العمارة القوطية

(تم التحويل من عمارة قوطية)
The western façade of Reims Cathedral, فرنسا.
كاتدرائية كولونيا المبنية على الطراز القوطي

العمارة القوطية كلمة أطلقت على هذا الفن المعماري في أواخر القرون الوسطى وبخاصة من منتصف القرن الثاني عشر الميلادي إلى نحو عام 1400. نشأ اسم قوطي مع مثقفي النهضة الإيطالية المعروفين بالإنسانيين وينسب إلى قبائل القوط الجرمانية التي اجتاحت إيطاليا في القرن الخامس الميلادي. ويعتبر الإنسانيون فن القرون الوسطى من إنتاج القوط الهمج.

Parts of the Gothic cathedral (Notre-Dame de Chartres). Click on the picture to enlarge it.

يقترن الطراز القوطي بعصر إنشاء الكنيسة في أوروبا الشمالية. ويتسم هذا الطراز غالبًا بطرق إنشائية معينة كالأقواس البارزة والعقود المعمارية المضلّعة والدعائم الطائرة (الأكتاف)، إلا أن كلاً من الأقواس البارزة والقناطر المضلّعة كانت موجودة في الطراز الرومانسكي الذي كان منتشرًا خلال القرن الحادي عشر وبداية القرن الثاني عشر الميلادي. والفرق بين الطراز الرومانسكي والطراز القوطي هو طريقة توفير المساحة. ففي الطراز الرومانسكي تتحقق المساحة بوساطة جميع الفسحات بين الأعمدة وحدة وحدة لتكوين المساحة الكلية، بينما تتحقق المساحة في الطراز القوطيّ كمساحة إجمالية مقسمة إلى وحدات.

Bad Doberan Münster is in colourful brick, 1386.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

التأثير الشرقي

The influence of Islamic architecture on the Gothic can be most clearly seen in Spain, as here at Salamanca Cathedral.
The ambulatory at the Abbey of Saint-Denis.


Abbot Suger

The structure of a typical Gothic cathedral.

Characteristics of Gothic churches and cathedrals

Salisbury Cathedral has the tallest spire in England.

الارتفاع

The Gothic east end of Cologne Cathedral represents the extreme of verticality. (nave, dating to the 19th century).

Majesty

The façade of Ripon Cathedral presents a composition in untraceried pointed arches.

Flamboyant arch

الرمزية والزخرفة

The Royal Portal of Chartres Cathedral.

الفروق الإقليمية

Interior of Coutances Cathedral, France.

نشوء العمارة القوطية وارتقاؤها

يمكن تعريف هندسة العمارة القوطية بأنها حصر ضغط البناء في أماكن خاصة، وتوازن هذا الضغط، وتوكيد الخطوط الرأسية،والقباب المضلعة، والأشكال المستدقة. وقد نشأ هذا الفن عن طريق حل المشاكل الآلية التي أوجدتها حاجة المباني الكنسية والأماني الفنية.ذلك أن خوف احتراق البناء أدى إلى إقامة القباب من الحجارة والآجر، وأن ازدياد ثقل السقف أوجب بناء الجدران السميكة والعامات السمجة، ووجود الضغط السفلي في كل مكان حدد سعة النوافذ، وأن الجدران السميكة ظللت النوافذ الضيقة، ولهذا أصبح داخل الكنيسة شديد الظلمة لا يتناسب مع جو البلاد الشمالية. وقد قلل اختراع القبة المضلعة ثقل السقف فأمكن بذلك إقامة العمد الرفيعة، وحصر التوتر في أماكن محددة، كما أن تركيز الضغط وتوازنه قد أكسبا البناء استقراراً من غير زيادة في الثقل، وحصر الارتكاز بطريق المساند قد سمح بوجود نوافذ طويلة في الجدران القليلة السمك، وكانت النوافذ مجالاً مغرياً لممارسة فن الزجاج الملون الذي كان موجوداً في ذلك الوقت، كما أن الإطارات الحجرية التي تعلو النوافذ المركبة قد شجعت على قيام الفن الجديد في النقوش الغائرة أو الرسوم السطحية، وجعلت عقود القباب مستدقة ليمكن إيصال العقود ذات الأطوال المختلفة إلى تيجانها بارتفاع واحد لها جميعاً، ثم جعلت العقود الأخرى وأشكال النوافذ مستدقة كذلك لتكون متناسقة مع عقود القبة. ولما تحسنت طرق احتمال الضغط على هذا النحو أمكن زيادة ارتفاع صحن الكنيسة، وأبرزت الأبراج الكبيرة، وأبراج الأجراس الرفيعة، والعقود المستدقة أهمية الخطوط الرأسية وأنتجت ما يمتاز به الطراز القوطي من علو شامخ ورشاقة تبعث البهجة في النفوس. هذه الخصائص مجتمعة جعلت الكثدرائية القوطية أعظم ما أنتجته النفس البشرية وأجل ما عبرت به عن مشاعر.

لكننا نعدو طورنا إذا ادعينا أن في وسعنا أن نفرغ من وصف تطور العمارة في فقرة من فصل، ذلك أن بعض خطوات من هذا التطور جديرة بالبحث الهادئ على مهل. مثال ذلك أن مشكلة التوفيق بين الرشاقة الرفيعة والصلابة المستقرة قد حلتها العمارة القوطية أحسن مما حلها أي فن معماري قبل وقتنا الحاضر، ولسنا نعرف إلى متى يستطيع تحدينا لقوة الجذب أن ينجو من قدرة الأرض على تسوية لأعلاها بأسفلها. على أن المهندس القوطي لم يصب التوفيق والنجاح على الدوام، فإن تكن كنيسة تشارتر لا تزال قائمة سليمة من الشروخ، فإن موضع المرنمين في كثدرائية بوفيه تهدم بعد اثني عشر عاماً من بنائه، ولقد كان أهم ما يمتاز به الطراز القوطي هو الأضلاع في أجزاء البناء المختلفة: أضلاع العقود المستعرضة والممتدة على طول أقطارها، والتي ترتفع من كل فرجة بين أعمدة صحن الكنيسة، وتجتمع لتكون شبكة خفيفة رشيقة يمكن أن ترتكز عليها قبة رقيقة من البناء. وقد أضحت كل فرجة في الصحن وحدة بنائية قائمة بذاتها تتحمل الثقل والدفع الناشئين من العقود القائمة على دعاماتها، واللذين تساعد على تحملها ضغوط أخرى مقابلة لما تحدثها الفرجات المقابلة لهما في طرقات البناء وضغوط المساند الخارجية المركبة على الجدران في النقط التي يبدأ منها كل عقد مستعرض.

والمساند استنباط قديم، فقد كان لكثير من الكنائس التي شيدت قبل عهد القوط عمد مبنية تضاف إليها من خارجها عند النقط التي يقع عليها ضغط خاص. على أن الدعامات التي تصل جدران الأجزاء الداخلية والوسطى من البناء بالدعامات الرأسية للجدران الخارجية تنقل الدفع أو التوتر فوق فراغ إلى مسند عند القاعدة وإلى الأرض. وقد كانت بعض الكثدرائيات النورمندية تستخدم في البواكي التي بين الصحن والطرقات الجانبية أنصاف عقود تدعم عقود الصحن، غير أن هذه المساند الداخلية تصل جدران الصحن في نقطة منخفضة لا تهب القوة للطبقة العليا المضيئة التي يكون ضغط القبة عليها بالغ الشدة، والتي يعرضها هذا الضغط إلى الانهيار. ولهذا فإن تقوية البناء في هذه النقط العالية كان يحتم إخراج المساند من مخابئها، وإقامتها فوق الأرض الصلبة والانتقال بها في الفراغ فوق سقف الممشى لتدعم بذلك جدار الطبقة العليا المضيئة مباشرة. وكان أقدم ما عرف من استخدام هذا النوع من المساند في كثدرائية نويون Noyon حوالي عام 1150(7)، ولم يختتم ذلك القرن حتى أضحت من الاختراعات المحببة. على أنها لم تكن تخلو من أخطاء ذات خطورة: فقد كانت في بعض الأحيان توحي إلى الناظر بأنها هيكل بنائي، أو محالات أهملت إزالتها؛ أو مهرب لجأ إليه المصمم فيما بعد لأن بناءه هبط من وسطه، وأن "للكثدرائية عكازات" كما يقول ميشليه Mihcelet. ولهذا نبذ عصر النهضة هذا الضرب من المساند ورآها حواجز قبيحة المنظر، واخترع أساليب أخرى لحل أثقال قبة القديس بطرس. لكن المهندس القوطي كان على غير هذا الرأي، فقد كان يجب أن يعرض على الأنظار خطوط فنه وحيله الآلية، وقد أولع بالمساند ولعله ضاعف عددها من غير حاجة إلى هذا التضعيف، وجعلها مساند مركبة حتى تدعم بذلك البناء في نقطتين أو أكثر من نقطتين، أو تدعم إحداهما الأخرى، ثم جمل الدعامات التي تعمل على استقرارها بما أضافه إليها من "الشماريخ" . وأثبت أحيانا - في ريمس - أن مَلكا واحداً في القليل يستطيع الوقوف على قمة الشمروخ.

