الخشوع فى الصلاة

الحمد لله الذي جعل الصلاة عمود الدين، وقال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45-46]، والصلاة والسلام على نبينا محمد، كان آخر وصيته لأمته عند خروجه من الدنيا الحث على الصلاة لما لها من الأهمية في الدين، وعلى آله وصحابته أفضل الصلاة وأزكى التسليم.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الخشوع – أهميته وأثره:

إن الظواهر التي تظهر على الكثير من قسوة القلب، وقحط العين، وانعدام التدبر، هي بسبب المادية التي طغت على قلوبنا فأصبحت تشاركنا في عبادتنا، ولا يمكن للقلوب أن ترجع لحالتها الصحيحة حتى تتطهر من كل ما علق بها من أدران. فهذا هو أمير المؤمنين عثمان بن عفان يضع يده على الداء لهذه الظاهرة فيقول: (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله عز وجل).

والخشوع الحق يطلق عليه الإمام ابن القيم (خشوع الإيمان) ويعرفه بأنه: (خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال الوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة فيتبعه خشوع الجوارح).

ومما يدل على أهمية الخشوع كونه السبب الأهم لقبول الصلاة التي هي أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، وفي السنن عن النبي أنه قال: { إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها}.

كما أن الخشوع يسهل فعل الصلاة ويحببها إلى النفس، قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، أي فإنها سهلة عليهم خفيفة، لأن الخشوع وخشية الله ورجاء ما عنده يوجب له فعلها منشرحاً بها صدره، لترقبه للثواب، وخشيته من العقاب.

"رأيت الرجل ينفتل من صلاته فما يجاوز باب مسجد حتى يشعل دخانه أو يطلق بالغيبة والنميمة لسانه؟ أوليست الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ أي شيء فقدناه ففقدت صلاتنا أثرها؟ لقد فقدت صلاتنا روحها! أتدرون ما روحها؟ إنه الخشوع والخضوع والتذلل بين يدي رب كريم، إن الخشوع في الصلاة هو آية قبولها، ومقياس حسنها، وميزان جودتها،

