الضبط الاجتماعي في المجتمعات البدوية

التميمي
ساهم بشكل رئيسي في تحرير هذا المقال

النظام الاجتماعي في المجتمعات البدوية.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

مقدمة

تفتقر المجتمعات البدوية في كثير من الأحوال الى وجود أية أشكال رسمية أو منظمة من أشكال الضبط الاجتماعي. ونعنى بتلك الأشكال الرسمية - الأجهزه الحكومية والتنفذية المعنية بالضبط الاجتماعي - ولكنها لم تخل أبدا من وجود أشكال شعبية متعارف عليها لذلك الضبط , وحتى ان وجدت بعض الأشكال التقليدية للضبط الاجتماعي كالؤسسات الشرطية والمحاكم ... ، الا أنه يبقى دوما لتلك الأشكال العرفية تأثيرها الواضح على مختلف عمليات الضبط الاجتماعي.

وليس معنى ذلك أن القانون غير معروف أو غير مرعى في المجتمعات البدوية، بل العكس هو الصحيح، فأن لكثير من تلك المجتمعات - وخاصة في المنطقة العربية - الكثير من القوانين المرعية والمطبقة منذ آباء الاجداد ولمئات بل ولألوف السنين والتي يتوارثها جيل بعد جيل، لكنها كلها قوانين محفوظة في القلوب ولها طقوسها وممارسوها والحافظون لها.

ومن الأمور الواضحة في المجتمعات البدوية أيضا أن عملية الضبط الاجتماعي ليست قاصرة على القوانين والأعراف البدوية فقط، بل تشاركها في ذلك أنساق أخرى عديدة منها: الدين، السحر، وغيرها من الظواهر كالثأر وما إليها.

وكل تلك الأنساق مجتمعة تعمل على تحقيق الضبط الاجتماعي في المجتمعات البدوية لأهدافه، والتي تتجلى في تحقيق امتثال البدو للقيم والمعايير وأنماط السلوك ونماذجه بما في تحقيق التماسك والتوازن داخل المجتمع البدوي ككل.

بقيت نقطة أخيرة في هذه المقدمة السريعة عن الضبط الاجتماعي كنسق في المجتمعات البدوية. سنحاول هنا ان نقلي بعض الضوء على عدد من صور ذلك الضبط في الجتمعات البدوية ولا سيما العربية منها.


مفهوم الضبط الاجتماعي

سوف نعرض هنا بعض التعريفات التي تناولت مفهوم الضبط الاجتماعي ووسائله، والملاحظة الأولية على تلك التعريفات هي وضوح عدد من الاختلافات بينها سواء فيما يخص مفهوم الضبط الاجتماعي ذاته أو فيما يخص وسائل تحقيقة في المجتمع.

1- يقصد بالضبط الاجتماعي الوسيلة التي يتم من خلالها تحقيق التطابق في النظام العام للمجتمع ككل حفاظا على هيكله، ثم باعتبار الضبط كعامل أساسي لتحقيق الموازنة - بين مكونات ذلك النظام - في حالات التغير.

2- الضبط الاجتماعي ان هو الا لفظ عام يطلق على مختلف العمليات التي تمكن الأفراد من التواؤم على عادات الجماعة وقيمها السائدة، وقد تكون تلك العمليات مخططة أو غير مخطط ، كما قد تتم عن طريق الاقناع أو التعليم أو حتى الاكراه.

3- الضبط الاجتماعي يعني مجموع كل من الأنماط الثقافية والرموز الاجتماعية والقيم الأفكار والمثل والمعاني الجماعية، وما يتضمنه كل ذلك من عمليات وأفعال تمكن المجتمعات و الزمر الاجتماعية بل والافراد من التغلب على أية توترات أو الصراعات، ومن ثم يكون من شأن الضبط أعادة التوازن الى الجماعة أو المجتمع.