وكان توزيع التوتر أعظم أهمية في العمارة القوطية من العقد المستدق، ولكن هذا العقد أصبح هو السمة الخارجية الظاهرة للرشاقة الداخلية. وكان العقد المستدق هذا من الأشكال القديمة، فهو يظهر في ديار بكر بتركيا مقاماً فوق عمد رومانية لا يعرف لها تاريخ، وأقدم مثل له معروف التاريخ في قصر اين وردان ببلاد مشام، ويرجع تاريخه إلى عام 561(6)، ويوجد هذا الشكل في قبة الصخرة في المسجد الأقصى ببيت المقدس، وهو من مباني القرن السابع، كما يوجد في مقياس للنيل بمصر أنشئ في عام 879، وكثيراً ما كان يقينه الفرس؛ والعرب، والأقباط، والمغاربة المسلمون قبل أن يبدأ ظهوره في أوربا الغربية في النصف الثاني من القرن الحادي عشر(9). ولعلة جاء إلى فرنسا الجنوبية من أسبانيا الإسلامية، ولعله جاء به الحجاج العائدون من بلاد الشرق، أو لعله نشأ في بلاد الغرب من تلقاء نفسه ليحل مشاكل آلية في تصميم العمارة. على أننا يجب أن نلاحظ أن مشكلة الوصول بعقود ذات أطوال مختلفة إلى تاج مستو يمكن أن تحل من غير الالتجاء إلى العقد المستدق، وذلك بتعلية النقطة التي يبدأ عندها من العامة أو الجدار في الداخل. وقد كان لهذه الطريقة أيضاً أثرها الجمالي لأنها تبرز الخطوط الرأسية، ولهذا استخدمت على نطاق واسع، وقلما كانت تتخذ بديلا من العقد المستدق بل كانت كثيرة الاستعمال مع هذا العقد لتقوية ومساعدته على أداء وظيفته. وحل العقد المستدق مشكلة أخرى: ذلك أنه لما كانت الطرقات الجانبية أضيق من صحن الكنيسة فإن فرجة الطرقة كان يزيد طولها على عرضها، ولهذا فإن تيجان عقودها المستعرضة تكون أقصر كثيراً من عقود قطريها، إلا إذا كانت العقود المستعرضة مستدقة أو إذا رفعت النقطة التي تبدأ عندها هذه العقود من الداخل ارتفاعاً يحول بين تناسقها مع القطرين. وقد كان العقد المستدق حلا لتلك العملية الصعبة عملية إقامة قبة من عقود ذات تاج مستو على ممشى القبا، حيث يكون الجدار الخارجي أطول من الجدار الداخلي، وحيث تكون كل فرجة شبه منحرف لا يمكن تصميم قبته تصميما مقبولا بغير العقد المستدق. ومما يدل على أن هذا الشكل لم يستخدم فيها لرشاقته في أول الأمر كثرة المباني التي استخدم فيها لحل تلك المشكلات، مع أن العقود المستديرة ظلت تستخدم في النوافذ ومداخل الأبنية في الوقت عينه. ثم انتصر العقد المستدق تدريجياً لارتفاعه العمودي، وقد يكون للرغبة في تناسق الشكل أثر في هذا الانتصار. وإن التسعين عاماً من الكفاح المتواصل بين العقد المستدير والعقد المستدق-أي منذ ظهور العقد المستدق في الكثدرائية الرومنسية بدرهام (1104) إلى البناء النهائي لكثدرائية تشارتر (1194)- لهي فترة الانتقال إلى هذا الطراز المعماري في الهندسة القوطية الفرنسية.

وقد أوجد استخدام العقد المستدق في النوافذ مشاكل جديدة، وحلولا لها جديدة، ومفاتن جديدة، فقد قضى نقل التوتر عن طريق الأضلاع من القبة ومن العائم إلى نقط خاصة في البناء تدعمها سنادات، قضى هذا على حاجته إلى الجدران السميكة. ذلك بان المكان الذي بين كل نقطة ارتكاز والنقطة التي تليها، لم يكن يتحمل إلا ضغطا قليلا نسبيا؛ وإذن فقد كان من المستطاع جعل الجدار بين النقطتين رفيعاً، بل إن من المستطاع إزالته. وكان ملء هذا الفراغ الكبير بلوح واحد من الزجاج غير مأمون العاقبة، ولهذا قسم هذا إلى نافذتين مستدقتين (مقصدين) أو أكثر من نافذتين يعلوهما عقد من الحجارة. وبهذا أصبح الجدار الخارجي سلسلة من العقود أو البواكي شأنه في ذلك شأن صحن الكنيسة. وقد كان "الدرع" البنائي ذو الأربع القمم المتروك بين الأطراف العليا للنوافذ المزدحمة والمستدقة وبين قمة العقد الحجري المحيط بهذه النوافذ كان هذا الدرع فراغا قبيح المنظر يتطلب الزخرف. وقد حقق المهندسون الفرنسيون حوالي عام 1170 هذا المطلب بلوحات من النقوش الخطية: فقد ثقبوا الدرع بحيث يتركون فيه قضباناً حجرية أو فواصل ذات أشكال زخرفية- مستديرة، أو مسننة أو منتفخة، ثم ملأوا الفجوات والنوافذ بالزجاج الملون. وعمد المثالون في القرن الثالث عشر إلى قطع أجزاء مطردة الزيادة من الحجارة؛ ووضعوا في الفتحات قضباناً حجرية صغيرة منحوتة على صورة أقداح أو غيرها من الأشكال. وأخذت أشكال هذه الحلي التي على شكل العصي تزداد كل يوم تعقيداً، ونشأت من هذا التعقيد طرز وعصور من العمارة القوطية أخذت أسماؤها من الخطوط الرئيسية في هذه الزخارف: كالعقد الرمحي، والطراز الهندسي، والمستدير، والعمودي، والكثير الألوان. وأنتجت عمليات أخرى شبيهة بهذه العمليات وطبقت على سطوح الجدران فوق مداخل البناء. أنتجت ما يسمى"بالنوافذ الوردية" على الطراز الذي بدأ في كنيسة نتردام عام 1230، وبلغ درجة الكمال في كنيستي ريمس، وسانت شابل Sainte Chabelle. وما من شيء يفوق جمال النوافذ "الوردية". في الكثدرائيات القوطية سوى العقود العليا التي في القبة.

وانتقلت الزخارف الخطية، بمعناها الواسع، أي ثقب الحجارة بأشكال زخرفية من أي نوع كان، من الجدران إلى غيرها من أجزاء الكثدرائية القوطية- إلى شماريخ المساند، وإلى السقف الهرمية التي فوق المداخل، وإلى "بطنيات" العقود، والأجزاء المثلثة المحصورة بين كل اثنين منها، وإلى البواكي التي تعلو العقود بين الصحن والطرقات الجانبية، وإلى ستائر المعبد، والمنبر والحظار الزخرفي الذي خلف المذبح، ذلك أن المثال القوطي، لابتهاجه بفنه، قلما كان يمس سطحاً دون أن يزخرفه، ولهذا كان يزحم واجهات المباني، والطنف، والأبراج، بصور الرسل والشياطين، والأولياء؛ والناجين والملعونين. وصور ما يمليه عليه خياله تيجاناً للعمد، ورفارف للزينة، وحليات من خشب أو حجارة، وعتبات للأبواب والنوافذ العليا، وحليات شبكية، وقوائم أكتاف الأبواب والنوافذ. وكان يمثل بالحجارة ضحكة مع الحيوانات العجيبة والمرعبة التي ابتدعها خياله لتكون ميازيب تبعد المطر الذي يلوث المباني عن الجدران، أو تجره إلى الأرض خلال المساند. ولم تجتمع في غير هذا الفن الثروة، والمهارة، والتقى، والفكاهة العارمة، لتوجد مثل هذه الكثرة من الزخارف التي تتكشف عنها الكثدرائية القوطية. ولسنا ننكر أن هذه الزخارف كانت في بعض الأحيان مسرفة في كثرتها، وأن الخطوط الزخرفية قد أسرف فيها إسرافاً جعلها هشة، وأن التماثيل وتيجان العمد كانت بلا ريب براقة بطلائها الذي محاه كر الدهور. ولكن هذه هي سمات الخصوبة الحيوية التي تكاد تغتفر معها كل الخطاء. ولقد يلوح لنا ونحن نجول بين هذه الآجام والحدائق الحجرية أن الفن القوطي كان ، على الرغم من خطوطه وأبراجه الرفيعة الشامخة، فنا مغرما بالأرض، فنحن نستشف بين أولئك القديسين الذين ينادون بباطل، الأباطيل، وهول يوم الحساب القريب، صورة فنان العصور الوسطى، المعجب بحذقه، المبتهج بقوته، الساخر من اللاهوت والفلسفة، الذي يستمتع بشرب كأس الحياة المترعة ذات الحبب حتى الثمالة.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الطراز القوطي الفرنسي (1133-1300)

