طبائع الإستبداد (كتاب)

الكتاب بصيغة PDF
الكتاب بصيغة PDF

طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد-- عبد الرحمن الكواكبي (١٢٦٥–١٣٢٠هـ، ١٨٤٨–١٩٠٢م)


عن الكتاب

كتاب «طبائع الاستبداد» يدور حول تعريف الاستبداد بأنه «صفة للحكومة المطلقة العنان، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب». ويأتي هذا من كون الحكومة مطلقة التصرف، ولا يقيدها قانون ولا إرادة أمة أو أنها مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال هذه القيود والسير على ما تهوى؛ والحكومة ميالة بطبعها إلى الاستبداد، لا يصدها عنه إلا وضعها تحت المراقبة الشديدة ومحاسبتها محاسبة لا تسامح فيها، وإلا قوة الرأي العام وعظمة سلطانه.

والمستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس، يسدها عن النطق بالحق ومطالبتها به.

والمستبد عدو الحق، وعدو الحرية وقاتلها.

والمستبد يود أن تكون رعيته بقرًا تحلب، وكلابًا تتذلل وتتملق، وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه: هل خلقت خادمة له، أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة مستعدة أن تقف في وجه الظالم المستبد، تقول له أريد الشر، ثم هي مستعدة لأن تتبع القول بالعمل، فإن الظالم إذا رأى المظلوم قويًا لم يجرؤ ظلمه.

وقد بحث بحثًا مستفيضًا في علاقة الاستبداد بالدين، ونقل عن الإفرنج رأيهم في أن الاستبداد في السياسة متولد من الاستبداد في الدين أو مساير له. فكثير من الأديان تبث في نفوس الناس الخشية من قوة عظيمة لا تدرك كنهها العقول، وتهددهم بالعذاب بعد الممات تهديدًا ترتعد منه الفرائص،٢ ثم تفتح بابًا للخلاص والنجاة بالالتجاء إلى الأحبار والقسس والمشايخ، بالذلة لهم، والاعتراف أمامهم، وطلب الغفران منهم. والمستبدون السياسيون يتبعون هذه الطريقة فيسترهبون الناس بالتعالي والتعاظم، ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال، حتى لا يجدوا ملجأ إلا التزلف لهم وتملقهم! وعوام الناس يختلط عليهم في أذهانهم الإله المعبود والمستبدون من الحكم، فيتشابه عندهم استحقاق التعظيم، وينزهونهم عن سؤالهم عما يفعلون ولا يرون لهم حقًا في مراقبتهم على أعمالهم، كما أنه ليس لهم حق في مراقبة الله فيما يفعل!! ولهذا خلعوا على المستبد صفات الله كولي النعم، والعظيم الشأن، والجليل القدر، وما إلى ذلك! وما من مستبد سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك فيها الله أو تربطه برباط مع الله ولا أقل من أن يتخذ بطانة من أهل الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله!!

ولقد رأى «الكواكبي» أن الإسلام في جوهره الأصيل لا ينطبق عليه هذا القول، فهو مبني على قواعد الحرية السياسية متوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو مؤسس على أصول ديمقراطية (أي المراعاة التامة للمصلحة العامة)، وعلى شورى أرستقراطية، أي شورى الخواص، وهم أهل الحل والعقد، فالقرآن مملوء بتعاليم تقضي بأمانة الاستبداد، والتمسك بالعدل، والخضوع لنظام الشورى، من مثل: «وشاورهم في الأمر، وأمرهم شورى بينهم» حتى في القصص، من مثل: «ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون». ومظهر هذا كان في أيام النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين. ثم لا يعرف الإسلام سلطة دينية، ولا اعترافًا، ولا بيع غفران، ولا منزلة خاصة لرجال الدين. ولكن دخل عليه من الفساد ما دخل على كل دين، فتفرقت كلمة المسلمين وانقسموا شيعًا، وتحول الحكم من نظام شورى إلى الاستبداد، فصغرت نفوس الناس وخفت صوتهم، وأضاعوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي به يراقب أولو الأمر في الأمة، فصار أمر المسلمين إلى ما نرى.