4- الضبط الاجتماعي في معناه العام، يقصد به كل مظهر من مظاهر ممارسة المجتمع للسيطرة على سلوك الأفراد والمنتمين اليه، وما يتخذه المجتمع من الوسائل التي تكفل تكيف سلوك الناس تكيفا يتلاءم مع ما اصطلحت عليه الجماعة من قوالب للتفكير والعمل. 5- حدد ابن خلدون مفهوم الضبط الاجتماعي وأهدافة عندما تقال خلال مقدمته الشهيرة: (ان العمران البشري لابد له من سياسة) ومهمة تلك السياسة هي تنظيم أمر ذلك المجتمع، لان (العمران) الذي هو غاية ذلك المجتمع لن يتحقق الا مع وجود (وازع يدفع بعضهم - اي بعض الناس - عن بعض لما في طباعهم - اي طباع البشر - الحيوانية من العدوان والظلم ..)

6- الا اننا نرى أن الضبط الاجتماعي يعني (مختلف المظاهر التي يمارس بها المجتمع سلطته على سلوك أعضائه).

7- أما الضبط في المجتمع البدوي فهو يعني في رأينا كذلك "مجموع الوسائل التي تلجأ اليها مختلف الوحدات الاجتماعية البدوية لتحقيق التكيف بين سلوك أفرادها وممارساتهم وبين ما اصطلحت عليه تلك الوحدات من معايير وقواعد للتفكير ونماذج للسلوك وللعمل ووفقا للثقافة المجتمعية السائدة لدى كل نمط بدوي على حدة".

المسئولية والجزاء في المجتمع البدوي

تتميز المسئولية في المجتمع البدوي بأنها جماعية، بمعنى أن يشترك جميع أفراد العشيرة البدوية في هذه المسئولية غرما وغنما.

وعلى ذلك فان وزر أية جريمة لا يقتصر فقط على مرتكبيها، وانما ينسحب بالضرورة على كل من تربطه بهم صلات قرابة قد تصل حتى الجد الخامس كما تقضى بذلك الأعراف البدوية العربية على سبيل المثال. ومن هنا فان كثيرا من المجتمعات البدوية تعترف بحق أهل القتيل - في حالة الثأر مثلا - أن يقتصوا من الجاني أو اي من أفراد عشيريه حتى الجد الخامس.

والثأر هو أحد أنواع العقاب السائد في مجتمعات بدوية كثيرة عقابا على جريمة القتل والعمد منه بالذات، وذلك بهدف اعادة التوازن للحياة المجتمعية البدوية. هذا ويعتبر العقاب - ممثلا في الثأر وغيره من الصور - وسيلة مناسبة لاسترداد العتدي عليه - فردا كان أو جماعة - لكرامته التي أهينت، وخاصة مع تسليم الجاني بحق المعتدي عليه أو اي من أهله في استرداد حقهم منه، علاوة على تأكيد الرأي العام البدوي واحترامه لذلك الحق بما يدعم النظام العام للمجتمع البدوي ككل.

وهناك صور أخرى من العقاب الذي تمارسه المجتمعات البدوية والتي من أهمها:

1- اللعنة أو الذم الجماعي ، والغرض من هذه الصورة التشهير بمرتكب الجرم تمهيدا للتبرؤ منه وابعاده عن المجتمع أو اهدار دمه ، ومن أهم مظاهر تلك اللعنة الجماعية .. اجتماع البدو في مكان عام عقب ارتكاب رجل لجريمة معينة ، ويبدأ واحد منهم سرد تفاصيل الجريمة التي تمت وخصوصا بالنسبة لتلك الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل ، ثم يعلن الجميع رأيهم في مرتكب الجرم دون ذكر اسمه صراحة ويطالبون بالموت له ، ومن ثم يهدر دمه ويصبح القتل هو مصيره الحتمي ولا سيما في جرائم الزنا بالاكراه والقتل العمد والجرائم التي ترتكب ضد النظام العام للقبيلة ، وأما فيما عدا ذلك من الجرائم _ كجريمة الزنا بالاتفاق أو السرقة _ فيكتفي بابعاد السارق أو الوانين عن القبيلة دون اهدار دمائهم.

2- التأديب، والتأديب أو التعزير _ كما هو في الفقه الحديث _ هو تأديب مرتكب الجرم عقابا له على بعض الجرائم التي لا تشكل خطورة كبيرة على كيان المجتمع أو تمثيل اعتداء صارخا على أرواح الآخرين وحقوقهم.