يقول الله سبحانه وتعالى قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـٰشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2]. بين سبحانه أن أول صفة لهم هي الخشوع في الصلاة من أجلها استحقوا الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. لماذا الخشوع ، لأن الخشوع روح الصلاة ، ومتى فقدت الصلاة الخشوع ، كانت صلاة ميتة لا صلة لها بحياة النعيم والسعادة ، لأن الصلاة ليست حركات بدنية فقط، ولكنها قبل ذلك حركات قلبية. فمن لم يتحرك قلبه نحو الله ، فلم يتفكر في قوته وسلطانه ، ورحمته وعذابه ، لم يتفكر في الكلام الذي يناجي به ربه ، وما حواه هذا الكلام من المعاني والصبر، لم يتفكر في صدق وعده ووعيده، من لم يتحرك قلبه بذلك ويخشع فهو يصلي صلاة ميتة جامدة ، لا صلاة حقيقية حية تنفعه في الدنيا والآخرة لذا يقول نبينا ((إن أحدكم إذا قام يصلي إنما يقوم يناجي ربه فلينظر كيف يناجيه)) مستدرك الحاكم 1/236 و هو في صحيح الجامع رقم 1538. وانظر لتدرك عظم الأمر قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها)) [أبو داود والنسائي وابن حبان وهو حديث حسن،]. وجعل عليه الصلاة والسلام عدم الطمأنينة والخشوع في الصلاة شر أنواع السرقة، قال عليه الصلاة والسلام: ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) قالوا: وكيف يسرق من الصلاة؟ قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها)) [رواه أحمد بسند صحيح]. وقد تكاثرت النصوص الدالة على شرف الصلاة الخاشعة وجليل منزلتها وأنها ترفع الإنسان درجات وتغفر له ذنبه، روى مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) [مسلم:228]. وفي حديث عمرو بن عنبسة الطويل: ((فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه)) فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله صلى اللهم عليه وسلم فقال له أبو أمامة: يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول في مقام واحد يعطى هذا الرجل؟ فقال عمرو: يا أبا أمامة لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وما بي حاجة أن أكذب على الله ولا على رسول الله، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبداً، ولكني سمعته أكثر من ذلك. [مسلم:1374]. وأصل الخشوع هو خشوع القلب:فإذا خشع القلب خشعت الجوارح كلها، لذا لما رأى عمر بن الخطاب رجلاً يعبث في صلاته قال: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه). أما الناس اليوم فهم عكس ذلك تماماً بل صدق فيهم قول رسول الله : ((إن أول ما يرفع عن الناس الخشوع)) فتجد البعض يأتي أثناء صلاته بحركات كثيرة ، كأنه ليس في صلاة ، فيتمايل جسمه من جانب إلى جانب ، ويحك يديه ، وينظر في ساعته ، ويعدل من عقاله أو غترته ، أو يقرقع بين أصابعه ، أو يقدم إحدى رجليه عن الصف وما إلى ذلك ، إن المصلي يعلم يقيناً أنه إذا وقف أمام الله في الصلاة فهو في موقف لا ينبغي أن يتهاون فيه أو يلتفت إذن لابد أن تقف خاشعاً متذللاً بين يدي الله حال الصلاة فلا التفات ولا انشغال بشيء غير الصلاة، ومن أراد الخشوع في صلاته فعليه بالأمور التالية : أولاً: الاستعداد لوقت الصلاة مبكراً. فلو توضأت مبكراً وجئت إلى المسجد مبكراً فصليت السنة بتدبر ووعي وقرأت شيئاً من القرآن فإنك ستشعر بلذة العبادة وستخشع في صلاتك. ثانياً:العلم بالصلاة وواجباتها وسننها وشروطها وأركانها وبما يبطلها:هذا أمرهام، وهذا لا يكون إلا بتعلم العلم ، ولو بقراءة كتب عن الصلاة ، وإن أكثر الناس يصلون اليوم لأنهم وجدوا آباءهم يصلون فقلدوهم، أو وجدوا الناس يصلون ففعلوا مثلهم ، لكن هلا سألوا أنفسهم: هل هذه الصلاة التي نصليها هي الصلاة التي أمرنا بها الله؟ وإن النبي قال ((من توضأ كما أمر وصلى كما أمر غفر له ما تقدم من عمل ) رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه وقال الألباني : صحيح .)) الأمر الثالث:معرفة عظمة الله بأسمائه وصفاته والخوف من لقائه والوقوف بين يديه. الأمر الرابع:الإكثار من قراءة القرآن الكريم مع تدبر معانيه ، وتدبر معاني الكلمات التي تتعلق بالصلاة كالفاتحة والتكبير والتحميد والتسبيح والأدعية.