ولم يتعرض «المؤلف» للرد على الشطر الأول، وهو ما يوحيه تصوير الله بالقوة والعظمة والسيطرة من خضوع النفوس للمستبد. وعندي أن الإسلام يجعل «لا إله إلا الله» محور الدين، تتكرر في كل آذان وفي كل مناسبة، كان كفيلا أن يذكر النفوس دائمًا بأن العزة لله وحده، وأن النفوس لا يصح أن تذل لأحد سواه، وأن هذه الكلمة توحي بالضعف أمام الله والقوة أمام من سواه. ولكن بتوالي القرون؛ ودخول الدخيل من العقائد، أصبحت «لا إله إلا الله» عند أكثر المسلمين كلمة جوفاء لا روح فيها، تبعث الضعف ولا تبعث القوة، وتبيح أن يشرك مع الله الحاكم المستبد والرئيس المستبد، بل المال والجاه والمنصب، فكل هذه وأمثالها أصبحت آلهة مع الله، وفقد المدلول الحق للا إله إلا الله!!

ثم أبان أن الحاكم المستبد يخشى العلم، لأن العلم نور، وهو يريد أن تعيش الرعية في الظلام، لأن الجهل يمكنه من بسط سلطانه، (وروي أن حاكمًا مستبدًا شرقيًا كان له مرب سويسري فقال له يومًا بعد أن تأمر:٣ «ليتك تعني بتربية الشعب وتعليمه!» فقال الأ مير: «كلا! إني إن علمته صعب عليَّ حكمه»!).

والحاكم المستبد لا يخشى علوم اللغة والأدب، ولا علوم الدين المتعلقة بالمعاد،٤ بل هو يستخدم العلماء من هذا القبيل لتأييده في استبداده، بسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدته، إنما ترتعد فرائصه من الفلسفة العقلية، ودراسة حقوق الأمم، وعلوم السياسة والاجتماع، والتاريخ المفصل، والقدرة على الخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تنير الدنيا وتثير النفوس على الظالم، وتعرف الإنسان ما هو الإنسان، وما هي حقوقه، وكيف يطلبها، وكيف ينالها، وكيف يحفظها، فإن المستبد سارق، والعلماء من هذا القبيل يكشفون السرقة.

ولذلك يكون الحاكم المستبد وهؤلاء العلماء في صراع دائم، العلماء يحاولون الإنارة، والمستبد يحاول إطفاءها، وكلاهما يحاول كسب عامة الشعب، فالمستبد يخفيهم ليستسلموا، وهؤلاء العلماء ينيرونهم ليقولوا ويفعلوا.

والحاكم المستبد تسره غفلة الشعب لأنه يتمكن بغفلتهم من الصولة عليهم: يغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم ويضرب بعضهم ببعض فيصفونه بحسن السياسة والكياسة، ويسرف في أموالهم فيقولون إنه كريم، ويقتلهم ولا يمثل بهم فيقولون إنه رحيم، وإن نقم عليه بعض الأباة،٥ قاتلهم بهم كأنهم بغاة!!.٦

والحاكم المستبد يخاف رعيته كما تخافه رعيته، بل خوفه منهم أشد، لأنه يخافهم عن علم، وهم يخافونه عن جهل. وقد اعتاد المؤرخون المحققون قياس درجة استبداد الحاكم بمقدار حذره، ودرجة عدله بمقدار طمأنينته، كما يستدلون على أصالة الاستبداد في الأمة بترف الحكام. وإمعانهم في البذخ، وكثرة الحجاب. ومن دلائل تغلل الاستبداد في الأمة استكناه لغتها، فإن كثرت فيها ألفاظ التعظيم وعبارات الخضوع كاللغة الفارسية، دلت على تاريخها القديم في الاستبداد. وإن قلت — كالعربية قبل امتزاجها بغيرها دلت على الحرية.