وللتأديب صورتين .. الأولى مادية .. أي بايذاء مرتكب الجرم ايذاء بدنيا بالضرب أو الجلد أو الكي أو خلافه ،أما الصورة الثانية .. فهي صورة معنوية ، وتتم غالبا بتوجيه اللعان أو الاعراض عن المصاحبة والمعاشرة.

وغالبا ما تتم الصورة الأولى من البسطاء والسفهاء، أما الصور الثانية ختتم مع ذوي الحيثيات والمكأنات المرموقة في المجتمعات البدوية.

3- دفع الدية والتعويض ، الدية للقتل والتعويض للمال، وكلاهما مقدر ومقرر طبقا لظروف الجريمة ووضعية كل من الجاني والمجني عليه بين جماعته القرابية، والدية بالذات لا تتم الا برضاء أولياء القتل وقبولهم لها كما هو الحال بالنسبة للبداوة العربية. هذا من مراعاة أن الجريمة - كظاهرة أو كانحراف - نادرة الوقوع في المجتمعات البدوية، كما تعتبر الجرائم بمختلف صورها - فيما عدا تلك التي يقرها المجتمع - تعد سلوكا يشجبه المجتمع لدرجة أن أهل الجاني قد يقدمون على التبرؤ منه .. وهذا معناه اهدار دمه.

وذلك لأن السلوك الانحرافي لا يعتبر علاقة مباشرة بين الجاني والمجني عليه فقط ، و انما هو جرح لمشاعر المجتمع البدوي ككل، وخروج على نظمه، واهدار لقيمه المتمثلة في الاعتزاز بالعشيرة والفخر بالانتماء اليها، وبذل النفس والمال والولد فداء لها من كل معقد أو غاصب ، صيانة لشرفها من أن يلحقه عار سواء أكان هذا العار بفعل أحد أبنائها العاقين أو بفعل دخيل مغتص .

كيف يتحقق الضبط الاجتماعي في النجتمعات البدوية؟

يتحقق الضبط الاجتماعي في المجتمعات البدوية من خلال العديد من الصور و الممارسات التي ابتكرتها تلك المجتمعات لتحقيق الردع لمرتكب الجريمة والتوازن للمجتمع . وتعتبر المحاكم بصورها المتعددة من الوسائل الشائعة لتحقبق الضبط الاجتماعي ، ولا سيما في نطاق البداوة العربية وخصوصا أن المحاكمات خلالها تتم وفق نظام قضائي متكامل سوف نعرض له مع أعطاء بعض الصور المشابهة أو المخالفة في عدد من المجتمعات البدوية حتى تتكامل مختلف معالم الصورة.

القضاء البدوي

نشأ القضاء البدوي في نطاق نظام فقهي فطري ينهض أساسا على الأعراف وما جرت عليه العادات والسوابق. ويرى عدد من الباحثين أن الفقه البدوي - وخاصة في نطاق البدواة العربية - قد تختلف بعض تختلف بعض تفاصيله، لكن أصوله تكاد تكون ثابتة ومعروفة للجميع. والفقه البدوي غير مكتوب لكنه محفوظ في صدور قضاته والعارفين به، الذين يحفظون أيضا أشهر القضايا البدوية بدءا من الجرائم التي ارتكبت خلالها حتى أسماء قضاتها وطبيعة الأحكام التي صدرت فيها والأسباب التي أدت اليها.

المحاكم البدوية

تتشكل المحاكم البدوية وفقا للقوانين البدوية ، ففي نطاق البداوة العربية ، تحدد الأعراف أنواع القضاة وكيفية اختيارهم ، ووسائل التظلم من أحكامهم ، علاوة على تحديد من لهم حق حضور جلسات المحاكمة ، فضلا عن مختلف الاجراءات الخاصة بعملية المحاكمة ذاتها.

وفي نطاق البداوة العربية .. ينقسم القضاء الى أربعة أقسام على النحو الآتي:

1- قضاة " اللقطة " ، وأحكام هؤلاء القضاء أحكام نهائية غير قابلة للاستئناف، ومن هنا كانت أحكامهم محل استشهاد غيرهم من القضاة الذين يسعون دوما الى النسج على منوالها.