ومعرفة معناها وفهمها، وهذا شيء مهم جداً للخشوع، ولا تدري كيف يريد الإنسان أن يخشع مع الكلام الذي يقول وهو لا يفهمه أصلاً. وعليه لو خصص كل منا يومياً جزءا من الوقت لقراءة القرآن وتفسيره والتدبر فيه لتغيرت أحوالنا ولخشعنا في قراءتنا للقرآن وفي أدائنا للصلاة، ولحصلنا على السعادة في الدنيا والآخرة. الأمر الخامس:ومما يساعد على الخشوع في الصلاة تذكر الموت دائماً لذا يقول : ((اذكر الموت في صلاتك فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته فحري أن يحسن صلاته)). [رواه الديلمي صحيح الجامع ح842]. لأن الإنسان إذا تذكر الموت ، وعرف أن الموت يمكن أن يفاجئه قبل أن يصلي مرة أخرى ، فلعل هذا يدفعه إلى تحسين صلاته التي يصليها لأنها ربما كانت أخر صلاة له لذا قال مؤكداً على ذلك ((صل صلاة مودع))الإمام أحمد. الأمر السادس : الاقتداء بالخاشعين وعلى رأسهم سيد الخاشعين ، وكان من كمال خشوعه أنه كان يقول : ((جعلت قرة عيني في الصلاة)). ويتلذذ بقراءة القرآن فيها حتى جاء عنه يقوم الليل بالصلاة على آية واحدة فقط كذلكم الصحابة تعلموا من النبي العظيم كيف يخشعون في صلاتهم ويخضعون فيها لله رب العالمين ً كان علي بن أبي طالب إذا حضر وقت الصلاة ارتعدت فرائصه وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال:جاء وقت الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، فلا أدري أأحسن أداء ما حملت أم لا؟. وعن علي بن المنكدر قال:رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة .. الريح وحجر المنجنيق يقع ههنا وههنا وهو لا يبالي. قال الأعمش: كان ابن مسعود إذا صلى كأنه ثوب ملقى.. وقال أحمد بن سنان: ما رأينا عالماً قط أحسن صلاة من يزيد بن هارون، يقوم كأنه اسطوانة.قال سعيد بن المسيب: ما دخل علي وقت صلاة إلا وقد أخذت أهبتها، ولا دخل علي فرض إلا وأنا إليه مشتاق. ولقد كان السلف رحمهم الله يحاسبون أنفسهم على الخشوع حساباً شديداً، ويعدون الغفلة في الصلاة والسهو فيها أمراً جللاً حتى لقد قيل لعامر بن عبد قيس: هل تحدثك نفسك بشيء من أمور الدنيا في الصلاة؟ فقال: لأن تختلف الأسنّة فيّ أحب إلي من أن أجد هذا. فتأمل يأيها المصلي ما تقدم وأعمل فيه فكرك وقلبك ثم عد من بعد إلى صلاتك لتقيسها بهذا الميزان الذي لا يكذب، قال الحسن: مثل الصلاة المكتوبة كمثل الميزان، من أوفى استوفى [الترغيب:761]. فزن صلاتك أيها الحبيب وانظر أين ستكون حينئذ صلاتك؟ سؤال يحتاج إلى جواب صريح وإن كانت الصراحة مرة في بعض الأحيان فاتقوا الله – عباد الله – في صلاتكم فإنها عمود الإسلام، وتنهى عن الفحشاء والاثام، وهي آخر ما أوصى به النبي – - عند خروجه من الدنيا ، ولنراجع أنفسنا ونبحث عن أسباب عدم الخشوع فنجتنبها ونبحث عن ما يجلب الخشوع في صلاتنا وفي عبادتنا فنصنعه. أيها المسلمون: إن التأمل في أسرار الصلاة وفوائدها مما يسهل على العبد أداءها ويجعله متلذذا بها، كما قال النبي : ((جُعِلت قرة عيني في الصلاة )) وقد قال الله تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة الا على الخاشعين [البقرة:45]، وقال تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر [العنكبوت:45]. لكن حينما يغفل العبد عن فوائد الصلاة واسرارها تصبح ثقيلة عليه. واذا دخل فيها كأنه في سجن حتى يخرج منها. ولهذا تكثر حركاته وهواجسه ويسابق الامام. ومن كان كذلك فإنه يخرج من صلاته بلا فائدة، ولا يجد رغبة في الدخول فيها وانما يصلي من باب العادة أو المجاملة. قال ابن الجوزي رحمه الله: ينبغي للمصلي أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة فإذا سمع نداء المؤذن فليمثل النداء يوم القيامة ويشمر للإجابة فليذكر عورات باطنه وفضائح سره التي لا يطلع عليها إلا الخالق ويكفرها الندم والخوف والحياء فإذا استعذت فاعلم أن الإستعاذة هي ملجأ إلى الله سبحانه فإذا لم تلجأ بقلبك كان كلامك لغواً، وأحضر التفهم بقلبك عند قولك: الحمد لله رب العالمين واستحضر لطفه عند قولك: الرحمن الرحيم وعظمته عند قولك: مالك يوم الدين، واستشعر في ركوعك التواضع وفي سجودك الذل لأنك وضعت النفس موضعها ورددت الفرع إلى أصله بالسجود على التراب الذي خلقت منه، واعلم أن أداء الصلاة بهذه الشروط سبب لجلاء القلب من الصدأ وحصول الأنوار التي تتلمح بها عظمة المعبود سبحانه اللهم اجعلنا من المفلحين الذين هم في صلاتهم خاشعون واجعلنا من المخلصين المقبولين الذين أحسنوا صلاتهم فنهتهم عن الفحشاء والمنكر، اللهم أذقنا لذة المناجاة وحلاوة الإيمان واشرح صدورنا لطاعتك ونور بصائرنا بالإيمان والقرآن، اللهم صلي على محمد وآله وصحبه أجمعين.