الطراز القوطي لم يبدأ من لاشيء، بل إن تقاليد تبلغ المائة عداً قد اجتمعت كلها لتمهد له السبيل: الباسلكا الرومانية، والعقود، والقباب، والطبقات العليا ذات النوافذ، وموضوعات الزخرف البيزنطية، والعقد الستيني الأرمني، والسوري،والفارسي، والمصري، والعربي، والقباب ذات الزوايا المتقاطعة، والدعامات المتجمعة، والأساليب الغريبة، والنقوش العربية، والقباب المضلعة، وأبراج الواجهات، والنزعة الألمانية لما هو فكه أو شاذ غريب.. ولكن لم اجتمعت هذه المؤثرات كلها في فرنسا؟ لقد كان في وسع إيطاليا التي امتازت بين بلدان غربي أوربا بثرائها وتراثها أن تحمل لواء ازدهار الفن القوطي، ولكنها كانت سجينة في تراثها القديم. لقد كانت فرنسا، بعد إيطاليا، أغنى أمم الغرب وأكثرها تقدماً في القرن الثاني عشر، وكانت هي التي قدمت للحروب الصليبية أكثر الأموال والرجال، والتي أفادت من حوافزها الثقافية، وكانت هي التي تزعمت أمم أوربا في التعليم، والآداب، والفلسفة، وكان العالم يعترف بأن صناعها أمهر الصناع في الناحية الغربية من بيزنطة وقبل أن يجلس على عرشها فليب أغسطس (1180-1223)، كانت السلطة الملكية قد انتصرت على نزعة التفكك الإقطاعية، وكان رخاء فرنسا وقوتها، وحياتها العقلية قد أخذت تتجمع في أملاك الملك الخاصة- وهي الأملاك المعروفة بجزيرة فرنسا، والتي يمكن تحديدها تحديداً غير دقيق بالإقليم الممتد عند مجرى السين الأوسط. وكانت فيها تجارة رابحة رائجة تنتقل في أنهار السين والواز Oise، والمارن، والأبن Aisns، وتخلف وراءها ثروة استحالت حجارة في الكثدرائيات التي شيدت في باريس، وسانت دنيس، وسنليس Senlis، ومانت Mantes، ونوايون Noyen، وسواسون Soissons، ولاؤون، وأمين، وريمس. وأخصب المال التربة التي نما فيها الفن.

كانت أولى روائع طراز عهد الانتقال هي كنيسة دير سانت دنيس في ضاحية باريس المسمات بهذا الاسم. وكانت هذه الآية من عمل أكمل الشخصيات وأكثرها توفيقاً في التاريخ الفرنسي. لقد كان سوجر (1081-1151) رئيس أحد الأديرة البندكتية، ونائب الملك في فرنسا، رجلاً حسن الذوق، لم تمنعه بساطة عيشها، يرى أنه ليس من الإثم أن يحب الأشياء الجميلة وأن يجمعها ليزخرف بها كنيسته. ولما أخذ عليه القديس برنار هذا الحب رد عليه بقوله:"إذا كانت الشرائع القديمة قد أمرت أن تستخدم الكؤوس الذهبية في شرب القربان وتلقي دماء الضأن... فإن أولى من هذا أن يخصص الذهب، والحجارة الكريمة، وأندر المعادن لصنع الآنية المعدة لتلقي دم سيدنا"(10). وهو لهذا محدثنا مزهواً عن جمال الذهب والفضة، والجواهر وقطع الميناء، والفسيفساء والنوافذ ذات الزجاج الملون، والثياب والآنية الغالية، التي جمعها أو صنعها لكنيسته، وعما كلفته من مال. ففي عام 1133 جمع الفنانين والصناع "من جميع البلاد" ليشيد ويزين بيتاً جديداً للقديس دنيس شفيع فرنسا، ليكون مقراً لعظام الملوك الفرنسيين. وأقنع لويس السابع ملك فرنسا وحاشيته بتقديم المال اللازم لهذا البناء "فتمثلوا بنا" على حد قوله "وخلعوا الخواتم من أصابعهم" ليقدموا المال اللازم لمشروعه الكثير الأكلاف(11). وفي وسعنا أن نتصوره وهو يستيقظ في الصباح الباكر ليشرف على أعمال البناء، من تقطيع الأشجار التي اختارها ليأخذ منها حاجته من الخشب، إلى تركيب الزجاج الملون الذي اختار له موضوعاته وألف له نقوشه. ولما أن دشن هذا الصرح في عام 1144 قام بهذه العملية عشرون مطراناً، وشهد الحفل ملك فرنسا، وملكتها، ومئات من الفرسان ، وحق لسوجر أن يشعر بأنه نال بهذا العمل تاجاً من أجل تاج أي من الملوك.

ولم يبق في الصرح القائم هذه الأيام إلا أجزاء من كنيسته: وهي الواجهة الغربية، وفرجتان في الصحن، والمصليات التي تعلو على جانب الطرقات، وقبو الكنيسة. أما الجزء الأكبر داخل الكنيسة فهو بناء معاد قام به بيير ده منتريه Pierre de Montreux بين عامي 1231،1281. والقبو من الطراز الرومنسي، أما الواجهة الغربية فتختلط فيها العقود المستديرة والمستدقة، ومعظم تماثيلها المنحوتة من عهد سوجر، وتشمل ما لا يقل عن مائة صورة، كثير منها فردي الطابع، وكلها تدور حول أحسن فكرة عن المسيح القاضي نشاهدها في كل ما أنتجه فن العصور الوسطى.

وبعد اثنتي عشرة سنة من وفاة سوجر كرمه الأسقف موريس دي سلي Maurice de Sully بأن أدخل التحسين على ماتركه من قواعد، وقامت كنيسة نوتردام دي باري Notre Dame de Paris على جزيرة في نهر السين. وإن التواريخ المتصلة ببنائها لتوحي بضخامة العمل الذي استلزمه تشييدها، فقد بنى موضع المرنمين والأجنحة التي على جانب الطرقات بين عامي 1163و182، وبني الصحن من 1182 إلى 1196، وأقيمت الأجزاء التي بين الأعمدة والأبراج فيما بين 1218و1223، وتم بناء الكثدرائية كلها في عام 1235. وكان يقصد في تصميمها الأول أن تكون البواكي القائمة فوق العقود التي بين الصحن والطرقات على الطراز الرومنسي، ولكن البناء كله اتخذ عند إتمامه الطراز القوطي. والوجهة الغربية أكبر مما تتطلبه الكثدرائية القوطية، ولكن سبب هذا أن الشماريخ التي كان في النية إقامتها فوق الأبراج لم تبن قط، ولعل هذا هو منشأ ما في الواجهة من هيبة ذات بساطة وقوة جعلت العلماء الأفذاذ يضعونها في مصاف "أنبل ما أنتجته أفكار الإنسان من آراء في فن المعمار"(12). والشبابيك الوردية في كنيسة نوتردام دي باري آية في النقوش الخطية وجمال التلوين، ولكنها لم يقصد بها أن توصف بالقول أو بالكتابة والتماثيل التي بها، وإن عدا عليها الزمان أو أضرت بها الثورة، تبرز أحسن ما أنتجه الفن بين عصر قسطنطين وبناء كثدرائية ريمس. وقد نحتت في قلب المقص القائم فوق المدخل الرئيسي صور يوم الحساب بتؤدة أعظم مما نقش بها هذا الموضوع الذي نراه في كل مكان، فصورة المسيح هنا ذات جلال هادئ، والملك الذي عن يمينه من أعظم الانتصارات التي أحرزها فن النحت القوطي. وخير من هذا كله صورة عذراء العمود La Vierge de Trumeux القائمة فوق المدخل الشمالي: إن في هذه الصورة لدقة في التنفيذ، وفي صقل السطح الخارجي، وفي الثياب المنسجمة مع الطبيعة، ويسراً جديداً ورشاقة في أوضاع الوقوف، وإلقاء ثقل الجسم على إحدى القدمين، وتحرره بذلك من الوضع العمودي المتصلب. ويكاد فن النحت القوطي يعلل في هذه الصورة الجميلة استقلاله عن فن العمارة وينتج آية خليقة بأن تنتزع مما حولها، وتقام بمفردها تعلن عن فوز هذا الفن. وانتهى في كثدرائية نوتردام دي باري طور الانتقال وحل عصر الفن القوطي.