2- قضاة " المناهي "، ويختصون بقضايا العرض والدم وأحكامهم قابلة للنقص، علاوة على أنهم لا يبلعون نفس مكانة وحنكة وشهرة النوع الأول.

3- قضاة "المعترضة "، وهم أقل مرتبة من الفئتين السابقتين، ويختصون بمختلف اجراءات المحاكمات كتحديد نوع القضايا المطروحة وتعيين قضايها كل على حسب اختصاصه للنظر في الدعوى ، وباختصار هم قضاة اجراءات لا اصدار أحكام.

هذا ويتم اختيار القضاة باتفاق الطرفين المتنازعين، والا فان هذا الحق يئول لقضاء " المعترضة " ، وفي نطاق البداوة العربية هناك رسم للتقاضى لابد أن يدفعه الطرفان المتنازعان يسمى " الرزقة " وهي تشبه الضمان المالي الذي يئول في النهاية الى صاحب الحق في الدعوى المتنازع عليها.

ومن العادات المرعية في في البداوة العربية أن الدعوى القضائية لا تقام الا بعد أن يقوم " الموفدون أو البداة " نيابة عن صاحب الحق بمطالبة من عليه باعطاء كل ذى حق حقه ، فان اسنجاب المعتدى فيها ونعمت والا فان الاجراء التالى هو الاتفاق عن طريق شخص آخر يدعى " الوجه " على تعيين القاضى الذي سيفصل في الدعوى . وفي عدد من المجتمعات البدوية غير العربية قد يكون القاضى هو زعيم القبيلة أو العشيرة أو رئيس الأسرة ، وقد يتم تشكيل محكمة تضم عددا من الأفراد الممثلين لمختلف أفرع القبيلة ، كذلك فان عدد أعضاء المحكمة يتأثر باستمرار بعدد الوحدات التي تتكون منها القبيلة.

وفي نطاق البداوة العربية ، فان المحكمة تتم باجتماع طرفي الخصومة في بيت القاضي بغير سلاح ، ثم يسمح للمدعي بأن يسرد دعواه ، ثم يتلوه المدعى عليه بدفع الاتهام ، وان كانت تقاليد القضاء تسمح لكل منهما بأن ينيب من يترافع عنه . هذا يعترف للمدعى بحقين أو((عدتين)) الاولى هي عرض دعواه في بداية الجلسة ، والثانية..حقه في التعقيب على رد المدعى عليه أو على دفعه ببطلان الدعوى . ومن الاجراءات الهامة في المحاكمة ان يردد القاضي مرة اخرى دعاوي وحجج كل من الطرفين المتخاصمين لدى المحكمة لتئول في النهاية الى صاحب الحق .

وقبل ان يبدا القاضي في بحث القضية موضوع النزاع عليه ان يقوم بسماع الشهود 

- ان وجدوا- ويشترط فيهم ان يكونوا حسني السيرة والسمعة ، وللقاضي ان يأخذ برأي الشهود أو يرفضه، وله ايضا ان يقوم بتحليف المدعي اليمين ،فان حلف ربح الدعوى وان رفض خسرها. والمدعى عليه ان عجز عن اثبات براءته قد يأمره القاضى بحلف اليمين _ وقد يعرضه لاجراءات طقوسية أو عينية معينة وخاصة اذا ما كانت الجريمة من ذلك النوع الخطير كجرائم القتل والزنا ... ، فقد يأمر القاضي المتهم أن يعلق بلسانه جمرة نار ملتهبة أو قضيبا محميا بالنار في اطار عملية " البشعة " المنتشرة في نطاق البداوة العربية ، فان نجآ المتهم كان بريئا وان أصيب بسوء عد مذنبا.

واستئناف الأحكام مسموح به _ في نطاق البداوة العربية _ وتعرف هذه العملية بعملية " سوم الحق " ، لكن هذا الاستئناف مرهون بعدة شروط من أهمها:

1- أن يتم ذلك بطلب من المحكوم عليه أو وكيله.

2- أن يوافق القاضى على الاستئناف.

3- ألا يكون الحكم قد صدر عن أحد قضاة " اللقطة " ، لأن أحكام هؤلاء لا ترد.

