إلقاء الضوء على حقيقة جمال الدين الأفغاني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ما هي حقيقة دعوته وعـقـيـدتــه

من هو الأفغاني؟ وما هي حقيقة دعوته؟

أولاً- الاختلاف الكبير في اسمه ونسبه:

اختلف في نسبه اختلافاً كبيراً؛ لأنه كان يَظْهَر في كل أرض باسم جديد، وينتحل شخصيات مختلفة، ويتخذ أسماء شتى، ومنها:

1- جمال الدين الاستانبولي.

2- جمال الدين الأسدأباذي.

3 - جمال الدين الحسيني.

4- جمال الدين الحسيني عبد الله بن عبدالله.

5- جمال الدين الاستانبولي عبد الله.

6- جمال الدين الأفغاني الكابلي.

7- جمال الدين الحسيني الأفغاني.

8- جمال الدين الرومي.

9- جمال الدين الطوسي.

10- جمال الدين الكابلي.


«وقد اعتاد الأفغاني أن يغير لقبه كلما انتقل من بلد إلى آخر؛ فقد رأيناه في مصر وتركيا يلقب نفسه بـ (الأفغاني)، بينما هو في إيران يلقب نفسه بـ (الحسيني)(!)

ويتضح من أوراقه المحفوظة أنه كان يتخذ ألقاباً أخرى؛ مثل:

(الإستانبولي) و(الكابلي) و(الروسي) و(الطوسي)، و(الأسدأباذي)!

وكان الأفغاني يغير زيَّه ولباس رأسه مثلما كان يغير لقبه؛ فهو في إيران يلبس العمامة السوداء التي هي شعار الشيعة، فإذا ذهب إلى تركيا ومصر؛ لبس العمامة البيضاء فوق طربوش تارة، وبغير طربوش تارة أخرى، وقد لبس الطربوش مجرداً في أوروبا أحياناً، أما في الحجاز؛ فقد لبس العقال والكوفية، وقيل: إنه في بعض جولاته لبس العمامة الخضراء، ومن يدري؟! فربما لبس القبعة أحياناً»( 1).

«فهذا يدل على أن له مهمة خفية يسعى لتنفيذها، وأنه يوجد وراءه من يخطط له، ويطلب منه التلون بهذه الألوان، والتسمي بتلك الأسماء»( 2).


ثانياً- شيوخه ومذهبه وعقيدته:

كانت حياته شيعية كلها، فقد تنقل من مدرسة إلى أخرى، ومن بلدة إلى أخرى، ومن شيخ إلى آخر، وفي كل ذلك يتقلب من مجالات شيعية بحتة.

فهو درس في قزوين -وهي مدينة إيرانية-دراسته الابتدائية، ويقال: إنه سجن فيها مع البابي قاتل الشاه ناصر الدين.

ثم انتقل إلى طهران؛ ليدرس العلوم الشرعية، وتابع دراسته.

ثم انتقل إلى العراق؛ ليدرس الدراسات العليا في العتبات المقدسة التي إليها يحج طلاب العلم الشيعي من جميع أنحاء العالم..

وقد أثبت تشيعه علي الوردي في كتابه «لمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث»وذلك عندما ذكر سعي جمال الدين في محاولة التقريب بين الشيعة والسنة، فذكر رسائله إلى علماء الشيعة.

قال الوردي: «وصلت رسائل الأفغاني إلى علماء الشيعة، والظاهر أنه عرف كيف يخاطبهم ويؤثر في عقولهم؛ لأنه كان واحداً منهم في سالف الأيام... وحتى مشايخه جميعهم من الشيعة، فقد عدّ المترجمون من مشايخه آغاخان صادق، وهو شيعي، والشيخ مرتضى شيعي. ويذكر أبو رية بعضاً من المشايخ في كتابه «جمال الدين الأفغاني»، ويقول: «ولقد سمعت أن السيد تتلمذ على القاضي بشر والحافظ دراز وحبيب الله القندهاري».

وهؤلاء من الشيعة -أيضاً-.

فبعد هذا؛يتضح كونه شيعيا جعفريا اثنا عشري.