وتلقى قصة كاتدرائية تشارتر ضوءاً على ما كان عليه موضعها في العصور الوسطى وعلى خصائص تلك العصور. فقد كانت تشارتر بلدة صغيرة في الجنوب الغربي من باريس وعلى بعد خمسين ميلاً منها، على أطراف الممتلكات الملكية. وكابت سوقالسهل بوس Beauce"هنري فرنسا". ولكن قيل إن العذراء نفسها زارت هذا المكان، واتخذها الصالحون من العرج، والمكفوفين، والمرضى، والثاكلين، والثاكلات، مكاناً يحجون إليه، ومنهم من شفي أو نزلت في قلبه الطمأنينة عند ضريحها، وبذلك أضحت تشارتر هي بعينها لورد Lourde. يضاف إلى هذا أن أسقفها فلبير Fulbert، وهو رجل جمع بين الطيبة، والذكاء، والإيمان، قد جعلها في القرن العاشر كعبة للتعليم العالي وأما حنوناً لطائفة من أنبه الشخصيات ذكراً في الفلسفة المدرسية. ولما أن احترقت في عام 1020 كثدرائية فلبير التي شيدت في القرن التاسع، أخذ على عاتقه من فوره أن يعيد بناءها، وطال عمره حتى شاهد تمام هذا البناء. ولما دمرته النار للمرة الثانية في عام 1134، جعل الأسقف ثيودريك إقامة كثدرائية جديدة بمثابة حرب صليبية حقة، فبعث في قلوب الناس من التحمس لإنجاز هذا العمل ما جعلهم يغدقون عليه من المال والجهد ما وصفه شاهد عيان هو هيمون Haimon رئيس أحد الأديرة النورمندية في عام 1144 بقوله:

رأيت الملوك، والأمراء، وذوي القوة والسلطان من رجال العالم المزهوين بألقاب الشرف وبالثراء، والرجال والنساء من أبناء الأسرة الشريفة، رأيت هؤلاء يطوقون أعناقهم المنتفخة المنبئة بالعظمة والكبرياء بالأرسان، ويشدون أنفسهم إلى العربات يجرونها كما تجرها الدواب، وكتل الخشب وما إليها من الأشياء اللازمة لحياة الناس أو لبناء الكنائس... يضاف إلى هذا أن نشاهد تلك لمعجزة تقع في الوقت الذي يجرون فيه العربات: وهي أن ألفاً من الرجال والنساء... يشدون أحياناً إلى حبال العربات... ومع ذلك فإنهم يتقدمون وهم صامتون لا يسمع لهم صوت ولا همس... فإذا وقفوا في الطريق لا تسمع منهم ألفاظاً إلا اعترافاً بخطاياهم... وضراعة ودعاءاً طاهراً... ويعظهم القسيسون ويدعونهم إلى السلام، وتسلى السخائم والأحقاد من الصدور وتزول أسباب الفرقة والانقسام، وينزل الدائنون عن ديونهم وتعود الوحدة إلى الصفوف(13).

ولم تكد كثدرائية الأسقف ثيودريك تتم (1180) حتى شبت فيها النار في عام 1194 فدمرت الصحن وهدمت قبته وجدرانه، ولم يبق من الكنيسة إلا القبو السفلي والواجهة الغربية ببرجيها وشمروخيها متفرقة منعزلة، ويقال إن كل بيت في البلدة قد دمر في هذا الحريق المروع الذي لا تزال آثاره باقية تشاهد حتى اليوم في بقايا الكثدرائية. وفقد الأهلون شجاعتهم إلى حين وفقدوا بفقدها إيمانهم بالعذراء، وأرادوا أن يغادروا المدينة ولكن مليور Melior الرسول البابوي الذي لا تلين له قناة قال إن الله قد أصابهم بهذه الكارثة عقاباً لهم على ذنوبهم، وأمرهم أن يعيدوا بناء كنيستهم وبيوتهم، وتبرع رجال الدين في الأسقفية بدخلهم كله تقريباً مدى ثلاث سنين، وتناقل الناس أخبار معجزات جديدة لعذراء تشارتر، وبعث الإيمان في القلوب من جديد، وأقبلت الجماعات مرة أخرى كما أقبلت في عام 1144 لتساعد العمال المأجورين على جر عربات النقل ووضع الحجارة في أماكنها، وتبرعت بالمال كل كاتدرائية في أوربا(14)، ولم يحل عام 1224 حتى كان الكدح والأمل قد أتما الكاتدرائية التي جعلت تشارتر مرة أخرى مقصد الحجاج من جميع الأنحاء.

وكان التصميم الذي وضعه المهندس المجهول يقضي بألا يقيم الأبراج على جناحي الواجهة الغربية وحدها، بل أن يقيمها أيضاً على الأبواب التي عند ملتقى الطرقات المتعامدة على الصحن وعند القبا، غير أنه لم يبين من هذه الأبراج إلا برجان فوق واجهة الكنيسة. وارتفع برج الناقوس القديم (1145-170) بشمروخه إلى علو 351 قدماً في الطرف الجنوبي من الواجهة، وهذا البرج بسيط غير مزخرف يفضله المهندسون المحترفون على غيره من الأبراج المزخرفة(15). أما البرج الشمالي- المعروف ببرج الجرس الجديد فقد أحرقت النار شمروخه الخشبي مرتين، ثم أعاد جان لي تكسييه Jean le Texier بناءه بالحجارة على الطراز القوطي الكثير الألوان المزدحم بالزخارف الدقيقة، حتى حسبة فرجسون Fergusson" أجمل الشماريخ المنقوشة في القارة الأوربية"(16)، ولكن المتفق عليه بوجه عام أن هذا الشمروخ الكثير الزخرف لا يتفق مع الوحدة التي تتطلبها الواجهة الكالحة المجردة من الزينة(17).

وتعتمد شهرة كنيسة تشارتر على ما تحتويه من تماثيل منحوتة وزجاج، فهذا القصر، قصر العذراء، تسكنه عشرة آلاف شخصية منحوتة أو مصورة- من رجال، ونساء، وأطفال، وقديسين، وشياطين، وملائكة، وأشخاص الثالوث، وفي مدخل الكنيسة وحده ألفا تمثال(18)، تضاف إليها تماثيل أخرى مستندة إلى الأعمدة المقامة في داخل البناء، وإن الزائرين الذين يصعدون إلى السقف على الدرج البالغ عدده 312 درجة لتعتريهم الدهشة حين تقع أعينهم على تماثيل منحوتة بعناية وبالحجم الطبيعي في ذلك المكان الذي لا يبصرها فيه إلا الطلعة المتشوف. وتقوم فوق الباب الأوسط صورة رائعة للمسيح ليست كغيرها من الصور التي نحتت فيما بعد عابسة تحكم على الموتى، بل يرى فيه جالساً في جلال هادئ بين طائفة كبيرة من الناس السعداء، وقد مدت يده وكأنه يبارك العباد الداخلين. ويتصل بالتجويف الداخلي لعقد الباب تسعة عشر تمثالاً للأنبياء والملوك، والملكات، وهي نحيلة، متصلبة توأم بشكلها هذا عملها بوصفها عمد الكنيسة، وكثير من هذه التماثيل غير متقنة وناقصة، ولربما كانت تلفت أو بليت لقدم عهدها، ولكن وجوه بعضها تطالع الناظر إليها بطابع فلسفي عميق، وبراحة لطيفة، أو برشاقة العذارى التي بلغت درجة الكمال في ريمس.