وعلى الجملة فأخوف ما يخاف المستبد من العلم، العلم الذي يعلم أن الحرية أفضل من الحياة، والشرف أعز من المنصب والمال، والحقوق وكيف تحفظ، والظلم وكيف يرفع، والإنسانية وقيمتها والعبودية وضررها.

وقد كان «الكواكبي» في كل هذا يقرأ نتائج القرائح التي كتبت في الاستبداد، وينظر إلى الدولة العثمانية في عهده ويستملي منها آراءه وأحكامه.

ثم عرض للاستبداد والمجد، ويعني بالمجد رغبة الإنسان أن تكون له منزلة حب واحترام في قلوب الناس، وهو مطلب طبيعي شريف، ويبلغ عند بعض الأفراد درجة تجعلهم يتساءلون: أيهما أقوى، الحرص على المجد أم الحرص على الحياة؟ و«الكواكبي» من قبيل من يرى الحرص على المجد أقوى وأوجب من الحرص على الحياة، ولذلك عاب على ابن خلدون رأيه في تقديم الحرص على الحياة عندما نقد ابن خلدون الإمام الحسين بن علي وأمثاله، وقال إنهم يعرضون أنفسهم للموت بخروجهم في فئة قليلة على الخليفة ذي السلطان والعدد والعِدد، فيلقون بأنفسهم إلى التهلكة. فقال الكواكبي: إنهم معذورون، لأنهم يفضلون الموت كرامًا على حياة الذل التي كان يحياها ابن خلدون، وهم في ذلك ككرام سباع الطير والوحوش التي تأبى التناسل في أقفاص الأسر، وتحاول الانتحار تخلصًا من قيود الذل. وغضبة الكواكبي على ابن خلدون سببها عصبيته لأهل البيت، إذ كان من الأشراف، وفيه نزعة لحب المجد ولو كان فيه فقد الحياة. فابن خلدون يتحدث بالعقل، والكواكبي يتحدث بالعاطفة.

والمجد أنواع: «مجد الكرم» وهو بذل المال في سبيل المصلحة العامة، وهو أضعف أنواع المجد، و«مجد العلم» وهو نشر العلم النافع برغم عوائق السلطات. و«مجد النبالة» وهو بذل النفس بالتعرض للمشاق والأخطار في سبيل نصرة الحق، وهذا أعلى المجد ويقابل المجد التمجد، أي المجد الكاذب، وهو أن يكون الإنسان مستبدًا صغيرًا في كنف المستبد الأعظم، وهذا يزدهر في الحكومات المستبدة؛ لأن الحكومات الحرة تحافظ على التساوي بين الأفراد، ولا تميز بعض الأفراد إلا بخدمة عامة للأمة أو عمل عظيم يوافق إليه. أما في الحكومات المستبدة فالمتمجدون أعداء للعدل، أنصار للظلم، ينتخبهم المستبد الأعظم ليقوي بهم سلطانه، ويختارهم من ضعاف النفوس ويستغويهم بالمناصب والمراتب، وأكثر ما يعتمد على المعرقين في التمجد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم مرض الاستبداد، ومن هنا ظهرت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب. والحكومة المستبدة يظهر استبدادها في كل فروعها، ومن المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفراش، إلى كناس الشارع؛ ولا يكون كل صنف من هؤلاء إلا من أسفل طبقته، لأنه لا يهمهم المجد باستجلاب محبة الناس، إنما يهمهم التمجد باكتساب ثقة رئيسهم المستبد؛ والوزير في الحكومة الاستبدادية وزير المستبد الأعظم لا وزير الأمة، وكذلك من تحته من أعوانه، فالهيئة كلها تتمجد ولا تمجد، وكلهم شركاء في جريمة الضغط على الأمة وظلمها. والاستبداد يقتل المجد ويحيي التمجد!!

