلى راس ألولا بالتقدم نحو مصوع، فأسرعت ملكتها وأرسلت خطابات إلى يوحنا ومنليك في ديسمبر 1879 تطلب الامتناع عن الهجوم على المناطق التي يحتلها المصريون، وتعرض التوسط في هذا الصراع المصري الاثيوبي (454).

وفي يوليو سنة 1880 أبلغ القنصل الانجليزي العام في مصر سير ادوارد مانيت لورد جرانفيل بأني يوحنا يقبل عرض بريطانيا ببذل مساعيها الحميدة في هذا الصراع حتى يتم التفاهم بين البلدين. وقد عرض ذلك على رئيس الوزراء المصري رياض باشا (455). وقد نتج عن هذا التدخل الانجليزي أن خفت حدة الصراع بين البلدين، وأعيد فتح باب المفاوضات مرة أخرى بينهما في نهاية سنة 1880 وبعد أن ظل مغلقا منذ مفاوضات جوردون الأخيرة في ديسمبر سنة 1879 (456).

وكان يوحنا في الواقع يريد الاتفاق مع مصر لكي يحصل منها على مطران لكنيسته يساعده في سياسته الدينية التي بدأ ينفذها في أنحاء البلاد في ذلك الوقت (457). وكانت مصر لا تقل عنه رغبة في السلام مع أثيوبيا، ويتضح ذلك في فرمان توالية محمد رؤوف باشا الذي خلف جوردون في حكمدارية السودان في مارس سنة 1880، فقد أكد هذا الفرمان رغبة مصر القوية في السلام مع أثيوبيا (458). كما أن يوحنا أعاد العلاقات التجارية بين البلدين، كذلك استجابت مصر وأعادت العلاقات التجارية مع أثيوبيا. وكان لهذا القرار المتبادل أثر كبير في تهدئة الصراع بين البلدين (459) وقد سر يوحنا عندما علم بأن الأوامر صدرت إلى السلطات المصرية على طول الحدود المصرية بتسهيل العمليات التجارية بين مصر وأثيوبيا (460).

وقد انتهز يوحنا هذا التقارب مع مصر، وطلب منها ارسال مطران وثلاثة أساقفة، وقد استقبل الخديوي بعثة يوحنا التي أرسلها مصحوبة بهدايا ثمينة للخديوي والبطريرك، واستقبالا طيبا، ووافق على طلب يوحنا الخاص بارسال المطران والأساقفة الثلاثة إليه (461)، كما أرسل الخديوي هدية حربية عبارة عن 800 بندقية ووصفها بأنها هدية للمحبة، كما أعرب الخديوي عن رغبته في السلام مع أثيوبيا. وأشار إلى التسامح الديني الموجود في مصر وأنه لا تفرقة بين عنصري شعب مصر، وأنه ربما ذكر ذلك لما قد يكون قد سمعه عن السياسة التعصبية التي كان يتبعها في بلاده ضد المسلمين الأثيوبيين، ودعاه إلى السلام (462)، وقد شكره يوحنا على هديته الحربية، وطلب أن تستمر المحبة وأن لا تتطور إلى عداوة مثلما حدث في عهد سلفه الخديوي اسماعيل. لذلك دعاه إلى العودة إلى أملاكه الأصلية كما كانت من قبل، وتحديد الحدود بين البلدي، وأنه قد طلب تدخل ملوك أوروبا في تحديد الحدود حتى لا تقع الحرب بينهما (463).

وبالرغم من تحسن العلاقات بين مصر واثيوبيا نسبيا، فإن مصر كانت تخاف دائما من أن يغير الرأس ألولا أو غيره من الرؤوس الأثيوبيين على المراكز والحاميات المصرية المنتشرة في هذا المناطق. لذلك فقد كانت مصر تراقب تحركات جيوش رؤوس أثيوبيا وعلى رأسهم رأس ألولا ، وكانت حكومة مصر تستفسر عما تفعله حامياتها المنتشرة في حالة هجوم يشترك فيها الامبراطور مع رؤوسه وكانت النتيجة أنه في حالة النجاح في منعهم ، فإن الأثيوبيين سيتمكنون من نهب وسلب الأهالي الخاضعين للحكومة المصرية، وقد يؤدي ذلك إلى ميل الأهالي إليهم لحماية أنفسهم من القتل كما أن هجوم الاثيوبيين ينتج عنه اضطراب عام في هذه المناطق فتتعطل الطرق والمواصلات، وأوضحت أيضا أن القوات الحربية كافية فقط لدفاع عن النقاط والاستحكامات وهي في داخلها (464)، لذلك فقد صدرت الأوامر من القاهرة إلى الحاميات بأن تبقى في استحكاماتها ولا تخرج منها في حالة الحرب مع الاثيوبيين المغيرين، كما أمرت حكومة مصر المسئولين في شرق السودان بتدعيم هذه الحاميات والمراكز (465).

وقد ظل الوضع على ما هو عليه ولم تتطور الأمور إلى حروب جديدة، كما أن سير المفاوضات كان بطيئا لم يثمر شيئا. مما جعل يوحنا يرسل مرة أخرى لملكة بريطانيا في أوائل سنة 1880 يطلب منها منحه مياء أو مد حدوده إلى البحر الأحمر. واستطلعت الحكومة البريطانية عن طريق قنصلها في مصر رئيس مجلس النظار محمود باشا سامي رايه في ذلك، فذكر أن الحكومة المصرية تنوي ارسال مندوبين إلى أثيوبيا من أجل عقد معاهدة سلام، وأن هؤلاء المندوبين سوف يعينون في الحال لدراسة ما اذا كان من الممكن منح أية امتيازات اقليمية لاثيوبيا، وان الحكومة المصرية ترغب في سلام متبدال ودائم بينها وبين أثيوبيا. وقد طلب ماليت أن تعرض عليه دراسات هؤلاء المندوبين ليعرضها بدوره على حكومته، وذلك لأن يوحنا يرغب في توسطها، ومن ثم فإن تاييدها للعرض المصري قد يؤثر عليه كثيرا مما يساعد على حل هذه المشكلة. وكان ماليت يعتقد أن امتلاك أثيوبيا لميناء على البحر الأحمر قد يكون خطرا على مصر وأن أية تنازلات لا يجب الدفاع عنها من جانب بريطانيا، الا اذا أصبح موقفها من الحماية نحو مصر قد تغير إلى العداء. ومع ذلك لم يتم شيء من هذا اذ أن بريطانيا احتلت مصر في سنة 1882 (446).

وربما كان السبب وراء بطء المفاوضات وعدم احرازها أي تقدم، أن مصر انشغلت بالثورة العرابية، وعندما وصلت إلى الحكم انشغلت بنفسها وبالأخطار المحدقة بها، ولم يكن لديها من الوقت ما يسمح لها بالتفرغ لشئون السودان، واستقرار الحدود بينه وبين أثيوبيا. ولذا وجد محمد رؤوف حكمدار السودان نفسه في موقف لا يحسد عليه، فالحكومة العرابية لم تهتم به كما أنه لم يكن لديه الامكانيات اللازمة سواء من الجنود أو الذخيرة أو المال لكي يدعم الحكم المصري في السودان، وكان نشوب الثورة المهدية وتفاقهما جعله يصرف كل جهده للقضاء عليها بعد أن وصلت إلى مرحلة هددت فيها الحكم المصري في السودان، وكان نشوب الثورة المهدية وتفاقهما جعله يصرف كل جهده للقضاء عليها بعد أن وصلت إلى مرحلة هددت فيها الحكم المصري في السودان تهديدا خطيرا، لذلك لم يحاول أن يدفع بعجلة المفاوضات مع يوحنا مباشرة، بل ظل التفاوض كما راينا عن طريق بريطانيا وقنصلها في مصر. وبالرغم من جهد محمد رؤوف باشا في علاج الثورة المهدية فإن الحكومة العرابية اعتبرته عاجزا عن اخماد ثورة المهدي وعزلته، وعينت عبد القادر باشا حلمي حكمدارا على السودان في 21 فبراير سنة 1882 وألحقت تحت حكمداريته كل السودان وملحقاته (467).

على أن هذا التغيير لم يؤد إلى أي تحول في العلاقات المصرية الاثيوبية، اذ أن الحكمدار الجديد انشغل هو أيضا بالثورة المهدية، وأخفقت جهوده هو أيضا في القضاء عليها لنفس الاسباب التي أدت إلى خافق سلفه (468). وبذلك نستطيع أن نقول أن الثورة المهدية في مرحلتها الأولى أدت بصورة غير مباشرة إلى عدم استقرار مشاكل الحدود بين مصر وأثيوبيا، كما أن الاحتالال البريطاني لمصر قد لعب دورا كبيرا في العلاقات بين البلدين التي دخلت مرحلة جديدة متأثرة بها.


الفصل الثاني: أثر الاحتلال البريطاني لمصر والثورة المهدية في السودان على العلاقات السياسية المصرية

تمهيد

كان لاحتلال بونابرت لمصر أثر كبير في استعمارها بعد ذلك. اذ وضح لبريطانيا أهمية مصر لامبراطوريتها وأن من يسيطر عليها يستطيع أن يهدد أقصر طريق موصل بين بريطانيا وامبراطوريتها. على أ، التنافس الفرنسي الإنجليزي على مصر، أجل هذا الاحتلال البريطاين إلى سنة 1882 (1). وقد أدى هذا التنافس إلى ازدياد تدخلها في شئون مصر الداخلية مما نتج عنه نوع من الوصاية الدولية عليها. لاسيما بعد أن نجحت في عزل اسماعيل وتولية توفيق وكان في عملها هذا دليل على ما وصلت إليه من قوة ونفوذ على البلاد. وكان توفيق لا يميل إلى النظم الدستورية أو الحكم النيابي مما صادف هوى لدى بريطانيا وفرنسا. كما أن ذلك لم يجد قبول من الرأي العام المصري بصفة عامة ورجال الجيش المصريين منهم بصفة خاصة مما نتج عنه قيام الثورة العرابية (2).

وقد أثار انتصار الثورة العرابية وتأييد الشعب لها وتشكيل مجس النواب واعداد الدستور الجديد، كلا من بريطانيا وفرنسا لأن هذه الاجراءات الديمقراطية ستحد من سيطرتها في البلاد فقررتا العمل معا في احتلال مصر (3). إلا أن بريطانيا قامت منفردة بهذا العمل واحتلت مصر في 14 سبتمبر سنة 1882. وقد نتج عن ذلك أن زال التفاهم الفرنسي البريطاني وظلت فرنسا تطالب بجلاء بريطانيا عن مصر وتنتهز كل الفرص لتحقيق هذا الجلاء (4).

وقبل احتلال انجلترا لمصر بعام تقريبا نشبت الثورة المهدية في السودان نتيجة الشدة والعنف في القضاء على تجارة الرقيق والتي طبقها كل من صمويل بيكر وجوردون ومحمد رؤوف باشا. بالاضافة إلى الضرائب الفادحة التي فرضت على الأهالي فزاد من تذمرهم ودفعهم إلى الاتفاف حول محمد أحمد الذي لقب نفسه بالمهدي المنتظر (5). وادعى بأنه مكلف من الله عز وجل بتأسيس دولة اسلامية مترامية الأطراف عاصمتها مكة. وهكذا نشبت الثورة المهدية وانتشرت في أنحاء السودان وأدى انتشارها في السنوات القليلة التالية إلى أن عجزت حكومة الخرطوم الضعيفة عن كبح جماحها أو اخمادها ولم يكن في مقدور حكومة مصر بسبب الاضطرابات الداخلية بها إرسال النجدات إلى الحامية المصرية في السودان.

وعندما احتلت بريطانيا مصر بعد ذلك، اتخذت سلطات الاحتلال موقفا سلبيا ازاء الثورة المهدية، اذ آثرت عدم تحمل مسئولية أي اجراء تتخذه حكومة الخديوي توفيق في القاهرة للقضاء على هذه الثورة. ولقد كان هذا الموقف مبعث الكارثة التي ألمت بحملة هيكس باشا في موقعة شيكان بكردفان في 5 نوفمبر سنة 1883. وقد نتج عن هذه الكارثة نتيجتان هامتان أولهما تأثيرها على الموقف في السودان عموما ولا سيما في السودان الشرقي وفي علاقات مصر وأثيوبيا، والثانية تأثيرها على سياسة الحكومة البريطانية التي قررت التدخل بعد أن كانت ممتنعة حتى هذا الوقت ولعبت دورها بين هاتين الدولتين (6).

ومما لا شك فيه أن الاحتلال البريطاني لمصر وقيام الثورة المهدية في السودان قد لعبا دورا هاما في العلاقات السياسية بين البلدين، وذلك في عهدي كل من الامبراطور يوحنا وخليفته الامبراطور منليك، وان كان الدور قد اختلف في عهد كل منهما فمع أنه كان هناك اتفاق بين بريطانيا ويوحنا ضد مصر والثورة المهدية فإن الأمر اختلف في عهد منليك الذي حاول الاتفاق مع الثورة المهدية ضد مصر وبريطانيا إبان عملية استرداد السودان.

