مبحث في الفهم الإنساني

ديڤد هيوم، بريشة ألان رامسي (1766)

مبحث في الفهم الإنساني An Enquiry Concerning Human Understanding

حدث المشهد على الشكل التالي تقريباً: المكان، مدينة سنليس التي تبعد 50 كلم الى الشمال الغربي من باريس، في طريق الرحلة الى لندن. والأشخاص ثلاثة يهمنا منهم اثنان: جان-جاك روسو وديڤد هيوم. والزمان أواسط القرن الثامن عشر. كان الفيلسوفان ورفيقهما متوجهين الى العاصمة الانكليزية والغاية لجوء روسو إلى هناك، بعدما نفته مدينة جنيڤ ولم ترحب به باريس. أقام الثلاثة في غرفة واحدة في أحد الفنادق الصغيرة على الطريق. وعند منتصف الليل، وكان يفترض أن يكونوا قد غفوا، صرخ هيوم فجأة: «لقد قبضت على روسو». فهلع هذا إذ سمع الصراع واعتقد ان زميله الاسكتلندي متآمر للقبض عليه. صحيح ان الفيلسوف الاسكتلندي طمأن رفيقه الفرنسي مؤكداً أنه إنما كان يحلم ويتكلم في نومه، لكن روسو لم يصدق، وإن كان وجد أن ليس ثمة ما يمكنه فعله. وهكذا عاش الشهور التالية، ضيفاً على هيوم، حائر السمات شديد القلق معتقداً أن هذا الأخير سيسلمه إلى السلطات.

وطبعاً نعرف ان هيوم لم يسلم روسو إلى أية سلطات، فهو نفسه كان بدوره مضطهداً وملاحقاً تقريباً. لكن الحكاية تكشف الكثير من طبيعة روسو القلقة الشكاكة، وأيضاً من سمعة هيوم المتقلبة وقدرته على اثارة الشكوك لدى الآخرين. ولعل هذا العنصر الأخير هو ما جعله يُحرم من الانخراط في التدريس الجامعي، حتى حين كانت كراسي الأستاذية تخلو ويكون هو المرشح الوحيد. ومع هذا، كان هيوم، ولا يزال، صاحب أعظم المؤلفات حول الطبيعة البشرية وحول «الفهم الانساني» وحول الأخلاق. وكان واحداً من كبار فلاسفة التنوير الانكليز، هو الذي عاش ردحاً في فرنسا، وشارك الموسوعيين جهودهم واعتبر للحظات منهم.

ديفيد هيوم، الذي سيقول عنه عمانوئيل كانط: «هيوم هو الذي أيقظني من سباتي»، كان هو اذاً، من أيقظ أيضاً روسو من سباته، ولكن في مناسبة أخرى وفي معنى آخر تماماً، والحال أن هيوم بطريقتيه، لم يوقظ روسو وكانط فقط، بل أيقظ جزءاً كبيراً من الفكر الأوروبي، وخصوصاً بفضل كتابه الأســاسي «مبـحث خاص بالفهم الانساني» الذي يعتبر من أمهات الكتب الفكرية التي اهتمت بالإنسان كفاعلية اساسية في الكون، واهتمت بالإنسان من الداخل، في أخلاقه وحضوره وعلاقاته، وتفاعله مع الكون والتاريخ.