ويؤيد هذا الرأي الدكتور عبد المنعم محمد حسنين في كتاب «جمال الدين الأسدأباذي» (ص9) حيث قال: «وكان شيعياً جعفري المذهب».

ولم يصدر هذا الحكم إلا بعد أن قرأ رسائل الأفغاني التي نشرت بعد وفاته؛ لذا يقول في (ص10-11): «وإن الأدلة التي تثبت أن جمال الدين إيراني شيعي المذهب كثيرة وقاطعة».

ثم لم يكتف الدكتور عبد المنعم حسنين بإثبات شيعيته، بل يؤكد أنه متعصب لمذهبه في (ص35-36): «بل لقد كان جمال الدين متعصباً لبلاده ومذهبه الشيعي، حتى في اتخاذ من يقوم بخدمته ويعنى بمصالحه الخاصة، فقد اتخذ خادماً له يدعى أبا تراب، وكان هذا الخادم ملازماً له أينما ذهب؛ كما كان أميناً على أسراره الخاصة، واسم أبي تراب من الألقاب الخاصة بعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، ويشبه هذا حرصه على أن يوقع باسم جمال الدين الحسيني؛ فإنه يرجح أنه شيعي إيراني؛ لأن لقب الحسيني له معنى خاص عند الشيعة الإيرانيين؛ لشدة تعلقهم بآل البيت، ولا سيما الحسين بن علي»( 3).


قال مرزا لطف الله خان -وهو ابن خالة الأفغاني-:

«وكان كشف حقيقة جمال الدين أمام السلطان عبد الحميد ضربة قاضية وجهها مظفر الدين شاه إلى جمال الدين بوثيقة سلمها علاء الملك سفير إيران في تركيا إلى الحكومة التركية تثبت بالأدلة القاطعة أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغاني، ويتخذ المذهب السني ستاراً يحتمي به»(4 ).

ويظهر أن الأفغاني كان على صلة قوية بالبابية؛ فما هي البابية؟

قال علي عبد الحليم محمود في تعريف البابية:

«البابية من المذاهب الخطرة والفلسفات المعادية للإسلام، ولليهود فيها يد طولى. وفي مؤتمر برشت (1264هـ/1843م) أعلن البابيون انسلاخهم عن الإسلام، وحاربوا الإسلام واللغة العربية، ودخلوا مع الحكومة في فارس في حروب ومنازعات أدَّت في النهاية إلى إصدار الحكم بإعدام الميرزا (النقطة)، وخبا صوت هذه الفلسفة الضالة حيناً غير طويل من الزمان، ثم أخذ أتباعه يعملون في الخفاء والسرية، ودخل فيه عدد من اليهود. وفي عام (1285هـ/1868م) خرجت البابية من عكا باسم جديد هو (البهائية)؛ نسبة إلى زعيمها الجديد: ميرزا حسين علي المازندراني، الذي يلقب (بهاء الله)، ومن المقرر أن البهائية أصبحت وجهاً آخر لليهود»(5 ).

ولقد أثبت كثير من المحققين انتساب جمال الدين الأفغاني إلى هذه النحلة الباطنية الخبيثة.

ويقول الدكتور محمد عمارة: «كتب أبو الهدى الصيادي إلى الشيخ رشيد رضا مهاجماً ترديد المنار لأفكار الأفغاني، وقال: «إني أرى جريدتك طافحة بشقائق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد ثبت في دوائر الدولة رسمياً أنه مازندراني (أي: بابي) من أجلاف الشيعة، وهو مارق من الدين كما يمرق السهم من الرّمية».

وفي «مجلة الزهراء»( 10): «قال شاعر الترك عبد الحق حامد بك في مذكراته: إن السيد قال له: إن سبب متاعبه هو قوله بأن النبوة من الصناعات».

وكان يدين بوحدة الوجود ونادى باشتراكية الإسلام.

قال الدكتور موفق بني المرجه: «وقد كتب تلميذه سليم عنجوري في كتابه «سحر هاروت» مدعياً: أن الأفغاني برز في علم الأديان حتى أفضى به إلى الإلحاد والقول بقدم العالم، وأن القول بوجود محرك أول وهم نشأ عن ترقي الإنسان في تعظيم المعبود.