أولا: في عهد يوحنا الرابع

توتر منطقة الحدود المصرية الأثيوبية

لم يستمر طويلا الهدوء النسبي الذي ساد الحدود المصرية الأثيوبية منذ أن حدث التقارب بين مصر وأثيوبيا في سنة 1880، اذ أنه في سنة 1883 بدأت العلاقات بين البلدين تتوتر من جديد، وكان يوحنا قد دعم حكمه في أثيوبيا التي تمتعت بهذا الهدوء النسبي، واهتم بتحسين أحوال بلاده السياسية والدينية والاقتصادية (7). ويبدو أن يوحنا أراد أن يدفع بريطانيا بعد أن احتلت مصر إلى حل المشاكل المتفاقمة بينه وبين الحكومة المصرية، لذلك بدأ يتجه إلى الاستيلاء على كل المناطق الشمالية حتى سواكن وفي الغرب إلى الخرطوم، وأصدر أوامره إلى قواده ورؤوسه وراس ولد ميكاييل في تيجري وحدودها القريبة من الحدود المصرية وتكلاهيمانوت في الغرب في بجة مدر، وهكذا عاد التوتر على الحدود المصرية (8).

وقد شعرت السلطات المصرية على الحدود الأثيوبية بالاستعدادات الحربية التي يقوم بها الامبراطور يوحنا فأخبرت بها حكومة القاهرة. وأدى ذلك إلى إخلاء سكان قرة حطملو وأم كلوا والبرمي واماتري وترحيلهم إلى مصوع، وتدعيم حاميات هذه القرى. وكان أحد الرؤوس الأثيوبيين وهو بلاتاقبرو يتجول بجيشه في أيليت يستطلع أحوال الحاميات المصرية، وشاهد عملية اخلاء هذه القرى وقام بقطع أسلاك التلغراف في هذه المنطقة واشتبك مع احدى الدوريات المصرية مما أدى إلى قتل رئيس هذه الدورية ومعه خمسة وجرح إثنان وأسر ثلاث من أفرادها كما استولى على أسلحتهم ومهماتهم. وقد نهب بلاتاقبرو ماشية هذه القرى وحرق منازل سكانها، وان كان بعض الأهالي هجموا عليه وأخذوا منه بعض ما نهبه. وقد نتج عن هذه الغارة العنيفة اضطراب عظيم في هذه المنطقة دفع سكان القرى إلى الهرب منها إلى مصوع كذلك تكشف هذه الغارة عن مدى ضعف الكيان العسكري والاداري المصري في هذه المنطقة ومدى تغلغل الجيوش الأثيوبية فيها حتى أنها وصلت إلى مصوع نفسها المركز الرئيسي للنفوذ والجيش المصري. وقد أدى ذلك إلى ايقاف ترحيل الأورط، كما أن حكمدار السودان علاء الدين باشا توجه إلى مصوع للتحقيق في كيفية نزول بلاتاقيرو ووصوله إلى ساحل البحر الأحمر وهي الحالة الأولى من نوعها، اذ لم يسبق أن وصل أحد القادة الأثيوبيين إلى ما وصل إليه هذا القائد (9).

ولما كانت مصر مشغولة بالثورة المهدية وبالاحتلال البريطاني في مصر وسلبيته ازاء ما يجري في السودان وحدوده، كما أنها لم يكن لديها القدرة الكافية للرد على هذه الغارة، لذلك أرسلت مندوبا من جهتها إلى بلاتاقبرو ليستطلع أسباب هذه الغارة العنيفة. وقد عاد المندوب ومعه مبعوث من بلاتاقبرو يحمل رسالة من هذا القائد الاثيوبي موجهة إلى حكمدار السودان، يذكر فيها بأن غارته هذه كانت غارة انتقامية لما حدث من قبل من المصريين حيث أغاروا على مقاطعة هذا القائد ومعهم أحد الأثيوبيين الخارجين عن طاعة الامبراطور يوحنا ويدعى كيفلا، وادعى ادعاءات كاذبة ليبرر بها غارته هذه وقد ثبت أن السلطات المصرية في هذه المنطقة بريئة منها (10). كما أنها تؤكد سوء النية التي كان يضمرها الأثيوبيين تجاه مصر في هذه المنطقة. وقد استغل الاثيوبيين احتماء الخارجين عن طاعة الامبراطور بالسلطات المصرية في مصوع وكيرين من أمثال الفيتوراري ديبوب وهو ابن عم الامبراطور، راس أريا، وكيفلا كوسيلة للهجوم والغارة على الحدود المصرية مدعين أن مصر تشجعهم وتؤيدهم (11). وانهم أي الأثيوبيين يريدون تأديبهم والقبض عليهم واعادتهم إلى أثيوبيا (12) وكما أغير على الجهات القريبة من مصوع فإن الأثيوبيين أغاروا كذلك على حدود الجيرة الواقعة غرب أثيوبيا والخاضعة لمصر (13). وقد أدت غارات الأثيوبيين هذه على حدود الجيرة إلى أن ينبه على حامية الجيرة وجميع النقط المجاورة لها بالتيقظ (14). كما اتخذت القبائل الموجودة في هذه المنطقة استعدادها للطوارئ. ونتيجة لوجود جيش أثيوبي في هذه المنطقة أرسلت فرقة حربية من القضارف غلى نقطة الجيرة لتدعيمها فأصبح عدد جنودها يزيد على أربعمائة جندي بالاضافة إلى أفراد القبائل الموجودة بها وذلك استعداد لما قد يقوم به هذا الجيش الأثيوبي من اعتداءات على الحدود المصرية، وفي نفس الوقت صدرت الأوامر إلى سلطات الجيرة بأن تعمل اذا أمكنها بالطرق السلمية اقناع قادة الجيش الأثيوبي هذا باخلاء منطقة الحدود ورد ما نهبوه (15).

واستمرارا لسياسة يوحنا التي اتبعها منذ أن احتلت مصر وهي العمل على توتر الحدود المصرية الاثيوبية حتى يجبر بريطانيا على التدخل في المشاكل الواقعة بين البلدين وحلها حلا يرضي يوحنا، رفض رأس الولا عرضا من حكمدار شرق السودان يهدف إلى استقرار الحدود المصرية الأثيوبية وتأمين الطرق وتنمية التجارة، ويقضي بوضع نقط مشتركة من الجنود المصريين والأثيوبيين على طول الحدود بهدف وقف الغارات الأثيوبية واحلال السلام. واصطر راس ألولا على أن الهدوء لن يستتب إلا اذا حصل على مالية سنهيت دون تدخل من جنودها المصريين، والتخلي عن ملكيتها مع جملة جهات أخرى. كما طلب تسليمه الجواسيس الذين أرسلهم للتجسس على النقط المصرية وذلك بالرغم من محاولة اقناعه بعدم أحقيته في ذلك مما جعله يهدد بتخريب المنطقة. واستعد لذلك فعلا. كما رفض رأس ألولا عرضا آخر من الأهالي. وقد حاول قنصل فرنسا بمصوع لعلمه الظروف التي تمر بها مصر، أن يساهم في اقرار السلام على الحدود فعرض على ألولا بأن يحصل على مالية سنهيت بواسطة رجاله ولكن سرا، أي بدون علم الحكومة المصرية أو تتغاضى عنه، وذلك حتى يتم الاتفاق بين البلدين بشأن الحدود بينهما، ويبدو أن حكمدار شرق السودان وافق ضمنا على هذا الاقتراح إلا أنه لم يثق في الأثيوبيين لذلك فلو سلم لهم بما يريدوه فربما زاد طمعهم وبذا يصلون إلى أقصى أهدافهم. وبالطبع فان التسليم بمطالب الأثيوبيين سيؤدي إلى ارتماء جميع القبائل في هذه المنطقة في أحضان الأثيوبيين وبذا يتعذر على الحكومة المصرية السيطرة عليهم (16).

وبالرغم من محاولات التوفيق هذه فقد استمرت غارات كل من رأس بلاتاقبرو ورأس ألولا على الحدود والقرى المصرية، وعندما لم يجد يوحنا أي اهتمام لدى بريطانيا، أمر رؤوسه بتصعيد غاراتهم، فأغاروا في أغسطس 1883 على عربان بني عامر النازلين بشرق خور بركة (17). ومما يؤكد هذا التصعغيد عدم الرغبة في الاتفاق والتعايش السلمي مع المصريين بل طردهم من هذه المناطق والاستيلاء عليها رسميا وفعليا، أن رأس ألولا قال لحكمدار شرق السودان "ارجعوا إلى بلادكم فأنتم ضيوفنا وها أنا قائم لننهب حسب العادة" وبالفعل فقد قام بنهب ربع قرى من قسم سمهر وكذلك جهات حرقيقو الخارجية. وأنه أي ألولا – أعطى هذا الحكمدار ورقة مكتوبة باللغة الأثيوبية وأوهمه بأنها شرط من شروط الصلح (18). ولم يكتف رأس ألولا بذلك بل وضع جنوده على كل الطرق الموصلة إلى مصوع وما يجاورها بهدف منع السكان الهاربين منه من دخول المدينة. وبالرغم من أن السلطات المصرية في مصوع أبلغت حكومة القاهرة بخطورة الموقف وبعجز الحاميات المصرية عن صد أي هجوم قد يقوم به رأس ألولا (19)، فإنه لم يمض أسبوع على ورود هذه البرقية إلى مصر إلا وكان ألولا قد هجم بجيشه على سآتي Saati وهي خارج مصوع مباشرة وطرد المصريين منها وقتل عددا كبيرا من حاميتها (20). وبالرغم من خطورة هذه الحالة واستنجاد محافظ مصوع بضرورة إرسال امدادات عسكرية وذخيرة، فإن حكومة مصر بدلا من أن ترسل تعزيزات حربية لسد النقص وتدعيم الحاميات فإنها لم تفعل سوى أن استبدلت بلوكين بآخرين أي أن النقص ظل قائما وضعف الحاميات المصرية مازال مستمرا (21).

ومع زيادة التوتر المؤيد من الامبراطور يوحنا، فإنه كان طوال هذا التوتر يراسل ملكة بريطانيا أكثر من مرة، مطالبا بريطانيا بالتوسط في استقرار السلام مع مصر. وأخيرا قررت بريطانيا أن ترسل بعثة إلى مصوع لدراسة أوضاع الحدود والحاميات المصرية في هذه المناطق (22). وكانت بريطانيا في الواقع بعد أن احتلت مصر في سنة 1882، إن لم يكن قبل ذلك، تعمل على تصفية الامبراطورية المصرية التي كونها اسماعيل وجيش وأبناء مصر (23). لذلك فقد اتبعت بعد احتلال مصر سياسة تقوم على عدم التورط في أي عملية عسكرية ضد الثورة المهدية والاهتمام فقط بالدفاع عن حدود مصر وأمنها وعدم تحمل مسئولية تعيين أي شخص سواء لحكمدارية السودان أو للقوات والنجدات المصرية المرسلة للسودان لاخماد ثورة المهدي ذلك خوفا من فشل أي اجراء اتخذ بناء على مشورة بريطانية، كما أنها ليس لديها أي استعداد لارسال أية حملات للسودان ولكن ترحب بوصول التقارير الوافية عن الأوضاع فيه والأخطار التي قد تتعرض لها مصر نتيجة تطور هذه الأوضاع، وذلك عن طريق ارسال فرد أو أفراد يقوموا بدراسة الحالة هناك دراسة وافية وذلك ليمدوا المسئولين البريطانيين بالمعلومات التي أدعوا أنهم لا يعلمونها، هذا بالاضافة إلى محاولة اقناع مصر بالتخلي عن السودان أو جزء منه، ولما كان هذا يعتبر مرفوضا من جانب حكومة مصر فلا أقل من أن تكون الخدمة العسكرية في السودان هي المنفى لكل عناصر الفتن والاضطراب في مصر من الضباط والجنود المتذمرين من أيام الخديوي إسماعيل والمطرودين في الخدمة بعد إلغاء جيش عرابي، والذين يمكن بهم مواجهة المواقف في السودان (24). وكانت هذه السياسة نابعة من تصريحات رئيس الوزراء البريطاني والمسئولين الإنجليز بأن احتلالهم لمصر هو احتلال مؤقت وأنه ليس لبريطانيا أي مطامع في مصر وأنها ستجلو عنها بعد تأمين مسند الخديوية والاطمئنات إلى الاستقرار الداخلي (25).