وهناك مجتمعات بدوية كثيرة لا تتيح حق الاستئناف على الاطلاق _ وتعتبر أن الأحكام نهائية في زعماء القبائل والعشائر وكبار السن فيها ، ومن هنا كانت أحكامهم ذات قدسية خاصة ولا يجوز الطعن فيها.

لذلك فان التسليم بحكم القضاء والرضاء التام به يشكل قناعة تامة لدى الطرفين المتنازعين حتى ولو كان الحكم في غير صالح الحق ، علاوة على أن الرغبة الذاتية الملحة لدى طرفي النزاع بضرورة انهاء خصومتها بأي شكل وبأسرع وقت تشكل هي الأخرى عاملا صاعطا لقبول أحكام القضاة وعدم الطعن فيها ، ولا مانع لدى أي من المتخاصمين أن يخسر في ظل القضاء البدوى بدلا من أن يكسب بعيدا عنه ..

أنواع الجرائم في المجتمعات البدوية

تنقسم الجرائم في المجتمعات البدوية الى نوعين ، جنح وجنايات ، وبالتالي فان العقوبة ترتبط بكل منهما ارتباطا عضويا، مع مراعاة أن مفهوم كل من الجناية والجنحة قد يختلف أحيانا من مجتمع بدوي الى آخره.

ففي نطاق البداوة العربية فالجنايات تسع هي:

1- القتل ولا يكون القتل موضوعا للمحاكمة الا اذا كان القاتل غير معلوم يقينا ، لانه اذا كان معروفا فمن واجب أهل القتيل أن يقتصوا منه اذا ما عثروا عليه والا فالقصاص واجب من أي من اقربائه حتى الجد الخامس مع ماقد يصاحب الثأر من صراع مسلح تنهب خلاله أموال عشيرة المعتدى وتسيى نساؤهم وأطفالهم ان استدعى الأمر ذلك.

وجرائم القتل والزنا لا تجوز فيها الشهادة لأن القاعدة القانونية في نطاق البداوة العربية وهي أن " الدم ما عليه شهود والعيب _ أي الزنا _ ماعليه ورود " ، لذلك فلا تؤخذ فيها بغير " البشعة " وتحليف اليمين ، مع مراعاة أن حلف اليمين يتم عادة على قبر أحد الأولياء الصالحين.

هذا وقد يكون القاتل معلوما يقينا وعلى هذا لا يعد قاتلا عند بعض المجتمعات البدوية وخاصة الافريقية منها وذلك في الحالات الآتية:

(أ) ترى قبائل " الجاليو " التي تعيش في منطقة المستنقعات الافريقية أن القتل العمد لا يعتبر قتلا ( أي ازهاق روح ) ان حدث أثناء ونتيجة مشادات أسرية ، أو في حالات الجنون ، أو الأمراض النفسية ، كما لا يعد القتل قتلا في حالة مصاحبته لجريمة الخيانة الزوجية ، وبالطبع تكون العقوبة مخففة الا في حالتي الزنا والجنون فلا يعتبر القتل أصلا فعلا يستحق أو يستوجب العقاب.

(ب) ترى بعض القبائل الافريقية التي تعيش في منطقة كردفان أن جريمة القتل لو حدثت بغرض استمالة قلب المرأة حبيبة كانت أو زوجه ، هذا القتل _مع توافر شرطي العمد والترصد فيه _لا يعتبر قتلا يستوجب عقابا، حيث تقضى التقاليد لدى قبائل "النوبا" مثلا أن شرط زوج رجل بامرأة يهواها قلبه هو أن يثبت حبه عن طريق قتل رجل ما فداء لذلك الحب ، ولا يهم أن تتم جريمة القتل علنا أو في السر ، كما قد يلجأ الحبيب الى قتل أعز الناس عنده أو واحد من ضيوفه في سبيل اثبات حبه عسى أن يكون في ذلك استمالة لقلب المرأة التي يهواها . ومن هنا يكون القاتل معلوم الهوية والقصد ومع ذلك لا يعد قاتلا وبالتالي لا يعرض لقصاص أو الثأر.