وحكى عنه الشيخ محمد عبده وبعض خاصته: أنه كان متصوفاً يدين بعقيدة مبهمة وغامضة تنتهي بوحدة الوجود، والتعبير عنها يلتبس إلا على الخاصة مما يؤدي إلى رميه بالإلحاد.

ثالثاً: الماسونية العالمية:

من الأمور التي لم يختلف فيها المؤرخون المحققون أن الأفغاني كان رأساً كبيراً في الماسونية العالمية، فقد انضم إلى المحفل الماسوني البريطاني، وتركه بعد كلمة ألقاها في المحفل عاب فيها عليهم عدم التدخل في السياسة، وقال فيها: «دعوني أكون عاملاً ماسونياً نزيهاً متجنباً للرذائل، إذا لم يكن حرصاً على شرف شخصي؛ تخوفاً من أن تعاب الماسونية بي، فيتخذني الأغيار سهماً للطعن بها وهي براء منه، وما ذنب الماسونية إلا أنها قبلتني بين أفرادها دون اختيار صحيح، وأبقت عليّ من غير تبصُّر؟!»( 12).

وبعد ثلاث سنوات أصبح من أهم رجال المحفل الماسوني، بل تم اختياره رئيساً له؛ كما جاء في رسالة المحفل إلى جمال الدين،

رابعاً: نشاطات الأفغاني:

1- اتخذ الأفغاني من بار «ماتنيا» في العتبة الخضراء بالقاهرة، أو في «قهوة البوسطة» قرب ملهى الأزبكية منتدى لسهره وسمره مع أصدقائه وتلامذته في مصر.

2- اتخذ الأعوان والمساعدين من اليهود والنصارى، فقد جعل من معاونيه يعقوب صنوع اليهودي صاحب الأموال، وأبو نظارة النصراني والذي رثاه في «العروة الوثقى»، وسليم عنجوري النصراني الذي تسلم صحيفة «مرآة الشرق».

3- نشاطه كان سرياً؛ ولذلك أنشأ الجمعيات السرية:

قال محمد محمد حسين: «ومما يريب الباحث في أمر جمال الدين وأهدافه

-أيضاً- أن أكثر نشاطه كان سرياً؛ فقد كان أول من أدخل نظام الجمعيات السرية في العصر الحديث في مصر، وكان حيثما حل يؤسس الجمعيات السرية وينشرها..»( 16).

نقلا من كتاب صحوة الرجل المريض

ومن هذه الجمعيات السرية:

أ- الحزب الوطني الحر.

ب- جمعية مصر الفتاة.

ت- جمعية العروة الوثقى.

4- كان يهتم بالسياسة، ويؤثر بالأحداث السياسية في كل بلد يدخلها؛ كالهند، وأفغانستان، وإيران، ومصر، وتركيا.

وسعى في كل بلد إلى إسقاط حاكمها وإثارة الشغب ضده.

خامساً- تأثر حركة الإخوان المسلمين بدعوة الأفغاني:

1- السرية في العمل التنظيمي، ومن ذلك: أن حسن البنا أقام الجهاز السري، الذي تفرعت منه خلايا ذات بلايا، طمت وعمت كل الأنحاء والزوايا( 17).

2- الاهتمام بالسياسة( 18).

3- الدعوة إلى التقريب مع الشيعة الروافض والطوائف الضالة.

4- الدعوة إلى موادة اليهود والنصارى وحوار الأديان:

أ- دعوة قساوسة النصارى وأعيانهم لمشاركة الإخوان احتفالاتهم( 19).

ب- إشراك النصارى في كثير من اللجان(20 ).

ت- الدين لله والوطن للجميع.

أجرت مجلة «المجلة»( 21) حواراً مع المرشد الثالث عمر التلمساني، وفيه:

س- الدين لله، والوطن للجميع. هذا هو أحد الشعارات التاريخية للوفد، إلى أي مدى تتفق مع هذا الشعار؟

ج - أليس هذا هو الواقع؟ ألم تكن المدينة المنورة(22 ) وطناً للمسلمين واليهود على عهد رسول الله × مع بقاء كل مواطن على دينه دون تعرض له في معتقداته؟

إن في كل دولة في العالم أقليات لها معتقدات دينية تخاف الأكثرية، فالكل يتولون الوظائف العامة، ويجندون للدفاع عن وطنهم كتفاً إلى كتف، لماذا يعتبر هذا المعنى شعاراً أو شيئاً غير مقبول؟ إن الإسلام يسع كل الديانات بعد أن قال الله

-تبارك وتعالى-: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف: 29]، ثم الحساب عند الله، وليس في الإسلام إكراه على دين بذاته».