لذلك فقد كانت الاستجابة لرغبة يوحنا في التدخل، لا يتسق مع سياسة بريطانيا وأهدافها في الفترة الأولى من عهد احتلالها لمصر. ومما يؤكد ذلك أن المستشار العسكري الإنجليزي سير تشارلس ويلسون قد مذكرة إلى لورد جرانفيل عن طريق القنصل الانجليزي في مصر في 2 أكتوبر سنة 1882 ذكر فيها أن السودان كان دائما مصدر ضعف ومكلفا لمصر. ويرجع ذلك إلى الفتوحات التي لم يكن منها فائدة مما أدى إلى تصدع العلاقات المصرية الأثيوبية. لذلك يقترح أن تتخلى مصر عن بوجوس والقلابات لاثيوبيا وتحويل ميناء مصوع إلى ميناء حر بالاضافة إلى التخلي عن كردفان ودارفور، ومنع استيراد السلاح وتسهيل تعيين المطران المصري لكنيسة أثيوبيا واقرار السلام بهذه الشروط، وأن يقوم بالمفاوضات المصرية مع أثيوبيا إنجليزي (36). ويتضح مما سبق أنه كان يهتم بمصلحة بريطانيا فهو يريد التخلي عن المناطق البعدية عن مجرى نهر النيل الذي يغذي مصر، أي أنه لا يريد التفريط في أي جزء قد يهدد مجرى النيل وبالتالي يهدد مصر. كما يريد أن يصفي الموقف مع يوحنا المخلص لبريطانيا على حساب مصر، وهو كذلك لم يفكر في أن يخلي أي جزء من مديرية التاكه أو سواكن حتى لا يهدد سلامة مواصلات بريطانيا لو سقطت التاكه أو سواكن في أيد أجنبية معادية لبريطانيا. كذلك اقترح أن يدار السودان أو ما يتبقى منه عن طريق ضباط إنجليز حتى يدار ادارة طيبة حاذقة. وفي نهاية تقريره طلب أن ترسل بريطانيا بعثة من ضابطين بريطانيين لدراسة الأوضاع في السودان وكتابة تقرير عن ذلك. ويلاحظ أم ماليت القنصل البريطاني لم يهتم بما جاء في هذا التقرير ويختص بمشكلة الحدود مع أثيوبيا أو بما اقترحه ويلسون بالتنازل عن بوجوس والقلابات لها وإنما أوصى وهو يقدم هذه المذكرة إلى جرانفيل بالموافقة فقط على ارسال البعثة المقترحة لوضع التقرير المطلوب عن الحالة في السودان (27).

وبالفعل أخذت حكومة بريطانيا بتوصية قنصلها ماليت بارسال بعثة بريطانية لدراسة وكتابة تقرير عن أحوال السودان، ويبدو أن يوحنا كان على علم بذلك لأنه زاد من ضغطه على الحدود وأظهرها بحالة من التوتر الشديد مع استمراره في ارسال رسائله إلى ملكة بريطانيا لحل هذه المشكلة وتحقيق مطالبه. وربما كان ذلك هو السبب الذي جعل يوحنا يغير على الحدود المصرية بهذه الصورة المكثفة منذ فشل مفوضات جوردون ومن قبلها، حتى يوحي للبعثة المقترح ارسالها مدى خطورة الحالة على الحدود وبالتالي تميل إلى التسليم بمطالبه بعد أن يضعها أمام الأمر الواقع. وبالرغم من ذلك فقد أكدت حكومة بريطانيا عندما تم اختيار كولونيل ستيوارت والايطالي مسيداليانك (28)، أن مهمة هذه البعثة لا تعدو وضع تقرير عن أحوال البلاد وأن يكون مفهوما بأنهم يعملون بأية صفة أهلية أو عسكرية. وفي هذا توضيح لمدى سلبية الحكومة البريطانية في أن تتحمل أية مسئولية للأحداث التي تجري في السودان وذلك حتى تدفع أي تفسير خاطئ لخطوة ارسال هذه البعثة بأنها تمهيد للتدخل من جانب بريطانيا في شئون السودان (29).

وكان هذا ضد رغبة يوحنا في دعوته لبريطانيا للتدخل والضغط على مصر ولحل مشاكله في الحدود مع مصر، وفي ديسمبر سنة 1882 وصل ستيورات إلى الخرطوم عن طريق سواكن وبربر، وبعد أن انتهى من دراسة أوضاع السودان وكتب تقريره، غادره في مارس سنة 1883 عائدا إلى القاهرة عن طريق سناروكسلا ومصوع. وعندما وصل إلى مصوع، كتب تقريرا آخر، غير تقريره الأول عن السودان، وبعث به من مصوع في 18 أبريل سنة 1883 إلى القنصل الانجليزي ماليت بين فيه الحالة في السودان ومضنه توصياته عن اصلاح الادارة والحكم في هذا الجزء من السودان (30)، وقد أوصى سيتورات بعودة بوجوس إلى أثيوبيا وأوضح أنه بالرغم من خضوع هذه المنطقة لمصر في بداية السبعينات فإن الامبراطور يوحنا لم يعترف بتاتا بهذا الضم، كما أوصى بمنح أثيوبيا ميناء على البحر الأحمر، على أنه لم يوصي بمصوع وإنما أشار إلى بعض الموانئ الجنوبيها منها، وبالرغم من هذين التقريرين فإن حكومة جلادستون لم تحاول التدخل في فرض ما أوصى به ستيوارت على حكومة مصر، وذلك تطبيقا لما سبق أن ذكرناه بعدم التدخل في شئون السودان الداخلية أو التورط فيها (31)، وكل ما فعله هو ابلاغ الحكومة المصرية بالتوصيات التي تضمنها تقريرا ستيوارت (32).

وهكذا ظلت مشاكل الحدود بين مصر وأثيوبيا على ما هي عليه. اذ أن ما أوصى به ستيوارت لم تأخذ به مصر فلا عادت بوجوس إلى الامبراطور يوحنا ولا منح ميناء على البحر الأحمر جنوبي مصوع، وكان ستيوارت قد وعد الوفد الأثيوبي الذي قابله في مصوع بمنح أثيوبيا هذا الميناء، لذلك فعندما لم يتحقق هذا الوعد شدد الأثيوبيين غاراتهم على المناطق الخاضعة لمصر، فأغاروا على ميناء زولا وصلوا إلى البحر الأحمر كما ذكرنا من قبل، وربما قصد يوحنا بغارته هذه أن تسلم مصر هذا الميناء إليه. والمعروف أن هذه الغارة أثارت الحكومة المصرية، فأرسلت تطلب التحقيق في كيفية وصول الأثيوبيين إلى البحر الأحمر (33).

وبالرغم من ذلك فقد ظل الموقف كما هو وحتى نهاية سنة 1883 تقريبا، على أن الموقف قد بدأ يتغير في نوفمبر سنة 1883 بسبب هزيمة حملة هيكس – التي وجهتها مصر ضد المهدي – في موقعة شيكان في 5 نوفمبر سنة 1883 (34). ولقد كان لهذه الهزيمة أثر كبير على تطور الأحداث في شرق السودان وفي العلاقات بين مصر وأثيوبيا فقد نتج عنها أن تمتع المهدي بنفوذ كبير وسيطرة تامة جنوب الخرطوم واحتشد حوله ألوف السودانيين في الأبيض، وأرسل المهدي دعاته يحملون أنباء انتصاراته إلى مختلف جهات السودان، كما أرسل جيوشه لاخضاع الحاميات المصرية في دارفور وبحر الغزال وبربر ودنقله والسودان الشرقي. وكانت المنطقة الأخيرة حتى هذه الهزيمة بعيدة عن الثورة المهدية ويسودها الهدوء، وعندما علمت بهذه الهزيمة وفد إلى المهدي زعماء القبائل في سواكن ومنهم عثمان دقنه الذي عين من قبل المهدي داعيته الجديد على سواكن وطركر وكسلا. وقد بويع عثمان دقنه بالامارة من جانب قبائل السودان الشرقي، ثم رفعت راية الثورة في هذا المنطقة (35). وازاء ذلك نصحت بريطانيا مصر باخلاء السودان (36) بأكمله ما عدا سواح البحر الأحمر، وذلك حتى لا تتيح الفرصة أمام الدول الأوروبية المنافسه لها وخاصة فرنسا من السيطرة على هذه المناطق وتهديد قاعتدها البريطانية في عدن وخط مواصلاتها البحري الرئيسي إلى مستعمراتها عبر البحر الأحمر. ولهذا رأت أن تحافظ على سلطة الحكومة المصرية في سواكن، وأرسلت وحدتها البحرية إليها لكي تحتفظ بها بأي ثمن خوفا من أن تستولي عليها إحدى الدول الاوروبية المنافسة وتتوسع في السودان حتى تصل إلى النيل فتهدد مصر والسلطات الإنجليزية بها، هذا بالاضافة إلى ابقاء وساكن في حوزة مصر قد يفيد عندما تستخدم كقاعدة حربية لاسترداد السودان عندما يحين الوقت لذلك (37).

وقد كان لتدهور أحوال السودان بصفة عامة والاضطرابات التي عمت السودان الشرقي بصفة خاصة والتي كان من ورائها عثمان دقنه وتهديده وحصاره للحاميات المصية أو جودة فيه هذا بالاضافة إلى تصعيد أثيوبيا لغاراتها على الحاميا المصرية في سنهيت ومصوع والتهديد بالهجوم على المدينة الأخيرة، كل هذا دفع شريف باشا رئيس الوزراء المصري غداة وصول أنباء هزيمة حملة هيكس أن يهتم بمسألة تسوية الحدود مع أثيوبيا، وذلك خوفا من أن تتحالف أثيوبيا مع المهديين في السودان أو نتيجة للعداء والحرب بين البلدين في عهد إسماعيل أن تنتهز فرصة ثورة المهدي وتقوم بالهجوم بمفردها على القوات المصرية في شرق السودان، لذلك أعلن شريف باشا عن رغبته في حل مشكلة الحدود بين البلدين بشكل يرضي الطرفين حتى يصل إلى حسن جوار فعلي مع أثيوبيا. ولما كانت الحكومة المصرية لا تضمن ترحيب بريطانيا لمعرفتها بمدى ولاء واعجاب يوحنا بملكة فيكتوريا وأن تدخلها سيؤدي إلى أن تقبل أثيوبيا عرضها. كما أن بريطانيا سترحب بأن تقوم بهذا العمل وبخاصة مع صديقها امبراطور أثيوبيا (38).

وقد أرسل شريف باشا برغبته في تدخل بريطانيا في حل مشاكل مصر مع أثيوبيا إلى سير ايفلين بارنج المعتمد البريطاني وذلك في مذكرة مرسلة في 24 نوفمبر سنة 1883، ذكر فيها أيضا أنه في حالة قبولها التدخل عليها أن تعين الضابط الذي يتعاون مع المندوبين الأثيوبيين والمصريين لرسم حدود البلدين في منطقة بوجوس. وقد أوصى بارنج حكومته عندما رفع ‘ليها مذكرة شريف باشا هذه بأن لا تضيع الوقت وعليها أن تقوم بها في أقرب فرصة ممكنة. ورحب الحكومة البريطانية بقيامها بالوساطة اللازمة ولكنها اشترطت أن تقبل حكومة مصر لكل ارتباط وتعهد يهدف إلى ارضاء الامبراطور يوحنا وذلك قبل تدخلها في المسألة (39). وواضح أن قبول بريطانيا الوساطة في هذا الفترة هو معرفتها تماما أنها أصبحت في موقف قوة وتستطيع فرض شروط يوحنا على مصر منتهزة الظروف السيئة التي تعانها في السودان، كما أن ذلك يحقق أهداف بريطانيا أيضا في اخلاء السودان وتدعيم النفوذ البريطاني في أثيوبيا ومصر، أي أن الوقت المناسب قد جاء لتحقيق أهدافها التي تتسق مع مطالب أثيوبيا.

وكان شريف باشا قد عرض الأسس التي تستعد مصر للتفاوض بشأنها مع أثيوبيا، وتشمل تعديلات الحدود بشكل يرضي الامبراطور يوحنا، على أن تحتفظ مصر بأي نقط هامة على خط الحدود الجديد الفاصل بين البلدين، وكذلك ترفض مصر منح أثيوبيا أي ميناء على البحر الأحمر وان كانت على استعداد لكي تتخذ الاجراءات التي تسهل حركة التجارة والاتصال بين أثيوبيا والعالم الخارجي، كما أنها ستحصل رسوما مخفضة على البضائع الأثيوبية، واشترطت مصر منع استيراد السلاح لأثيوبيا، وهكذا فعندما استعلم وزير خارجية بريطانيا عما اذا كانت مصر مستعدة لأن تقبل مقترحات سير تشارلز ويلسون والتي ضمنها تقريره في 29 سبتمبر سنة 1882 اتضح أن مصر تقبل عودة بوجوس إلى أثيوبيا وترفض التنازل عن القلابات كما أنها تقدم كافة التسهيلاة لتعيين المطارنة، وتعارض في تحويل ميناء مصوع إلى ميناء حر، وتصر على تحصيل الضرائب المعقولة على البضائع الاثيوبية المارة بهذا الميناء (40). وفي أثناء قيام بريطانيا باستطلاع آراء الحكومة المصرية حول ما تقدمه من تنازلات لأثيوبيا، قامت باخبار الامبراطور يوحنا رسميا بأنها قبلت التوسط بينه وبين الحكومة المصرية (41). وقد رحب الامبراطور بذلك (41).


بعثة الوساطة، والآراء المختلفة لحل المشاكل بين مصر وأثيوبيا

وقعد عينت بريطانيا سير أدميرال وليام هبوت رئيسا لبعثة الوساطة التي قررت بريطانيا ارسالها إلى أثيوبيا ، ولما شعر بأ،ه يجب أن يصحبه رجل ثقة إنلجييز فقد فضل أن يكون هذا الرجل على معرفة سابقة بأثيوبيا وبشعبها وذلك لمساعدة البعثة في مهتمتها ولانجاح التعاون مع مندوبي مصر وأثيوبيا في تحديد الحدود بينهما. ولهاذ أختير كابن سبيدي الذي عاش فترة من الوقت في أثيوبيا ابان حكم تيودور كما أنه كان يستطيع التحدث باللغة الأمهرية (43). وكان وراء اختياره اللورد نابير اوف مجدالا قائد الحملة الانجليزي على أثيوبيا (44).