2- الاغتيال: وهو قتل عمد مع اخفاء الجثة ، ويعتبر القاضى _ في نطاق البداوة العربية _ الدم مربعا ، أي لا يكتفى بقتل القاتل فقط وانما يجب أيضا أن تستوفى دية ثلاثة رجال ، ومن الحالات التي يعتبر فيها الدم مربعا حالات قتل المرأة.

3- تعطيل العضو: واذا ما أصاب الجاني أي عضو من أعضاء المجنى عليه بدرجة تعطل نشاط ذلك العضو ، فان حكم تعطيل الرجل واليد يساوي دية نصف رجل.

4- الزنا: والحكم فيه يختلف على حسب طبيعة الزنا وخاصة ما تعلق برضاء المرأة عنه أو اكراهها عليه ، وينقسم الزنا الى نمطين رئسين:

(أ) الزنا الجبري أو بالاكراه، وفيه يغتصب الجاني المرأة نهارا وفي الطريق بشرط ان تكون وحدها تحتطب او تسقي الماء كعادة نساء البدو، وعلى المرأة ان تعلن عما لحق بها وهي في حالة نفسية وبدنية تبرز ما وقع عليها من اعتداء بعد مقاومة محسوسة منها للجاني ، وهنا يكون لقبيلتها الحق في قتل الزاني أو احد اقاربه حتى الجد الخامس مع حقهم في النهب وتخريب اموال عشيرة الجاني لمدة ثلاثة ايام وثلث ، وبعد ذلك تتوجه قبيلة المعتدى عليها للقاضي الذي يحكم على عشيرة المعتدى بغرامة تفوق دية القتيل وعادة وماتكون من الانعام او الممتلكات ذات اللون الابيض علاوة على الفضة، والسر في غلبة اللون الابيض هنا .. هو ان الجاني قد سود عرض المعتدى عليها وعلى اهله ان يبيضوه !!

اما اذا ما تم الاعتداء على المرأة في مكان بعيد عن منازل قبيلها وبعد مجئ الغنم من المرعى، فلا يعتد بصرخاتها مهما علت، بل وتعد شريكة للجاني ويطلق البدو على الجريمة اسم ((عاقبة السرح)) كدليل على رضاء الزانية لأنها تواجدت في مكان ماكان يجب عليها ان تتواجد فيه ولان الجريمة تمت بعد عودة الاغنام الى مسارح العشيرة ،وهذا يعد دليلا كافيا على رضاها ، وانما كانت استغاثتها نتيجة لاكتشاف امرها فيما بعد.

المهم ان المرأة في هذه الحالة تعد شريكة للزاني ويكون عقابها من اختصاص وحدتها القرايبه وليس القاضي ، وان كانت مسئولية الزاني تتحدد فقط بعد قتل الزانية بمعرفة اهلها وهنا يقتل الزاني اما عن طريق عشيرته او عشيرة الزانية.

وهذا مع مراعاة أن مجتمعات بدوية كثيرة _خصوصا في نطاق البدلوة الافرقية _ وان كانت تعترف بأن الزنا هو " جناية ضد ممتلكات الغير " الا أنها تعتبره جريمة تستحق أن يقتص من مرتكبها بالقتل ، وانما على الزاني في كل الأحوال أن يدفع " غرامة " ، وتختلف تلك الغرامة تبعا لاختلاف الصورة التي تمت بها جريمة الزنا وكذلك الآثار المترتبة عليها ، ويتمركز حجم الغرامة بشكل خاص حول وضية المرأة محور الزنا ذاتها .. هل هي فتاة عذراء ..هل هي متزوجة .. هل هي أرملة أو مطلقة ؟ .. ثم هل أعقب ذلك الزنا حملا ؟؟ .. وأخيرا وهو الأهم .. هل هي خاطئة .. بمعنى هل هي التي سعت لاتمام الزنا أم لا ؟ .. المهم أن هذه كلها اعتبارات تدخل في تقدير الغرامة .. لأن بعض المجتمعات القبلية الافريقيه ترى أن المرأة التي ترتكب الخطيئة هي التي يجب أن تدفع الغرامة.