"

كما أن الخشوع هو العلم الحقيقي؛ قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث أبي الدرداء في فضل طلب العلم: روي عن عبادة بن الصامت وعوف بن مالك وحذيفة رضي الله عنهم أنهم قالوا: (أول علم يرفع من الناس الخشوع حتى لا ترى خاشعاً).

وساق أحاديث أخر في هذا المعنى، ثم قال: ففي هذه الأحاديث أن ذهاب العلم بذهاب العمل، وأن الصحابة رضي الله عنهم فسروا ذلك بذهاب العلم الباطن من القلوب وهو الخشوع. وقد ساق محقق الكتاب للأثر السابق عدة طرق وقال: إنه يتقوى بها.

فالصلاة إذاً صلة بين العبد وربه، ينقطع فيها الإنسان عن شواغل الحياة، ويتجه بكيانه كله إلى ربه، يستمد منه الهداية والعون والتسديد، ويسأله الثبات على الصراط المستقيم، ولكن الناس يختلفون في هذه الصلاة، فمنهم من تزيده صلاته إقبالاً على الله، ومنهم من لا تؤثر فيه صلاته إلى ذلك الحد الملموس، بل هو يؤديها بحركات وقراءة وذكر وتسبيح، ولكن من غير شعور كامل لما يفعل، ولا استحضار لما يقول. والصلاة التي يريدها الإسلام ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح، بلا تدبر من عقل ولا خشوع من قلب. ففي سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : { إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة؟ ثم تكون سائر أعماله على هذا }.

ولما يعانيه كثير من الناس من قلة الخشوع في الصلاة، فقد رأينا أن نلتمس بعض الأسباب التي تعيدنا إلى الصلاة الحقيقية التي توثق صلتنا بربنا عز وجل وهي صلاة القلب والجوارح وتذللها لله تبارك وتعالى. وقد امتدح الله عز وجل أهل هذه الصفة من المؤمنين حيث قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].

ولعلنا بعد ما تقرأ قوله سبحانه: إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [العنكبوت:45] نسأل أنفسنا ما بال الكثيرين منا يخرجون من صلاتهم، ثم يأتون بأفعال وأمور منكرة، شتان بينها وبين ما تتركه صلاة الخاشعين الأوابين من أثر على أصحابها، الذي يخرج أحدهم من صلاته وهو يحس بأن كل صلاة تغسل ما في قلبه من أدران الدنيا وتقربه إلى الله عز وجل.



أسباب الخشوع:

إذاً فلابد من أسباب لحصول الخشوع، ولا ريب أن هناك خللاً ونقصاً في أدائنا للصلاة، ولعلنا في هذه العجالة نستعرض بعض الأسباب المعينة - بإذن الله - على الخشوع في الصلاة وهي:

1- الإيمان الصادق والاعتقاد الجازم بما يترتب على الخشوع من فضل عظيم في الدنيا والآخرة، من الإحساس بالسكون والطمأنينة وراحة لا مثيل لها، وطيب نفس يفوق الوصف. قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، وروى مسلم عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله يقول: { ما من امرىء مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله } والآيات والأحاديث الدالة على فضل الخشوع كثيرة.

2- الإكثار من قراءة القرآن والذكر والاستغفار وعدم الإكثار من الكلام بغير ذكر الله، كما في الحديث: { لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب! وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي } [رواه الترمذي] فقراءة القرآن وتدبره من أعظم أسباب لين القلب قال تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23] فالقراءة والذكر حصن من الشيطان ووساوسه، وهي سبب لأطمئنان القلوب الذي يفقده الكثير من الناس، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] كما أن الإكثار من ذكر الله عز وجل سبب للفلاح، قال تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10] وليس المقام لبيان فضل الذكر، ولكن أردنا التنويه إلى أنه سبب من أسباب الخشوع، ومن يريد معرفة ذلك – فضل الذكر - فعليه الرجوع إلى كتاب الله والأذكار التي تثبت عن النبي .

ومع هذا أيضاً الحرص على مجاهدة الشيطان، وذلك بأن يعقد العزم على مجاهدته من قبل القيام إلى الصلاة، وإن دخل عليه في أول صلاته فلا يستسلم له في وسطها أو آخرها، بل ينبغي أن يجاهد الشيطان حتى اللحظة الأخيرة من الصلاة، فالشيطان يسعى إلى تشتيت الذهن حتى لا يعقل المصلي شيئاً من صلاته، روى مسلم عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: { يا رسول الله، إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وبين قراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله : "ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً"، ويقول راوي الحديث: ففعلت ذلك فأذهبه الله عز وجل عني }.

إذاً فينبغي أن يستمر المصلي في المجاهدة ولا ينقطع بأن يشمر عن ساعد الجد، فإذا لم يخشع في هذه الصلاة فليعقد العزم على الخشوع في الأخرى، وإن قل خشوعه في هذه فليحرص على كمال الخشوع في التي تليها، وهكذا ولا يتضجر من طول المجاهدة، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يعينه على ذلك.

3- دوام محاسبة النفس ولومها على ما لاينبغي من الاعتقاد والقول والفعل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر).