وقد قدم سبيدي مذكرة تقترح وجهة نظره في المشاكل الواقعة بين مصر واثيوبيا، وأشار إلى خطورة التحالف بين أثيوبيا والمهدي المنتظر وذلك في حالة رفض مطالب يوحنا الخاصة بتعديل الحدود ومنحه أحد الموانئ. ولمنع هذا التحالف يجب اجبار مصر على تسليم المتمة والقلابات وبوجوس لأثيوبيا علاوة على منحها أحد موانئ البحر الأحمر، وأوضح أن ذلك لن يؤثر في ميزان القوى في هذه المنطقة نتجية لسهولة استيراد الأسلحة من هذا الميناء الممنوح ليوحنا لان هذه الأسلحة غالية لاثمن لا يستطيع شرائها. كما أ، في وسع بريطانيا أن تهدد يوحنا بسحب هذا الميناء في حالة هجومه على الأراضي المصرية . وعين سبيدي هذا الميناء الممنوح لأثيوبيا ميناء زيلع، وذلك لرفض مصر التنازل عن مصوع كما أن هذا الميناء وما حواليه تسكنه قبائل مسلمة ترفض الخضوع لأحكام مسيحيين. وطلب أن تتنازل مصر عن شريط ساحلي يمتد من راس جودام في الشمال إلى رأس شاكا في الجنوب، ويشتمل على خليج انسلي والحواقل وحنفيله وهي منطقة شبه خالية من السكان ويسهل انشاء المدن والموانئ بها. ودعا بريطانيا وألمانيا إلى الاشراف على مصالح أثيوبيا وشعبها الذي يستوطن هذه المنطقة، وأيد منح ملك أثيوبيا حاكم هذه المنطقة المعين من قبل انجلترا وألمانيا لقب "بحر نجش"، وخوفا من أن تتعامل اثيوبيا مع دول معادية لبريطانيا كفرنسا أو روسيا فقد طلب على أن ينص في المعاهدة المقترحة مع أثيوبيا على عدم التصرف في هذه المنطقة أو الميناء إلى أية دولة أخرى أو إلى أي من رعاياها أو رعايا أجانب، وذلك سواء كان بالبيع أو الهبة. وفي حالة صعوبة منح هذا الميناء فيمكن لبريطانيا اغراء يوحنا على قبول فكرة الحصول على ميناء حر وبشكل يمنع مصر من التدخل في شئون أثيوبيا ويترك كل المنازعات بين المصريين والاثيوبيين في أيدي أحد الضباط البريطانيين الذي يعين مقيما لبريطانيا له سلطات واسعة معترف بها من الامبراطور الاثيوبي وخديوي مصر، ويمنع بتاتا وجود أي مصر في هذه المنطقة وذلك لتحاشي المشاكل والاضطرابات.

ويتضح من هذا أن سبيدي يدعو بريطانيا لاقامة محمية بريطانية في هذه المنطقة على البحر الأحمر بين عدن وقناة السويس يمكن منها الاشراف على شئون أثيوبيا والتوغل فيها أن أمكن ذلك، وبمعنى آخر فان اقتراحات سبيدي تدور حول منع يوحنا من التحالف مع المهديين بمنحه ميناء علىالبحر الأحمر وتشرف عليه بريطانيا وعلى حق استغلال موارد أثيوبيا وتجارتها ووضعها تحت سيطرتها، وذلك على حساب مصر التي لن تحصل على أي مقابل لهذه التضحيات وأصر سبيدي قبل أن يسافر إلى مصر على أن تحصل هذه البعثة على وعد رسمي منصوص عليه في خطابات اعتمادهم كأعضاء فيها، يتضمن لأثيوبيا لاسم الملكة فكتوريا واللورد نابيير تنازلا عن ميناء مصري أو وعدا باقامة ميناء حر (45). ودعى كيركهام بريطانيا لفرض حمايتها عليه إلا أنها رفضت، وكان هذا الاجراء من أسباب الحرب بين البلدين لذلك فبالتأكيد لو قدم هذا الاقتراح ليوحنا كان سيلقى قبولا وتشجيعا منه (46).

بل إن نابيير وافق على هذه الاقتراحات مما يدل على أنه كان هناك تفكير يدور ابان زمن الحملة الانجليزية على أثيوبيا في انشاء هذه المحمية. ومن المعروف أن كيركهام مستشار يوحنا كان أحد أعضاء هذه الحملة الإنجليزية. على أنها لم تستطع تحقيقها لعدم صدور التعليمات لنابيير بذلك، كما أن بريطانيا رفضت التورط في مشاكل دولية اذا ما أيدت هذا المشروع. وقد وافق نابيير على كتابة خطاب إلى الامبراطور يوحنا يوصيه فيه ببعثة هيويت ويشعره ببنود وشروط المعاهدة المقترحة. واشترط أ،ها اذا كان الهدف من ذهاب البعثة إليه هو مجرد أن يمسك يده الآن عن استرجاع الأراضي التي أخذتها مصر منه فعنده الفرصة لكي يستردها فورا في هذا الوقت ، ولا يرغب نابيير أن يشارك في منعه لأنها فرصة لاثيوبيا لا يجب أن تضيعها. لذلك فهو يوقع على الخطاب على ضمان أن بريطانيا ستعترف بمطالبه وتحققها له أما اذا كان عكس ذلك فهو يسحب توقيعه (47). وبالرغم من أن نابيير أيد منح يوحنا ميناء زولا فإنه فضل أن تضمن بريطانيا له ممرا حرا في مصوع معفي تماما من ضرائب الترانسيت ومن أية رسوم أخرى، ووضع هذا الممر تحت الحماية البريطانية وتعيين مندوب لكي تشرف عليه. وأصر على ضرورة استمرار الحماية البريطانية هذه سنوات طويلة. وكان سبب اقتراحه هذا المعاناة التي كابدتها الحملة الإنجليزية على سواحل البحر الأحمر بالرغم من تفوق معداتها، وهو ما يحتاجه يوحنا لكي يعد ويستخدم هذا الميناء دون عون خارجي. هذا بالاضافة إلى صعوبة المواصلات مع زولا والظروف المناخية القاسية التي لا يتحملها الاثيوبيون، واتفق فالنتين بيكر قائد القوات الصمرية (بلوكات النظام) في شرق السودان، مع اللورد نابيير وسبيدي على منح أثيوبيا الميناء الذي تحتاج إليه حتى يمكن الحصول على رضاها، بشرط وضع هذا الميناء تحت اشراف وحماية إنجلترا، وتحديد كمية ونوعية السلاح الذي تستورده أثيوبيا عن طريق هذا الميناء، وعقد معاهدة تجارية بين بريطانيا وأثيوبيا تمنح الانجليزي جميع الحقوق التي يتمتعون بها في بلادهم، كما أوصى بأن تمنح أثيوبيا خليج انسلي وذلك لسهولة الوصول إليه برا وبحرا، كما أنه يمكن الادعاء بأنها ليست أرضا مصرية بشكل أوضح من مصوع نفسها (48).

ومع أن بريطانيا لم تأخذ بوجهات نظر أي من هؤلاء، فإن هذه الأراء بالتأكيد قد أثرت في الاتجاه العام لوضع الشروط التي نصحت بها الحكومة المصرية والتي ستعرض على يوحنا. ولا يغيب عنا أن أحدهم كان ضمن ابعثة التي وجهت إلى أثيوبيا وهو الكابت سبيدي (49). وواضح منها أنها لم تعر مصر أي اهتمام في المحافظة على أملاكها، بل كان الهدف هو تدعيم حكم يوحنا وتقويته وفي نفس الوقت مراعات مصالح وأهداف بريطانيا في هذه المنطقة (50).

وكان هذا الاختلاف في وجهة النظر على التفاصيل بين لورد نابيير وسبيدي وبيكر سببا في دفع جرانفيل إلى ترك المسئولية النهائية المتعلقة باختيار الشروط التي ستقترح على يوحنا تقع على ايقلين بارنج في القاهرة، لذلك فقد أمر سبيدي بأن يضع نفسه تحت تصرف قنصل بريطانيا العام في مصر (51). ووصل سبيدي إلى مصر واجتمع مع رئيس النظار المصري نوبار باشا ليناقش معه الشروط التي ستعرض على الامبارطور يوحنا وذلك في 28 ديسمبر سنة 1883، وفي اليوم السابق أخبر بارنج باختيار وليام هيويت لرياسة البعثة المرسلة إلى الامبراطور يوحنا وأنه سيحمل خطابا من الملكة فيكتوريا إلى الامبراطور (52).

وكان وصول سبيدي إلى مصر في نفس اليوم الذي وصفت فيه إلى القاهرة نصيحة بريطانيا الاجبارية الخاصة باخلاء السودان والتي استقال بسببها شريف باشا وخلفه نوبار في رياسة الوزراء فوافق على اخلاء السودان. ويلاحظ أن بريطانيا قامت بكل هذه الاجراءات السابقة قبل أن تلزم مصر باخلاء السودان، وبالرغم من ذلك فإن كل الآراء السابقة واتجاه الحكومة الإنجليزية تشير إلى أن تصفية النفوذ المصري في شرق السودان واخلاله، وبعبارة أخرى فإنه اذا كانت مصر ستجبر على اخلاء السودان ووافقت عليه فلا معنى اذن للتمسك بميناء مصوع أو بأي جزء آخر في هذه المنطقة. وكان هذا ما اعتقده بارنج من أن أحسن خطة تتبع في حالة اخلاء السودان هي منح أثيوبيا مصوع مع شريط من الارض إلى الشمال وإلى الجنوب منها علاوة على كل الأراضي الواقعة إلى الداخل والتي يمكن ليوحنا أن ينجح في حكمها. وكان الهدف من ذلك هو تقوية أثيوبيا بشكل يسمح لها بالوقووف أمام الثورة المهدية وايجاجد توازن قوى في المنطقة يسمح لبريطانيا بالبقاء في مصر (53).

ولم يوافق نوبار في اجتماعه مع سبيدي على اقتراحه بالتنازل عن مصوع وأيده في ذلك الخديوي، اعتقادا منهما بأن ذلك قد يثير عداءا شعبيا جديدا ضدهما في مصر. كذلك فانه ما دام قد اتفق على اخلاء شرق السودان فلا داعي لاعطاء هذه المنح المجانية لاثيوبيا. على أنهما وافقا على حرية مرور التجارة بما فيها الأسلحة من ذلك الميناء، وتعيين أحد الانجليزي محافظا عليها. وقد وافق بارنج على ذلك وأشار على حكومته بأن ترسل البعثة على هذا الاساس للتفاوض مع يوحنا، وبرر موافقته هذه – مع أنه يميل إلى منح مصوع لاثيوبيا – إلى أن التنازل عن هذه المنطقة من البحر الأحمر قد يسبب مشاكل مع الباب العالي، بالاضافة إلى المعغارضة القوية من الخديوي ونوبار باشا (54)ز

وقد أدى تدخل سبيدي وضغطه على حكومة بريطانيا لتنفذ مشروعه إلى تأجيل سفر البعثة وذلك بسبب رفض نوبار وخوفه مما أشار إليه سبيدي من أن امبراطور أثيوبيا قد يحتفظ بأعغضاء البعثة اصرى اذا ما رفض منحه أحد الموانئ على البحر الأحمر. وأخيرا انتهت المشكلة بأن قبل نوبار تزويد البعثة بالسلطات اللازمة للتنازل عن جزء من الساحل عدا مصوع. وهكذا أصبح على سبيدي أن يسافر في اقرب فرصة إلى مصوع، كما أن وزارة الخارجية البريطانية أصدرت تعليماتها للأدميرال هيويت رئيس البعثة بأن يتوجه إلى مصوع لكي يرسم خط الحدود ويتنازل عن بوجوس لاثيوبيا ويضمن لها حرية التجارة في مصوع وارسال المطارنة المصريين لكنيستها وذلك في نظير تعهد الامبراطور يوحنا بحماية تقهقر الحاميات المصرية الموجودة على طول حدوده (55).


ولم يرض هيويت بهذه التعليمات المحددة التي صدرت اليه وطلب منحه سلطات واسعة لانهاء هذه المسألة دون الرجوع إلى حكومة لندن التي تعرف تماما مطالب الامبراطور الاثيوبي، وبالتالي فليس هناك ما يدعو إلى التشدد في شروطها معه مما ينتج عنه فشل البعثة، وأيده في ذلك بارنج، وتم له ما أراد (56). فقد صدرت التعليمات الأخيرة له في 8 مارس سنة 1884 وقد كانت تنص على أنه على يوحنا الرابع أن يسهل مرور أفراد الحاميات المصرية الموجودة بالقرب من حدوده في داخل ممتلكاته، واستعداد بريطانيا تقبل أي خلاف ينشأ بين مصر وأثيوبيا، وأن تترك له حرية اقليم بوجوس، ومنحه حرية التجارة بما فيها الأسلحة وتحت حماية بريطانيا في مصوع، واعطاءه وعدا بارسال اسقف لبلاده من مصر. كما أن حكومة بريطانيا لم تبد أي اعتراض على احتلال أثيوبيا للقلابات وذلك في حالة ما اذا وجدت البعثة أن هذا التنازل أمر ضروري لنجاحها في مهمتها ولكنها أصرت على ضرورة النص في صلب المعاهدة على تحفظ عام من كل ما يتعلق بحقوق الباب العالي الشرعية (57).