وهذا حق، فالحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعًا من السيادة الكاذبة وتجعل أولي الأمر سلسلة تبدأ من المستبد الأعظم إلى الشرطي في الشارع، كل يخنع لمن فوقه ويستبد بمن تحته، وعلى العكس من ذلك الحكومة الديمقراطية ديمقراطية صحيحة، فهي تشعر كل شخص في الدولة بالعزة التي يحميها العدل، وبأن له نصيبًا في حكم بلاده، وصوتًا مسموعًا فيما يجب أن يعمل وما يجب أن يترك وأن حكومته ليست قائمة إلا برأيه ورأي أمثاله، إن شعروا يومًا بجورها أسقطوها، سلطة الرأي العام فيها فوق سلطان الحكومة والبرلمان وكل سلطان.

ثم عرض للاستبداد والمال، ويعني بذلك الحكومة الاستبدادية وأثرها في الثروة أو الحالة الاقتصادية في البلاد. وهو في هذا الموضوع يرى الخير في نوع معتدل من الاشتراكية، نعم لا ينبغي أن يتساوى العالم الذي أنفق زهرة حياته في تحصيل العلم النافع، أو الصانع الماهر في صنعة مفيدة، وذلك الجاهل الخامل النائم في ظل الحائط، ولكن العدالة تقضي أن يأخذ الراقي بيد السافل والغني بيد الفقير، فيقربه من منزلته، ويقاربه في معيشته؛ وقد مال الإسلام إلى هذا النوع، ففرض الزكاة (٢٫٥٪) من رءوس الأموال تعطي للفقراء وذي الحاجة، وحرم الربا، لأنه وإن أجازه الاقتصاديون لأسباب معقولة اقتصاديًا (للقيام بالأعمال الكبيرة، ولأن الأموال المتداولة في السوق لا تكفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسمًا منها، ولأن كثيرًا من القادرين على العمل لا يجدون رءوس المال) فإن الدين ورجال الأخلاق ينظرون إليه من حيث ضرره الأخلاقي، لأنه متى انتشر قسم الناس إلى عبيد وسادة، وكان سببًا في ضياع استقلال الأمم الضعيفة.

والحكومة الاستبدادية سبب في اختلال نظام الثروة فهي تجعل رجال السياسة والدين ومن يلحق بهم يتمتعون بحظ عظيم من مال الدولة، مع أن عددهم لا يتجاوز الواحد في المائة، وهي تخصص المال الكثير لترف المستبد وسرفه، وتغدق على صنائعها،٧ ومن يستخدم لتحصيل شهواتها، ومن يعنيها على طغيانها، وسائر أفراد الشعب في شقاء وبؤس؟

ثم الحكومات المستبدة تيسر للسفلة طرق الغنى بالسرقة والتعدي على الحقوق العامة ويكفي أحدهم أن يتصل بباب أحد المستبدين ويتقرب من أعتابه، ويتوسل إلى ذلك بالتملق وشهادة الزور وخدمة الشهوات والتجسس، ليسهل له الحصول على الثروة الطائلة من دم الشعب.


أقتباسات

-أن بين الاستبداد والعلم حربا دائمة وطرادا مستمرا: يسعى العلماء

في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم

العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى

علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا

*****

-المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلهما، والحق أبو الشر، والحرية أمهم، والعوام »

صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن

«. دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت

****

يبغضالمستبد العلم لنتائجه يبغضه أيضا لذاته لأن للعلم سلطانا أقوى من كل

سلطان، فلا بد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه

علما. ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوق عليه فكرا، فإذا اضطر لمثل

الطبيب والمهندسيختار الغبي المتصاغر المتملق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله

(فاز المتملقون)، وهذه طبيعة كل المتكبرين بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على

كل من يكون مسكينا خاملا لا يُرجى لخيرٍ ولا لشر


المصادر

https://www.hindawi.org/books/35757396/4/