وأيضاً البعد عن المعاصي بصرف النظر عما يحرم النظر إليه، وكذا حفظ اللسان والسمع وسائر الجوارح وإشغالها بما يخصها من عبودية، وصرفها بالنظر في كتاب الله وسنة رسوله والكتب العلمية المفيدة، وما يباح النظر إليه، والتفكير في مخلوقاته سبحانه وتعالى، والاستماع إلى الطيب من القول، والتحدث في المفيد، فلاشك أن الذنوب تقيد المرء وتحجزه عن أداء العبادات على الوجه المطلوب، فكل إنسان يعرف ما هو واقع فيه من الذنوب وعليه أن يسعى في إصلاح حاله، والإصلاح متعلق بمحاسبة النفس، حيث إن المرء إذا حاسب نفسه بحث عما يصلحها.

4- تدبر وتفهم ما يقال في الصلاة وعدم صرف النظر فيما سوى موضع السجود مستشعراً بذلك رهبة الموقف، يقول الإمام ابن القيم في الفوائد: (للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف)، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً، إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً [الإنسان:26-27].

فلابد من إعطاء هذا الموقف حقه من خضوع وخشوع وانكسار إجلالاً لله عز وجل، واستشعاراً بأن هذه الصلاة هي الصلاة الأخيرة في الدنيا، فلو استقر هذا الشعور في نفس المصلي لصلى صلاة خاشعة. روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى النبي فقال: { يا رسول الله عظني وأوجز، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تكلم بكلام تعذر منه غداً، واجمع اليأس مما في أيدي الناس" }.


وأيضاً هناك أسباب أخرى للخشوع نذكر منها:

  • الهمة: فإنه متى أهمك أمر حضر قلبك ضرورة، فلا علاج لإحضاره إلا صرف الهمة إلى الصلاة، وانصراف الهمة يقوي ويضعف بحسب قوة الإيمان بالآخرة واحتقار الدنيا.
  • إدراك اللذة: التي يجدها العباد في صلاتهم وهي التي عبر عنها ابن تيميه رحمه الله بقوله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.

ولا تظن أن مسلماً وجد هذه اللذة وذاق طعمها يفرط فيها ويتساهل في طلبها. وهذه اللذة وذاق طعمها يفرط فيها ويتساهل في طلبها. وهذه اللذة كما قال ابن القيم رحمه الله تقوى بقوة المحبة وتضعف بضعفها. لذا ينبغي للمسلم أن يسعى في الطرق الموصلة إلى محبة الله.

  • التبكير إلى الصلاة: وذلك بأن يهيأ القلب للوقوف أمام الله عز وجل، فينبغي للمسلم أن يأتي إلى الصلاة مبكراً ويقرأ ما تيسر من القرآن بتدبر وخشوع، فذلك أدعى للخشوع في الصلاة، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: { لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه.. } الحديث. وفرق بين شخص جاء إلى الصلاة من مجلس كله لغو وحديث في الدنيا، وبين شخص قام إلى الصلاة وقد هيأ قلبه للوقوف أمام الله لما قرأه من كلام الله عز وجل، فلاشك أن حال الثاني مع الله أفضل من الأول بكثير.
  • أن يستحي العبد من الله أن يتقرب إليه عز وجل بصلاة جوفاء خالية من الخشوع والخوف، فالشعور بالاستحياء من الله يدفع المسلم إلى إتقان العبادة والتقرب إلى الله بصلاة خاشعة فيها معاني الخوف والرهبة.
  • أن يدرك المسلم حال الصحابة والسلف في الصلاة، فقد ذكر ابن تيميه رحمه الله أن مسلم بن يسار كان يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه وقام الناس، وهو في الصلاة لم يشعر. وكان عبدالله بن الزبير يسجد، فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه، وهو في الصلاة لا يرفع رأسه، وقالوا لعامر ابن عبدالقيس: أتحدث نفسك بشيء في الصلاة؟ فقال: أو شيء أحب إلي من الصلاة أحدث به نفسي؟ قالوا: لا، ولكن بأهلينا وأموالنا، فقال: لأن تختلف الألسنة (الرماح) في أحب إلي من أن أحدث نفسي بذلك. وأمثال هذا متعدد.

تلك بعض الأسباب المعينة – بإذن الله – على الخشوع في الصلاة، والله نسأل أن يعيننا على طاعته عز وجل على الوجه الذي يرضيه عنا.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

وصلات خارجية