معاهدة عدوة

وبناء على هذه التعليمات الجديدة التي قدمت إلى حكومة مصر لتوافق عليها موافقة شكلية، ولتعد خطابا موجها من الخديوي إلى الامبراطور يوحنا يحمله مندوبها ميسون بك محافظة مصوع والذي سيرافق البعثة إلى اثيوبيا ويقدمه للتعريف به وتفويض منها له ليتفاوض باسمها مع الحكومة الأثيوبية في المسائل المتعلقة بالبلدين، بناء على هذه التعليمات غادرت البعثة المكونة من الأدميرال وليام هيويت ويساعده كابت سبيدي ويمثل الجانب البريطاني وميسون بك ويمثل الحكومة المصرية، مصوع متجهة إلى الأراضي الأثيوبية لكي تتفاوض مع الامبراطور وتوقع المعاهدة معه في ضوء التعليمات التي صدرت إليها (58). وكتب الأدميرال في 24 أبريل سنة 1884 رسالة الى يوحنا يوضح فيها تفاصيل شروط المعاهدة المقترحة بين مصر وأثيوبيا وبريطانيا. وكان الامبراطور في منطقة ثيمبين ، فاقترح في رده على هيويت أن تكون المفاوضات معه في ماكالي. ولكن بعد أن وصل الأدميرال وبعثتها إلى عدوة في 26 أبريل اصر على ألا يتقدم أكثر من ذلك، مما جعل الامبراطور يوافق على أن يأتي إليه ويقابله في هذه المدينة، ولما كان ذلك يستغرق حوالي ثلاثة اسابيع، فقد طلب إليه أن يناقش شروط الاتفاق مع راس ألولا وذلك حتى يصل اليه وبالفعل تم ذلك واستطاعت البعثة وألولا الوصول إلى رضا متبادل عن النص الفعلي للاتفاقية، وفي 26 مايو كان الامبراطور قد وصل الى عدوة واستقبل الأدميرال وبعثتها استقبالا رسميا طيبا حيث تسلم الخطابات الموجهة من الملكة فيكتوريا والخديوي واللورد نابيير وكذلك الهدايا التي قدمت له من المدافع والبنادث، وقد سر الامبراطور سرورا عظيما بها (59).

وفي 28 مايو تقابل الامبراطور مع البعثة مرة أخرى حيث بحث هذه المرة بنود المعاهدة المقترحة والتي قدم الادميرال مشروعها الى الامبراطور، وقد قبلها وان كان قد استفهم عن انسحاب الحاميات المصرية من مصوع منكولو. ولما لم تكن لدى هيويت أية أوامر بالانسحاب من مصوع أو منكولو فقد أجابه بأنه ستبقى حامية صغيرة في منكولو. وقد قبل يوحنا ذلك الوضع مادام هذا تحت الحماية البريطانية. كما أقنع الامبراطور بأنه ليس من مصلحته أن يحصل على ميناء، وذلك عندما أبدى الأخير رغبته في الحصول على أراضي تطل على البحر. وسأل عن كسلا وهل ستعطى له، فأخبره هيويت أنه غير مزود بأي سلطة لاعطائها له، واذا كان يوحنا وافق على ذلك فانه لم يخف رغبته في الاستيلاء عليها اذا ما وقعت في أيدي قوات المهدي. وفي 31 مايو استنأنفت المناقشة حول موضوع الجمارك في مصوع، فاقترح الامبراطور أنه بعد اسقاط مصاريف الميناء يقسم مناصفة ما يتبقى من حصيلة الجمارك بين مصر واثيوبيا، وطلب النص على ذلك في المعاهدة. ولما كان ذلك يتعارض مع حقوق سيادة الدولة العثمانية على هذا الميناء فقد نجح الادميرال في أن يحول الامبراطور نظره عنها إلى أفضيلة حصول اثيوبيا على حرية التجارة في مصوع، وأنه يستطيع أني قيم نقطا للجمارك في بلاده يفرض فيها الرسوم ويحصل ما يريده. وفي اليوم الذي حد للتوقيع على المعاهدة (3 يونية سنة 1884) طلب أن تسري المادة التي تنص على حرية التجارة في مصوع من هذا اليوم بدلا من أول أكتوبر سنة 1884. وقد وافق هيويت على ذلك وعدلت هذه المادة. وعندما تم ذلك وقع الامبراطور المعاهدة التي عرفت بمعاهدة عدوة. وعندما انتهت البعثة من مهمتها عادت إلى الساحل حيث بقى كابت سبيدي في مصوع لتنفيذ شروط هذه المعاهدة بالتعاون مع ميسون بك محافظة مصوع (60).

وقد اشتملت المعاهدة على ست مواد، نص فيها على حرية التجارة والسماح لأثيوبيا بالقيام باستيراد الأسلحة بمجرد توقيع هذه المعاهدة. كما أعيدت إلى اثيوبيا بموجب المعاهدة منطقة بوجوس وذلك في أول سبتمبر سنة 1884، وعند جلاء القوات المصرية عن تحصيناتها في كسلا وأميديب وسنهيت تؤول ملكية هذه التحصينات بما تشمل عليه من مباني وأسلحة وذخيرة إلى أثيوبيا. وتعهد الامبراطور بتقديم كافة التسهيلاة الممكنة للقوات المصرية في انسحابها من كسلا وأميديب وسنهيت عبر الحدود الاثيوبية إلى مصوع. كما تعهد الخديوي بتقديم كافة التسهيلا اللازمة لتعيين المطارنة المصريين الذين تحتاجهم كنيسة أثيوبيا. وتعهد الطرفان مصر واثيوبيا – بتبادل المجرمين الفارين من العدالة. وأخيرا أحيل أي خلاف بين خديوي مصر وامبراطور أثيوبيا بعد التصديق على هذه المعاهدة الى بريطانيا حيث يقبل الطرفان تحكيم ملكتها (61). على أن يوحنا بعد توقيعه على هذه المعاهدة أرسل إلى الخديوي يقول أن مسألة مصوع لم تنته وفق رغبته، وادعى أن الخديوي يعلم أن مصوع كانت منذ عهد قريب خاضعة لأجداده أباطرة أثيوبيا (62).

وقد اختلفت شروط المعاهدة قليلا عن التعليمات الأصلية التي صدرت إلى هيويت قبل توجه للتفاوض مع يوحنا. فبالرغم من أن التعليمات كانت قد حرصت على حقوق السيادة العثمانية على سواحل البحر الأحمر أو في شرق السودان، فإن المعاهدة لم تشر إلى هذه الحقوق، بل أنه عندما طالب يوحنا باعطائه كسلا أجابه الادميرال بأنه غير مزود بأية سلطة لاعطائه هذه المدينة، فهو لم يحدد الجهة التي زودته بالسلطة. وبالتالي يمكن استنتاج أنه ما دام هو مبعوثا من بريطانيا ومعه مندوب مصر اي أن كلا الدولتين لم تخولا له سلطة منح الامبراطور مدينة كسلا. وما يؤكد ذلك أن مقدمة المعاهدة لم تشر إلى تبعية مصر للدولة العثمانية بل ذكرت أن الخديوي باعتباره حاكما مستقلا مساويا لملكية بريطانيا وامبراطور إثيوبيا، بالرغم من أن ذلك يتعارض مع معاهدة لندن سنة 1840، وربما قصدت بريطانيا إبعاد الدولة العثمانية عن هذه المنطقة حتى لا تدخل في مشاكل دولية تعوق تحقيق أهدافها التوسعية بعد ذلك سواء في مصر أو في السودان أو في باقي المناطق الواقعة على ساحل البحر الأحمر أو القرن الأفريقي، كما أنها ذكرت اسم الخديوي توفيق بجانب ملكة بريطانيا وامبراطور أثيوبيا فعلت ذلك بهدف ايهام الدول الاوروبية المنافسة لها مثل فرنسا – التي عملت بعد ذلك على اخراجها من مصر – بأنها تعترف ضمنا باستقلال مصر وأن احتلالها لهذا البلد انما هو احتلال مؤقت سرعان ما ينتهي عندما تستقر أحوالها الداخلية (63).

والواقع أن بريطانيا فعلت هذه السابقة حتى تدعي سيطرتها على مصر وتبعد أي نفوذ عثماني تدريجيا، وذلك حتى تستطيع عندما تسنح لها الظروف بعد ذلك باعلان احتلالها لمصر، كما أن ذلك يساعدها على احتلال بعض البلاد التي كانت تخضع لمصر مثل زيلع وبربرة، أو ربما فعل هيويت ذلك بتعليمات سرية خاصة صدرت إليه بخلاف التعليمات المعلنة الأخرى. وما يؤكد ذلك أن هيويت أرسل إلى جرانفيل بعد توقيع المعاهدة يقول أن يوحنا سيسهل الانسحاب عبر أرضه للحاميات المصرية في شرق السودان مع أن المعاهدة لم تذكر سوى حاميات كسلا وسنهيت وأميديب. أما الحاميات الأخرى مثل القلابات والجيزة والقضارف فانه لم يشر إليها بل أن التعليمات التي صدرت إلى هيويت ذكرت أن بريطانيا لن تعترض في حالة احتلال أثيوبيا للقلابات، ومع ذلك لم يشر اليها في المعاهدة (64).

وربما كان ذلك للاحياء إلى مصر بخطورة الوضع في شرق السودان، والواقع أنها ترفض احتلال أثيوبيا للقلابات وستجد بعد ذلك عندما يتم استرداد السودان أن بريطانيا ترفض رغبة الامبراطور منليك في ضم القلابات إليه وربما يعود ذلك الى الأهمية التجارية لهذه البلدة، وكذلك لم تشر التعليمات إلى تسليم المجرمين الهاربين كما أشارت إليه هذه المعاهدة وذلك لتدعيم حكم يوحنا في أثيوبيا الذي كان يعاني من الثوار الخارجين عن طاعته وحماية السلطات المصرية في مصوع وغيرها لهم (65).

وفي مجال تدعيم حكم يوحنا كررت بريطانيا ما سبق أن فعله نابيير بعد أن نجحت حملته بأن منح مجموعة ضخمة من الأسلحة ساعدته على أن يصل الى حكم أثيوبيا وقد فعلت بريطانيا في هذه المعاهدة مثل ذلك بأن منحته الأسلحة والذخيرة والاستحكامات التي تركتها مصر له بموجب المعاهدة لتدعيم حكمه، ولكي يستطيع أن يقف في وجه الثورة المهدية، لادراك بريطانيا التام بأنه لابد وأن يحدث اصطدام بينها وبين يوحنا الذي يعتبر امتدادا للصراع الذي كان بين مصر وأثيوبيا وكانت تخاف أن ينهزم يوحنا أمامها وبالتالي يسهل وصول المهديين إلى سواحل البحر الأحمر ما يهدد مصالح بريطانيا كما سهلت له حرية استيراد الأسلحة للهدف نفسه، وهكذا كانت المعاهدة في المكان الأول تدعيما لحكم يوحنا وتقوية دولته على حساب مصالح مصر والثورة المهدية وفي نفس الوقت يخدم طريقها إلى الهند (66).

اخلاء الحاميات المصرية

وقد أخبر قائد القوات المصرية في شرقي السودان بنصوص هذه المعاهدة، عندما تقابل مع الأدميرال هيويت وميسون بك في مصوع في 9 يونية سنة 1884، وذكر له أيضا أن سنهيت وأميديب والقلابات والجيرة والتاكة وباقي نقط الحدود ستسلم إلى أثيوبيا في شهر سبتمبر التالي وذلك بعد عودة جميع الجنود المصريين إلى مصوع بواسطة القوات الأثيوبية بقيادة رأس ميكاييل. كما ذكر له أنه ف يحالة حدوث غارة على احدى النقاط المصرية عليه أن يقوم بتبليغ رأس ميكاييل المسئول عن تنفيذ الاخلاء (67). وكانت طريقة الاخلاء الآتي تتوجه جيوش اثيوبيا إلى القلابات والتاكة وما هم بالقرب من النقط المقيمة فيها جنود مصر حيث يجري تسليم هذه النقط بكامل معداتها ومهماتها اليهم، وبحسب أمر الامبراطور أو من ينوب عنه تتوجه هذه الحاميات إلى الجهة التي يحددها لهم، فان كانت داخل أثيوبيا كان جنود هذه الحاميات عزلاء، أما اذا كانت الحاميات على أطراف مديرية التاكة فانه يسمح لهم بالانسحاب بأسلحتهم وربما كان ذلك لحمايتهم من غارات المهديين حتى أميديب ومنها إلى مصوع بدون سلاح وبعدها تسلم أميديب إلى الأثيوبيين وتتوجه حاميتها إلى سنهيت حيث تسلم سلاحها إلى مخازن حامية سنهيت، وكانت أولوية الانسحاب للحاميات البعدية عن الحدود الأثيوبية إلى أثيوبيا أو سنهيت ثم اخلاء الأخيرة وما يجاورها على الحدود الأثيوبية وتسليمها إلى الاثيوبيين بعد ذلك (68).