وواجهات الأجنحة والطرقات الجانبية أجمل ما يوجد نوعها في أوربا. ولكل منها ثلاثة أبواب على جانبيها عمد وقوائم منحوتة نحتاً جميلاً تفصل كلاً منها عن الأخرى، وتكاد تغطيها تماثيل كل منها منفرد بملامح خاصة إلى حد جعل الناس يطلقون على عدد كبير منها أسماء من أهل تشارتر. وتجتمع تماثيل الباب الجنوبي البالغ عددها 783 تمثالاً حول المسيح الجالس على عرشه في يوم الحساب. وهنا توضع عذراء تشارتر في مركز أقل من مركز ولدها، ولكنها تعوض عن هذا، كما عوضها ألبرتس ماجنس Albertus Magnus، بالعلوم كلها وبالفلسفة، وترى في خدمتها على هذا الباب الفنون الحرة السبعة- الموسيقى ويمثلها فيثاغورس، والجدل ويمثله أرسطو، والبلاغة ويمثلها شيشرون، والهندسة ويمثلها إقليدس، والحساب ويمثله نيقوماخوس، والنحو ويمثله برشيان Prician، والفلك ويمثله بطليموس. وقد أمر القديس لويس أن يتم الباب الشمالي: "بسبب إخلاصه الشديد لكنيسة عذراء تشارتر، ولنجاة روحه وأرواح آبائه" كما جاء بالنص في عهده الصادر عام 1259(19). وحدث في عام 1793 أن رفضت جمعية الثورة الفرنسية بأغلبية قليلة اقتراحا يقضي بتدمير التماثيل المقامة في كثدرائية تشارتر باسم الفلسفة واسم الجمهورية، وارتضت الفلسفة بعدئذ ألا تدمر هذه التماثيل واكتفت بتحطيم بعض أيديها(20). وهذا الباب الشمالي هو باب العذراء، وهو يروي قصتها رواية ملؤها الحب والإجلال. والتماثيل المجسمة المقامة هنا تمثل فن النحت في نضوجه، والثياب التي عليها لا تقل في رشاقتها ومواءمتها للطبيعة عن مثيلاتها في أي نحت يوناني، وصورة "الطهر" تمثل الأنوثة الفنية كأحسن ما يمثلها الفن الفرنسي، ففيها يكسب الطهر الجمال قوة على قوته، وليس في تاريخ النحت كله ما هو أجمل من هذه الصورة، وفي ذلك يقول هنري أدمز Henry Adams: وهذه التماثيل هي أحسن ما صوره الفن الفرنسي في الرخام"(21).

وإذا ما دخل الإنسان الكنيسة انطبعت في نفسه أمور أربعة تمزج بعضها ببعض: الخطوط البسيطة الممثلة في الصحن والقبة، التي لا تكاد تبلغ في حجمها أو جمالها ما يبلغه صحن كنيسة أمين أو ونشستر، وستار مكان المرنمين المزخرف الذي بدأه عام 1514 جان دي تكسبه المولع بكثرة الألوان، وصورة المسيح الهادئة المقامة على عمود عند ملتقى الصحن بالطرقات الجانبية من جهة الجنوب، والتي تغمر المكان كله بلون هادئ وزجاج ملون منقطع النظير. ويرى الناظر في نوافذ هذا المكان البالغ عددها 174 نافذة 3884 صورة مأخوذة من الأقاصيص أو التاريخ، تختلف من الأساقفة إلى الملوك، وتمثل فرنسا في العصور الوسطى، يراها الناظر في أبهى ما أخرجه الفن من ألوان - حمراء داكنة، وزرقاء خفيفة، وخضراء زمردية، وزعفرانية، وصفراء، وبنية، بيضاء. وفيها ترى مجد تشارتر أكثر مما تراه في أي مكان سواه. وليس من حقنا أن نطلب أن تكون الصورة التي في هذه النوافذ صوراً واقعية، ذلك أنها مشوهة، بل إنها لتبلغ حد السخف في بعض الأحيان. فرأس آدم في الحلية الوسطى التي تمثل طرده من الجنة معوج اعوجاجاً يؤلم النظر إليه، وإن العابد ليصعب عليه إذا ما أبصر مفاتن حواء أن لا يميل إلى شهوته الجنسية. لقد كان هؤلاء الفنانون يظنون أن حسبهم أن يروي الصورة قصة، بينا تمثل الصورة بألوانها. التي يختلط بعضها ببعض ويفني بعضها في بعض في عين الناظر، جو الكثدرائية، وما أجمل صورة نافذة"الإبن المتلاف"؛ وما أعظم الألوان والخطوط في صورة "شجرة يسى" الرمزية ، ولكن أجمل من هذه كلها صورة"عذراء النافذة الجميلة". وتقول الرواية المأثورة إن هذه اللوحة البديعة أنقذت من النيران التي اندلعت في الكنيسة عام 1194.

وإذا وقف الإنسان عند تقاطع الطرقات الجانبية والصحن رأى نوافذ تشارتر الكبرى الوردية الشكل. وتمتد النافذة الوسطى في الواجهة الرئيسية أربعين قدما كاملة، وتكاد تضارع في اتساعها الصحن الذي تطل عليه، ولقد وصفها بعضهم بأنها أجمل تحفة من الزجاج عرفها التاريخ(23). وتغمر النافذة المعروفة "وردة فرنسا" ملتقى الطرق بالصحن من جهته الشمالية بفيض من الضوء. وكان زجاج هذه النافذة قد أهدى إلى لويس التاسع وبلانش القشتالية، ثم أهدياه إلى العذراء، ويواجهها في الناحية المقابلة لها من الكنيسة "وردة درية Dreux" القائمة عند تقاطع الطرقات بالصحن في الواجهة الجنوبية وهي التي أهداها بيير موكلير Pierre Mauclere من دريه وبلانش، والتي تضع ابن مريم مواجهاً "لأم الإله" في نافذة بلانش. وثمة خمس وثلاثون وردة أصغر من هذه واثنتا عشرة وريدة أصغر من هذه أيضاً، وبها تتم مجموعة زجاج تشارتر الدائري، وإذا ما وقف صاحب النزعة الحديثة، الذي تمنعه سرعته واضطراب أعصابه من أن يتطلب الكمال المحتاج إلى الصبر والهدوء، أمام هذه المناظر، أخذته الدهشة والحيرة من هذه الأعمال التي يجب أن تعزى إلى ما يتصف به الشعب والجماعة، والعصر، والعقيدة الدينية، من سمو في العاطفة وجد في العمل لا إلى عبقرية أفراد معدودين.

ولقد اخترنا كنيسة تشارتر لتمثيل العمارة القوطية الناضجة أو المتشعبة، وليس من واجبنا أن نعمد إلى هذه الإطالة نفسها في الحديث عن الكنائس ريمس، وأمين، وبوفيه. ولكن منذا الذي يستطيع أن يمر مسرعاً بالواجهة الغربية من كنيسة ريمس؟ وو أن الشماريخ الأصلية ظلت حتى الآن قائمة فوق الأبراج لكانت هذه الواجهة أعظم ما قام به الإنسان من أعمال، وإنا لتدهشنا وحدة الطراز وأجزاء الكنيسة المختلفة وتناسقها في بناء أقامته ستة أجيال من الناس. فقد دمرت النار في عام 1210 الكثدرائية التي أتمها هنكمار Hincmar في عام 840 ، وبدئت في يوم الذكرى الأولى لهذا الحريق كثدرائية جديدة من تصميم ربرت دي كوسي Robert de Coucy وجان دوربيه Jean dorbais. تليق بأن يتوج فيها ملوك فرنسا. ودام العمل أربعين عاماً نفد بعدها المال، فوقف البناء (1251)، ولم تتم الكنيسة العظيمة إلا في عام 1427. ودمرت النار في عام 1480 شماريخ الأبراج، واستخدمت أموال الكثدرائية المدخرة في ترميم البناء الرئيسي، أما الأبراج فلم يجدد بناؤها. ودمرت القنابل في الحرب العالمية الأولى عدداً من مساند الجدران وأحدثت فجوات كبيرة في السقف وفي القبة، ودمرت النار السقف الخارجي وحطمت كثيراً من التماثيل، ودمرت جماعات من المتعصبين عدداً آخر من الصور، وعدا الزمان على بعضها الآخر فأبلاه ذلك أن التاريخ صراع بين الفن وعوادي الأيام.

وتمثل روائع النحت في كنيسة ريمس، كما تمثل واجهتها، أرقى ما وصل إليه الفن القوطي، فبعضها عتيق فج ولكن الموجود منها في المدخل الأوسط منقطع النظير، وإنا لنلتقي في عدة أماكن على أبواب الكنيسة، وقمم أبراجها المستطيلة. وفي داخلها، بتماثيل تكاد تضارع في صقلها ما نحت في عصر بكليز. ولسنا ننكر أن منها ما هو مفرط في الرشاقة كتمثال العذراء القائم على عمود المدخل الأوسط، وأنها توحي إلى الناظر بضعف قوة القوط، ولكن تمثال "العذراء التطهير" القائم عن يسار هذا المدخل نفسه، وتمثال "عذراء زيارة الملاك" القائم عن يمينه ليعدان من حيث التفكير والتنفيذ من الأعمال الجليلة التي يعجز القلم واللسان عن وصفها. وأوسع من هذين التمثالين شهرة، وإن لم تبلغ مبلغهما من الكمال، تماثيل الملائكة الباسمة في مجموعة تماثيل البشارة القائمة في هذه الواجهة. ألا ما أعظم الفرق بين الوجوه المستبشرة وبين تمثال القديس بولس القائم عند مدخل الشمالي! وأن كان هذا التمثال من أقوى الصور التي نحتت في الحجر.