نشر هيوم كتابه «مبحث خاص بالفهم الانساني» في العام 1748 وكان لا يزال حينها في السابعة والثلاثين من عمره. وكان الكتاب في طبعته الأولى يحمل عنواناً مختلفاً بعض الشيء هو «بحوث فلسفية في الفهم الانساني»، علماً أن هذا الكتاب كان يشكل في الأصل اعادة كتابة جذرية لعمل كان هيوم كتبه قبل ذلك، وكان يعتبر عملاً رئيسياً من أعمال الفلسفة الانسانية وهو كتابه «مبحث في الطبيعة البشرية»، ولا سيما للجزء الأول من هذا الكتاب. وهذا الكتاب الأخير كان هيوم نشره للمرة الأولى في عام 1738، ثم عاد وأنكره منكباً فقط على جزئه الأول مشتغلاً عليه معمّقاً إياه، ضامّاً اليه بعض الفقرات والأفكار التي كانت موزعة على العمل الأول. وهذا ما يجعل «مبحث خاص بالفهم الانساني» أشبه باختصار ومزج لما في الكتاب الآخر. لكن هيوم أضاف هنا ثلاث نظريات جديدة، لم يكن لها وجود - أو كانت مشتتة وغير واضحة - في الكتاب الأول، ومن الواضح أن صورتها تطورت لديه من خلال اقامته في فرنسا واطلاعه على أفكار التنوير عن كثب، واشتداد إيمانه بالانسان استلهاماً هنا لما كان يشغل فكر الفلاسفة التنويريين الفرنسيين أنفسهم. أو هذا، على الأقل، ما سيكتبه هو بنفسه في سيرته الذاتية التي اصدرها عام 1776، أي في عام وفاته نفسه. ومن الواضح ان ما في كتاب «مبحث في الطبيعة البشرية» كان هو الممهد لأعمال رئيسية أصدرها هيوم لاحقاً، ومن بينها «محاورات في الدين الطبيعي» و «التاريخ الطبيعي للدين» وحتى «محاولات في التجارة». أما النظريات الثلاث التي بدأت مع «مبحث خاص بالفهم الانساني» والتي لم يكن لها وجود في كتابات هيوم من قبل، فهي نظرية «حرية الاختيار» وتلك المتعلقة بـ «العناية الإلهية والحياة في المستقبل» وأخيراً، نظرية «المعجزات» التي سيفرز لها لاحقاً كتاباً خاصاً أثار ضده نقمة الكنيسة وجعله يُتهم بالهرطقة والإلحاد، هو الذي لطالما كان أنكر على الملحدين إلحادهم، وعبّر عن نزعة تعترف بوجود الله، وإن من منطلق يقترب من الفكر الـ «لا أدري» على الأقل، وفي استقلال عن الأديان كلها. غير ان هذا لم يكن الأساس في «مبحث خاص بالفهم الانساني». الأساس هنا كان ما يبدأ به هيوم من التمييز بين الانطباعات والأفكار، حيث يقول: «لكل فكرة بسيطة انطباع بسيط يشبهها، ولكل انطباع بسيط فكرة مطابقة له» وان «كل افكارنا البسيطة في ظهورها الأول مستمدة من انطباعات بسيطة تطابقها وتمثلها تمثيلاً دقيقاً». والمهم في هذا الكتاب أيضاً ان هيوم امتنع فيه عن الغوص في العوامل السيكولوجية لفهم الطبيعة الانسانية، مركّزاً اهتمامه على مناقشة أصل الفكرة المتحدثة عن القوة الطبيعية التي هي، بالنسبة الى هيوم، امتداد للانطباع الداخلي الناتج من جهد طبيعي وعقلاني يقوم به الانسان لإدراك الأشياء. وهنا إذ يقلل هيوم من أهمية العنصر التجريبي نفسه، يميل إذاً، الى التركيز على الجهد الخاص الذي يقوم به العقل. وهذا ما يقوده الى فكرة حرية الاختيار، وفي الوقت نفسه الى بحث مسألة الضرورة، وربط الأمرين بمبدأ السببية. واللافت هنا هو ان هيوم من بعد ما يشرح هذا باستفاضة، يصل الى استنتاج يقول إن الأمر كله، في النهاية، مسألة لغة وكلام لأن «البشر في الحقيقة متفقون تماماً حول هذا» لكنهم مختلفون حول التفسير واستخدام الكلمات التي توضح افكارهم، وهو في هذا يعتبر، كما يرى البعض، سلفاً لفلاسفة «لغويين» من أمثال ڤيتگن‌شتاين.

Nicolas Malebranche, one of Hume's philosophical opponents

كما يعتبر من أوائل وأهم فلاسفة المعرفة الإبستمولوجية في العصور الحديثة. على أية حال، ومهما يكن من شأن تقليل هيوم من أهمية عنصر التجريب، فإنه، وفي خاتمة كتابه هذا نفسه يصل الى استنتاج منطقي يقول ان «لا شيء يمكنه أن يعتبر، وفي الأحوال كافة، واقفاً خارج اطار تجربتـنا الانســانية»، معتبراً عنصر التجربة من البديهية بحيث لا يحتاج الى أي تبرير منطقي.

يعتبر هذا الكتاب من أشهر كتب هيوم ومن أكثرها شعبية، على رغم استحالة فصله في نهاية الأمر عن كتابه الأساسي الذي لم يكن سوى تطوير له أي «مبحث في الطبيعة البشرية». ولا بد من الإشارة هنا الى ان هيوم يقول في نصّ كتبه أواخر حياته واعتبره «تأبيناً جنائزياً» خاصاً به، أي رسالة في نعي ذاته: «لقد كنت رجلاً دمث الطباع، مسيطراً على أعصابي، ذا مزاج منفتح اجتماعي ومرح، قادراً على المودة، قليل القابلية للعداوة، وعلى قدر كبير من الاعتدال في جميع عواطفي، وحتى حبي الكبير للشهرة وهي عاطفتي المتحكمة فيّ، لم يعكر مزاجي أبداً، بصرف النظر عن كثرة ما واجهت من خيبة أمل».

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الكاتب

ديڤد هيوم ولد عام 1711، في مدينة إدنبرة عاصمة اسكتلندا، التي مات فيها عام 1776، في أسرة متوسطة الحال. توفي أبوه باكرا، فربته أمه وعمه. دخل الجامعة حين كان في الثانية عشرة وغادرها خائبا بعد 3 سنوات. أرادت أسرته له أن يدرس الحقوق فدرس الفلسفة، ثم خاض غمار التجارة، التي تركها ليتوجه الى فرنسا حيث درس واختلط بالأوساط الفلسفية، قبل أن يعود الى لندن ويبدأ بنشر كتاباته الفلسفية، وتبدأ خيبات أمله، إذ رشّح نفسه مرتين للاستاذية الجامعية فلم ينجح في المرتين. ثم خاض السياسة وتجول في أوروبا في معية قريبه الجنرال سانكلير. وفي سنواته الأخيرة خاضت الكنيسة ضده معركة عنيفة. وفي عام 1767 عين، مع هذا، في منصب سياسي رفيع، سئم بعده الحياة العامة وتخلى عن كل شيء ليعود الى إدنبره ويعيش سنواته الأخيرة منهمكاً في اصدار كتبه وتنقيحها.


الهامش

وصلات خارجية

Wikiquote-logo.svg اقرأ اقتباسات ذات علاقة بمبحث في الفهم الإنساني، في معرفة الاقتباس.
اقرأ نصاً ذا علاقة في

An Enquiry Concerning Human Understanding


قالب:Hume