ولما كانت بريطانيا تنوي سحب جميع الحاميات المصرية من كافة أنحاء السودان، وليس من النقط التي جاءت في المعاهدة فحسب، فقد بعثت ملكة بريطانيا برسالة إلى يوحنا بعد توقيع المعاهدة تقول فيها أنها تعتمد عليه في تقديم كافة التسهيلات لانسحاب أية قوات مصرية قد ترغب في المرور عبر أثيوبيا إلى الساحل. وكانت مصر قد أصدرت أوامرها بأن تتجمع قواتها المنتشرة في أنحاء السودان، في المحطات المحددة في المعاهدة الموقعة في أثيوبيا، لذلد فقد أجلت عمليت تسليم بوجوس إلى أثيوبيا التي كان محددا لها 12 سبتمبر سنة 1884، ولم يتم في هذا الوقت سوى تسليم طابية صغيرة هي طابية الصباب فقط الواقعة على بعد أربعة أميال من سنهيت كما سلمت معها جميع معداتها الحربية إلى نائب راس ألولا. وقد ادى هذا التسليم إلى جعل الأهالي حول قلعة سنهيت تابعين لاثيوبيا، أي أن سنهيت أصبحت تابعة فعلا لأثيوبيا ما عدا قلعة سنهيت التي لم تسلم وذلك حتى يتم اخلاء السودان من الحاميات الأخرى (69).

ولقد اثار عدم تسليم سنهيت ، كلها بما فيها من منشآت واسلحة الى أثيوبيا، أن أرسل رأس ألولا يحتج على ذلك إلى كابت سبيدي، وقد انزعج الأخير وأسرع وأرسل الى الامبراطور يوضح له أن رأس ألولا قد فهم نصوص المعاهدة خطأ واشار إلى أن اخلاء حامية سنهيت سيحدث فقط عندما تغادر حاميات كسلا وأميديب وسنهيت. وضم سبيدي إلى رسالته هذه رسالة الملكة فيكتوريا التي تطلب فيها تسهيل انسحاب الحاميات المصرية الموجودة في كل أنحاء السودان. وبالرغم من أن الامبراطور في رده نفى فهم ألولا الخاطئ للمعاهدة فانه بسبب رسالة الملكة فيكتوريا قد وافق ضمنا على ذلك وذكر بأنه لن يصر على الرجوع إلى النص الحرفي للمعاهدة وأمهلهم حتى العاشر من اكتوبر سنة 1884. وقد برر مافقته بأنه يتطلع إلى أن تحكم هذه المنطقة بواسطة حكامه، لذلك فانه في سبيل هذا الهدف وافق على تأجيل رحيل الحامية. وقد وافق كل من بارنج ووزير خارجية بريطانيا على تفسير سبيدي للمعاهدة والذي شرحه للامبراطور بأن يتم تسليم بوجوس إلى أثيوبيا بعد مغادرة حاميات كسلا وسنهيت وأميديب، وذلك حتى يتسنى اخلاء السودان كله من المصريين بالرغم من النص في المعاهدة على تسليم بوجوس في سبتمبر سنة 1884 (70).

على ألا يفهم من ذلك أن بريطانيا قد نقضت المعاهدة بعدم تسليمها بوجوس ولكنها استغلت رغبة يوحنا الشديدة في مضها إليه للمساعدة على اخلاء كسلا من حاميتها المصرية والتي كانت محصارة بين المهديين . وبالرغم من الحماس الذي أبداه يوحنا لانجاد حامية كسلا فان تدخل الأثيوبيين في السودان قد يؤدي الى نتائج خطيرة حذر منها الأدميرال هيويت (71). كما أن جوردون عندما علم بأن يوحنا سوف ينجد الحاميات المصرية علق بقوله أن اذلك سيدعم ثورة المهدي، اذ أن دخول شعب همجي يدعي المسيحية ضد أهل هذه البلاد المسلمين الذين ظلوا صامدين ضد المهدي سيؤدي إلى ازدياد الموقف في شرق السودان سوءا وان منحه سنهيت يقطع الطريق الآمن من مصوع إلى كسلا (72).

لذلك فبالرغم من أن يوحنا وقائده الولا استعدا بقواتهما لنجدة حامية كسلا فان سبيدي ارسل الى الامبراطور يسأله أن يرسل قواته لا إلى كسلا، ولكن للمساعدة في انسحاب الحامية المصرية من القلابات وسمح له بالاستيلاء على الأسلحة والذخيرة التي للحامية. وكانت الحجة سوء موقف الحامية المصرية في القلابات وحاجتها الشديدة للانقاذ (73). وقد لبى الامبراطور هذا الطلب بسبب تأييد الملكة له فأخر الامبراطور حملته لنجدة كسلا. وقد أخبر بذلك نوبار باشا رئيس النظار الذي تفاوض مع بارنج وقرر الاثنان التمسك بالحالة الحاضرة في كسلا حتى تتضح الأوضاع في الخرطوم (74). وما يحدث من تطورات وخاصة بعد أن أرسلت حملة لانقاد جوردون وذلك في أواخر سنة 1884 (75).

والواقع أن بريطانيا أرادت أن تحول دون انقاذ يوحنا لحامية كسلا، يدل على ذلك خطاب سبيدي المشار إليه من قبل بتوجيه يوحنا إلى القلابات منع أنه لم يرد ذكرها في المعاهدة، كما أن ملكة بريطانيا طلبت منه انقاذ كل الحاميات، أي أنها تؤيد ضمنيا انقاذ حامية القلابات، وبالتالي تؤيد ما طلبه سبيدي، بل انه أرسل رسالته ورسالة الملكة معا إلى الامبراطور بهدف تدعيم طلبه هذا. ولم تحاول ملكة بريطانيا أن تطلب من الامبراطور سرعة انقاذ حامية كسلا المحاصرة منذ شهر نوفمبر سنة 1883 وهي تعلم أنها اذا طلبت هذا فان الامبراطور سينفذه فورا ارضاء لها ولكنها لم تفعل. وربما خشيت بريطانيا من انقاذ يوحنا لحامية كسلا، وهو الذي يرغب في ضمها غليه كما ألمح هيويت ابان تفاوضهما معا، أن يستولي عليها وقد يهزم قوات المهدي وتكون بداية لتوسع يوحنا في السودان، وبالتالي يفسر ذلك بأن بريطانيا تشجع يوحنا على احتلال أملاك مصر في الوقت الذي يثبت فيها امكانية وقف انتشار ثورة المهدي بل وهزيمته على أيدي قوات اثيوبية لا قوات مصري بريطانية مشتركة. ولكن ذلك يخالف ما كانت تخطط له بريطانيا وهو العمل على انتشار الثورة المهدية وتشعبيتها واخلاء المصريين للسودان، وبالتالي فان سقوط حامية كسلا في أيدي المهديين يؤيد سرعة اخلاء السودا، وفي نفس الوقت يحافظ على مدينة كسلا ضمن حدود السودان عندما يحين وقت استرداده فلا تطالب اثيوبيا بضمها إليها. ومع ذلك فقد طالبت أثيوبيا بها فعلا عندما تم فتح السودان.

ومما يؤكد ذلك أن بريطانيا فيما بعد شجعت ايطاليا على احتلال كسلا بعد أن عقدت معها اتفاقية برجوعها إلى السودان عندما تسترده مصر. وهذا الاتفاق كان مستحيلا عقده مع يوحنا في ذلك الوقت لسببين أولهما عدم الرغبة في الكشف عن خططها المستقبلية حيال السودان في ذلك الوقت المبكر بالاضافة إلى معرفتها برغبة يوحنا في ضم هذه المدينة اليه. لهذا فضلت بريطانيا سقوط كسلا على أن ينقذها يوحنا. ويؤكد ذلك أن الكولونيل شيرماسيد حاكم سواحل البحر الأحمر اعتقد أن حضور السفن الايطالية محملة بالجنود أمام مصوع في أول فبراير سنة 1885 فرصة جديدة أمام العرب والاثيوبيين في شرق السودان، ولكن سيرافيلين بارنج أبلغه، بأن جزءا من قوات حملة الانقاذ – بعد سقوط الخرطوم في 26 يناير – قد يصل إلى سواكن ولكن ليس هناك أية حملة مصرية أو انجليزية ذاهبة الى كسلا التي كان على حاميتها أن تقرر الخروج والسير صوب البحر الأحمر أو مفاوضة المهديين. كما استبعد الاستعنة بقوات ايطالية كانت في مصوع لانقاذ حامية كسلا لأن ذلك ليس في مصلحة بريطانيا (76). فلو كان هناك نية انقاذ حامية كسلا عند بريطانيا لتم ذلك سواء على يد الايطاليين أو الاثيوبين ولكن محاولة اتهام أثيوبيا بأنها لم تسارع بانقاذ كسلا هو تغطية للهدف الحقيقي الذي تريد بريطانيا تحقيقه وهو سقوط السودان بحدوده في أيدي المهديين واسترجاعه بحدوده أيضا دون أن يكون هناك فضل أو ادعاء من الايطاليين أو الاثيوبيين في اي جزء منه.

ومما يؤكد أن بريطانيا لم تكن مهتمة الا بمصالحها في سواحل البحر الأحمر وشرقي السودان بالرغم من حاجة حامية كسلا إلى نجدة رأس ألولا (77)، والتي كان بسبب حصارها أرسلت بعثة هيويت إلى إثيوبيا (78)، كذلك بالرغم من علم بريطانيا برغبة يوحنا في الحصول على ميناء مصوع وأنه فهم من المعاهدة أن هذا الميناء سوف يكون يوما جزءا من أثيوبيا (79)، فان بريطانيا وافقت على أن تحتل ايطاليا مصوع (80)، وذلك بعد أن ظلت تعارض في نشاط ايطاليا على الساحل الأفريقي للبحر الأحمر طوال السبعينات حيث استطاع الايطاليون أن يؤسسوا مستعمرتهم في عصب وما يجاورها. على أن ذلك تغير في الثمانينات حيث راح جرانفيل يتحول عن معارضة اعتداءات الايطاليين على حقوق السيادة التي كانت للخديوية المصرية على هذا الساحل (81)، وبموافقة جرانفيل وبارنج احتلت ايطاليا مصوع وانسحبت الحامية المصرية منها عائدة إلى مصر في 6 فبراير سنة 1886 (82).

وكان الدافع وراء موافقة بريطانيا على استيلاء ايطاليا على مصوع هو خوفها من التدخل الفرنسي في المنطقة أووقوع الامبراطور الأثيوبي تحت تأثير معاد لبريطانيا قد يضر مصالحها، فقد اشار هيويت في مذكرة له في يناير سنة 1884 إلى أن القنصل الفرنسي في مصوع يعمل على كسب مزيد من النفوذ الفرنسي مع يوحنا امبراطور أثيوبيا. وفي نوفمبر صدرت الأوامر إلى نائب القنصل الفرنسي في الخرطوم بأن يخطط لبعثة إلى أثيوبيا تهدف الى مزيد من العلاقات السياسية والتجارية بين فرنسا ويوحنا، وأن يكون في عدوة مندوب فرنسي دائم (83)، وابان زيارة بعثة هيويت ليوحنا استقبل الأخير نائبي فرنسا واليونان، وكما قلقت بريطانيا من النشاط الفرنسي نظرت بعين الشك والريبة إلى نشاط نائب القنصل اليوناني ميتزاكيس وذلك بسبب موقفه العدائي ازاء جوردون أثناء زيارته ليوحنا سنة 1879. وقد دفع ذلك بريطانيا إلى التحري عنه ولم تطمئن الا بعد أن تأكدت من أن مهمته تنمية التجارة، بل ويمكن الاستفادة منه لصالحها. أما بالنسبة لنائب القنصل الفرنسي فقد نجح قنصل فرنسا في الخرطوم في الحصول على دعوة من الامبراطور لزيارة نائب القنصل الفرنسي في مصوع وتم ذلك في 23 أبريل سنة 1884 أي قبل وصول بعثة هيويت إلى أثيوبيا حيث استقبله بترحبا وأعلن محبته لفرنسا وأعدا بأنه لن يعقد أية معاهدة بدون توسط هذا النائب الفرني الذي ارسل نسخة من معاهدة هيويت إلى بلاده (84). وكانت مصر قبل انسحابها من مصوع قد صادرت في أوائل سنة 1883 شحنة أسلحة فرنسية كبيرة كانت وجهتها إثيوبيا. كما أشارت سلطات مصوع المصرية في ذلك الوقت إلى تقارب فرنسي أثيوبي وإلى زيارة نائب قنصل فرنسا للامبراطور يوحنا (85).