وتوق التماثيل المنحوتة في كثدرائية أمين تماثيل ريمس في رشاقتها وصقلها، ولكنها تقل عنها في جلال التفكير وعمق الإيحاء. فهنا نرى فوق الباب الغربي تمثال الإله الجميل Beau Dieu الذائع الصيت، وهو تمثال تقيد صانعه بعض الشء بالتقاليد، وخلا بعض الئ من الحياة، وهما عيبان يطالعاننا بعد أن نشاهد تماثيل ريمس الحية الناطقة. وهنا أيضاً تمثال القديس فرمين Firmin وهو لا يمثله زاهداً فزعاً بل يمثله رجلا هادئاً صلبا لم يشك في يوم من الأيام بأن الحق سوف ينتصر، وهنا أيضاً عذراء تحتضن طفلها بين ذراعيها، ويبدو عليها كل ما تتصف به الأمومة الصغيرة السن من استغراق الحنان. وفي الباب الجنوبي نرى العذراء الذهبية تبتسم وهي ترقب طفلها يلعب بكرة، وقد جملها المَثّال قليلا. ولكنها أكثر رشاقة من أن تستحق ما وصفها به رسكن Ruskin في غير كياسة بأنها "مدللة بيكاردي (Soubrette of picardy)." وما ألذ أن يرى الإنسان المثالين القوط يكتشفون الرجال والنساء، بعد أن ظلوا مائة عام في خدمة الأغراض الدينية، وينحتون بعد هذا الكشف متع الحياة على واجهات الكنائس. وغضت الكنيسة النظر عن هذا الكشف بعد أن عرفت هي أيضاً كيف تستمتع بالحياة الدنيا، ولكنها رأت من الحكمة أن تصور منظر يوم الحساب على الواجهة الرئيسية.

وبنيت كثدرائية أمين فيما بين 1220و1288، وقام ببنائها سلسلة متتابعة من المهندسين. ربرت دي لوزارك Robert De Luzarches، وتومس دي كورمنت Thomas de Cormonte وابنه رنيول Regnault. ولم يتم بناء الأبراج إلا في عام 1402. وداخلها هو أكثر الصحون القوطية نجاحاً، فهو يرتفع في قبة علوها 140 قدماً، ويخيل إلى الناظر أنها تجتذب الكنيسة إلى أعلى، وليست تتحمل ثقلا. وترتبط بواكي الصحن ذات الثلاث الطبقات جذوع متصلة ممتدة من الأرض إلى القبة فتجعل منها وحدة فخمة ذات عظمة وجلال. وتعد القباب القائمة فوق القبا انتصاراً للتصميم المتناسق على اختلاف النظام الباعث على الحيرة والارتباك، وإن المرء ليذهل وتقف دقات قلبه حين تقع عيناه أول مرة على نوافذ الطابق الأعلى وعلى ورود أمكنة تقاطع الطرقات والصحن وعلى الواجهة .

وفي كثدرائية بوفيه عدا هذا الولعُ القوطي بالقباب طوره وبلغ مصيره المحتوم وهو السقوط. وذلك أن فخامة كتدرائية أمين أثارت الغيرة في قلوب أهل بوفيه، فبدوا بثلاث عشرة قدما. ووصلوا بموضع المرنمين إلى الارتفاع المطلوب، ولكنهم ما كادوا يضعون سقفه حتى انهار واستفاق جيل آخر من هذه الكارثة فأعاد بناء موضع المرنمين إلى ارتفاعه السابق ولكنه انهار مرة أخرى في عام 1284. وأعيد البناء للمرة الثالثة وعلوا به هذه المرة إلى ارتفاع 157 قدماً فوق الأرض، ولما نفد ما عندهم من المال تركوا الكنيسة قرنين كاملين من غير جناحين أو صحن. ولما أفاقت فرنسا آخر الأمر من حرب المائة السنين في عام 1500، بدئ الجناحان الضخمان، ثم أقيم فوق ملتقى الجناحين برج فانوس بلغ ارتفاعه خمسمائة قدم ليعلو بذلك على شمروخ كنيسة القديس بطرس في روما. وانهار هذا البرج أيضاً في عام 1573 وانهار معه كبير من الجناحين ومكان المرنمين. ثم قنع أهل بوفيه الأبطال آخر الأمر بحل وسط: فرمموا موضع المرنمين وبلغوا به علوه غير الأمين، ولكنهم لم يضيفوا إليه صحناً، ولهذا فإن كثدرائية بوفيه كأنها رأس بلا جسم، فهي من خارجها واجهتان لجناحين جميلين قيمين، وقبا تحيط به وتخفيه السنادات، ومن داخلها موضع للمرنمين كالكهف يتلألأ بالزجاج الفخم الملون. ويقول أحد الأمثال الفرنسية القديمة إنه لو استطاع الإنسان أن يضم موضع المرنمين في كنيسة بوفيه إلى صحن كنيسة أمين، وإلى واجهة ريمس وشماريخ تشارتر، لو استطاع ذلك لكانت كثدرائية قرطبة تبلغ حد الكمال.

وإذا ما عاد الناس بخيالهم في العصور المقبلة إلى ذلك القرن الثالث عشر فسوف تتملكهم الحيرة فلا يدرون من أين كان لأهل هذا القرن ذلك الثراء الذي أقاموا به على الأرض تلك الصروح الفخمة المجيدة. ذلك أنه ما من أحد يستطيع أن يعرف ما صنعته فرنسا في ذلك الوقت - بالإضافة إلى جامعتها، وشعرائها، وفلاسفتها، وحروبها الصليبية- إذا وقف بنفسه أمام واحدة تلو واحدة من تلك الصروح القوطية الجريئة التي لا تعدو أن تكون هنا مجرد أسماء: نوتردام، وتشارتر، وريمس، وأمين، وبوفيه؛ وبروج (1195-1350) ذات الصحن الرحب، والطرقات الأربع، والزجاج الذائع الصيت، والملاك الجميل النحت ذي الميزان، وجبل ساتنت ميشيل وديره العجيب (1204-1250) القائم في حصن مشرف على صخرة في وسط ماء البحر بالقرب من نورمندية، وكنستانس (1208-1328) وشماريخها النبيلة، ورون (1201-1500) وبابها الأمامي باب ناشري الكتب، وسانت شابل في باريس - "صندوق جواهر" الزجاجي القوطي التي شادها (1245-1248) بييردي منتريه لتكون ضريحاً متصلا بقصر القديس لويس يضم المخلفات التي ابتاعها ذلك الملك من بلاد الشرق. ومن الخير أن نتذكر في عصور الدمار أن مقدور الناس إذا شاءوا أن يبنوا كما بنو في فرنسا يوماً من الأيام.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الطراز القوطي الإنجليزي (1175-1280)