ولذلك؛ فالدكتور القرضاوي يرى أن كفار أهل الكتاب إخوان لهم! قال: «إن بعض ما تراه من التعصب لدى بعض المسلمين، قد يكون رد فعل لتعصب آخر من إخوانهم ومواطنيهم من غير المسلمين»( 23).

وقال -أيضاً-: «إذا كان الإخوة المسيحيون يتأذون من هذا المصطلح؛ فليغير أو يحذف» .

ويقول: «ومما لا أنساه في هذا المؤتمر: أن أحد إخواننا الأقباط تكلم...»(24 ).

ولذلك تراه يجوب الآفاق داعياً إلى حوار الأديان .

قال: «لقد دعوت شخصياً إلى هذا الحوار في كتابي «أولويات الحركة الإسلامية»، دعوت إلى الحوار مع الغرب، والحوار على المستوى الديني مع رجال الدين من الكرادلة والأساقفة والقسس... محاولة اللقاء بهؤلاء والاتصال بهم كما حاول هذا الدكتور حسن الترابي...»(25 ).

وقال: «حضرت هذا العام شهر مايو الماضي مؤتمراً في موسكو، وكان حول الإسلام والتفاهم بين الديانات والشعوب الأخرى، وشارك فيه مسيحيون ويهود وغيرهم من أرباب الديانات الأخرى، وفي آخر الصيف حضرت حفلاً تكريمياً للقاء المسيحيين وبعض المسلمين نظمه مجلس الكنائس للشرق الأوسط»( 26).

ودونك أقوال قادة الإخوان المسلمين في الثناء على الأفغاني واعترافهم أنهم امتداد لدعوته .

لقد أثنى حسن البنا على الأفغاني فقال: «بنى مصطفى كامل وفريد وجدي، ومن قبلهما جمال الدين ومحمد عبده نهضة مصر، ولو سارت في طريقها ولم تنحرف عنه؛ لوصلت إلى بغيتها، أو على الأقل لتقدمت ولم تتقهقر، وكسبت ولم تخسر»( 27).

وبين كثير من كُتّاب الإخوان المسلمين، ومثقفيهم: أن دعوة الإخوان المسلمين تسير على منهج الأفغاني ومدرسته.

قال محمد ضياء الدين الريس: «فإنها كانت الوطن -أي: مصر- الذي اختاره جمال الدين لنشر رسالته لإعادة قوة الإسلام، فتلاه محمد عبده الذي أوجد النهضة في دراسة العلوم الإسلامية، وواصل جهوده محمد رشيد رضا وطنطاوي جوهري وفريد وجدي وغيرهم... ثم ظهرت جماعة الإخوان المسلمين: لتسير على نهج المصلحين السابقين»( 28).

وقال صالح عشماوي تحت عنوان (حسن البنا مرحلة في تاريخ الكفاح الإسلامي): «حسن البنا في حربه للاستعمار وثورته للحرية ودعوته للوحدة الإسلامية؛ إنما كان يضع حلقة جديدة في الكفاح الإسلامي بجانب الحلقة التي وضعها جمال الدين الأفغاني.

ولقد جمع حسن البنا بين طريقة السيد جمال الدين الثائر للحرية... وبين طريقة محمد عبده...»( 29).

ومن أغرب ما قاله الإخوان المسلمون في الثناء على الأفغاني والدفاع عنه ما خطه محمود عبد الحليم بيمينه تحت عنوان (كلمة أخيرة عن جمال الدين الأفغاني):

«لو كان الخديوي توفيق حياً؛ لقر عيناً بما كتبه الأستاذ الدكتور لويس عوض من مقالات عن الأفغاني.. ولو كانت اللجنة المغرضة التي كتبت أسباب نفي الأفغاني من مصر قائمة وموجودة؛ لقرت عيناً هي الأخرى بما كتبه الدكتور لويس عوض عن الأفغاني.