وكان مثل هذا النشاط الأوروبي الفرنسي بصفة خاصة سببا في قلق بريطانيا التي أصبحت تتدخل في شئون مصر وتتعجل اخلاءها لامبراطوريتها الأفريقية. ولما كانت وزارة الخارجية البريطانية حريصة على عدم ترك فراغ سياسي ليس في السودان بل في القرن الأفريقي أيضا كما سنرى فيما بعد، وبالرغم من أن بريطانيا لم تكن راغبة في الاستيلاء على مصوع وغيرها فانها أيضا لم تكن راغبة في السماح فرنسا في التدخل في هذه المشاكل القريبة من النيل ومنابعه. لذلك نظرت بعين الشك والريبة إلى محاولاتها للتقرب للامبراطور يوحنا مما دفعها إلى الموافقة على رغبة ايطاليا في الاستيلاء على مصوع وما يجاورها وهكذا تخلت بريطانيا عن معاونة حليفتها مصر في المحافظة على أملاكها كما كانت تفعل في السبعينيات وعن يوحنا الذي قد يرتمي في أحضان فرنسا أو قد ينهزم أمام المهديين فيهددون مصالحها في هذه المناطق وطرق مواصلاتها إلى امبراطوريتها في الشرق، لذلك فضلت أن يحكم مصوع الايطاليون الضعفاء عن المنافس القوي لها فرنسا. والواقع أن بريطانيا أصرت على أن تستعمل الايطاليين (مخلب قط) على الساحل الأثيوبي على البحر الأحمر لتمنع الفرنسيين من الزحف على حوض النيل من الشرق ولتحافظ على السودان حتى تسترده مع مصر بعد ذلك (86).

وقد كان من الممكن أن ينعكس ما قامت به بريطانيا من تسليم مصوع للايطاليين على عملية انسحاب الحاميات المصرية من كافة مراكزها على الحدود، اذ قد يعتبرها الامبراطور عملا عدائيا ضده ويوقف عمليات الانسحاب أو يتخذ الجنود المصريين رهينة عنده ولكن لم يفعل ذلك، وبالتالي فان كل ما قيل أن الامبراطور لم يفعل أي شيء لانقاذ حامية كسلا بالرغم من المحاولات التي بذلت لحضه على الاسراع على نجدة هذه الحامية (87)، ما هو الا محض افتراء وما قصد بهذه المحاولات الا تغطية الرغبة في سقوطها على أيدي المهدية، ودخلت في مناقشات حول تفسير المعاهدة مع يوحنا وقائده ألولا حتى يضيع الوقت وتسقط كسلا.

ومما يؤكد أن ألولا ويوحنا استعدا لانقاذ كسلا أن هيويت نفسه كتب من عدن ، في 22 يونية سنة 1884، 14 يولية من نفس العام أي بعد ابرام المعاهدة بفترة وجيزة بأن راس ألولا ومعه راس مياكييل وبقوة ضخمة تتقدم إلى داخل اقليم بركة طريق سنهيت متجها إلى كسلا، وفي نفس الوقت يتقدم الامبراطور بقواته حتى يلتقي بيلو Billo على بعد 40 ميلا من كسلا واصدر الامبراطور أوامره إلى زعماء القرى المختلفة التي ستمر عبرها قوات الانقاذ الأثيوبية بأعداد المؤن لها حيث انها ستمر بعد قليل متجهة إلى كسلا لانقاذها (88).

وبالرغم من هذه الاستعدادات فانه نتيجة لتطور المناقشات في تفسير المعاهدة كانت الأوامر تصدر بتأجيل زحف جيش الانقاذ هذا (89). وقد استمر هاذ التأجيل حتى وقت استيلاء الايطاليين على مصوع، وعندما ساءت حالة حامية كسلا استنجد شارمسيد بيوحنا في 11 أبريل 1885 يحثه على انجاد حامية كسلا على وجه السرعة ويعده بعشرة آلاف بندقية اذا ما قام بذلك. وعندما تحرك يوحنا أخيرا بعد انتهاء المناقشات حول المعاهدة كان الوقت قد مر وساءت حالة الحامية وربما كان الدافع إلى ارسال هذا الخطاب للامبراطور لنقاذ الحامية هو حلول فصل الصيف، وبالتالي تعذر الاسراع لنجدة الحامية التي كان واضحا أنها على وشك السقوط، ولقد أوضح راس ألولا سبب تعذر انقاذ الحامية في ذلك الوقت وهو أن جنوده كانوا في شهر يونية يذهبون إلى حقولهم لزراعتها ويتجمعون في مقر قيادتهم في سبتمبر، بالاضافة إلى صعوبة التحرك بجيش كبير في موسم الأمطار. بالرغم من معرفة شارمسيد بهذه الظروف فانه أرسل مساعد حاكم مصوع إلى الولا بهدية من الأسلحة والنقود يحثه على التحرك، وقد رد الولا بأنه سوف يقود الحملة بنفسه بعد انتهاء موسم الأمطار وتجميع قواته. أي في سبتمبر. وفي هذا الوقت جاءته رسالة تهديد من عثمان دقنة قائد المهديين في شرقي السودان (90).

وبان استعداد اولا لملاقاة عثمان دقنة والرد على تهديده وانقاذ حامية كسلا، جاءته الأنباء بسقوطها في أيدي المهديين في 19 يولية سنة 1885 ودخول عثمان دقنة المدينة في 26 أغسطس وبعد ذلك زحف إلى كوفيت حيث تقابل مع راس الولا الزاحف بالحبشة فكانت موقعة كوفيت التي هزم فيها عثمان دقنة ورجع إلى كسلا (91). ولم يستغل الولا هذا الانتصار وانما عاد إلى أسمرة ولم يقم بأي عمل عدائي ضد المهديين وربما كان السبب في ذلك الخطر الايطالي القادم من مصوع، بل ان يوحنا وجيشه الكبير كان على بعد 9 أيام فقط من كسلا ومع ذلك لم يقم بأي عمل عدائي ضد المهديين، وربما كان السبب في ذلك نصيحة القنصل اليوناني متزاكيس بألا يناصب السودان أو الثورة المهدية العداء، ويبدو أنه عمل بها وكذلك عمل بها الولا. وكانت هذه النصيحة التي أبداها القنصل اليوناني بناء على تعليمات صادرة إليه من وزير الخارجية اليوناني (92). وكنا قد ذكرنا من قبل أن التحريات البريطانية أكدت أنه يمكن استخدام هذا القنصل لخدمة المصالح البريطانية فلا يستبعد اذن أن تكون هذه النصيحة بناء على تعليمات سرية من بريطانيا إلى اليونان والقنصل اليوناني حتى تمنع يوحنا من الذهاب إلى كسلا.

واذا كان يوحنا لم يستطع انقاذ حامية كسلا، فانه باستثنائها قد قام بدوره تماما الذي فرضته عليه معاهدة عدوة، وخطاب الملكة فيكتوريا الذي طلبت فيه منه اخلاء جميع الحاميات المصرية. فقد قام يوحنا بانقاذ الحاميات المصرية من قلاعها، وسكان المدن الذين يرغبون في الرحيل والواقعة على طول الحدود الشمالية والشمالية الشرقية، ووصلت بأمان إلى مصوع ومنها إلى السويس. وكان عدد الحاميات التي أنقذها الامبراطور خمس حاميات هي أميديب ووصلت إلى مصوع في 10 أريل سنة 1885، وسنهيت ووصلت حاميتها مصوع في 19 منه. وفي 12 سبتمبر سنة 1885 شملت سنهيت بأكملها إلى أثيوبيا، وانسحبت حامية الجيرة في 8 يولية من نفس العام ووصلت إلى مصوع في أوائل فبراير من العام التالي. كما قام يوحنا بانقاذ حامية الجيدية وتوصلها إلى مصوع سالمة. أما حامية القلابات فقد كانت من أول الحاميات التي أنقذها جيش يوحنا وذلك منذ أن طلب منه انقاذها وقت أن كان يستعد لانقاذ كسلا، فانسحبت في سلامة في 18 فبراير سنة 1885، ووصلت إلى مصوع في آخر مايو من نفس العام. وبذلك تكون معظم الحاميات انقذت ما عدا كسلا، للظروف التي ذكرت من قبل، وحامية القضارف التي سقطت في أيدي المهديين في أبريل سنة 1884، أي قبل عقد معاهدة عدوة بشهرين تقريبا وبذلك لا يكون يوحنا مسئولا عن سقوطها (93).

اخلاء هرر وموانئ شرق أفريقيا

وبالرغم من أن هرر وموانئ شرق أفريقيا التابعة لمصر لم تتعرض لاي خطر من الثورة المهدية وذلك بسبب بعدها عنها، فان بريطانيا أجبرت مصر على الانسحاب منها (94)، وذلك لحاجة القاعدة البريطانية في عدن إلى زيلع وبربرة لتموينها وهما يعتبران مدخلا ومخرجا لاقليم هرر، وبالتالي فلكي تستوي بريطانيا على هذين المينائين يجب أن تخليهما مصر ومعهما هرر. وعليه فقد ادعى المقيم السياسي المساعد ميجور هنتر أن منليك ملك شوا يستعد للاستيلاء على هرر بمساعدة قبائل الجالا، وأن قبائل الصومال قد أعلنت أنها ستخرج المصريين من بربرة وزيلع، وقد ابلغ هنتر ذلك إلى معتمد بريطانيا في مصر وكان هدفه اظهار مدى التهديد الموجه إلى مصر في هذه المناطق ودعوة بريطانيا إلى التدخل للمحافظة على عدن نفسها عن طريق الاستيلاء على الموانئ المواجهة لها على الشاطئ الأفريقي التي تقوم بتموينها. والمعروف أن القاعدة البريطانية في عدن هي مفتاح البحر الأحمر ومحطة التموين الضرورية للمواصلات البحرية الامبراطورية مع الهند وأستراليا (95). وربما قصد هنتر من ابلاغه هذا أن ينبه بريطانيا إلى خطورة عدم التدخل في هذه المناطق مما قد يؤثر على قاعدتها عدن تأثيرا خطيرا اذ قد ينتهز منليك فرصة الثورة المهدية وعجز مصر عن مقاومتها للهجوم على هرر والقبائل الصومالية على بربر وزيلع، أو ربما كانت دعوته هذه – في أواخر ديسمبر سنة 1883، صدى لتصعيد يوحنا لغاراته على الحدود المصرية وقد يدفع يوحنا منليك في اطار هذا التصعيد الى غزو هرر مما يؤثر بالتالي على بربر وزيلع وتموين عدن، أو يكون هناك اتفاق سري بين هنتر ويوحنا لجعل بريطانيا تتدخل لحل مشاكل الحدود بينه وبين مصر وفي نفس الوقت يوضح لها مدى الفائدة التي ستحصل عليها نتيجة لهذا التدخل.

والواقع أن ما ادعاه ميجور هنتر كان يمثل فعلا شائعة ربما يكون هو الذي روجها أو يكون اتباع الامبراطور يوحنا في هذه المنطقة القاطنون في أوساهم الذين فعلو ذلك، حيث تم القضاء فيها على حملة منزنجر (96). أو يكون الاثناء معا هنتر ويوحنا، حيث أن تصفية أملاك مصر لا يخدم سوى بريطانيا والامبراطور الأثيوبي، أو يكون هناك اتفاق بين هنتر وحاكم زيلع، على أن يقوم الأخير بارسال رسائل إلى مصر يكون هدفها ابراز الخطورة على أملاكها في شرق أفريقيا حتى يساعد على اخلائها، وتتحق بذلك رغبة هنتر في حض بريطانيا على التدخل في هذه المناطق ويتم الاستيلاء على زيلع وبربرة وذلك بهدف تدعيم قاعدتها في عدن. أما منليك – وذلك احتمال قائم – مع رغم انكاره، وربما كان ذلك صحيحا اذ أنه لم ينتهز فرصة انشغال مصر بمشاكلها ويحتل هرر بل فعل ذلك بعد أن تم اخلاؤها، أي أنه هو أيضا استفاد من هذه الشائعة إلى حد ما، وكذلك فقد يكون وراء هذه الشائعة تواطؤ بين حاكم زيلع أبو بكر شحين المعين من قبل مصر على هذا الميناء، وبين منليك، فقد حاول أن يتفق معه في نهاية سنة 1883 على أن يكون خط حدود مملكة شوا يبدأ من نهر أواش Awash إلى خط منتصف الطريق ما بين انكوبر عاصمة شوا وهرر على أن يضمن حامية الساحل حرة يحكمها هو، كما أنه دعا منليك الى احتلال هرر في أبريل سنة 1884 أي قبل اخلائها في أكتوبر سنة 1884 من حاميتها المصرية، وذلك بعد أن تأكد من تدهور السيادة المصرية في السودان، واذا كان منليك أنكر ذلك رسميا في رسالته إلى مصر فإنه بالتأكيد قد جعله، بعد أن عرف بتدهور موقف مصر واخلائها لأملاكها، يتبع، سياسة الاتجاه نحو الشرق في توسعاته ويطمع في اقليم هرر الغني ويرغب في ضمه إليه (97).