وزحف الطراز القوطي من تشارتر و "جزيرة فرنسا Ile de France" إلى الأقاليم الفرنسية، ثم عبر الحدود إلى إنجلترا، وبلاد السويد، وألمانيا، وأسبانيا، ثم انتقل أخيراً إلى إيطاليا. وكان المهندسون والصناع الفرنسيون يقبلون ما يكلفون به من أعمال في البلاد الأجنبية، وكان الفن الجديد يسمى أينما حل العمل الوعود في فرنسا opus Francigenum، ورحبت به إنجلترا لأنها كانت في القرن الثامن عشر نصف فرنسية، لم تكن القناة الإنجليزية إلا نهراً بين ناحيتين من مملكة بريطانية تشمل نصف فرنسا، وكانت رون العاصمة الثقافية لتلك المملكة. واستمد الفن القوطي أصله من نورمندية لا من إيل دي فرانس، واحتفظ بالضخامة النورمندية في إطار قوطي. وحدث الانتقال من الطراز الرومنسي إلى الطراز القوطي في فرنسا وإنجلترا في وقت واحد تقريباً. ففي الوقت الذي كان العقد المستدق يستخدم في كنيسة القديس دنيس (1140) أخذ هذا الطراز يعود إلى الظهور في كثدرائيتي دراهام وجلوستر. وفي دير الفوارات Fountains Abbey، ومالمسزبري Malmsbury(24). وكان هنري الثالث (1216-1272) يعجب بكل ما هو فرنسي ويحسد المجد المعماري الذي بلغته فرنسا في عهد القديس لويس، وفرض على رعاياه من الضرائب ما أفقرهم ليعيد بناء دير وستمنستر، ولينفق على مدرسة الفنانين-البنائين، والمثالين؛ والمصورين، والمزخرفين، والصياغ-الذين جمعهم قرب بلاطه لينفذوا مشروعاته. وسنقصر وصفنا هنا على الطراز الأول من الطرز التي تنقسم إليها العمارة القوطية الإنجليزية -وهي الطراز الإنجليزي- المبكر (1175-1280)، والطراز المنقوش (1280-1380)، والطراز العمودي (1300-1450). وقد اتخذ هذا الفن من النوافذ والعقود الإنجليزية له اسماً آخر فسمى "بالريشة" . وكانت الوجهات والأبواب في هذا الطراز أبسط من مثيلاتها في فرنسا، وإن كانت كنيستا لنكلن وروشستر قد حوتا بعض التماثيل المنحوتة؛ وحوت منها كنيسة ولز Wells أكثر من هاتين الكنيستين، ولكن هذه لم تكن القاعدة المتبعة، ولا يمكن على كل حالة مقارنة هذه التماثيل، في نوعها وعددها، بالتماثيل المقامة على أبواب كنائس تشارتر، أو أمين؛ أو ريمس. أما الأبراج فكانت تمتاز بالفخامة لا بالإرتفاع، وإن كانت أبراج سالزبري، ونوروك، ولتشفيلد تدل على ما يستطيع البناء الإنجليزي أن يفعله إذا ما آثر الرشاقة والارتفاع على الروعة والفخامة. كذلك عجز ارتفاع الكنيسة من الداخل عن أن يغزى المهندسين الإنجليز، لقد حاولوه أحياناً كما فعلوا في وستمنستر وسلزبري، ولكنهم في الأغلب الأعم كانوا يتركون القبة منخفضة انخفاضاً مقبضاً للنفس، كما تراها في جلوسستر، وإكستر. يضاف إلى هذا أن طول الكثدرائيات الإنجليزية الكبير لم يكن يشجع على بذل الجهود التي تجعل ارتفاعها يتناسب مع هذا الطول، فطول كنيسة ونشستر 556 قدماً، وطول كنيسة إلى Ely، 517، وكنتربري 514، ودير وستمنستر 511، أما كنيسة أمين فطولها 435، وريمس 430، وحتى كنيسة كيلان نفسها لا يزيد طولها على 475. لكن ارتفاع كنيسة ونشستر من الداخل لم يكن يزيد على 78 قدماً، وهو في كنيسة كنتربري لا يزيد على 80، وفي لنكلن لا يتجاوز 82، وفي وستمستر لا يتجاوز 103، أما أمين فترتفع إلى 140 قدماً.

وظل الطرف الشرقي للكنيسة القوطية الإنجليزية هو القبا المربع المعروف في الطراز الإنجليسكسوني، متجاهلاً في ذلك التطور الفرنسي السهل الذي أنتج القبا الكثير الأضلاع أو النصف الدائري. وكان الطرف الشرقي يوسع في كثير من الحالات ليكون مصلى خاصة لعبادة العذراء، وإن كانت عبادة مريم لم تبلغ من الحماسة الدرجة التي بلغتها في فرنسا، وكثيراً ما كان موضع اجتماع القساوسة في الكثدرائية وقصر الأسقف متصلين بالكنيسة يكونان معها "حرم الكنيسة"، وكان يحيط به في العادة سور. وكان انتشار عنابر النوم، وقاعات الطعام، والدير، والطرقات المنعزلة في الأديرة القوطية بإنجلترا واسكتلندا - كما هي الحال في فوانتينز، درايبرج Dayburgh، وملروز Melrose، وتنتيرن، Tintern داخل محيط واحد مما جعلها تكون مجموعة فنية ذات جلالة وروعة.

ويبدو أن المبدأ الأساسي في العمارة القوطية-مبدأ توازن الضغوط وتصريفها لتقليل ضخامة الدعائم والمساند- وما ينشأ عن هذه الضخامة من قبح المنظر- لم يحز قط قبولاً تاماً في إنجلترا، ولم يعدل سمك الجدران الذي يمتاز به الطراز الرومنسي القديم إلا تعديلا يسيراً في الطراز القوطي الإنجليزي، حتى الحالات التي يتحتم فيها تكييف التصميم ليوائم القاعدة الرومنسية كما حدث في سلزبري. وكان المهندسون الإنجليز ينفرون من المساند المتنقلة نفور المهندسين الطليان. نعم إنهم لجئوا إليها في بعض الأماكن، ولكنهم فعلوا ذلك في غير مبالاة، وكانوا يشعرون بأن دعائم البناء أن يحويها البناء نفسه، لا أن تكون في الزوائد التي تضاف إليه، ولعلهم في هذا على حق، وإن لكثدرائياتهم لقوة وصلابة ورجولة تسمو فوق الجمال إلى العظمة والجلالة، وإن كانت تنقصها الرشاقة التي نشاهدها في روائع الفن الفرنسي.

وبعد أن مضت أربع سنين على مقتل بكت في كنتربري احترق موضع المرنمين في الكثدرائية(1174). وروع أهل البلدة لهذه الكارثة، وأخذوا يضربون الجدران برؤوسهم في غضب وحيرة لأن العلي العظيم لم يمنع حلولها بضريح أصبح قبل وقوعها كعبة الحجاج المتدينين(25). وعهد الرهبان بناء الكنيسة إلى مهندس من أهل سان Sans يدعى وليم، وهو رجل فرنسي ذاع صيته على أثر بنائه لمدينته. وظل وليم يعمل في كنتربري من 1175 إلى 1188، ثم عجز عن العمل لسقوطه من فوق محالة، فواصل العمل "وليم الإنجليزي William the Englishman" وهو رجل "ضئيل الجسم"كما يقول الراهب جرفاز Gervase ولكنه دقيق أمين في أعمال كثيرة مختلفة الأنواع(26). وقد بقيت أجزاء كثيرة من الكثدرائية الرومنسية التي شيدت في عام 1096، وبقيت العقود المستديرة بين الجديدات القوطية بصفة عامة؛ ولكن السقف الخشبي الذي كان يغطى موضع المرنمين قد استبدلت به قبة من الحجر مضلعة، كذلك استطالت العمد فعلت إلى ارتفاعها الكامل الرشيق، ونحتت تيجانها نحتاُ بديعاً، وملئت النوافذ بالزجاج الملون البراق. وإن كثدرائية كنتربري المتجمعة في محيطها الكثدرائي، والتي تشرف مع ذلك على بلدتها الجميلة العجيبة لهي اليوم من أكثر مناظر الأرض إيحاء وإلهاماً للنفوس.

ونشر الأحبار والحجاج الذين لا يحصى عددهم الطراز القوطي في أنحاء بريطانيا بما أقيم من كنائس على نمطها. فأقامت بيتربرو peterborough في عام 1177 رواقاً فخماً ذا عد في واجهة الجناح الغربي من كثدرائيتها؛ وشيد الأسقف هيو دي لاسي Hugh de Lacy في عام 1189 الامتداد الجميل لكثدرائية ونشستر خلف مكان القربان على هذا الطراز. وحدث في عام 1186 زلزال تصدعت منه كثدرائية لنكلن من أعلاها إلى أسفلها، وبعد ست سنين من تصدعها شرع الأسقف هيو يعيد بناءها على تصميم قوطي قام به جوفري دي نواير Geoffrey de Noyers، وأتمها جروسست Grossete الشهم النبيل جوالي عام 1240. وهي قائمة على ربوة تطل على ريف إنجليزي يتمثل فيه جمال هذا الريف أصدق تمثيل. وقل أن يشاهد ما يشاهده في هذه الكنيسة من روعة الحجم قد وفق بينها وبين رقة التفاصيل، فأبراجها الثلاثة العظيمة، وواجهتها العريضة ببابها ذي التماثيل المنحوتة وبواكيها المعقدة، وصحنها الفخم الذي يبدو خفيفاً رغم ضخامة حجمه وسعته. وجذوع أعمدتها الرشيقة وما على دعاماتها من نقوش لا تقل عن هذه الجذوع رشاقة، ونوافذها المشععة، وقوة بيت القساوسة الشبيهة بالنخلة، وعقود الصوامع الفخمة الرائعة - هذه تكفي وحدها لأن تجعل كثدرائية لنكلن مما يشرف بني الإنسان، ولو لم يكن فيها "مرنمة الملائكة". فقد حدث في عام 1239 أن سقط برج نورمندي قديم وحطم المرنمة التي شادها الأسقف هيو، فلما سقطت شيدت مرنمة جديدة في الفترة التي بين 1256-1280 على الطراز المزخرف الوليد، منقوشة ولكنها بديعة. وتعزو الأقاصيص اسمها إلى الملائكة الذين أقاموها- كما تقول القصة- لأن أيدي بني الإنسان تعجز من أن تقيم عملا يبلغ هذا المبلغ من الكمال، ولكن أغلب الظن أن هذا الاسم قد اشتق من الملائكة الموسيقيين الباسمين المنحوتة صورهم على الفرج المسدودة حول أقواس طاقات البواكي القائمة فوق العقود بين الصحن والجناحين. وأوشك المثالون الإنجليز أن يبلغوا في تماثيلهم القائمة على باب المرنمة الجنوبي ما بلغه المثالون في ريمس وأمين. فهناك أربعة تماثيل قد أزال رؤوسها وشوهها المطهرون المتزمتون تبلغ في الجمال مبلغ تماثيل ريمس وأمين، ومن هذه تمثالان يرمز أحدهما إلى الهيكل وآخر إلى الكنيسة هما أجمل التماثيل الإنجليزية التي نحتت في القرن الثالث عشر. ويظن السير وليم أسار Sir William osler وهو من كبار العلماء، أن مرنمة الملائكة هذه أجمل روائع الفن البشري على الإطلاق.