إنه يبرر لها قرار الطرد بعد مئة سنة من صدوره، لقد رفعت هذه اللجنة قراراً رسمياً لمجلس الوزراء المصري حينئذ، قالت فيه مبررات طرد الأفغاني: إنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش، مجتمعة على فساد الدين والدنيا.

إن الشيخ الإمام محمد عبده تلميذ الأفغاني يفسر لنا اختلاف الناس فيه بكلمة دقيقة تعبر بإيجاز عن حقيقة الأفغاني:

قال الشيخ محمد عبده: إن الناس قد اختلفوا في الأفغاني، حتى لكأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله.

أشيع عنه في حياته قوله: إن الشرق يحتاج إلى مستبد عادل.. وكان الذين أشاعوا هذه المقولة عن الأفغاني يحاولون تبرير الاستبداد بإضافة العدل إليه، ونسبة العبارة كلها إلى السيد جمال الدين الأفغاني-سأل محمد باشا المخزومي السيد جمال الدين يوماً: إن المتداول بين الناس على لسانك قولك: يحتاج الشرق إلى مستبد عادل ... قال الأفغاني: هذا من قبيل جمع الأضداد؛ كيف يجتمع العدل والاستبداد؟ - وهكذا نفى الأفغاني ما نشره أعداؤه عنه زوراً.. ومثلما لم تسلم أفكاره لم يسلم شخصه.

كان من الصعب على العملاء والجواسيس والبصاصين الذي يقتفون أثره، ويرصدون تحركاته؛ أن يفسروا النبل والإيثار اللذين يصدران عنه بشكل طبيعي، كما يصدر الدفء عن الشمس... ومن هنا كان تفسير كل شيء بعكس الواقع: إذا رفض الأفغاني الجاه؛ فإنما يرفضه كخطة لا تعففاً، وإذا عرض عليه الملك ورفضه؛ فإنما يفعل ذلك لأنه يريد الخلافة، وإذا أفطر في رمضان بعد المغرب؛ قال البصاص الذي يتبعه كظله: إنه رآه يفطر قبل المغرب.. وهكذا تمضي الحلقة.

ولقد كان الرجل يدرك أنه يحمل دعوة لها أعداء كثيرون.. وكان يعرف أن الابتلاء قدر مقدور على حملة الدعوات العظيمة... ومن ثم مضى في طريقه غير عابىء بما تثيره أفكاره أو تصرفاته؛ كان وجه الله هو غايته.. ومن كانت هذه غايته؛ لم يلتفت إلى حملة الأحجار والغوغاء والكائدين.


وحين جاء الأفغاني إلى مصر أقام فيها أباً روحياً وموقظاً لحركة البعث والإحياء والثورة ..كانت الثورة العربية شرارة من شرارات فكره ..كانت ثورة (1919م) نتيجة من نتائج أفكاره..كان كل رجالات مصر من المثقفين والمتعلمين والصحفيين والدعاة في عصره من أصدقائه وجلسائه وتلاميذه.

وحين خشي البعض في مصر من غضب الخديوي توفيق وآثر السلامة وتنكب طريق النضال؛ قال الأفغاني كلمته عن توفيق: توفيق في غضبه ورضاه تابع لما يلقى إليه.

وبهذه الجملة لخص الأفغاني حقيقة الموقف السياسي في مصر، وكشف عن تبعيته للاستعمار الغربي.. ولقد كان هذا كله يبلغ توفيق بشكل أو بآخر، ومن هنا أصدرت اللجنة قرارها الشهير بزعامته لطائفة من الشبان هدفهم فساد الدين والدنيا.

وطرد الأفغاني من مصر.. وحين ذهب إلى إيران وأبصر المظالم التي يجترحها الشاه ناصر في شعبه؛ قاد ضده حركة شجاعة، ووقف بالإسلام ضد احتكار الإنجليز أصدقاء الشاه «للدخان»، وأوحى الأفغاني إلى الشيرازي وكان مفتياً: أن يصدر فتوى يحرم فيها على المسلمين شرب «الدخان»، وهكذا تراجعت شركة الدخان عن مشروعاتها الضارة بالبلاد، واضطر الشاه إلى تعويضها عن الامتياز..وبعث الشاه بخمس مئة من فرسانه؛ ليقتحموا فراش جمال الدين وهو مريض يشكو من الحمى، وقاده الفرسان وهو مريض إلى حدود إيران، وأمروه أن يمضي، ولا يلتفت أبداً لإيران.