وأخيرا قد تكون ايطاليا وراء هذه الشائعة، اذ أنها كانت تبغي التوسع وتريد تدعيم مستعمرتها في عصب، ويقتضي ذلك أن تتصل تجاريا وسياسي في بداية الأمر مع المالك والقبائل المجاورة لهذه المستعمرة. لذلك ارسلت ايطاليا الكونت بينزو انطونللي إلى منليك، الذي كان أول من اتصل بالايطاليين منذ نوزلهم في عصب لعقد معاهدة معه للحصول على مساعدته في تحسين أحوال المستعمرة. وفي طريقه إلييه عقد أنطوللي معاهدة مع السلطان محمد أنفاري سلطان أوسا في 15 مارس 1883، وطدت ايطاليا بها نفوذها في جهات أوسا والدناكل. وأخيرا وصل أنطوللي إلى منليك وعقد معه معاهدة في 21 مايو سنة 1883 عززت مركز ايطاليا التجاري والسياسي في هذه المناطق بل وأظهرت بجلاء أطماع إيطاليا في أثيوبيا نفسها، كما أنها اقنعت منليك بالتسليم بنوع من الخضوع المبهم (98). وقد أثار نشاط الايطاليين هذا خوف ميجور هنتر، فذكر بأنه يخاف من أن ترسل ايطالي حملة تضم بها هرر إلى أملاكها (99). وبذلك فقد تكون ايطاليا قد نشرت هذها الشائعة بهدف تغطية هدفها الحقيقي.

ولقد بدأت هذه الشائعة بأن أرسل محافظ زيلع أبو بكر شحيم إلى مصر يخبرها بسماعه أخبارا كاذبة من جهة هرر أشاعها بعض المفسدين عن عودة محمد نادي باشا حكمدار هرر السابق ومعه قوة حربية للاستيلاء على بعض المناطق التابعة لملك شوا. ولما كانت هذه الشائعة ذات نتائج خطيرة، فقد اتخذ محافظ زيلع الاجراءات التي تكذبها بهدف اعادة الأمن والسلام في هذه المناطق، بأن أصدر أوامره الى مأمور الضبطية بأن يعمل على القضاء على هذه الشائعة الباطلة ويقبض على مروجيها ويسجنهم وأن يوضح أن مصر تحافظ على علاقتها الطيبة مع جيرانها. وقد أثارت هذه الشائعة منليك فأرسل مبعوثيه إلى حاكم زيلع ليتأكد منها ويبدي تعجبه منها لأن علاقته مع مصر طيبة. وقد كذبها حاكم زيلع وأكد لمبعوثي منليك مدى حرص مصر على علاقتها الطيبة مع ملك شوا، بل أرسل ولده محمد مع هؤلاء المبعوثين إلى منليك ليؤكد مدى حرص مصر على علاقتها الطيبة معه ويكذب هذه الشائعة وينفيها ويطمئنه بما يوجب سكوته وعدم تصوره لشئ قد يوجب الكدر (100).

على أنه لم يتمر بضعة أيام حتى أرسل حاكم زيلع إلى مصر يبلغها بأنه عمل عن طريق ولده الذي ذهب مع مبعوثي منليك بأن الأخير عندما علم بعدم وجودجنود مصريين بعدد كاف لصد أي هجوم يقع على هرر، قرر الاغارة عليه وضمها إلى ملكه وأن الكونت أنطونللي عرض منليك على ذلك ابان زيارته لشوا في محاولة لتدعيم النفوذ الايطالي في شرق أفريقيا وأثيوبيا. وقد اتصل منليك بسلطان أوسا محمد أنفاري ربما لكي يعلم حقيقة الحملة القادمة والتي يرأسها محمد نادي، أو ليتحد معه ضد الحملة أو لغزو هرر، على أن منليك صرح لولد حاكم زيلع بارسال هذه الأخبار إلى والده ليرسلها بالتالي إلى مصر. وأكد مرة أخرى أن منليك صدق بعدم وجود قوات مصرية كافية في هرر وأنه قد يقوم بغزوها (101). وقد ذكر حاكم زيلع لحكومة مصر بأنه نبه حاكم هرر إلى هذا الخطر القادم من ملك شوا وأن يعمل على المحافظة على أملاك مصر في هذه المنطقة (102). وقد قام حاكم هرر بواجبه ازاء هذه الظروف، ولكنه ذكر لحاكم زيلع أن هذه الأخبار ليست على درجة من الأهمية والمبالغة التي بلغته وأنه حين علم بها أرسل مبعوثيه إلى الجهة القريبة من هرر والتي قبل بأن جنود منليك قد وصلتها للوقوف على حقيقة الأمر، واتضح أن منليك ارسل جنوده إلى منطقة قريبة من هرر ولكنها غير خاضعة لها، وذلك في محاولة لضمها إلى مملتكه، ولكن حملته هذه فشلت وعادت إلى شوا بعد ذلك، ولم يحدث أي تعدي من منليك على حدود أملاك مصر في هرر، وأكد أيضا أن هذه الأخبار عادية ولا تستعدي أن يسارع ويرسلها إلى محافظ سواحل البحر الأحمر، وأنه سوف يرسلها في البوستة المعتادة التي تحمل أخبار هرر كل خمسة عشر يوما، وأنه بالفعل أرسلها في البوستة العادية في 17 يونية سنة 1883 (103).

وبالرغم من أن الأمور كانت عادية كما أوضح حاكم هرر، فأن محافظة زيلع، أكد مرة أخرى خطورة الموقف في رسالة أخرى ارسلها إلى خديوي مصر، وليس إلى رئيس وزراء مصر شريف باشا ذي الميول الوطنية والذي ربما اعتقد أنه لا يميل الى الاخراء كما تأكد ذلك عندما رفض اخلاء السودان واستقال من منصبه عندما أجبرت بريطانيا مصر على ذلك. فهل قصد محافظ زيلع اخبار الخديوي بأن شريف باشا لا يهتم بالأخطار التي تهدد أملاك مصر في شرق أفريقيا أم أنه أراد تأكيد هذه الشائعة وخطورتها واخلاصه لمصر ومصالحها. وقد أشار ضمنا في رسالته للخديوي إلى أن هناك اجتماعا بين الامبراطور يوحنا والملك منليك وأنه قد تم التصاهر بينهما (104). والمعروف أن يوحنا كان قد صعد غاراته على حدود مصر في سنة 1883، فهل قصد محافظ زيلع أن يشير إلى أن هناك اتفاقا بين يوحنا ومنليك على أن يقوم الأخير بشن غاراته على حكمدارية هرر المصرية وذلك في اطار سياسة التصعيد الحربي ضد حصر في كافة أملاكها على حدود أثيوبيا من جميع الجهات، أم أنه أراد تغطية أهدافه وتحقيقها منتهزا المشاكل المتزايدة على مصر في هذه الفترة بمحاولة اظهار اخلاصه عن طريق رسالته هذه إلى الخدييو واثارة المشكلة وتدعيمها حتى يستغلها بعد ذلك الانجليز في تحقيق آمالها التوسعية في هذه المنطقة. وبالفعل فقد أحاط قنصل بريطانيا في مصر ماليت شريف باشا علما بأن قنصل بريطانيا في الصومال أخبره بأن منليك قد استعد بستين ألف جندي ليزحف بهم على هرر ويضمها إليه وأنه اسر برغبته هذه إلى ابن محافظ زيلع الذي كان يزوره وقتها. وطلب ماليت من شريف باشا معرفة مدى صحة ذلك (105).

وأخيرا ارسل شريف باشا رسالة إلى محافظ زيلع يعرب فيها عن دهشته هو والخديوي من شائعة غزو منليك لهرر في الوقت الذي لم يفكر فيه الخديوي الاغارة على شوا، أو حتى الاساءة إلى العلاقات مع منليك، كما أن مصر لم يخطر ببالها ارسال حملة لهرر لعدم وجود ما يسبب ذلك. وعتب شريف باشا على حاكم زيلع بأنه كان عليه سرعة تكذيب هذه الشائعة والعمل على عدم توصيلها إلى شوا وذلك حتى لا يترتب عليها تصديق الملك اياها، وطلب منه العمل على تكذيبها واظهار مقاصد الحكومة المصرية السلمية وأن يحرر رسالة للملك توضح رغبة مصر السلمية. وكان شريف باشا يعتقد بأن ارسال صورة رسالته مع رسالة من محافظ زيلع تزيل سوء الفهم وعيد العلاقات الطيبة ثانية بين مصر وشوا (106)، وبالفعل تم ذلك ورد منليك على رسالة شريف باشا مؤكدا حسن علاقاته مع مصر وموضحا بأنه ذهب إلى جهة إيتو لجمع الضرائب منها وما يجاورها وليس لغزو هرر ، وأنه لو كان يرغب في غزوها لما انتظر إلى هذا اليوم. على أنه ذكر أن هرر هي من أملاك أثيوبيا وأنه اذا كان قد سكت على غزو اسماعيل لها انما كان لرغبته في دوام المحبة معه، وأنه يرغب في استمرارها، ولكن القيود التي وضعت على البضائع الواردة لاثيوبيا في جمرك زيلع مرتفعة وطلب فتح هذا الجمرك لبضائع شوا حتى تستمر العلاقات الودية بينها وبين مصر (107) وقد وافقت حكومة الخديوي على تخفيف القيود الجمركية على واردات منليك بأن أعفت كل البضائع التي ترد إليه من رسوم الجمارك. أما المحصولات والبضائع وجميع الأصناف ذات الصفة التجارية فتخضع للضرائب طبقا لما هو سائد تجاريا بين الدول، كما وافقت على دخول عشرة آلاف خرطوش يطلبها منليك (108). وبالرغم من انتهاء هذه المشكلة فان محافظ زيلع اثار ما كان قد طلبه منليك من رغبة في تحديد الحدود بين أملاك مصر في شرق أفريقيا ومملكة شوا (109).

على أن ذلك لم يتم لأن ميجور هنتر كان قد أرسل برقية الى بارنج بتهديد منليك لهرر وقبائل الصومال بربره وزيلع ورغبته في اخلائهما من المصريين. وقد أرسل بارنج هذه البرقية إلى وزير خارجية بريطانيا الذي أرسل احدى السفن الحربية الى هذين المينائين لحمايتها (110). وبالرغم من كذب ادعاء هنتر هذا فان بارنج أيده وادعى هو أيضا بخطورة الحالة وساعده في ذلك نوبار باشا الذي خلف شريف باشا وطلب منه أن ترسل بريطانيا أحد ضباطها إلى هرر لدراسة امكانية توفير بعض حامياتها. وعندما وجد بارنج هذا الاتجاه عند نوبار، طلب من حكومته أن تعمل على منح هذا الاقليم استقلاله واعادته إلى الأسرة الحاكمة السابقة التي كانت تحكمه من قبل الفتح المصري له، واشار عليه بأن تعمل على اخلاء هرر من القوات المصرية بسرعة وأن تكلف هنتر بتنفيذ هذا الجلاء (111)، وبالفعل تم اخلاء هرر (112)، وبعد ذلك تم اخلاء زيلع وبربره واستولت بريطنيا على الأخيرتين (113).

وهكذا تم تجريد مصر من أملاكها الافريقية وساعدها على ذلك الامبراطور يوحنا الذي ارسلت اليه بريطانيا بعثة شكر برياسة هاريسون سميث ومعها بعض الهدايا له ولقائده راس الولا وابنه راس آريا سيلاسي، لما بذله من جهد في انقاذ الحاميات المصرية المحاصرة في السودان الشرقي باستثناء كسلا. وقد حمل سميث خطابا من ملكة بريطانيا إلى يوحنا وكذلك سيف الشرف الذي أهدته اليه، وتم ذلك في بورميدا ، حيث قابلت البعثة الامبراطور فيها (114).

وباخلاء السودان لم تعد هناك أية حدود مشتركة مع أثيوبيا وبالتالي لم تعد هناك أية علاقات سياسية بين مصر وأثيوبيا في الفترة الباقية من حكم يوحنا وساعد على ذلك انه انشغل مع الثورة المهدية التي ورثت عن مصر مشاكل الحدود مع أثيوبيا وتابعتها مع الامبراطور الاثيوبي (115). كذلك فقد كان للمشاكل المتصاعدة مع ايطاليا بسبب أطماعها أثر كبير في انشغال يوحنا بها، وقد ضاعف من مشاغل يوحنا مشاكل أخرى بعيدة عن مصر مثل تجدد الصراع بنيه وبين منليك بسبب تعاون الأخير مع الايطاليين، ثم وفاة ابنه آرسيا سيلاسي والذي كان قد تزوج من ابنة منليك زوديتو مما جعل كل الترتيبات التي كان قد اتفق عليها بين يوحنا ومنليك في أن يخلف الأخير الأول ويتولى الحكم بعد ذلك ابن الامبراطور يوحنا آريا سيلاسي. وكان هذا الاتفاق محاولة من يوحنا للحد من قوة منليك المتزايدة وتهديده له في حكم أثيوبيا، وكان وفاة آريا سيلاسي سببا في عودة منليك إلى تهديد حكم يوحنا مرة أخرى (116). وهكذا انشغل الامبراطور يوحنا بمشاكل بلاده الداخلية والخارجية وظل يكافحها حتى استطاع المهديون هزيمته وقتله في معركة القلابات سنة 1889 (117) وبذلك انتهى حكم يوحنا لاثيوبيا وخلفه الامبراطور منليك الثاني (118).