5- الخطف: وهو كالزنا خطف بالاكراه وخطف بالاتفاق وعلى النحو الآتي : (أ) الخطف بالاكراه .. حيث يترصد الخاطف للمرأة حتى تخرج من خيام عشيرتها ويخطفها عنوة تحت التهديد أو الضرب ، ومن ثم يتعدى على عرضها ، وبعد ذلك يفر بها بعيدا ويعيش في كنف احدى العشائر حتى يتمكن من مصالحة عشيرتها وطلب الزواج منها ، فان قبلت عشيرتها تزويجها له تم حقن الدماء وان رفضت فلها نفس حقوق الانتقام كحالة الزنا الجبري.

(ب) الخطف بالرضى، ويحدث غالبا في حالة رفض عشيرة الفتاة تزويجها من فتاها ، فلا تجد مفرا من أن تهرب معه بصحبة رجلين الى اقرب العشائر التي يقوم شيخها بتقضى الأمر حتى يتأكد من رضاء المخطوفة ، ثم يعرض وساطته على عشيرتها بعد أن يقوم بتزوجها ممن تحب، ويكون من حق أهل المخطوفة برضاها الحصول على تعويض يزيد عادة على مهر مثيلاتها.

6- قطع الجيرة: ..الجيرة لغة هي الحماية .. ومن الاعراف البدوية المرعية ان يستجير شخص بشخص اخر طالبا حمايته وفقا لاجراءات خاصة ،لذلك فان التعدي على المستجير يعد اخلالا بحقوق الحماية ، وحكم القضاء هنا على المتعدى هو بفرض غرامة مالية تتناسب ومكانة المستجار به.

7- التجاوز على الدخيل .. والدخيل هو الشخص الذي يلجأ الى احد الزعماء أوالمشايخ طالبا حمايتة نتيجة لوقوع ظلم ما عليه وعجزه عن درئه ،فاذا ما قبل الشيخ ان يكون ذلك الشخص في حمايتة لا يجوز لاحد ان يتعدى عليه ،لان ذلك الاعتداء لو تم يكون حكم القضاء فية كحكم قاطع الجيرة.

8-الاعتداء على كل من رفيق الطريق والضيف وكذلك على القاصى ...وكل من رفيق الطريق والضيف معروفان . أماالقاصى فهو الشخص القادم من مكان بعيد ويعلن أنه يقصد شخصا ما لقضاء حاجه معينه.

وعقوبة الاعتداء هنا يمكن قياسها بالعقوبتين السابقتين حيث يتم الحكم وفقا لمكانة المضيف أو المقصود أو رفيق الطريق.

هذا ومن أخطر الجنايات في نطاق البداوة غير العربية " السحر الأسود " الذي يعتبر من أخطر الجرائم في مجتمعات بدوية كثيرة حيث يعتبر ذلك السحر الأسود مسئولا عن جميع المصائب التي تلحق لا بالفرد البدوي وحده ، بل وبالجماعة البدوية ذاتها ، لذلك فالعقاب الذى يصل غالبا الى حد القتل لا يقع على ممارسي الطقوس الخاصة يالسحر الأسود وحدهم ، وانما يلحق أيضا بالمستدفين من ذلك السحر أي أصحاب المصلحة فيه .

وتختلف صور العقاب بحسب السحر الأسود فان كان موجها من فرد الى فرد آخر وثبتت عليه هذه الجريمة فالقتل هو العقاب .. أما اذا ما كان موجها من جماعة ضد جماعة اخرى وتيقنت الجماعة المتضررة من مصدر الضرر الذي لحق بها فان القتل الجماعي من خلال غزوة مفاجئة أو هجمة خاطفة يكون هو العقاب.

الجنح في نطاق البداوة العربية ، كالجنايات تسعة أنواع .. هي الجرح الذي ينتج عنه تعطيل عضو ، اطلاق الرصاص بغير اصابة ، الضرب الذي لم يفض الى جرح أو عاهة ، نتف شعر اللحية أو الشارب ، الطعن في العرض ، القدح ، الشتم ، التعدي ، العدائية أي التعدي على شخص وهو في بيت شخص آخر بما لا يؤدي الى جناية ضده . والعقاب في معظم تلك الجنح بالتعويض المادي الا في حالة نتف شعر الشارب أو اللحية فيكون الجزاء من جنس العمل الا اذا قبل المجني عليه مبدأ التعويض فيقرر القاضي مبلغا من المال عن كل شعرة منتوفة.