واستأجر الأسقف بور Poore في عام 1220 إلياس دي درهام Elias de Derham ليصمم ويبني كثدرائية سلزبري، وقد تم بناؤها في الفترة القصيرة المعتادة التي لا تزيد على خمس وعشرين سنة. وهي في جميع أجزائها على الطراز الإنجليزي المبكر، وتشذ عن القاعدة المتبعة في الكثدرائيات الإنجليزية وهي جمعها بين عدة طرز مختلفة. وإن ما تمتاز به من وحدة في التصميم، وتناسق في الحجم والخطوط، وجلال ساذج في برج الجناح وشمروخة ورشاقة في القبة المقامة على معبد العذراء، وجمال في نوافذ بيت القساوسة إن ما تمتاز به من هذا كله ليعوضها عن ثقل دعامات الصحن وضيق القبة المقبض. ولا يزال لكثدرائية إلي Ely سقف من الخشب، ولكنه سقف غير منفر، فإن في الخشب من صفات الدفء والحيوية ما لا يوجد له مثيل في العمارة الحجرية. وقد أضاف المهندسون القوط إلى الحصن النورمندي باباً غريبا جميلا هو "باب الجليل" (حوالي عام 1205)، وبيتا للقساوسة به مجموعة من العمد الجميلة منحوتة من رخام بربك Purbeck، كما أضافوا إليها في القرن الرابع عشر على الطراز القوطي المزخرف مصلى العذراء، ومرنمة، ثم أقاموا عند ملتقى الجناحين بالسقف برج ناقوس ضخم هو "مُثَمّن إلى". وكانت كثدرائية ولز (1174-1191) من أقدم أمثلة الطراز القوطي الإنجليزي، ولم يكن صحنها جيد التصميم، ولكن الواجهة الشمالية التي أضافها الأسقف جوسلين Jocelyn، (1220-1242) "أوشكت أن تكون أجمل ما شيد في إنجلترا"(28). ولقد كان في كوى الواجهة 340 تمثالا، فقد منها 106 كانت من ضحايا تزمت المتطهرين، والتخريب، وعوادي الزمن، وتكون البقية الباقية أكبر مجموعة من الصور المنحوتة في بريطانيا. وليس في وسعنا أن نقول عن صفاتها مثل ما نقوله عن عددها.

وكانت آخر العمائر التي شيدت على الطراز القوطي الإنجليزي المبكر كنيسة دير وستمنستر. وكان سبب بنائها أن هنري الثالث الذي اتخذ إدوارد المعترف قديسة الشفيع أحس بأن الكنيسة النورمندية التي بناها إدوارد (1050) غير جديرة بأن تحوي عظام هذا الشفيع، فأمر فنانيه أن يستعيضوا عنها بصرح قوطي على الطراز الفرنسي، وجبى لهذا الغرض ضرائب بلغ مقدارها 750,000 جنيه يمكننا أن نقدرها تقديراً تقريباً بما يعادل 90,000,000 دولار أمريكي حسب قيمة الدولار في هذه الأيام. وبدأ العمل في عام 1245، وظل قائماً حتى توفي هنري في 1272. وكان تصميمها على غرار تصميم كنيستي ريمس وأمين لا يستثنى من هذان الجناحان الكثير الأضلاع اللذان هما من مميزات الطراز القاري. ولقد تأثرت النقوش المنحوتة في الباب الشمالي، والتي تصور يوم الحساب، بالنقوش التي في الواجهة الغربية لكثدرائية أمين. وفي الفرج المسدودة في البواكي القائمة فوق العقود التي بين الصحن والجناحين نقوش بارزة مدهشة تمثل الملائكة، منها ملك في الفرجة الجنوبية يطل على الزمان بوجه حنون رحيم يضارع ملك كنيسة ريمس. وفوق مدخل بيت القساوسة صورتان تمثلان البشارة وتشير فيهما العذراء إشارة فاتنة تجمع بين التوسل والتواضع. وأجمل من هذا كله على جماله القبور الملكية التي في الدير، وأجمل من هذه كلها تمثال هنري الثالث نفسه، وقد جمل فيه صانعه الملك البدين القصير فجعله مثلا أعلى في الجمال وتناسب الأعضاء. ولقد أنست الناس هذه القبور الفخمة جرائم عشرين من الحكام، وكانت تعوضهم عنها العبقرية الإنجليزية المدفونة تحت حجارة توابيت الملوك.

انظر أيضاً

The Basilica of Mary Magdalene, Saint Maximin la Sainte Baume, Provence, begun in 1295, building work continued for more than 100 years, maintaining the 13th century style.

معرض الصور

الهوامش

The flattened surface of this vault is supported by a multitude of decorative ribs called tierceron vaulting.

المصادر

  • Bony, Jean (1985). French Gothic Architecture of the Twelfth and Thirteenth Centuries. ISBN 0-520-05586-1.
  • Bumpus, T. Francis (1928). The Cathedrals and Churches of Belgium. T. Werner Laurie.
  • Clifton-Taylor, Alec (1967). The Cathedrals of England. Thames and Hudson.
  • Fletcher, Banister (2001). A History of Architecture on the Comparative method. Elsevier Science & Technology. ISBN 0-7506-2267-9.
  • Gardner, Helen (2004). Gardner's Art through the Ages. Thomson Wadsworth. ISBN 0-15-505090-7. {{cite book}}: Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)
  • Harvey, John (1950). The Gothic World, 1100–1600. Batsford.
  • Harvey, John (1961). English Cathedrals. Batsford.
  • Huyghe, Rene (ed.) (1963). Larousse Encyclopedia of Byzantine and Medieval Art. Paul Hamlyn. {{cite book}}: |first= has generic name (help)
  • Icher, Francois (1998). Building the Great Cathedrals. Harry N. Abrams. ISBN 0-8109-4017-5.
  • Pevsner, Nikolaus (1964). An Outline of European Architecture. Pelican Books.
  • Summerson, John (1983). Pelican History of Art (ed.). Architecture in Britain, 1530–1830. ISBN 0-14-0560-03-3. {{cite book}}: Unknown parameter |autholink= ignored (help)
  • Swaan, Wim (1988). The Gothic Cathedral. Omega Books. ISBN 0-9078593-48-X. {{cite book}}: Check |isbn= value: length (help)
  • Swaan, Wim. Art and Architecture of the Late Middle Ages. Omega Books. ISBN 0-907853-35-8.
  • Tatton-Brown, Tim (2002). The English Cathedral. New Holland Publishers. ISBN 1-84330-120-2. {{cite book}}: Unknown parameter |coauthors= ignored (|author= suggested) (help)

قراءات إضافية

  • von Simson, Otto Georg (1988). The Gothic cathedral: origins of Gothic architecture and the medieval concept of order. ISBN 0-691-09959-6.
  • Moore, Charles (1890). Development & Character of Gothic Architecture. Macmillan and Co.
  • Tonazzi, Pascal (2007) Florilège de Notre-Dame de Paris (anthologie), Editions Arléa, Paris, ISBN 257895462

وصلات خارجية

Echmiadzin-hripsime.jpg بوابة عمارة تصـفح مقـالات المعرفة المهـتمة بالعمارة