ويذهب الأفغاني إلى تركيا؛ فيخوض معركته الشهيرة ضد الجمود، ويستمر في خوض معاركه ضد الاستعمار، ويذهب إلى باريس ويصدر هناك جريدة «العروة الوثقى»؛ وهي جريدة تجاوزت أن تكون عملاً صحفياً تجارياً إلى صيرورتها مشروعاً دينياً سياسياً ثورياً .. وتقض الجريدة مضجع الاستعمار، ويصدر نوبار باشا -رئيس نظارة النظار في مصر- قراراً بتغريم كل من يقرأ «العروة الوثقى» (25) جنيهاً، واعتبار قراءتها جنحة.

ولقد تغير فكر الأفغاني؛ كما كشفت الدراسة المتأنية التي قام بها الدكتور محمد عمارة خلال تحقيقه لأعمال الأفغاني .. تغير فكره في نهاية حياته عن فكره في بدايتها.. كان التغيير نحو النضج والثورة والتقدم، لقد وقف الرجل مع العدالة الاجتماعية، وقف مع التعليم الوطني، وقف مع الجامعة الإسلامية، وقف مع الشورى، وقف ضد الاستبداد.

تغيرت بعض مواقفه؛ كموقفه من النشوء والارتقاء، والقومية، والاشتراكية ..في بداية حياته كان ينظر إليها بارتياب، فلما تقدمت به السن وزادت خبرته أعاد النظر في مواقفه السابقة، وصححها بما تراءى له من قراءة وسياحة وحكمة.

كانت هناك متغيرات وثوابت في حياته.. كان الأمر الثابت: أنه يتحرك كفارس من فرسان الدعوة الإسلامية ..وثائر عظيم من ثوار الحياة.. إن هدفه هو العدل، والرحمة، والحق، والخير، والجمال ..لقد أيقظ الشرق من سباته.

ولقد لبس البحث الجريء الذي كتبه الدكتور لويس عوض عن الأفغاني ثوب البحث، ولكنه لم يكن بحثاً.. إلا أن يكون بحثاً من قبيل أبحاث المباحث العثمانية أو الخديوية أو الإيرانية أو الإنجليزية.

إن مصادر بحث الدكتور تكشف عن تهافتها، ومعظم ما يبنيه الدكتور حول الأفغاني -رغم فخامته- مزور ولا أظن أن أحداً ممن اشتركوا في الرد على الدكتور لويس كان يريد تفنيد أقواله عن الأفغاني؛ لأن أقواله في جملتها لا تستحق هذا العناء.

إنما تصدينا بالرد حتى ننبه إلى محاولة تجريح التاريخ الإسلامي وتحطيم النماذج الرفيعة الثائرة فيه..حتى إذا تلوث تاريخنا وصار أبطاله عملاء وثواره جواسيس، ونماذجه الرفيعة أقزاماً ومسوخاً ..حتى إذا وقع؛ تحولنا إلى الغرب وطرحنا ماضينا، وقطعنا الصلة ببذورنا وتاريخنا.. وصرنا رجالاً جوفاً لا ماضي لهم ولا وجدان ولا عقيدة.

عندئذ ترضى عنا مراجع أبحاث الدكتور لويس عوض، ويرضى هو عنا ...لقد تصدى «الأهرام» بجملة من الأساتذة المتخصصين البارزين للرد؛ تصحيحاً لهذه الفكرة، انبعاثاً من الأمانة الدينية والموضوعية العلمية.

هذه الحقائق التي تليت تدل على تأثر حركة الإخوان المسلمين بفكر الأفغاني، وأنها تعد نفسها ثمرة طبيعية لمدرسته.

اقرأ نصاً ذا علاقة في

كشف الشخصيات:جمال الدين الأفغاني