  1. هذا وتوجد جرائم بدوية أخرى _ في غير نطاق البداوة العربية _ ويعاقب عليها مرتكبوها بعقوبات متفاوتة ولا يهم أن تكون جناية أو مخالفة ، فمن الجرائم التي تستوجب العقاب مثلا:

1- السرقة: وهي باعتبارها " أخذا لما يملكه الغير دون وجه حق " جريمة تستوجب العقاب ممن يملك السلطة في المجتمعات البدوية ، مع مراعاة أن " ما يملكه الغير " هنا مسألة فيها نظر، لأن الطابع العام للملكية في المجتمعات البدوية هو الطابع الجماعي. 2- الخروج على السلطة، وعلى الرغم من أن الخروج على السلطة أو مقاومة السلطات بلغة المجتمعات الحديثة أمر نادر الوقوع السلطة وحده و انما أيضا في حق تراث القبيلة وأسلافها أورثوه تلك السلطة.

3- الخروج على قواعد المجتمع القبلي ومقدساته ، وهو من أبشع الجرائم في المجتمعات البدوية ، تقابل بعقوبات كثيرة أخفها الطرد مع اهدار الدم ، وأشدها القتل مع التنكيل بالجثمان ، ومن تلك الجرائم المجتمعية . الخروج على قواعد المرعية في الزواج أو في الرعي أو الصيد ،أو اهانة مقدسات القبيلة علاوة على جرائم عدم الولاء للقبيلة بصورة أو بأخرى.


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

بعض الصور الغيبية المتصلة بالضبط الاجتماعي

أشرنا قبلا الى العديد من الاختبارات الغيبية التي تلجأ اليها المجتمعات البدوية .. ولقد عرفنا بعض تلك الصور خلال حديثنا عن الدراسات التي مهدت لظهور علم الاجتماع البدوي ، كما عرضنا بعضها خلال حديثنا عن القضاء البدوي ، المهم أن من أوسع تلك الصور انتشار ما يأتي:

1- وهي معروفة لدى البداوة العربية ، وهي عبارة عن " تلحيس " المتهم للنار سواء كان ذلك شكل جمرات متوهجة أو في شكل قضيب حديدي محمى في النار وبلغ درجة من الاحمرار تماثل لون النار.

واذا ما تجاوزنا البداوة العربية الى غيرها من المجتمعات نجد أن هناك صورا أخرى مشابهة في مجتمعات بدوية كثيرة ، وتعرف هذه الصور باختبارات الغيبية نظرا لاعتمادها على طقوس سحرية ، أو تسمى باختبارات الادانة والبراءة وذلك بحسب الهدف الذي تجرى اليه، المهم أن من هذه الصور.

2- اختبارات القضيب المحمي:

وهذا القضيب يوضع في النار حتى يحمر ، وبدلا من أم يلحسة المتهم كما في البشعة ، يمسكه بيديه ويجرى به ثلاث خطوات ثم يلقيه على الأرض . وبعد ذلك يعزل المتهم في مكام أمين بعد ربط بحضور نفس الجمع الذى حضر المرحلة الأولى فان كانت هناك آثار للحريق بيد المتهم كان مذنبا ، وان لم تكن هناك أية آثار عد بريئ .

3- اختبارات القرعة:

كأن يخير المتهم بين شيئين أحدهما طيب والآخر خبيث " دون علمه طبعا " ، فاذا ما اختار الطيب عد بريئا، واذا ما اختار الخبيث اعتبر مذنبا.

4- اختبارات أخرى:

ومنها على سبيل المثال تعصيب عيني المتهم أو تقييد أحد أطرافه والطلب منه أن يأتي أفعالا معينة ، فأن أداها كان بريئا وان عجز كان مذنبا.

المصادر

  • الفوال، صلاح مصطفى، البناء الاجتماعي للمجتمعات البدوية. الجزائر: دار الفكر العربي 1983.
الكلمات الدالة: